وقفات مع التاريخ


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بُعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن كثيراً من الناس إذا سمعوا الحديث عن التاريخ ظنوا أن الكلام متجه إلى صرف الأحداث، وذكر حوادث السنين والتهويج والفراغ في بعض الأحيان؛ وذلك لأن كثيراً ممن يكتبون التاريخ في مختلف جوانبه يصورونه كذلك.

فيتصور الناس أن الحديث في التاريخ هو الحديث عن الديناصورات وحديث عن الحضارات والآثار، وحديث عن أمور ٍهي أشبه ما تكون بجنس الفراغ.

حقيقة التاريخ ومصادره وسننه

لكن الذي علمنا الله في كتابه وعلمنا إياه رسوله صلى الله عليه وسلم أن التاريخ نبراس لهذه الأمة تستدل به على المواقف وتأخذ منه العبر، وتستفيد منه أموراً تعينها على فهم متطلبات حياتها، فإن الله سبحانه وتعالى ربط هذا الكون جميعاً بسننه، وسيره على وفق تلك السنن، وجعل له نواميس تضبطه وهذه النواميس لا تختلف، إنما هي مثال يتكرر بحسب أحوال الأمم، ولذلك قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ[الأنفال:53]، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ[الرعد:11]، وقال تعالى: إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ[الرعد:11].

ثم إن فهمنا للتاريخ إنما نستشفه من خلال كلام ربنا، فإن الله سبحانه وتعالى جاء في هذا القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو 6214 آية بألف آية تتعلق بالتاريخ، ألف آية من كتاب الله تتعلق بالتاريخ، لكن ليس فيها تحديد للسنوات ولا للأوقات، ولا قصد للتهويل، ولا ذكر لشيء يختلف مع مقتضيات العقول، ولا لشيء يختلف مع السنن التي نعيشها ونراها، لذلك عندما يقرأُ الإنسان في كتاب الله قصة نبي ٍمن الأنبياء، ولو كانت قصة نوح الذي هو أقدم الرسل إلى أهل الأرض سيجد فيها كثيراً من المواقع والدروس التي تتكرر في حياته ويشهدها، وتدله على عواقب الأمر الذي لم يشهده بعد، فكثير من الناس قد شهد انتفاخة الباطل وانتفاشته، ورأى ما فيه من صولة، ولكنه لم يرَ بعد اضمحلال ذلك الباطل وارتفاع الحق، لكنه إذا قرأ قصة نوح أو غيرها من القصص آمن وصدق بأن للباطل صولة فيضمحل وأن الحق يعلو ولا يُعلى عليه، وأن الله سبحانه وتعالى سير هذا الكون على أن يكون لأهل الباطل صولة فيه، ثم يأتي أهل الدفع والجهاد فيردون تلك الصولة، ثم بعد ذلك يكتب الله العاقبة للمتقين.

إن هذه السنة هي من أقدس سنن التاريخ وأعظمها وأهمها، ولذلك فقد جاءت في الكتب السابقة كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء:105-107]، وكذلك قال تعالى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور:55]، وقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[الحج:39-41].

هكذا سنن الله سبحانه وتعالى والتاريخ كله يعيده الله سبحانه وتعالى، لا كما يقوله العوام: إن التاريخ يعيد نفسه، بل الله سبحانه وتعالى يُعيد هذه السنن، ويهيء لها أسبابها ويهيء لها رجالها الذين يؤثرون فيها، وإلا فإن الأصل في العالم البشري كله استواؤه من ناحية الفطرة واتفاقه من ناحية المبدأ، ولكنه يختلف باختلاف الأحوال وباختلاف الرجال أيضاً، كما قال أبو حيان رحمه الله:

فما فضل الأرجاء إلا رجالها وإلا فلا فضل لتربٍ على تربِ

حال المؤرخين وكتب التواريخ

إن الذين كتبوا التاريخ عبر العصور كلها يتأثرون بواقعهم وثقافتهم ومنطلقاتهم، فاليهود إذا كتبوا في التاريخ ربطوه بالخرافة والدجل وبأمور لا يصدقها العقل، وهذا الذي شحنوا به أسفار كتابهم المبدل المحرف، فمن قرأ اليوم في التلمود يجد فيه قصصاً عن يعقوب أنه صارع الرب، وأنه صرع الرب، وأنه كذا وأنه كذا، من أمور لا يمكن أن يصدقها عقل ولا شرع، ولا يمكن أن تنزل في وحي من عند الله أبداً بحال من الأحوال، وكذلك الحال إذا قرأ الإنسان في كتب النصارى سيجد أنهم لا ينطلقون من منطلقات العقل، ولا من منطلقات الشرع والوحي، وإنما ينطلقون من واقع الخرافة والتهويل؛ لأنهم يريدون أن يجعلوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فيحوكون حولهم كثيراً من الخرافة، ويشحنون به كتبهم، فمن قرأها بدأ في التفكير هل هذا وحي منزل من عند الله أو هو غير وحي منزل؟ فإن هداه الله سبحانه وتعالى وراجع أصل فطرته علم أن ذلك هو من التهويل الذي ما أنزل الله به من سلطان، ولا له أي أصل بحال من الأحوال.

ومن هنا فإن الله تعالى استدل على اليهود والنصارى بالتاريخ في دحض شبهتهم حين زعموا أن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا، وأنه كان نصرانيا، واختلفت اليهود والنصارى في إبراهيم وتنافسوا فيه، فأنزل الله تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ[آل عمران:67]، وبين الله الحجة التاريخية في ذلك، فبين أن إبراهيم بعث وأرسل وعاش ومات من قبل أن تنزل التوراة والإنجيل، فمتى بدأت اليهودية؟ بنزول التوراة على موسى ، ومتى بدأت النصرانية؟ بنزول الإنجيل على عيسى ، ومتى عاش إبراهيم ؟ لقد عاش لحقبٍ تاريخية متطاولة قبل ميلاد موسى وقبل ميلاد عيسى ، فالبون التاريخي شاسع يكفي ردعاً وتكذيباً لليهود والنصارى في ادعائهم أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانيا.

وكذلك استدل الله تعالى في كتابه بالتاريخ على اليهود في زعمهم أن لحوم الإبل كانت محرمة على يعقوب عليه السلام، وأن ذلك قد كان من ملة إبراهيم ، أو ممن سبقها من الملل، فقال الله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[آل عمران:93] فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[آل عمران:94] قُلْ صَدَقَ اللهُ[آل عمران:95].

تزوير المؤرخين

إن الذين كتبوا التاريخ في هذه الأمة قد تأثروا بكتب التاريخ في الأمم السابقة، فإما أن ينطلقوا من دوافع سياسية، كالذين كتبوا التاريخ الأموي في أيام بني العباس انطلقوا من خلفيتهم السياسية ومن توجه الدولة، فشوهوا تاريخ بني أمية بالكلية، وملئوه بما يثير الأحقاد والضغائن وبالحكايات التي لا يمكن أن تصدق بوجه من الوجوه، وكذلك الحال بالنسبة للدول التي جاءت بعد هذا، من الدول التي عادت بني العباس وبنت على أنقاض دولتهم، فقد كُتب في أيام هذه التواريخ ما فيه تشويه كبير لأئمة بني العباس وخلفائهم، رحم الله الجميع.

وهكذا الحال في زماننا هذا في تاريخ الدول التي سبقتنا، فلا نزال نسمع من يقص عن بعض خلفاء المسلمين الذين كانت لهم الفتوحات الكبرى في تاريخ الإسلام، والذين ائتمنهم الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقادوها في الاتجاه الصحيح، والذين عُرفوا بأدائهم للحق الذي عليهم بكثير من التشويه والدجل، وقد برز في ذلك الذين يكتبون تحت عنوان التاريخ الأدبي، والواقع أنهم تركوا الأدب وراء ظهروهم حين أساءوا إلى تاريخ أمتهم وشوهوه.

فإذا قرأ الإنسان في كتاب العقد الفريد لـابن عبد ربه الأندلسي سيجد أنه ينسب كثيرا ًمما لا يليق ببعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينسب لكثيرٍ من الخلفاء الأمويين والعباسيين قصصاً لا يمكن أن تتناسب أبداً مع حياتهم وواقعهم، وقد يتداولها الناس حتى تصبح مسلّمة تاريخية كتمزيق الوليد بن يزيد للمصحف، فقد أصبح شائعاً لدى الناس، وأصبح كثير منهم يتخذونه مسلماً، والواقع أن ذلك إنما كان من تشويه التاريخ وتبديله، ولهذا فإن أبا بكر بن العربي رحمه الله عندما وجد فُسحة ليس فيها ضغط سياسي، فكان في الأندلس في وقت تقاسمت فيه الأندلس دويلات، وكان هو قاضياً ذو قوةً ومكانة استطاع أن يكتب بكل تجرد، وأن لا يتأثر بالسياسة، فكتب كتابه المشهور: العواصم من القواصم، وهذا الكتاب رد فيه ابن العربي رحمه الله الافتراءات التي لفقها المؤرخون عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن التابعين لهم بإحسان وأتباعهم وعن خلفاء المسلمين من بني أمية وبني العباس ومن جاء بعدهم، وكذب تلك الأباطيل كلها وردها ويكفي لتكذيبها وردها أن نضع لها الميزان الذي وضعته الأمة لدراسة الحديث، فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعت له الأمة ميزاناً للتلقي والنقل وللتعديل والتجريح، ولمعرفة من كان أهلاً لأن يتلقى عنه الحديث، ولمراتب الناس في الجرح والتعديل، وحتى لتواريخ دخول المدن وتواريخ الغزوات وتواريخ الميلاد، لنتبين هل فلان لقي فلاناً أو لم يلقه.

الاستعانة بالتاريخ لتفنيد أقوال الكذابين

ولذلك فإن الحاكم النيسابوري رحمه الله في كتابه علوم الحديث ذكر استدلال أهل الحديث بالتاريخ، وذكر منها أنه سمع شيخاً يحدث فيقول: حدثنا هشام بن عمار ، فقال: أيها الشيخ متى دخلت مصر؟ قال سنة 76، فقال: إن هذا الشيخ لقي هشام بن عمار بعد موته بإحدى عشرة سنة، فانفضت عنه الحلقة، ومثل ذلك ما حصل لليهود عليهم لعائن الله عندما أخرجوا كتاباً كتبوه في العصور الماضية، ووضعوا على ورقته زيتاً وعرضوه للشمس حتى أصبح الناظر في الورقة لا يشك في قدمها، وأخرجوها في أيام أحد خلفاء بني العباس، وفي هذه الورقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط الجزية عن عموم اليهود، وشهد على ذلك عدد من الصحابة، منهم علي بن أبي طالب و سعد بن معاذ و معاوية بن أبي سفيان وغيرهم، فعُرضت هذه الورقة على الخليفة فجمع لها علماء المسلمين، فكان ذلك مشكلةً لديهم حتى جاء الخطيب البغدادي أحمد بن ثابت حافظ المشرق، فنظر في الورقة فبصق عليها وأخبر أنها محرفة تاريخياً، فسأله الخليفة لمَ؟ قال: إن سعد بن معاذ و معاوية بن أبي سفيان لم يجتمعا في الإسلام، فإن سعداً رضي الله عنه مات بعد موقعة بني قريضة بليالٍ، وكان ذلك في العام الخامس من الهجرة، و معاوية بن أبي سفيان لم يسلم إلا عام الفتح في العام الثامن من الهجرة في أواخر شهر رمضان، فعُلم أن الوثيقة باطلة من أصلها، وأنها منافية للتاريخ، فاستشهد عليها سعد بن معاذٍ الذي مات في العام الخامس من الهجرة، و معاوية بن أبي سفيان الذي لم يسلم إلا في العام الثامن من الهجرة.

وكذلك الحال بالنسبة لدراسة الناس للتواريخ فإنهم وجدوا أن مدار كثير منها على نوح بن أبي مريم وهو وضاع كذاب، وعلى محمد بن سعيد المصلوب وهو وضاع كذاب، وعلى أبي مخنف وهو وضاع كذاب كذلك وكان رافضياً متعصباً، فما روي من طريق هؤلاء لا يمكن أن يقبل في التاريخ.

لكن الذي علمنا الله في كتابه وعلمنا إياه رسوله صلى الله عليه وسلم أن التاريخ نبراس لهذه الأمة تستدل به على المواقف وتأخذ منه العبر، وتستفيد منه أموراً تعينها على فهم متطلبات حياتها، فإن الله سبحانه وتعالى ربط هذا الكون جميعاً بسننه، وسيره على وفق تلك السنن، وجعل له نواميس تضبطه وهذه النواميس لا تختلف، إنما هي مثال يتكرر بحسب أحوال الأمم، ولذلك قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ[الأنفال:53]، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ[الرعد:11]، وقال تعالى: إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ[الرعد:11].

ثم إن فهمنا للتاريخ إنما نستشفه من خلال كلام ربنا، فإن الله سبحانه وتعالى جاء في هذا القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو 6214 آية بألف آية تتعلق بالتاريخ، ألف آية من كتاب الله تتعلق بالتاريخ، لكن ليس فيها تحديد للسنوات ولا للأوقات، ولا قصد للتهويل، ولا ذكر لشيء يختلف مع مقتضيات العقول، ولا لشيء يختلف مع السنن التي نعيشها ونراها، لذلك عندما يقرأُ الإنسان في كتاب الله قصة نبي ٍمن الأنبياء، ولو كانت قصة نوح الذي هو أقدم الرسل إلى أهل الأرض سيجد فيها كثيراً من المواقع والدروس التي تتكرر في حياته ويشهدها، وتدله على عواقب الأمر الذي لم يشهده بعد، فكثير من الناس قد شهد انتفاخة الباطل وانتفاشته، ورأى ما فيه من صولة، ولكنه لم يرَ بعد اضمحلال ذلك الباطل وارتفاع الحق، لكنه إذا قرأ قصة نوح أو غيرها من القصص آمن وصدق بأن للباطل صولة فيضمحل وأن الحق يعلو ولا يُعلى عليه، وأن الله سبحانه وتعالى سير هذا الكون على أن يكون لأهل الباطل صولة فيه، ثم يأتي أهل الدفع والجهاد فيردون تلك الصولة، ثم بعد ذلك يكتب الله العاقبة للمتقين.

إن هذه السنة هي من أقدس سنن التاريخ وأعظمها وأهمها، ولذلك فقد جاءت في الكتب السابقة كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء:105-107]، وكذلك قال تعالى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور:55]، وقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ[الحج:39-41].

هكذا سنن الله سبحانه وتعالى والتاريخ كله يعيده الله سبحانه وتعالى، لا كما يقوله العوام: إن التاريخ يعيد نفسه، بل الله سبحانه وتعالى يُعيد هذه السنن، ويهيء لها أسبابها ويهيء لها رجالها الذين يؤثرون فيها، وإلا فإن الأصل في العالم البشري كله استواؤه من ناحية الفطرة واتفاقه من ناحية المبدأ، ولكنه يختلف باختلاف الأحوال وباختلاف الرجال أيضاً، كما قال أبو حيان رحمه الله:

فما فضل الأرجاء إلا رجالها وإلا فلا فضل لتربٍ على تربِ

إن الذين كتبوا التاريخ عبر العصور كلها يتأثرون بواقعهم وثقافتهم ومنطلقاتهم، فاليهود إذا كتبوا في التاريخ ربطوه بالخرافة والدجل وبأمور لا يصدقها العقل، وهذا الذي شحنوا به أسفار كتابهم المبدل المحرف، فمن قرأ اليوم في التلمود يجد فيه قصصاً عن يعقوب أنه صارع الرب، وأنه صرع الرب، وأنه كذا وأنه كذا، من أمور لا يمكن أن يصدقها عقل ولا شرع، ولا يمكن أن تنزل في وحي من عند الله أبداً بحال من الأحوال، وكذلك الحال إذا قرأ الإنسان في كتب النصارى سيجد أنهم لا ينطلقون من منطلقات العقل، ولا من منطلقات الشرع والوحي، وإنما ينطلقون من واقع الخرافة والتهويل؛ لأنهم يريدون أن يجعلوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، فيحوكون حولهم كثيراً من الخرافة، ويشحنون به كتبهم، فمن قرأها بدأ في التفكير هل هذا وحي منزل من عند الله أو هو غير وحي منزل؟ فإن هداه الله سبحانه وتعالى وراجع أصل فطرته علم أن ذلك هو من التهويل الذي ما أنزل الله به من سلطان، ولا له أي أصل بحال من الأحوال.

ومن هنا فإن الله تعالى استدل على اليهود والنصارى بالتاريخ في دحض شبهتهم حين زعموا أن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا، وأنه كان نصرانيا، واختلفت اليهود والنصارى في إبراهيم وتنافسوا فيه، فأنزل الله تعالى: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ[آل عمران:67]، وبين الله الحجة التاريخية في ذلك، فبين أن إبراهيم بعث وأرسل وعاش ومات من قبل أن تنزل التوراة والإنجيل، فمتى بدأت اليهودية؟ بنزول التوراة على موسى ، ومتى بدأت النصرانية؟ بنزول الإنجيل على عيسى ، ومتى عاش إبراهيم ؟ لقد عاش لحقبٍ تاريخية متطاولة قبل ميلاد موسى وقبل ميلاد عيسى ، فالبون التاريخي شاسع يكفي ردعاً وتكذيباً لليهود والنصارى في ادعائهم أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانيا.

وكذلك استدل الله تعالى في كتابه بالتاريخ على اليهود في زعمهم أن لحوم الإبل كانت محرمة على يعقوب عليه السلام، وأن ذلك قد كان من ملة إبراهيم ، أو ممن سبقها من الملل، فقال الله تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[آل عمران:93] فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[آل عمران:94] قُلْ صَدَقَ اللهُ[آل عمران:95].

إن الذين كتبوا التاريخ في هذه الأمة قد تأثروا بكتب التاريخ في الأمم السابقة، فإما أن ينطلقوا من دوافع سياسية، كالذين كتبوا التاريخ الأموي في أيام بني العباس انطلقوا من خلفيتهم السياسية ومن توجه الدولة، فشوهوا تاريخ بني أمية بالكلية، وملئوه بما يثير الأحقاد والضغائن وبالحكايات التي لا يمكن أن تصدق بوجه من الوجوه، وكذلك الحال بالنسبة للدول التي جاءت بعد هذا، من الدول التي عادت بني العباس وبنت على أنقاض دولتهم، فقد كُتب في أيام هذه التواريخ ما فيه تشويه كبير لأئمة بني العباس وخلفائهم، رحم الله الجميع.

وهكذا الحال في زماننا هذا في تاريخ الدول التي سبقتنا، فلا نزال نسمع من يقص عن بعض خلفاء المسلمين الذين كانت لهم الفتوحات الكبرى في تاريخ الإسلام، والذين ائتمنهم الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقادوها في الاتجاه الصحيح، والذين عُرفوا بأدائهم للحق الذي عليهم بكثير من التشويه والدجل، وقد برز في ذلك الذين يكتبون تحت عنوان التاريخ الأدبي، والواقع أنهم تركوا الأدب وراء ظهروهم حين أساءوا إلى تاريخ أمتهم وشوهوه.

فإذا قرأ الإنسان في كتاب العقد الفريد لـابن عبد ربه الأندلسي سيجد أنه ينسب كثيرا ًمما لا يليق ببعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينسب لكثيرٍ من الخلفاء الأمويين والعباسيين قصصاً لا يمكن أن تتناسب أبداً مع حياتهم وواقعهم، وقد يتداولها الناس حتى تصبح مسلّمة تاريخية كتمزيق الوليد بن يزيد للمصحف، فقد أصبح شائعاً لدى الناس، وأصبح كثير منهم يتخذونه مسلماً، والواقع أن ذلك إنما كان من تشويه التاريخ وتبديله، ولهذا فإن أبا بكر بن العربي رحمه الله عندما وجد فُسحة ليس فيها ضغط سياسي، فكان في الأندلس في وقت تقاسمت فيه الأندلس دويلات، وكان هو قاضياً ذو قوةً ومكانة استطاع أن يكتب بكل تجرد، وأن لا يتأثر بالسياسة، فكتب كتابه المشهور: العواصم من القواصم، وهذا الكتاب رد فيه ابن العربي رحمه الله الافتراءات التي لفقها المؤرخون عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن التابعين لهم بإحسان وأتباعهم وعن خلفاء المسلمين من بني أمية وبني العباس ومن جاء بعدهم، وكذب تلك الأباطيل كلها وردها ويكفي لتكذيبها وردها أن نضع لها الميزان الذي وضعته الأمة لدراسة الحديث، فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعت له الأمة ميزاناً للتلقي والنقل وللتعديل والتجريح، ولمعرفة من كان أهلاً لأن يتلقى عنه الحديث، ولمراتب الناس في الجرح والتعديل، وحتى لتواريخ دخول المدن وتواريخ الغزوات وتواريخ الميلاد، لنتبين هل فلان لقي فلاناً أو لم يلقه.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطورة المتاجرة بكلمة الحق 4810 استماع
بشائر النصر 4287 استماع
أسئلة عامة [2] 4131 استماع
المسؤولية في الإسلام 4057 استماع
كيف نستقبل رمضان [1] 3997 استماع
نواقض الإيمان [2] 3946 استماع
عداوة الشيطان 3932 استماع
اللغة العربية 3930 استماع
المسابقة إلى الخيرات 3906 استماع
القضاء في الإسلام 3896 استماع