أرشيف المقالات

[26] التفكر 3-4 - أعمال القلوب - خالد أبو شادي

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
التفكر في النفس ماهو؟
يشمل أن يتفكر في خلق الله كيف خلق نفس الإنسان وجسده، والتفكر في النفس أيضًا يشمل التفكر في عيوبها وهذا مهم جدًا جدًا جدًا ولا يمكن عمل تقويم وتصحيح وتعديل وتحسين إلا بعد التفكر، وإذا كان فكره صحيحًا عرف العيوب واكتشف الأخطاء وبالتالي يمتنع عن الوقوع فيما وقع فيه سابقًا من الأخطاء ويجتهد في تحصيل ما يستر به عيوب نفسه، غضب شديد، حاد الطبع، عجول، متهور، عصبي، جبان، خواف، ظلوم، معتدي، باغي، متعدي، يفري بلسانه في أعراض الخلق، وهكذا، كذلك يفكر في حال عائلته وأسرته وأولاده كيف يحسن من أحوالهم ما هي الثغرات فيه؟
لو أردنا أن نصلح  أحوال المسلمين المصلحين الكبار والمجددين الذين مروا على العالم الإسلامي ماذا فعلوا؟ بالتأكيد أول ما فعلوا هو النظر في حال المسلمين، ماذا ينقصهم؟ أين الخلل؟ ما هي الثغرات؟ ثم شمروا في تحصيل أسباب القوة والارتقاء بحال المسلمين وسد الثغرات، جهل، شرك، معاصي.
ومن التفكر؛ التفكر في خلق الله تعالى، فإن فيه من العجائب والغرائب الدالة على حكمة الله وقدرته وجلاله شيء يهون الناظرين والمتفكرين والموجودات منقسمة إلى أشياء معروفة وغير معروفة، ومجال العلم التجريبي والدنيوي أن يكتشف الأشياء غير المعروفة وهي موجودة مما خلق الله عز وجل {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:8]، {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس:36].
{وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الواقعة:61].
فمالا نستطيع أن نعرفه فلا يمكن إضاعة الوقت في استكشافه وهذا من الفروق في النظرة الإسلامية والغربية في قضايا المستكشفات والمخترعات.
مثلًا ما صحة القيام  بما يسمى (أبحاث الروح)! لو هناك عالم طبيب مسلم وآخر كافر، مالفرق؟ المسلم يعلم أنه لا سبيل لمعرفة أي شيء في موضوع الروح زيادة عما ورد في الكتاب والسنة فلا حاجة لإضاعة الوقت لأنه يعلم {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، الكافر،لا، ما عنده منطلقات وقواعد ممكن أن يبذل 50 سنة من عمره في التجارب وبلا فائدة!، حتى الدخول في العوالم الغيبية وعمل التجارب على الملائكة مثلًا!
لذلك فمجال التفكر في الموجودات التي نعلمها من جهة الاستكشاف العلمي الدنيوي المقدور عليه، وغير المقدور عليه لا يمكن ندخل فيه، وهناك أشياء موجودة لا يمكن معرفة تفاصيلها إلا من الوحيين (مثل معرفة الملائكة والجنة وما بعد الموت ) فالتفكر فيها يكون منطلقًا فقط من النصوص الشرعية، أما قضايا الدنيا ، علم الأجنة، والنجوم، مثلًا وكالة ناسا أطلقت مناظير ومسبارات أو في أعماق البحار وقيعان المحيطات، تنظر فيها تتأمل في ملكوت الله وخلقه، تبقى الأشياء القطعية حتى في الأمور الدنيوية وهي ما جاء الكتاب والسنة مثل من كل شيء زوجين اثنين، وهكذا..
قال بعض العلماء من 1000 سنة: فمن آياته؛ الإنسان المخلوق من نطفة وأقرب شيء إليك نفسك وفيك من عجائب الله الدالة على عظمة الله تعالى ما تنقضي الأعمار في الوقوف على عشر عشيره وأنت غافل عنه فيا من هوغافل عن نفسه وجاهل بها كيف تطمع في معرفة غيره وقد أمرك الله في التدبر في نفسك في كتابه العزيز فقال: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذريات:21]، وذكر أنك مخلوق من نطفة قذرة فقال: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ .
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ .
مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ .
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}
[عبس:17:20]، وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ} [الروم:20]، وقال: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ .
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ}
[ القيامة :38-37]، وقال: { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ .
فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ .
إِلَىٰ قَدَرٍ مَّعْلُومٍ}
[المرسلات:20:22]، {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} [يس:77]،{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} [الإنسان:2]، ثم ذكر كيف جعل النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظامًا كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون:12]، فتكرير ذكر النطفة في الكتاب العزيز ليس ليُسمَع لفظه ويترك التفكر في معناه!
انظر إلى النطفة وهي قطرة من الماء قذرة لو تُرِكت ساعة ليضربها الهواء فسدت وأنتنت، كيف أخرجها رب الأرباب من الصلب والترائب؟ وكيف جمع بين الذكر والأنثى وألقى الألفة والمحبة في قلوبهم؟ وكيف قادهم بسلسلة المحبة والشهوة إلى الاجتماع، وكيف استخرج النطفة من الرجل بحركة الوقاع، وكيف استجلب دم الحيض من أعماق العروق وجمعه في الرحم، ثم كيف خلق المولود من النطفة وسقاه بماء الحيض وغذاه حتى نما وربا، وكيف جعل النطفة وهي بيضاء مشرقة علقة حمراء، ثم كيف جعلها مضغة، ثم كيف قسم أجزاء المضغة وهي متساوية متشابهة إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم، ثم كيف ركب من اللحوم والأعصاب والعروق الأعضاء الظاهرة، فدوّر الرأس وشقّ السمع والبصر والأنف والفم وسائر المنافذ ثم مد اليد والرجل وقسم رؤوسها بالأصابع وقسم الأصابع بالأنامل، ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء، كل واحد على شكل مخصوص، ومقدار مخصوص، لعمل مخصوص، ثم كيف قسم كل عضو من الأعضاء بأقسام أخر، فركب العين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص وهيئة مخصوصة لو  فقدت طبقة منها أو زالت صفة من صفاتها تعطلت العين عن الإبصار، وهكذا..
فانظر الآن إلى العظام وهي أجسام صلبة قوية كيف خلقها من نطفة سخيفة رقيقة، ثم جعلها قوامًا للبدن وعمادًا له ثم قدرها بمقادير مختلفة وأشكال مختلفة، فمنه صغير وكبير وطويل مستدير ومجوف ومصمت وعريض ودقيق، ولما كان الإنسان محتاج إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه لم يجعل عظمه عظمًا واحدًا بل عظامًا كثيرة بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة وقدر شكل كل واحدة منها على وفق الحركة المطلوبة بها ثم وصل مفاصلها وربط  بعضها ببعض بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقه بالعظم الآخر كالرباط له، ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة منه وفي الأخرى حفرًا غائصة فيه موافقة لشكل الزوائد لتدخل فيها وتنطبق عليها فصار العبد إن أراد تحريك جزء من بدنه لم يمتنع عليه ولولا المفاصل لتعطل عليه ذلك (فلتلك النعمة العظيمة) «يصبح علَى كلِّ سلامى من أحدِكم في كلِّ يومٍ صدقةٌ» (صحيح أبي داود:1286].
 فلننظر كيف خلق عظام الرأس وكيف جمعها وركبها وقد ركبها من 55 عظم مختلفة الأشكال والصور فألف بعضها إلى بعض بحيث استوى به كرة الرأس كما ترى، وليس المقصود من ذكر أعداد العظام أن يعرف عددها فإن هذا علم قليل يعرفه الأطباء والمشرحون، إنما الغرض أن ينظر في مدبرها وخالقها  كيف قدرها ودبرها وخالف بين أشكالها وأقدارها وخصصها بهذا العدد المخصوص لأنه لو زاد عليها واحدًا لكان وبالًا على الإنسان يحتاج إلى قلعه ولو نقص منها واحدًا لكان نقصانًا يحتاج إلى جبره، فالطبيب ينظر فيها ليعرف وجه العلاج في جبرها، وأهل البصائر ينظرون  فيها ليستدلوا على جلالة خالقها ومصورها فشتّان بين النظرين، وكذلك التفكر في أمر هذه الأعصاب والعروق والأوردة والشرايين وعددها ومنابتها وانشعابها.
فانظر الآن إلى ظاهر الإنسان وباطنه، فترى به من العجائب والصنعة ما يقضى به العجب وكل ذلك صنعه الله في قطرة ماء قذرة، فترى من هذا صنعه في قطرة ماء فما صنعه في ملكوت السموات وكواكبه؟ وما حكمته في أوضاعها وأشكالها ومقاديرها وأعدادها واجتماع بعضها وتفرق بعضها واختلاف صورها وتفاوت مشارقها ومغاربها؟ فلا تظنن أن ذرة من ملكوت السموات تنفك عن حكمة بل هي أحكم خلقًا وأتقن صنعًا {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات:27]، {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر:57]، فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولًا وما صارت إليه ثانيًا، وتأمل أنه لو اجتمعت الجن والإنس على أن يخلقوا للنطفة سمعًا أو بصرًا أو عقلًا أو قدرة أو علمًا أو روحًا أو يخلقوا فيها عظمًا أو عرقًا أو عصبًا أو جلدًا أو شعرًا، هل يقدرون على ذلك؟ بل لو أرادوا أن يعرفوا كنه حقيقته لربما عجزوا عن بعضه!
والذي يعملونه في الاستنساخ هو تلاعب بخلق الله {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [ النساء :119]، وحتى الذبابة فلا يستطيعون أن يخلقوها من عدم فصارت قمة تطورهم الطبي التلاعب في الخلق، وزرع بويضة ملقحة لإنسان في قرد أو كلب وزرع  بويضة ملقحة لكلب في رحم امرأة، هذه هي التجار ب الطبية.
فالعجب منك لو نظرت إلى صورة إنسان مصوّر على حائط، تأنّق النقاش في تصويرها حتى قرب ذلك من صورة الإنسان وقال الناظر إليها كأنه إنسان، تعجبت من صنعة النقاش وحذقه وخفة يده وتمام فطنته وعظم في قلبك محله مع أنك تعرف أن تلك الصورة إنما تمت بالصبغ والقلم واليد وأن كل ما فعله أنه جعل الصبغ على هذا الحائط على ترتيب مخصوص وأنت تستعجب من النقاش والرسام، فكيف بالذي جعل من النطفة القذرة التي كانت معدومة فخلقها في الأصلاب والترائب وأخرج منها هذا الشكل الحسن وقدرها فأحسن تقديرها وصورها فأحسن تصويرها ورتب عروقها وأعصابها وجعل لها مجاري لغذائها ليكون ذلك سبب بقائها وجعل البطن حاويًا لآلات الغذاء.
والرأس جامعًا للحواس وهكذا جعل في الأذنين وجعل في الأنف حاسة الشم ليستدل صاحبه باستنشاق الروائح على مطاعمه وأغذيته ويميز الطيب من الخبيث، وهكذا إذا تأملت في الشفتين وحسن لونها وشكلها لتنطبق على الفم فتسد منفذه وليتم بها حروف الكلام وخلق الحنجرة وهيأها لخروج الصوت وخرج اللسان قدرة للحركات والتقطيعات لتتقطع الأصوات في مخارج مختلفة تختلف بها الحروف ليتسع بها طريق النطق لكثرتها، ثم خرج الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة وصلابة الجوهر ورخاوته والطول والقصر حتى  اختلفت بسببه الأصوات فلا يتشابه صوتان بل يظهر بين كل صوتين فرقًا حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت في الظلمة، إلى غير ذلك من الآلاء والنعم.
ثم تفكر في ما يحدث في خلق الجنين في الرحم في ظلمات ثلاث، ولو كشف الغطاء والغشاء وامتد البصر لرأيت التخطيط والتصوير يظهر عليها شيئًا فشيئًا ولا ترى المصوّر ولا آلته فهل رأيت مصورًا أو فاعلًا لا ترى آلته ومع ذلك يتشكل خلقه سبحانه وتعالى.
ثم من تمام رحمته أنه لما ضاق الرحم عن الصبي لما كبر كيف هداه السبيل حتى تنكّس وانقلب وتهيأ للخروج وتحرك وخرج من ذلك المضيق وطلب المنفذ كأنه عاقل بصير بما يحتاج إليه، ثم لما خرج واحتاج إلى الغذاء كيف هداه إلى التقام الثدي، ثم لما كان بدنه سخيفًا لا يحتمل الأغذية الكثيفة كيف دبر له في اللبن اللطيف المستخرج بين الفرث والدم  شيئًا سائغًا خالصًا، وكيف خلق الثديين وجعل فيهما اللبن وأنبت منهما حلمتين على قدر ما ينطبق عليهما فم الصبي، قدر الحلمة على قدر فتحة الفم في الصبي ثم فتح في حلمة الثدي ثقبًا ضيقًا جدًا حتى لا يخرج اللبن منه إلا بعد المص تدريجًا، فإن الطفل لا يطيق منه إلا القليل ثم كيف هداه إلى الامتصاص  حتى يستخرج من ذلك المضيق اللبن الكثير عند شدة الجوع.
ثم انظر إلى عطفه ورحمته ورأفته  كيف أخّر خلق الأسنان إلى تمام الحولين، لأنه  في الحولين لا يتغذى إلا باللبن فيستغني عن السن وإذا كبر لم يوافقه اللبن السخيف، ويحتاج إلى طعام غليظ ويحتاج الطعام إلى المضغ والطحن فأنبت له الأسنان في وقت الحاجة.
فسبحانه كيف أخرج تلك العظام الصلبة في تلك اللثاة اللينة.
ثم حنن قلوب الوالدين عليها للقيام بتدبيره في الوقت الذي كان عاجزًا عن تدبير نفسه، فلو لم يسلط الله الرحمة على قلوبهما لكان الطفل أعجز الخلق عن  تدبير نفسه، ثم انظر كيف رزقه القدرة والتمييز والعقل والهداية تدريجًا، حتى يتكامل فيصير مراهقًا ثم شابًا ثم شيخًا إما شاكرًا أو كفورًا {هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا.
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا.
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}
[الإنسان:1:3].
 فتأمل وتفكر في عظمة الرب سبحانه وتعالى وهذا في شيء واحد من مخلوقاته وهو الإنسان وفي الإنسان أشياء كثيرة أخرى وكثير منها غير معلوم للآن، فما بالك فيما جعل في الأرض في أكنافها وأنهارها وجبالها وهيأ السكن للساكن وجعل الأرض فراشًا وكيف جعلها كفاتًا وأنه أرساها بالجبال الرواسي وأودع فيها المياه وفجر العيون وأسال الأنهار وجعل خزانات جوفية {وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر:22]، وهكذا ترى في البوادي والأزهار والثمار والمعادن والجواهر وانقسامها إلى خسيس وثمين وهكذا جعل منها ما يصنعه الإنسان من حاجته وحتى الحلي والنفط والكبريت والقار وحتى الملح الذي يحتاجه لتطييب طعامه.
وما في هذه الحيوانات من الأمور العظيمة والتناسب الدقيق الهندسي فترى العنكبوت يبني بيته على طرف نهر فيطلب أولًا موضعين متقاربين بينهما فرجة بمقدار ذراع فما دونها حتى يمكنه أن يصل بالخيط بين طرفيه ثم يبتديء ويلقي اللعاب الذي هو خيطه على جانب ليلتصق به ثم يغدو إلى الجانب الآخر فيحكم الطرف الآخر من الخيط ثم كذلك يتردد ثانيًا وثالثًا ويجعل بعد ما بينهما متناسبًا تناسبًا هندسيًا حتى إذا أحكم معاقد القمط ورتب الخيوط كالسدى اشتغل باللُحمة (الكسوة)، فيضع اللحمة على السدى ويضيف بعضه إلى بعض ويحكم العقد على  مواضع التقاء اللحمة بالسدى ويراعي في جمع ذلك تناسب الهندسة ويجعل ذلك شبكة يقع فيها البقّ والذباب ويقعد في زاوية مترصدًا لوقوع الصيد في الشبكة فإذا وقع الصيد بادر إلى أخذه وأكله، فإن عجز عن الصيد كذلك طلب لنفسه زاوية من حائط ووصل بين طرفي الزاوية بخيط ثم علق نفسه فيها بخيط آخر وبقي منكسًا في الهواء ينتظر ذبابة تطير، فإذا طارت رمى بنفسه إليها فأخذه ولفّ خيطه على رجليه وأحكمه ثم أكله وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى، أفترى أنه  تعلم هذه الصنعة من نفسه؟ أو تكون من نفسه؟ أو علمه آدمي؟
فإذًا البصير يرى في هذا الحيوان الصغير من عظمة الخالق المدبر وجلاله وكمال  قدرته وحكمته ما تتحير فيه الألباب والعقول فضلًا عن سائر الحيوانات، وإذا رأيت حيوانًا غريبًا ولو دودًا تجدد التعجب، وقال سبحان الله!والإنسان أعجب من الحيوانات، ومع ذلك إذا رأى حيوانًا عجيبًا تعجب وليس يتعجب من نفسه!
وهكذا ما خلقه الله في البحار وما يكون في قيعانها وفي السحاب وما يجتمع فيها من المطر وكيف ينزل وفي ملكوت السموات والأرض، والتفكر في مخلوقات الله قد أمر الله به وأنه سبحانه وتعالى مدح عباده  {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران:191]، وأمر في التفكر وحث عليه في النفس  {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم} [الروم:8]، يتفكرون في خلق السموات والأرض لماذا؟ قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "ليستدلوا بها على المقصود منها ودل هذا على أن التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين فإذا تفكروا عرفوا أن الله لم يخلقها عبثاً فيقولون {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران:191]، يعني نزهناك عن كل ما لا يليق بك"، بعض الناس تفكره فقط إلى حد إتقان الصنعة وأنها صنعة جميلة لكن المقصود الأعظم ليس فقط التعجب من دقة الصنع بل لشيء وراء ذلك.

شارك الخبر

المرئيات-١