السفور والحجاب
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
تتمة من مقال الأمير شكيب أرسلان
(تنبيه من المنار)
(كنا رأينا مقال الأمير في عدد من جريدة البيان العربية النيويوركية فحفظناه
لأجل نقله منها، فلما نشرته بعض الصحف المصرية مجزءًا في عددين أو ثلاثة
أعداد، جمعه عمال مطبعتنا من بعضها، فإذا هي قد حذفت منه ما نقله فيه الأمير
عن الأديب الكبير صادق أفندي الرافعي من حوار دار بينه وبين شاب مصري من
المتفرنجين لم تنقله الجريدة؛ لأن رأي قلم التحرير فيها ورئيسه هو رأي الشاب
المتفرنج الذي سفه رأيه الرافعي وأقره الأمير شكيب، وكان من غفلة الجريدة أنها لم
تحذف من بقية المقالة ما قاله صاحبها في رأي الشاب المصري وذكره بحرف
التعريف والبحث في كلامه فلما وصلت عند تصحيح المقالة إلى هذا الموضع (في
ص209 ج3 الماضي) أمرت بالإمساك عن نشر بقية المقالة في الجزء الماضي
وطفقت أبحث عن نسخة جريدة البيان لنقل عبارة الرافعي، وهاكها بنصها، ومحلها
بعد السطر الحادي عشر منها، قال:
واقرأ النبذة الآتية للأستاذ حجة العرب السيد مصطفى صادق الرافعي أنقلها
لك عن كتاب حديث أخرجه آية من آيات البلاغة وهي قوله في شاب حصل العلم
في أوربا كان باحَثَه في هذا الموضوع.
(كان صاحبنا فتى تلمع عليه غرة الشباب، وقد رق حتى كاد يخالط حد
الأنوثة، ولان حتى قارب أن يفوت معنى الرجولة، وظرف حتى أوشك أن يكون
إنسانًا تتفتح في روحه معاني الزهر، ولكنك إذا كنت رجلاً صحيحًا أمررته على
عينيك كما تمر كتابًا لا تريد أن تقرأه، فقد تمدن في أوربة ولبث بعيدًا عن قومه ما
شاء الله، ثم رجع إليهم كأن أمه لم تلده، وكأن أباه جده الأعلى، فبينه وبين أبيه
هذا بضعة أجداد منهم المسيو والمستر أو السنيور أو الهر.. وأصبح يحس أن كل شيء في هذا الاجتماع الشرقي مسلط على نفسه الرقيقة النحيلة بالغلظة والجفاء والعنت والأذى، إلى أن قال: (سألت هذا الفتى: تُرى أنت مصري؟ قال: ووطني صميم، قلت: أفترى تصلح في علمك وتهذيبك أن تكون مثالاً يتأسى بك نشء بلادك؟ قال: إني لأرجو ذلك، قلت: وأنت من القائلين بتحرير المرأة الشرقية ومساواتها بالرجل في الحرية المطلقة وبعثها من هذه القبور التي تسمى المنازل؟ قال: ذلك مذهبي، قلت فكيف ترى إذا اقتدى بك المصريون فأصهروا إلى الأوربين وخلطوا الشمل بالشمل؟ قال: لعل ذلك خير الطب لبلادنا فلا معدل عنه في رأيي إذ يأتيها بالدم الجديد، ويدمج في طباعها النظام والدقة، ويبني البيوت من داخلها. قلت: أحسنت بارك الله عليك، فكيف ترى إذا سألناك التسوية وقلنا لك: دع أختك تصبُ إلى رجل أوربي وتتزوج منه إجازة..
.
وتأتِ به إلى مصر كما أتيت أنت بصاحبة لك، ثم لتفعل كل امرأة مصرية فعلها؛ فيكون لكم أوربيات، ويقوم عليهن أوربيون؟ قال: أعوذ بالله! قلت: فعل الله بك وفعل، أفبلغ من غفلتك أن لا تعرف لعنة الله إلا إذا رأيتها ملء مملكة، ولا تعرف حق وطنك فيك إلا حين تراه غريبًا منقطعًا لا حق له في واحد من أهله. فقال (أي الشاب المصري) : فما أنا وأمثالي إلا شذوذ من القاعدة التي يجب أن تبقى أبدًا قاعدة.
قلت: فعليكم غضب القاعدة ومقتها وسخطها، والله لأن تفجع البلاد فيكم جميعًا وتستركم بالقبور رمة بعد رمة خير من أن تتقلد منكم بلية الحياة في اختلاط الأنساب، وارتداد الأسماء العربية عن دينها إلخ.
فقال الشاب: فكم من امرأة وطنية هي حمل على ظهر صاحبها، قلت: وكم من امرأة إفرنجية هي كَيَّة على قفا صاحبها (هذه عند العرب كناية عن المرأة، يسكت الناس عنها أمام زوجها، فإذا ولى عنهم قالوا في ظهره ما قالوا..
.
وكووا قفاه) نكتفي بهذا القدر من كلام حجة العربية الرافعي [1] . ولا شك أن كثيرًا من قراء هذه المقالة سيفغرون أفواههم الآن، ويرفعون عقائرهم قائلين: ما هذا الذي جئتنا به؟ فليس هذا من لوازم هذا، وقد يجوز أن نطلق حرية المرأة، ونكون من أنصار العِرض والدين، وقد يصح أن ندعو إلى السفور، وأن لا نترك أخواتنا يصرن حظايا للآخرين، وما نحسب الأمم التي تدين بحرية المرأة ولا تعرف للحجاب معنى أقل منا شرف رجال وعفة نساء، ألا وإن حرية المرأة لا تأتي إلا مع التعليم، ألا وإن المرأة إذا تعلمت وتهذبت كان لها من عِلمها حجاب يحجبها عن الفاحشة - وغير ذلك من الأقوال التي كلنا نعلمها، والتي تكررت كثيرًا بحيث قد عرفها العوام فضلاً عن الخواص، فأنا أقول لإخواني هؤلاء: مهلاً مهلاً.
لا تعجلوا عليَّ، ولا تخلطوا شيئًا بشيء، فالموضوع عريض متشعب الأطراف، لا تكفيه مقالة ولا اثنتان ولا ثلاث، فأما السفور مع العفة والصون وحفظ الأنساب ورعاية أحكام الدين فهو السفور الشرعي الذي يجيز للمرأة أن تبرز وتتعاطى الأشغال، وتذهب وتجيء، ولا يوجب أن تسدل على وجهها ولا أن تدفن نفسها في الحياة، وهذا سنكتب فيه مقالة تحت عنوان (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا) ولكن لا يجوز أن تنسوا أن هذا السفور لا يشمل إلى حد جواز المخادنة الجهرية، ولا إلى زواج المسلمة بغير المسلم، وأنه إذا كانت المسألة مقصورة على هذه الدرجة فليست في شيء من الرقي الذي يبغيه فالح رفقي وعبد الله جودت والشاب المصري، وكثيرون غيرهم ممن نعرف أسماءهم وممن لم نعرف، فهذا الرقي هو في عرفهم ليس بأن تمشي المرأة المسلمة في الأسواق سافرة عن وجهها فحسب، فإن هذه الدرجة هم يعلمونها جائزة شرعًا، وطالما برزت النساء المسلمات، وأخذن وأعطين في العهود الماضية، واشتركن في جلائل الأعمال مع الرجال، ولم يمنع ذلك شرع ولا عرف، وما جاء من الإفراط في الحجاب وعدم خروج النسوة من المنازل إلا في الندرى، إن هو إلا من التعصب الناشئ عن فرط الغيرة، ولم يكن من الدين الإسلامي. ولكن هذه الفئة لا ترى هذه الدرجة إلا أدنى درجات الرقي الذي يتطلبونه للنساء المسلمات في هذا العصر، وهم في ترقية المرأة لا يقنعون بشيء دون حرية الزواج بين المسلمين وغير المسلمين طردًا وعكسًا، لا بل حرية المسلمات أن يخادنَّ من شئن على نسق الأوربيات بالتمام، فإن كان هذا الذي تطلبونه أنتم معاشر الدعاة إلى السفور ولا سيما الذين ناشدوني إعطاء رأيي فيه، فينبغي أن تصرحوا بكل جرأة وتقبلوه بمتمماته، ولا تقولوا كما قال الشاب المصري (أعوذ بالله) فإن هذه النظرية هي نظرية مئات ملايين من العالم المتمدين، وحسبكم أن تكونوا مثلهم في الهيئة الاجتماعية، وإن كنتم لم تصلوا بعد إلى تلك الدرجة من (الرقي) ، وكان مرادكم إعطاء المرأة المسلمة الحرية المطلقة على شرط أن لا تخدن ولا تتزوج بغير المسلم أجبناكم: إن هذين نقيضان لا يجتمعان، الحرية المطلقة من جهة، والتقيد بزواج المسلم دون غيره، وبالزواج الشرعي دون غيره من جهة أخرى، نعم تنطبق على الشريعة الحرية المقيدة التي إن كنتم بتبغونها فالشريعة الإسلامية قد ضمنتها أحسن ضمان بدون أدنى مَنٍّ ولا تكلف، فأما الحرية النسوية المطلقة التامة والإسلام فلا يجتمعان أبدًا، وعلى المتخير أن يختار أحدهما، وليس الإسلام وحده غير مطابق للحرية النسوية المطلقة، بل النصرانية أيضًا هي غير مطابقة لها؛ لأن النصرانية تمنع المخادنة أيضًا، وتحظر على الفتاة المسيحية أن تقترن بغير مسيحي، وتزيد على الإسلام في التقييد في كون الإسلام قيد المسلمة بزواج المسلم دون غيره، ولكنه أباح للمسلم الزواج بغير المسلمة ولو بقيت على دينها، وأما النصرانية فإنها تمنع زواج المسيحية بغير المسيحي، وزواج المسيحي بغير المسيحية، فالإسلام في هذا الموضوع أسمح وأوسع، ثم إن النصرانية قيدت أبناءها في أمر الطلاق، بحيث لا تجيز للمرأة أن تطلق زوجها، ولا للرجل أن يطلق امرأته، وإذا أقدما على ذلك لم تُجِز لهما أن يتزوجا فيما بعد لا هو ولا هي، فأنت ترى أن حرية المرأة في الدين المسيحي هي أيضًا غير مطلقة ولا تامة، وإذا كنا نرى الأوربيين والأمريكيين قد خالفوا هذه القواعد، فالذين يخالفونها منهم ليسوا عاملين بمبادئ النصرانية، وإلى يومنا هذا كل من ينطبق عمله في الحياة الدنيا على مبادئ الكنيسة لا يقول بحرية مطلقة للمرأة. فأما كون الأمم التي ليس فيها حجاب لا تقل عن الأمم القائلة بالحجاب عفة نساء وصون حلائل فليس بصحيح، إن بين الفريقين في هذا الموضوع فرقًا بعيدًا، أما نصارى المشرق فإنهم مثلنا في العادات والأخلاق، وتقييد حرية المرأة في الأمور التي يخشون منها على عفتها، ولذلك لا نقدر أن نتخذهم هنا مثالاً، وأما العالم الغربي الذي أباح الحرية التامة للمرأة، وتركها تفعل ما تشاء بعد بلوغها سن الرشد، فلا أحد يمكنه أن يقول: إن العفة والصون اللذين هما من شرائط الإسلام والنصرانية متوافران فيه بالدرجة التي هما في العالم الإسلامي والعالم المسيحي الشرقي، لعمري إن ما يحصل في باريس وحدها من الفسق والفجور يساوي كل ما يحصل من هذا النوع في جميع العالم الإسلامي. وأما كون التعليم برقي المرأة إلى سنام العفاف، ويجعلها في غنى عن الحجاب وعن مراقبة بعلها، فمع كوننا لا ننكر أن التعليم يهذب كثيرًا من أخلاق المرأة ويعصم من هواها، فلا نستطيع أن نقول: إنه كافٍ في هذا الموضوع ساد مسد المراقبة الزوجية والقيود الشرعية، فالتعليم لا يقوم مقام الخوف ولا يصح وحده وازعًا، وها نحن أولاء نعرف من الرجال الذين بلغوا الدرجة القصوى من العلم، ولم يزدهم علمهم ولا فضلهم عفة مئزر ولا طهارة ذيل، فنقص الفسق والفجور في العالم الشرقي عن مثله في العالم الغربي لا يقدر ولا يحصى، إنما هو بقوة سيطرة الرجال على النساء، وينضم إليه كون الدين لا يزال في الشرق أرسخ مما هو في الغرب، فتجد المرأة المسلمة والمسيحية الشرقية تخاف عقاب ربها وعقاب زوجها، بخلاف كثير من الأوربيات اللائى أصبحن لا يخفن لا من الخالق ولا من المخلوق. بقي علينا اعتراض قد يقول به كثيرون من الذين يحبون أن يقال لهم: (عصريون) محررون من الأوهام والعقائد، سائرون في طريق الرقي بعقول علمية صرفة، وبصائر فنية محضة - وهو أن نفور المسلم من أن يرى أخته أو بنته حليلة لرجل مسيحي أو يهودي أو وثني، ونفور المسيحي من رؤية أخته أو بنته زوجة لرجل مسلم أو يهودي أو وثني، إنما هو من تأثير الأوهام ورسوخ العقائد، لا بل من رسوخ الوساوس التي ليست من الحقائق في شيء، وكذلك يقال في مخادنة المسلمة أو المسيحية العاملة بدينها لرجل تتفق معه على بدل معلوم تبيعه به عرضها، فهذا هو أيضًا من عمل الأوهام والوساوس التي بمرور الأزمان وشدة التكرار، انقلبت شرفًا وغيرة وحمية، حال كون العلم ينبغي أن يزيل هذه الأوهام من الأذهان، وأن يصفيها للحقائق دون غيرها، وأن أهم مهمة يقوم بها العصر الحاضر هو تبديد الأوهام وإزالة دولة الخرافات، فإن وقع هذا الاعتراض من أحد فنكون رجعنا إلى قاعدة فالح رفقي وعبد الله جودت والشاب الذي تحاور مع الرافعي، ولسنا في هذه المقالة رامين إلى تفنيد هذا الزعم من حيث هو، وإنما نقول لهم: إنهم كانوا يرون المدنية الأوروبية أرجح من الصون والطهر فلا بأس بقبول هذه النظرية على علاتها، وإلا فإذا كانوا يلتزمون مبادئ العفة والطهارة والاحتياط التام لأجل حصول الولد من صلب أبيه، فلا بد لهم من رفضها أو تقييدها على الأقل وإنني أؤكد لهم أن الإنسان ما دام إنسانًا وما دام هذا تركيبه فلن يمكنه التحرز مما نسميه بالأوهام والعقائد، ولن يعول على الحقيقة المجردة من كل عادة وتقليد إلا إذا رضي بحالة تشبه حالة البهائم. إننا إذا تأملنا بعين الحقيقة المجردة وجدنا النكاح والسفاح واحدًا لا فرق بينهما، وأي فرق في العمل بين من يتزوج ومن يزني؟ فلماذا إذا خامرت الإنسان شبهة في امرأته طلقها، وإذا وجد عندها رجلاً متمتعًا بعرضها جاز له قتله بدون أن يقاص ولا يضار لا في الشريعة الإسلامية وحدها [1] ، بل في جميع الشرائع وفي أحدث القوانين الديموقراطية العصرية الجمهورية؟ إذا قلنا جاء ذلك لتسلط الزاني على امرأة غيره، أجبناك: إن هذا الزنا إنما وقع برضاها واختيارها فلماذا جاز للزوج أن يقتل الزاني بامرأته ويذهب دم هذا هدرًا؟ ولماذا اتفق أكثر البشر على كون هذه الكبيرة هي أعظم الكبائر، وإن معرتها أفظع المعرات، وإنه لا يهدم الشرف والمجد في البيوت مثل دنس الوساد، ولا يرفع الرأس ويريح الوجدان ويلحف الإنسان الشرف بمطرفيه مثل نقاء العرض وطهارة البيت.
لماذا هذا كله؟ مع أنه بينما هو يعد أكبر الكبائر وأفضح المعرات بدون صورة شرعية، إذ هو بمجرد شهادة اثنين أو بقصاصة ورق انقلب ناموسًا عظيمًا وعملاً شريفًا، وجاء والد البنت نفسه يفرح بتهاليل ابنته، واجتمع أهل العروس يطبلون ويزمرون، ويقبلون التهاني على هذا العمل الذي لولا قصاصة الورق تلك كان استوجب القتل مما تجد فيه سر الحديث النبوي الشريف (جَدعَ الحلالُ أنفَ الغيرة) [2] . (الجواب) أن الناس اصطلحوا من قديم الدهر على اعتبار هذا العمل على إثر اتفاق شرعي حلالاً وعمرانًا للكون وداعيًا للفرح والتهنئة، وعلى عده بدون هذه المعاملة الشرعية فضيحةً وجنايةً وإثمًا كبيرًا.
وما هذا الذي رسخ في الأذهان من هذين الاعتبارين سوى تواطؤ قديم بين البشر، واصطلاح ساروا عليه منذ قرون لا يعلم بدؤها.
وبالجملة فوهم ليس له علاقة بطبيعة العمل نفسه، نعم هو وهم مقدس، ولكن كونه مقدسًا لا يخرجه عن كونه تواطؤًا واصطلاحًا ووهمًا [2] ، إذ الإنسان لا يزال بعيدًا عن أن ينسخ أعماله عن الطبيعة رأسًا بدون أوهام وعقائد، وما ينزل على حكم الطبيعة رأسًا بدون أوهام وخيالات سوى الحيوانات. ...
...
...
...
...
...
...
...
...
...
شكيب أرسلان (1) بعد هذه الجملة يجيء ما بعد السطر الحادي عشر من ص 209 إلى آخر ما نشر من المقالة في ص 110 ويلي ذلك قوله. (2) كرر الكاتب لفظ الأوهام حكاية لأقوال الملاحدة على الطريقة الحديثة.