سلسلة الدار الآخرة ما هي أسباب دخول الجنة؟


الحلقة مفرغة

نحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد:

هذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة الرابعة والعشرون في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة أو عن الموت وما بعده، وهي الحلقة الثالثة في الجنة، عسى رب العباد سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة بدون سابقة عذاب، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً.

اللهم لا تجعل بيننا شقياً ولا محروماً، ولا تدع لنا في هذا الجمع الطيب ولا في هذه الليلة العظيمة المباركة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا شيطاناً إلا طردته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا هديته، ولا مسافراً إلا رددته لأهله غانماً سالماً.

اللهم ارزقنا قبل الموت توبة وهداية، ولحظة الموت روحاً وراحة، وبعد الموت إكراماً ومغفرة ونعيماً.

اللهم فك الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين، ويسر حاجتنا وحوائج المحتاجين.

اللهم لا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا. اللهم يا مولانا! إننا مقهورون فانصرنا، وذليلون فأعزنا، وتائهون فأرشدنا، ومشتتون فاجمعنا، وأصحاب شهوات فتب علينا.

اللهم تب علينا من الذنوب كبيرها وصغيرها، اللهم تب علينا من الذنوب كبيرها وصغيرها، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم من أراد بمسلم كيداً فاجعل اللهم كيده في نحره، ولا تجعل يا مولانا! للكافرين على المؤمنين سبيلاً.

اللهم إن لم نكن أهلاً لرحمتك فرحمتك أهل أن تصل إلينا، فارحمنا فإنك بنا راحم، لا تعذبنا فأنت علينا قادر. اجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.

اللهم لا تحرمنا من دخول الجنة، وزحزحنا عن النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وقربنا من الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل.

اللهم فرح بنا قلب نبينا، اللهم فرح بنا قلب نبينا، اللهم فرح بنا قلب نبينا، اللهم شفعه فينا، اللهم شفعه فينا، اللهم شفعه فينا، اللهم اسقنا من يده الشريفة شربة من حوض الكوثر لا نظمأ بعدها أبدا.

اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم.

ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم يا رب! تسليماً كثيراً.

إن لكل شيء مفتاحاً، وإذا ولج الإنسان باباً أو أراد أن يلج باباً فلا بد له أن يحصل على هذا المفتاح الذي يستطيع به أن يفتح الباب، وأهم المفاتيح هو مفتاح الدخول على الله عز وجل، وهو الذلة والمسكنة لله، وعدم التكبر على عباد الله، حتى قال بعض الصالحين: يا ابن آدم! لا تغتر برؤية الصالحين، فلم يكن هناك أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينتفع به بعض أقاربه كـأبي جهل وأبي لهب وأبي طالب .

وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة بنت محمد ! خذي من مالي ما شئت، واعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً) فكل إنسان مكلف بعمله وأبو لهب يقول فيه القدير سبحانه: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]. وسلمان الآتي من آخر بلاد فارس يقول فيه الحبيب صلى الله عليه وسلم: (سلمان منا آل البيت).

ويقول صلى الله عليه وسلم (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه).

والله ينادي خلقه يوم القيامة بنداء يسمعه القاصي كما يسمعه الداني، ويسمعه البعيد مثل القريب، فيسمع نفس الصوت، لأن صوت الله عز وجل الصادر من الله جل في علاه، لا يرتفع باقترابك منه، ولا ينخفض بابتعادك عنه؛ لأن هذا قانون الزمان والمكان، وهو لا يحكم من خلق الزمان والمكان.

ولما سئل الكليم وقالوا له: أن ربنا هو الذي يكلمك بقوله: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [طه:12]؟

فقال: عرفت من شيء واحد، وهو أني كلما اقتربت أو ابتعدت ما ازداد الصوت ولا نقص.

والحسن البصري رحمه الله يقول في قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وقوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، وقوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، وأحاديث الصفات مثل قوله: (حتى يضع الرحمن فيها أصبعه، فتقول: قط قط، بعزتك قد امتلأت، وينزوي النار بعضها إلى بعض)؛ خشية من غضب الجبار سبحانه: سبحان الذي استوى على العرش، بالطريقة التي قال، وعلى الوجه الذي أراد، لا العرش يحمله ولا الكرسي، بل العرش وعظمته والكرسي وحملته كل محمول بقدرته وفي قبضته.

فلا يحاط به ولا يحده زمان ولا مكان، فهو قبل خلق الزمان والمكان، على ما كان كيف كان، لا يدري أحد كيف كان إلا من خلق الزمان والمكان.

وكل ما خطر ببالك، فالله بخلاف ذلك، لأن العقل والفكر والحس محدودة، ولا يدري قدرة الله عز وجل إلا القادر الحكيم سبحانه. فلا إله إلا الله.

وقد كان هوى الصحابة تبعاً لهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يكمل إيمان أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).

وقد قال سيدنا عمر للعباس لما من الله عليه بالإسلام: والله يا عم رسول الله! لإسلامك أحب إلى قلبي من إسلام الخطاب أبي. قال: لأن إسلام أبي يدخل السرور على قلبي، وإسلامك يدخل السرور على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسرور الرسول صلى الله عليه وسلم أفضل من سروري، فانظر إلى الإيمان بالله، فهو يريد أن يدخل السرور على قلب الحبيب صلى الله عليه وسلم ويقول: إسلام العباس يفرح به الحبيب صلى الله عليه وسلم جداً، حتى قال أبو بكر : وددت أن يسلم أبو طالب ولا يسلم أبو قحافة . وهذا نفس المنطق، وانظر إلى هذا الكلام، وهذه مشاعر عالية جداً، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا بهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

قال أهل العلم: إن أردت أن تعرف عند الله مقامك فانظر فيما أقامك.

أي: إذا أردت أن تعرف مكانتك عند الله فانظر فيما أقامك، يعني: إن أقامك كل يوم في الخمس الصلوات في المسجد فهذه نقطة جيدة، وإن أقامك لتخرج زكاة مالك وتفرج الكرب عن المسلمين وتبتسم مع الناس وتلين لهم الكلام، وتقوم الليل ولو قليلاً بقراءة القرآن فهذا جيد.

وقد أقامك الله فيما يريد وفيما يحب، فأنت مقامك عند الله كبير.

ولكن الذي يقوم يطبل وراء رقاصة فهذا قد أقامه الله في شر مقام، واحد ربنا أقامه يخرج في حفلات ليلية، فأقامه في شر مقام.

والجن كانوا مؤدبين في قولهم: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10] وأنا أريدك أن تفهم وتتدبر كلام الله عز وجل هنا، فأريد مبني للمجهول، وكأنما خاف الجن أن ينسبوا الشر لله عز وجل، فقالوا: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10]، ولما أتوا بالرشد ذكروا الله عز وجل، فانظر إلى الأدب في الكلام.

وقد تعلمنا من الخليل الأدب، فقد قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ [الشعراء:78-80]، ولم يقل: والذي إذا أمرضني، وهذا من الأدب.

وانظر إلى الرجل الصالح صاحب سيدنا موسى عليه السلام الذي علمه فقال: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79] فقال: (أردت أن أعيبها) ففي العيب أتى بالإرادة ونسبها إلى نفسه، وفي اليتيمين قال: فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82]، فالخير نسبه إلى الله، والشر نسبه إلى نفسه، وهكذا المؤمن مؤدب وسيدنا أبو بكر استفتي في فتوى فقال: أقول فيها برأيي، فإن كان حسناً فمن الله، وإن كان غير ذلك فمن الشيطان ومن نفسي، وهذا من الأدب.

ومن الأدب في الدعاء: يا رب! إن عذبتني فبعدلك، وإن رحمتني فبفضلك. اللهم عاملني بفضلك ولا تعاملني بعدلك. وهكذا كان الصاحون يدعون، وربنا لا يظلم، وحاش لله أن يظلم، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، فإن عذبتني فهذا بمحض العدل؛ لأنك عادل، وأنت الحكم العدل، وإن رحمتني فبفضلك، فعاملني بفضلك ولا تعاملني بعدلك.

ودروس العلم سواء في الدار الآخرة أو في غيرها هي من أعظم الهدايا والنعم التي أنعم الله بها علينا، وأعظم نعمة أنعم الله علينا بها هو أن أخذ بأيدينا إلى طريق الخير، ولنفرض جدلاً أن حاكماً من الحكام أو مسئولاً من المسئولين أهدى لك هدية، فهذه الهدية أنت تنظر لها من ثلاث زوايا:

أولاً: من ناحية الهدية في ذاتها: أنها على قدر حال المهدي، فحين أهدي لك طاقية أو سواكاً أو قلماً تكتب به فهذا على قدر حالي، وهو الذي أستطيعه، ولكن الواحد من كبار المسئولين يعطيك على قدر حاله، فقد يعطيك قلم ذهب بخمسمائة جنيه، فكل هدية على قدر مهديها.

وثانياً: أنه فكر فيك ولم ينسك، وأهدى لك لأنه يحبك، وهذه نعمة ثانية.

وثالثاً: تقول: والله بقي أن أكتب له بهذا القلم جواب شكر، فأنت تريد أن تشعر نفسك بالمنة، فتكتب له جواب شكر بالقلم، ولله المثل الأعلى.

فالبشر يهديك حطاماً من حطام الدنيا، وأما الله فيهديك أعظم هدية وهي الهداية نفسها، فيهديك إلى درس العلم، وإلى سورة تحفظها من القرآن، وإذا حفظ الرجل القرآن وظن أن أحداً أعطي خيراً منه، فقد استقل نعمة الله عليه.

وفي إحدى البلاد القريبة للقاهرة كان هناك مسيحي نصراني ثري، فجلس مسلم يكلمه عن الإسلام وحلاوته وعظمته، وجمال القرآن وحلاوته وسيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فتفتحت أذنه وانقطع عن الكنيسة، فبعثوا له ثلاثة من القساوسة، فجاءوا إليه وقالوا له: ما الذي أغضبك منا؟ فقال: بصراحة الإنجيل هذا فيه حاجات لا تعجبني، فقالوا: كيف؟ هذا لا يعقل، هذا كتاب الرب. فقال: هاتوه، فأتوا بالأنجيل، ففتحه وقال: هذه الحكاية لا تعجبني فاشطبوها، فشطبوها، فقلب الصفحة الذي بعدها وقال: هذه الآية أيضاً نشطبها، فجلسوا يشطبون؛ فقال: انتظروا، وخرج إلى رجل مقرئ لا يؤبه له، فدعاه ليقرأ سورة مريم ، فخاف وهو يرى القساوسة أمامه، فقال له: اقرأ يا أخي! يمكن ربنا يهدينا، فقرأ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم:1-2]، حتى وصل إلى قوله تعالى: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [مريم:34]. فقال الرجل: هذه الآية: قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [مريم:34] لا تعجبني، فقال القارئ: يعني ماذا؟ فقال له: نشطبها ونعطيك خمسين ألف جنيه، فقال القارئ: امشوا من هنا.

وهذه القصة حصلت والله، ودخل في دين الله.

فقارئ القرآن لا يقدر أن يفرط في القرآن ولا في آية ولا حتى في حرف؛ لأن هذا مثال مصداق لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة هؤلاء كانوا متمسكين بالقرآن والسنة بأيديهم وأسنانهم، لا يزحزحهم عن كتاب الله عز وجل شيء.

إذاً: إذا أردت أن تعرف مقامك عند الله فانظر فيما أقامك، فإن كانت أغلب أوقاتك لله رب العالمين فاعرف أنك على الحق، فإن لقيت أوقاتك قد ضاعت في غير ما يرضي الله ولقيت أحب الناس يعرض عنك بعد أن كان حبك قد تسرب إلى قلوب الناس فابحث لك عن قلب فإنه لا قلب لك.

اللهم أحي موات قلوبنا يا رب العالمين!

اللهم لا تحرمنا من دخول الجنة يا رب العالمين! اللهم اجعلنا من أصحابها يا رب!

والله عز وجل يقول للجنة: (طوبى لك منزل الملوك) والرجل المتربة يصير ملكاً في الجنة؛ لأن الجنة لا حزن فيها ولا ألم ولا أسى ولا لغو ولا بلايا. والدنيا دار بلاء لا دار جزاء، والله ما نظر إلى الدنيا منذ أن خلقها، ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء، والدينا يكفينا منها أن فيها الحزن على الماضي، والخوف من المستقبل، وفيها إبليس، وإبليس يعد الناس الفقر، ويأمرهم بالسوء والفحشاء، وأن يقولوا على الله ما لا يعلمون، وقد سئل الحسن البصري : ماذا تصنع مع الشيطان؟! فتبسم وقال: وما الشيطان؟ لقد أطيع فما نفع، وعصي فما ضر. وربنا قال: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، والله سبحانه لم يجعل له سبيل إلا على الذي قد اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم والعياذ بالله.

وإن الطريق إلى الجنة طريق واحد، قال تعالى: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ [الجن:16]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على المحجة البيضاء)، وهو الطريق الممهد الواحد، (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك) فالرسول صلى الله عليه وسلم تركنا وقد وضح لنا الأمور.

والمرأة الأوروبية عالمة الفلك الألمانية الشهيرة التي أسلمت في سنة خمسه وستين قالت: عجبت لنبيكم محمد، ما ترك شيئاً إلا ووضحه لكم وبينه! حتى آداب دورة المياه قد حدثكم عنها! فقال: ادخل بالرجل الشمال، واستعذ بالله، واقعد من ناحية الشمال، ونظف جيداً، ثم توضأ، فتخرج طاهراً، ولا تتبول في شقوق الأرض، فالرسول صلى الله عليه وسلم يخاف عليك إلى هذه الدرجة، وهو أحن عليك من أبيك وأمك، فقال: (لا تتبول في شقوق الأرض)، خوفاً من أن يكون فيها حشرات أو شيء يضرك، ولا في الأرض الصلبة؛ حتى لا يرجع الرشاش عليك وينجس ثيابك، فهو يخاف على ثيابك. فهذا حنين قوي، وقد قال الله له: يا محمد! أنجعل إليك حساب أمتك؟ قال: يا رب! بل أكلهم إليك، فأنت أرحم بهم مني.

فيا شقاء من ابتعد عن حنان الحبيب المصطفى! وقد كان إذا أراد أن يؤدب خوف بالسواك، وقد خدم أنس النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين يأتي له بوضوئه وما يحتاج إليه، وعبد الله بن مسعود كان يحمل نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعندما كان يغضب الرسول صلى الله عليه وسلم من أنس يقول: يا أنيس ! ويهز له السواك هكذا، لولا مخافة القصاص يوم القيامة لأوجعتك ضرباً بهذا السواك.

ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنساً إلى السوق ليشتري أقطاً -وهو مثل الجبنة، واللبن الرايب الناشف- فذهب فوجد في الطريق صبياناً يلعبون فجلس يلعب معهم فضاع منه المال، فخاف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون قد تاه، وهو أمانة عنده، فأمه أتت به ليخدم الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتعلم منه العلم، ويرق قلبه، فذهب يبحث عنه فوجده يلعب مع الصبيان، فأمسكه من قفاه، وقال : (يا أنيس ؟! أين الأقط؟) فارتبك أنس وخاف، وقال له: إنه ضاع منه المال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتي الله بخير منها يا أنس! فأكمل لعبك واتبعني إلى البيت.

فلماذا لا نتعلم الأدب من أستاذ الأدب؟ فهو هنا يقول: أنت أرحم بهم مني، فإذا بالعلي القدير يقول: يا جبريل! نبئ محمداً وقل له: إننا لن نخزيه في أمته أبداً، فهذه أمثلة لرحمته صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل أنعم علينا بهذه النعم: نعمة الهداية، ونعمة مجالس العلم، ونعمة القرآن، فننظر إليها على أنها نعمة من المنعم المتفضل سبحانه، ونستخدم هذه النعمة في إرضائه سبحانه وتعالى، وأين ما يهديه إليك البشر مما يهديه إليك رب البشر؟

ولو جاء عبد من عباد الله إلى باب أحد منكم يسأله فلساً أو فلسين لم يعطه، ولو سأل الله الجنة لأعطاها له، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيها خير وهي مثل المطر، لا يدرى الخير في أولها أم في آخرها؟ فلا طريق إلى الجنة إلا طريق واحد، وهو طريق كتاب الله وسنة حبيبه صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة:35]، فكلها حلال ما عدا هذه الشجرة، والذي يشرب الخمر -ربنا يعافينا وإياكم- عنده ألف مشروب حلال، ولكنه يأتي إلى الحرام ويعمله، وربنا سبحانه وتعالى ما حرم شيئاً إلا وأعطاك بديلاً حلالاً، فحرم الفواحش وأعطاك الزواج، وحرم الربا وأحل البيع، وحرم الخمر وأحل كل المشروبات الباقية، وحرم الميتة ولحم الخنزير وأحل لحوم كل الحيوانات، ما عدا السباع فما حرمه الله قليل، وهذا نفس قضية أبينا آدم ، فقد قال له الله: كل مما تريد أنت وزوجتك إلا هذه الشجرة، وكل شيء على الحل والإباحة، إلا ما جاء نص بتحريمه، فجلس أبونا آدم وأمنا حواء في هذه الجنة، ووسوس إليهما الشيطان، فأتى إبليس هو أول حسود وحاقد ومتكبر إلى أبينا آدم من مدخل غريب فقال: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20].

يعني: لو أكلت يا آدم! أنت وحواء من هذه الشجرة حصل لكما واحدة من اثنتين: فإما أن تكونا ملكين من الملائكة، وكل إنسان فينا يتمنى أن يصير ملكاً، وعندما تجد شخصاً فاضل الأخلاق متواضعاً في ألفاظه طيباً ودوداً تقول: فلان هذا ملك، ولذلك صويحبات يوسف: وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31]، أي: من شكله ومن حيائه؛ لأن المتبجح تلقاه شيطاناً، ولكن المؤمن حيي، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يعظ أخاه في الحياء فقال له: (دعه فإن الحياء من الإيمان)، فالذي عنده إيمان عنده حياء، والذي ليس عنده حياء ليس عنده إيمان، والمرأة الموظفة التي تلبس إلى ركبتها وتجلس واضعة رجلاً على رجل وسط الموظفين وزميلها يولع لها السجارة ليس عندها حياء وإيمان.

وقد كان عند بناتنا حياء العذارى، فلو سمعت طلبها للزواج احمر وجهها وهربت إلى غرفتها وجلست تبكي.

والحياء ثمرة من ثمار الإيمان، فالإنسان الحيي مؤمن، والإنسان الذي ليس عنده حياء شيطان.

قال تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20] يعني: تخلد فلا تموت، وكلنا نحرص على الحياة، ونريد أن يمتد بنا الأجل.

قال تعالى: وَقَاسَمَهُمَا [الأعراف:21] حلف لهما وأقسم لهما: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21].

وقد قال ابن سيدنا آدم لأبيه آدم: يا أبت! أتطيع الشيطان وتعصي الرحمن، قال: يا بني! ما ظننت أن أحداً يقسم بالله كاذباً.

واليوم الواحد يحلف ويحلف وهو يعلم أنه كاذب، وهذا القسم والعياذ بالله هو اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار والعياذ بالله، ولا كفارة لها.

فإبليس دخل إلى أبينا آدم وأمنا حواء الجنة، وحلف لهما إذا أكلا من الشجرة فسيخلدان، فبدت لهما سوءتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة.

قال تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا [البقرة:38] أي: أنزلوا إلى الأرض منها بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [طه:123].

والجنة التي دخل فيها أبونا آدم ليست هي الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة، ولنا خمسة عشر دليلاً على ذلك، منها على سبيل المثال: كيف إبليس يدخل الجنة، وكيف يطرد أبونا آدم منها، وجنة الرضوان التي وعد المتقون لا يعصى الله فيها؟

فجنة الخلد التي وعد المتقون لا يدخلها الشيطان، وهذه الجنة دخلها الشيطان، وجنة الرضوان التي يدخل الله فيها عباده لا حزن فيها ولا كآبة، وأبونا آدم لما أكل من الشجرة حزن وندم، والندم هذا ألم نفسي، والجنة لا حزن فيها.

والجنة التي وعد المتقون ما هم منها بمخرجين، ولكن آدم أخرج وحواء من الجنة.

وهناك أدلة أخرى من الكتاب والسنة تدل على أن هذه الجنة التي دخلها أبونا آدم وأمنا حواء ليست جنة الرضوان، إنما هي جنة أخرى فيها جميع مقومات الحياة، من أكل وشرب، وليس فيها شغل ولا تعب ولا حاجة وهذا كما إذا جاءك ضيف ووضعت له الأكل والشرب في الثلاجة وقلت له: انظر هذا هو البوتجاز، وهذه الثلاجة، وهذا الماء، وهذه دورة المياه، وهذه الفوطة، وهذه السجادة، ثم تركته وقلت: قد عملت له كل الفروض التي يستطيع أن يقيم بها حياته.

هذه هي النقطة الأولى.

والنقطة الثانية: يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من فرحته بنا: (لكظيظهم على أبواب الجنة أحب إلي من شفاعتي)، والشفاعة هي فخر للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود، ورغم ذلك يقول: أنا فرحتي بزحمة أمتي على أبواب الجنة أحسن لي وأحب لي من الشفاعة؛ لأن ثمرة الشفاعة دخول الجنة، والثمرة أحسن من الفعل.

وأنت عندما تجد المساجد مزدحمة، والناس بعضهم يصلون على ظهر بعض، ومزدحمين عند الباب في الدخول وفي الخروج تفرح؛ لأن هذه صورة من صور رحمة الله سبحانه، لأنه كلما كثر العدد كثر احتمال وجود صالح، ونظرية الاحتمال أو الاحتمالات تقول: لو كثر العدد كثر احتمال وجود صالح أو صالحة يستجاب الدعاء من أجله.

وحج عطاء بن أبي رباح فلما كان في الموقف نظر إلى الناس وقال: لولا أن عطاء بينكم لقبل الله أهل الموقف، فنام عشرة من المريدين في هذه الليلة في مزدلفة فرأوا في النوم أن القيامة قد قامت، ومناد ينادي: قد قبل الله أهل الموقف في هذا اليوم من أجل عطاء بن أبي رباح.