خطب ومحاضرات
سلسلة الدار الآخرة وصف الجنة
الحلقة مفرغة
أحمد الله حمداً يوافي نعمه علينا، ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة الثالثة والعشرون في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة، أو عن الموت وما بعده، وهي بمشيئة الله سبحانه الحلقة الثانية عن الجنة.
أيها الإخوة الأحباب! الحديث عن الدار الآخرة يرقق القلوب الجامدة، ويجعل العيون التي لم تتعود على البكاء من قبل تذرف الدموع، وذلك عندما تتفكر أن صاحبها سوف يقف بين يدي من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهذه الدروس تذكر الإنسان بالحقيقة الأساسية: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42] يوم ينادي المنادي: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت، قال تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
ويؤتى بالموت على هيئة كبش بين الجنة والنار ثم ينادي: ما هذا يا أهل الجنة؟ ما هذا يا أهل النار؟ فيقول الفريقان: هذا هو الموت الذي كنا نخاف منه، فيؤمر بالموت فيذبح، ثم ينادي المنادي من قبل العلي الأعلى جل في علاه: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، يا أهل النار! خلود فلا موت، فيزداد أهل الجنة فرحاً، ويزداد أهل النار غماً وكمداً وحزناً، اللهم اجعلنا مع الذين رضيت عنهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، آمين يا رب العالمين!
هذه الدروس إن لم تخفك من الله فلا فائدة فيها، هذه الدروس إن لم تقربك إلى الله، وتجعل قلبك رقيقاً لمجالس العلم، رقيقاً لكلام الله، محباً لطاعة الله عز وجل، محباً لأهل الله عز وجل، محباً للسائرين في طريق الله سبحانه فلا خير فيها، اللهم إنا نسألك حبك، وحب من أحبك، وحبك كل عمل يقربنا إلى حبك يا رب العالمين.
وكل شيء له مفتاح، والجنة لها مفاتيح، والحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يحدثنا فيما رواه أبو نعيم والإمام أحمد في مسنده وصححه الحاكم ، حيث قال: (إن لله عباداً مفاتيح للخير، مغاليق للشر، ومن العباد عباد مغاليق للخير، مفاتيح للشر، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، ويا بؤس عبد جعله الله مغلاقاً للخير مفتاحاً للشر).
فهناك أناس معهم مفاتيح الخير يفتحون بها قلوب الناس، وهناك أناس والعياذ بالله رب العالمين معهم مفاتيح يغلقون بها أبواب الخير على عباد الله، ويفتحون لهم أبواب الشر، وأيضاً يحدثنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فيقول: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن تبتاع منه، وإما أن يحذيك، وإما أن تشم منه ريحاً طيباً، ونافخ الكير إما أن يحرق ثوبك، وإما أن تشم منه ريحاً خبيثة)، ولذلك من فضل الله عز وجل -وهو الستار الحليم- أنك تصنع الذنب وتخرج أمام الناس فيرونك ولا يدركون ولا يعلمون من أمر ذنبك وسيئاتك شيئاً.
يرونك في المسجد ويظنونك ملكاً من الملائكة، وصالحاً من الصالحين، وعالماً من العلماء، يظنونك محباً لأهل العلم وربما كان في قلبك غير ذلك، وربما هذه الرؤية تجعل الغير يدعو لك بالخير، فيجعل الله لك في هذه الدعوة الخير كله، فالإنسان لا يدري من أين يأتيه الخير، وربما دعوة مسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب يستجيب الله له، فيهدي الله عز وجل الاثنين إلى طاعته ورحمته.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا يا ربنا واصرف عنا شر ما قضيت، آمين آمين، والحمد لله رب العالمين.
والإنسان المسلم بفضل الله عز وجل مفاتيح الخير لا تسبب له قلقاً؛ لأن مفاتيح الخير لا تكلف شيئاً؛ لأن الله عز وجل يقول في سورة التوبة: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].
هذه الآية فيها أحد عشر لوناً من ألوان البلاغة، وألوان الأوامر، وألوان الفضل الإلهي:
قوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى [التوبة:111]، بدأت الآية بحرف التوكيد (إن)، وذكرت اسم المشتري: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى [التوبة:111]، ولفظ الجلالة (الله) هو اسم إن، فالله هو المشتري، و(اشترى) هذا فعل ماض، فالله قد اشترى بفضله سبحانه.
ثم ذكر البائع فقال: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:111] اللهم اجعلنا منهم يا رب! أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111] الأنفس والأموال أعطاها لك الله ثم هو يشتري منك ما منحك بدون مقابل، أعطاك الله الجسد والروح، والدورة الدموية، والدورة التنفسية، والعقل، والفكر، والمشاعر، والعواطف، والأحاسيس، والود والرحمة، والمحبة، والإخلاص، كل هذا أعطاه لك ربنا، وأنت ماذا أعطيته عندما أعطاك هذا؟!
إذاً: الله عز وجل قد اشترى من المؤمنين شيئاً قد وهبه لهم بدون مقابل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111]، المال أيضاً هو من مال الله، لكن الناس مالوا بالمال عن حقيقة المال، وقلنا: في اللغة سمي المال مالاً؛ لأنه مال بالناس عن الحق، معاملتك مع أخيك المسلم تكون جيدة، فإذا دخل المال فيها مالت علاقتك معه؛ لأن المال يميل بالقلوب إليه، المال تميل إليه القلوب والنفوس بطبيعتها، ولذلك يقول سيدنا علي:
النفس تجزع أن تكون فقيرةً والفقر خير من غنىً يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما في الأرض لا يكفيها
ولذلك وقف الإمام الشافعي رضي الله عنه لما سافر إلى سيريلانكا -سيلان اليوم- وقال:
أمطري لؤلؤاً سماء سرنديب وأفيضي آبار تكرور تبراً
أنا إن عشت لست أعدم قوتاً وإذا مت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا
لأنه يعلم أن الرزاق هو الله، وأن المانح هو الله، وأن المانع هو الله، وأن المعز هو الله، وأن المذل هو الله، ولا شيء إلا الله، فوحد الله وعبده، وسار في طريق الله، فكانت عنده عزة إلا في الصلاة، تنحني جبهته أمام عظمة الله، ويتواضع أمام ربه وأمام المسلمين، لكن في غير ذلك كان رأسه في السماء بعزة المؤمن، فهو مع الكافرين عزيز بعزة الله له؛ لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
إذاً: الله سبحانه وتعالى رزقك المال بدون أن تعطيه مقابلاً، ثم أراد أن يشتري منك، والبيع دائماً يكون فيه مكسب للطرفين -ولله المثل الأعلى- فإن الله عز وجل سوف يشتري منك النفس والمال وهو لمنفعتك والله غني عنه، يقول الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] كلنا فقير إلى الله؛ ولذلك يقول الله عز وجل: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا. يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم. يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا على أتقى قلب واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً. يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسأل كل واحد منكم فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه
إذاً: كلهم جائع إلا من أطعمه الله، وكلهم عار إلا من كساه الله، وكلهم ضال إلا من هداه الله، فلو أن الكل أطاع الله ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً، ولو أن الكل عصى الله عز وجل ما نقص ذلك من ملك الله عز وجل شيئاً، ثم قال الله عز وجل: لو أن الجميع قد وقفوا في صعيد واحد، وكل واحد سأل الله مسألة، فأعطى كل واحد مسألته، لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً أن يعطي كل سائل مسألته!
إذاً: ما الفائدة التي تعود على المشتري في هذه الحالة بأن اشترى رب العباد سبحانه نفسك ومالك؟
الجواب: ليس له فائدة عائدة، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111] أي: التي رزقهم الله إياها.
وقلت من قبل: لو أنك عبدت الله مائة عام متواصلة، وربنا يكافئك بدل المائة العام في الدنيا مائة عام في الجنة، ثم ضاعف السنوات إلى عشرة أضعاف؛ لأن الحسنة عنده بعشر حسنات، ثم يضاعفها لك إلى سبعمائة ضعف، فتكون سبعين ألف سنة، ثم مكثت في الجنة سبعين ألف سنة ثم بعدها أين ستذهب؟ لا أكرم من الله، ولا أحن من الله عز وجل، فهو حنان منان يجود على العباد دون أن يسأل.
إذاً: أعطاك الجنة مقابل أن بعت له نفسك ومالك، قال تعالى: بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، كيف سيحصلون عليها؟ قال: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111].
قالت إحدى الصحابيات الجليلات: يا رسول الله! ابني الذي استشهد معك في أحد أفي النار هو فأبكيه، أم في الجنة فأصبر؟! إن كان في النار فهو يستحق البكاء؛ لأنه خسر الدنيا والآخرة، لكن لو كان في الجنة فإنها ستصبر؛ لأن الله أبدله من الدنيا ما هو خير.
فقال صلى الله عليه وسلم: (بل هو في الفردوس الأعلى) اللهم ألحقنا بهم يا رب العالمين! قال تعالى: بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا [التوبة:111] لم يعد وعداً مطلقاً، بل أكد هذا الوعد فقال: وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا [التوبة:111]، أين هذا الوعد؟ في الكتب المنزلة من التوراة، والإنجيل، والقرآن ثم قال: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] أي: لا أحد أوفى بعهده من الله، ثم في الآخرة يبشر المؤمنين فيقول: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ [التوبة:111] يعني: الذي باع وتاجر مع الله سلم نفسه والمال لله فليستبشر: وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111] اللهم اجعلنا من أهل الفوز العظيم يا رب العالمين!
من مفاتيح الإيمان التفكر في مخلوقات الله
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
أصحاب الهندسة المكنيكيه يقولون: أصعب اختراع في الآلات الآلة الماسكة، وهي التي تشبه يد الإنسان، فالله جعل للعبد أربع أصابع في اتجاه واحد، وإصبعاً يرجع عليها في اتجاه آخر، قال تعالى: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة:4] هناك تفسير يقول: الله عز وجل برحمته جعل لك أصابع متفرقة وكان الله قادراً أن يجعلها لك مثل خف الجمل لا تستطيع أن تمسك بها، لكن عمل كل أصبع لوحده؛ حتى تقدر على الحركة، وجعل لكل إصبع بصمة تختلف عن البصمة الأخرى.
يوجد ملايين البشر بصماتهم غير متشابهة ولا متماثلة، فسبحان الذي خلق، وسبحان الذي صور، وسبحان الذي أبدع؛ لأن هناك جماعة منحرفين يقولون: يوجد تناسخ أرواح في الأبناء والأحفاد والأجيال، يعتقدون أن الأرواح قد انتهت فلا يوجد فيها جديد، يقول تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8] وخزائنه لا تنفد!
الإنسان عليه أن يتفكر في نفسه وجسمه وبدنه الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، قال الشاعر:
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
ولذلك قال سيدنا علي :
والله لا موسى ولا عيسى المسيح ولا محمد
كلا ولا النفس البسيـ ـطة لا ولا العقل المجرد
بل أنت يا رسطو ومن أفلاط قبلك يا مبلّد
من أنتم إلا الفراش رأى الشهاب وقد توقد
فدنى فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد
التفكر في ذات الله هلاك، ولكن التفكر في رحمة الله وفي صفاته وفضله وعظمته وقدرته مفتاح الإيمان، انظر إلى هذه الرياح كيف تنقل حبوب اللقاح! وتأتي رحمة الله، وتحرك السحاب من أرض إلى أرض فنزل المطر، والرياح تسير المركب في البحار والأنهار، كل هذه من نعم الله فلنشكر ربنا عليها.
مع أنه يجب أن نشكر الله عليها؛ لأن الإنسان بطبيعته لا يشكر الله إلا على نعمة خاصة به، وكما قلت لكم من قبل: إن الله عز وجل يقول: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:17-19] قال أهل العلم: لو أعطيت مفاتيح الجنة لأحد المؤمنين لأقفل الباب وراءه؛ لأنه بطبيعته طماع، يحب الخير لنفسه، لكن من رحمة الله أن الملك يومئذ لله، فالمؤمن عندما يرى النعيم ينشرح صدره، ويخاف عندما يعصي الله، ويرجو الله عندما يطيع، قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] اللهم اجعلنا من الذين يحذرون الآخرة، ويرجون رحمتك يا رب العالمين!
فساعات التفكر هذه مفاتيح للإيمان، ولذلك المسلم يتفكر في نفسه أولاً، ثم يتفكر في مخلوقات الله وهذا باحث في عالم الحشرات، قعد مع النمل سبع سنين فكان يضع للنمل كل نوع من أنواع الحبوب فتكسر النمل الحبة نصفين؛ لأن أي حبة لو مكثت تحت أي ظروف من بخار ماء لنبتت، فالنملة عندما تدخل الحب في الجحر، أول ما تأخذه تكسره إلى نصفين، لكن هناك نوع يشذ عن جميع أنواع الحبوب في كيفية تكسيره هو حبوب الكزبرة، وضع لها الباحث حبة الكزبرة فوجد أن النمل تقسم الحبة إلى ثلاثة أقسام، من الذي علم النملة هذا الفعل؟ لم تدرس النمل في أي كلية أكاديمية أو علوم أو طب أو زراعة، وإنما الذي علمها هو الله سبحانه، ولذلك استغرب هذا الباحث وقال: لعل النمل تعلمت هذا الفعل من آبائها، بحكم الوراثة في المعرفة، فحاول أن يعزل مجموعة من النمل لم تعرف آباءها ولا أمهاتها، فجعلها في مكان لوحدها، ثم جعل يعطيها حبوب الكزبرة، وإذا بالنمل يكسرها إلى ثلاثة أكسار، فهو يتحدث عن نفسه قائلاً: لم نصل إلى معرفة هذا السر، ولم يعلم أنها آية من آيات الله سبحانه وتعالى، ولذا قال فرعون لموسى وهارون في سورة طه: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:49-50].
وهناك طائر يطير وهو أعمى ولا يصطدم بالحيطان، اكتشف العلم الحديث أن له خلايا كهرومغناطيسية غير مرئية، وكل ذلك من قدرة الله أولاً وأخيراً. وتجد الثعبان له عضلات يمشي بها على الأرض، وله أكل معين، وحياة معينة، والحشرات لها حياة معينة، والدود في الأرض، والضفادع وغيرها من الكائنات.
أما البحار فهي عالم آخر، جعل الله البحر مالحاً؛ لأنه توجد فيه من الكائنات البحرية آلاف الملايين وهي تموت فيه، والملح الذي في باطن البحر يحفظ هذه الكائنات الحية التي تموت، فلا تخرج منها روائح كريهة، ولو لم يكن في البحر والمحيط ملح لمات أهل الأرض جميعاً من نتن رائحة البحر، فهذه نعم تستوجب الشكر والتأمل، اللهم اجعلنا من المتفكرين يا رب العالمين!
تدبر القرآن
قلنا: الأم تنادي ابنها يوم القيامة قائلة: يا بني! كان بطني لك وعاء، وصدري لك سقاء، وحجري لك وطاء، هل من حسنة تنفعني بها هذا اليوم؟ فيقول: يا أماه! أنا لا أنكر شيئاً من ذلك، ولكن هل عندك أنت من حسنة تنفعني؟
ويقول الابن لأبيه: يا أبت! كنت باراً بك، وشفوقاً بك، ورحيماً بك ألا من حسنة؟ فيقول له: يا بني! أنا أشكو مما تشكو أنت منه، أليس عندك أنت من حسنة؟
ثم يفتدي المرء نفسه بأقاربه قائلاً: خذ أبوي خذ أولادي، خذ امرأتي، حتى الأنبياء يقولون: نفسي نفسي! إلا سيدنا محمداً فإنه يقول: يا رب أمتي! يا رب أمتي!
قام صلى الله عليه وسلم ليلة بآية يقرؤها ويبكي حتى أذن الفجر وهي قوله: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] فأرسل الله جبريل فنزل عليه وقال: يا محمد! ما يبكيك؟ قال: (من لأمتي من بعدي يا جبريل)، وهذا رواه الإمام أحمد ، ورواية الإمام مسلم : (لن يحن عليكم من بعدي إلا الرحماء من أمتي)، الناس الذين يجالسون العلماء في مجالس العلم، ويحبون أهل الخير، هؤلاء هم الذين سيرحمون الأمة، أما الذي يظهر في التلفاز يرقص ويضيع صلاة الظهر والعصر ومشغول بالسهرة في الماء ويومه كله ضاع في نظرة وفي كلمة وفي سيئة وفي غيبة ومشاهدة للبطل والبطلة؛ لأنه مفتاح للشر مغلاق للخير فهذا لن يرحم أحداً، وإنما يسن سنة سيئة، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).
وهذا سيدنا عمر رضي الله عنه يخرج قبل الفجر يتفقد الرعية، فبينما هو يمشي إذ سمع قارئةً للقرآن تقرأ أول سورة الطور إلى أن بلغت قول الله عز وجل: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور:7]، فأغمي عليه، حتى إن الصحابة عادوه أياماً.
إذاً: مفتاح حياة القلب تدبر القرآن، قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] القرآن فيه كل ما يحتاجه الناس، قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، كل شيء موضح في القرآن، فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم لا يخلق من كثرة الرد، عندما تقرأ سورة سيدنا يوسف تحلو كل ما قرأتها، وتزداد حلاوة كل مرة تقرؤها.
إن عبداً من بني إسرائيل عبد الله خمسمائة عام، ثم جيء به، فقال الله لملائكته: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: لا يا رب ادخل الجنة بعملي، فقال الله لملائكته: زنوا له أعماله، فوزنوا أعماله، ثم وضعوا أعماله في كفة ونعمة البصر في كفة، فوجدوا أن نعمة البصر رجحت على أعماله، فصار مديوناً لله فقال: أدخلوا عبدي جهنم، فقال: لا يا رب! أدخل الجنة برحمتك! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن قوماً غرتهم الأماني، يقولون: نحسن بالله الظن، ووالله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل).
من مفاتيح الإيمان التضرع في الأسحار
إذاً: قيام الليل نور المؤمن، يقول أحد السلف: رأينا الحسن البصري وعليه نور وكان رجلاً أسمر، وإذا به كل يوم عليه هالة من النور! قال: فقلت: يا حسن ! عهدناك آدم البشرة فما هذا النور الذي علاك؟ قال: نحن قوم خلونا بالله في ظلمات الليل، فكسانا ربنا من جماله وجلاله.
سلكوا الخط ودخلوا على باب الله الذي ليس له بواب فدخلوا إلى الله عز وجل؛ فأكرمهم برحمته، اللهم أكرمنا معهم يا رب العالمين!
إذاً: مفتاح حياة القلوب تدبر القرآن، والتضرع في السحر؛ لأن الله تعالى قال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، ادع الله يا رب! يا رب! يا رب! ولذلك نحن سمعنا أن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد ما انتهى من صلاة الصبح في المسجد نادى على شاب، وقال له: ماذا كنت تقول في الليل؟ قال: قمت الليل بآية أقولها وأبكي: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ... [النمل:62] إلى آخر الآية، سيدنا الحبيب يقول له: (يا غلام! لقد أبكيت أعين كثير من الملائكة) تجاوبت السماء مع دعاء العبد؛ لأن الملائكة بطبيعتها تؤمن على دعائك، والذي أمنت الملائكة على دعائه إن شاء الله يكون دعاؤه مستجاباً.
قال تعالى: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ... [غافر:9] يقول صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة العشاء في جماعة ونام على ذكر الله عز وجل، فلما نام ما منعه من الذكر إلا النوم، تكتب الملائكة طوال نومه أنه جالس وواقف يصلي لله) لأن النوم هو الذي عطله؛ لأنه لابد أن ينام؛ فهو بشر يحتاج إلى النوم، فتقول الملائكة: إنه لو كان صاحياً لاستمر في الذكر، ولواصل الصلاة اللهم اجعلنا من أهل قيام الليل، اللهم اجعلنا من القائمين لله بالليل، اللهم اجعلنا من القائمين لك بالليل يا رب العالمين!
إذاً: الإيمان له مفتاح، ومفتاحه التفكر في كل شيء.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
أصحاب الهندسة المكنيكيه يقولون: أصعب اختراع في الآلات الآلة الماسكة، وهي التي تشبه يد الإنسان، فالله جعل للعبد أربع أصابع في اتجاه واحد، وإصبعاً يرجع عليها في اتجاه آخر، قال تعالى: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة:4] هناك تفسير يقول: الله عز وجل برحمته جعل لك أصابع متفرقة وكان الله قادراً أن يجعلها لك مثل خف الجمل لا تستطيع أن تمسك بها، لكن عمل كل أصبع لوحده؛ حتى تقدر على الحركة، وجعل لكل إصبع بصمة تختلف عن البصمة الأخرى.
يوجد ملايين البشر بصماتهم غير متشابهة ولا متماثلة، فسبحان الذي خلق، وسبحان الذي صور، وسبحان الذي أبدع؛ لأن هناك جماعة منحرفين يقولون: يوجد تناسخ أرواح في الأبناء والأحفاد والأجيال، يعتقدون أن الأرواح قد انتهت فلا يوجد فيها جديد، يقول تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8] وخزائنه لا تنفد!
الإنسان عليه أن يتفكر في نفسه وجسمه وبدنه الذي خلقه الله سبحانه وتعالى، قال الشاعر:
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
ولذلك قال سيدنا علي :
والله لا موسى ولا عيسى المسيح ولا محمد
كلا ولا النفس البسيـ ـطة لا ولا العقل المجرد
بل أنت يا رسطو ومن أفلاط قبلك يا مبلّد
من أنتم إلا الفراش رأى الشهاب وقد توقد
فدنى فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد
التفكر في ذات الله هلاك، ولكن التفكر في رحمة الله وفي صفاته وفضله وعظمته وقدرته مفتاح الإيمان، انظر إلى هذه الرياح كيف تنقل حبوب اللقاح! وتأتي رحمة الله، وتحرك السحاب من أرض إلى أرض فنزل المطر، والرياح تسير المركب في البحار والأنهار، كل هذه من نعم الله فلنشكر ربنا عليها.
مع أنه يجب أن نشكر الله عليها؛ لأن الإنسان بطبيعته لا يشكر الله إلا على نعمة خاصة به، وكما قلت لكم من قبل: إن الله عز وجل يقول: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:17-19] قال أهل العلم: لو أعطيت مفاتيح الجنة لأحد المؤمنين لأقفل الباب وراءه؛ لأنه بطبيعته طماع، يحب الخير لنفسه، لكن من رحمة الله أن الملك يومئذ لله، فالمؤمن عندما يرى النعيم ينشرح صدره، ويخاف عندما يعصي الله، ويرجو الله عندما يطيع، قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] اللهم اجعلنا من الذين يحذرون الآخرة، ويرجون رحمتك يا رب العالمين!
فساعات التفكر هذه مفاتيح للإيمان، ولذلك المسلم يتفكر في نفسه أولاً، ثم يتفكر في مخلوقات الله وهذا باحث في عالم الحشرات، قعد مع النمل سبع سنين فكان يضع للنمل كل نوع من أنواع الحبوب فتكسر النمل الحبة نصفين؛ لأن أي حبة لو مكثت تحت أي ظروف من بخار ماء لنبتت، فالنملة عندما تدخل الحب في الجحر، أول ما تأخذه تكسره إلى نصفين، لكن هناك نوع يشذ عن جميع أنواع الحبوب في كيفية تكسيره هو حبوب الكزبرة، وضع لها الباحث حبة الكزبرة فوجد أن النمل تقسم الحبة إلى ثلاثة أقسام، من الذي علم النملة هذا الفعل؟ لم تدرس النمل في أي كلية أكاديمية أو علوم أو طب أو زراعة، وإنما الذي علمها هو الله سبحانه، ولذلك استغرب هذا الباحث وقال: لعل النمل تعلمت هذا الفعل من آبائها، بحكم الوراثة في المعرفة، فحاول أن يعزل مجموعة من النمل لم تعرف آباءها ولا أمهاتها، فجعلها في مكان لوحدها، ثم جعل يعطيها حبوب الكزبرة، وإذا بالنمل يكسرها إلى ثلاثة أكسار، فهو يتحدث عن نفسه قائلاً: لم نصل إلى معرفة هذا السر، ولم يعلم أنها آية من آيات الله سبحانه وتعالى، ولذا قال فرعون لموسى وهارون في سورة طه: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:49-50].
وهناك طائر يطير وهو أعمى ولا يصطدم بالحيطان، اكتشف العلم الحديث أن له خلايا كهرومغناطيسية غير مرئية، وكل ذلك من قدرة الله أولاً وأخيراً. وتجد الثعبان له عضلات يمشي بها على الأرض، وله أكل معين، وحياة معينة، والحشرات لها حياة معينة، والدود في الأرض، والضفادع وغيرها من الكائنات.
أما البحار فهي عالم آخر، جعل الله البحر مالحاً؛ لأنه توجد فيه من الكائنات البحرية آلاف الملايين وهي تموت فيه، والملح الذي في باطن البحر يحفظ هذه الكائنات الحية التي تموت، فلا تخرج منها روائح كريهة، ولو لم يكن في البحر والمحيط ملح لمات أهل الأرض جميعاً من نتن رائحة البحر، فهذه نعم تستوجب الشكر والتأمل، اللهم اجعلنا من المتفكرين يا رب العالمين!
أول مفتاح يبعث على حياة قلبك الإيمانية هو التدبر في كتاب الله، واسمعوا إلى مؤمن آل فرعون عندما قال: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر:41]، هذا خطاب أهل العلم، وخطاب الرسل كلهم، ومن يحمل رايتهم: مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر:41]، يقول لهم: تعالوا أهدكم سبيل الرشاد، وقال: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ [غافر:32]، وقال: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ [غافر:29]، أنتم اليوم عظماء وملوك على الكراسي، ولكن يوم القيامة من ينفعكم؟
قلنا: الأم تنادي ابنها يوم القيامة قائلة: يا بني! كان بطني لك وعاء، وصدري لك سقاء، وحجري لك وطاء، هل من حسنة تنفعني بها هذا اليوم؟ فيقول: يا أماه! أنا لا أنكر شيئاً من ذلك، ولكن هل عندك أنت من حسنة تنفعني؟
ويقول الابن لأبيه: يا أبت! كنت باراً بك، وشفوقاً بك، ورحيماً بك ألا من حسنة؟ فيقول له: يا بني! أنا أشكو مما تشكو أنت منه، أليس عندك أنت من حسنة؟
ثم يفتدي المرء نفسه بأقاربه قائلاً: خذ أبوي خذ أولادي، خذ امرأتي، حتى الأنبياء يقولون: نفسي نفسي! إلا سيدنا محمداً فإنه يقول: يا رب أمتي! يا رب أمتي!
قام صلى الله عليه وسلم ليلة بآية يقرؤها ويبكي حتى أذن الفجر وهي قوله: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] فأرسل الله جبريل فنزل عليه وقال: يا محمد! ما يبكيك؟ قال: (من لأمتي من بعدي يا جبريل)، وهذا رواه الإمام أحمد ، ورواية الإمام مسلم : (لن يحن عليكم من بعدي إلا الرحماء من أمتي)، الناس الذين يجالسون العلماء في مجالس العلم، ويحبون أهل الخير، هؤلاء هم الذين سيرحمون الأمة، أما الذي يظهر في التلفاز يرقص ويضيع صلاة الظهر والعصر ومشغول بالسهرة في الماء ويومه كله ضاع في نظرة وفي كلمة وفي سيئة وفي غيبة ومشاهدة للبطل والبطلة؛ لأنه مفتاح للشر مغلاق للخير فهذا لن يرحم أحداً، وإنما يسن سنة سيئة، قال صلى الله عليه وسلم: (ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).
وهذا سيدنا عمر رضي الله عنه يخرج قبل الفجر يتفقد الرعية، فبينما هو يمشي إذ سمع قارئةً للقرآن تقرأ أول سورة الطور إلى أن بلغت قول الله عز وجل: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور:7]، فأغمي عليه، حتى إن الصحابة عادوه أياماً.
إذاً: مفتاح حياة القلب تدبر القرآن، قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24] القرآن فيه كل ما يحتاجه الناس، قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، كل شيء موضح في القرآن، فيه خبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم لا يخلق من كثرة الرد، عندما تقرأ سورة سيدنا يوسف تحلو كل ما قرأتها، وتزداد حلاوة كل مرة تقرؤها.
إن عبداً من بني إسرائيل عبد الله خمسمائة عام، ثم جيء به، فقال الله لملائكته: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، قال: لا يا رب ادخل الجنة بعملي، فقال الله لملائكته: زنوا له أعماله، فوزنوا أعماله، ثم وضعوا أعماله في كفة ونعمة البصر في كفة، فوجدوا أن نعمة البصر رجحت على أعماله، فصار مديوناً لله فقال: أدخلوا عبدي جهنم، فقال: لا يا رب! أدخل الجنة برحمتك! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن قوماً غرتهم الأماني، يقولون: نحسن بالله الظن، ووالله لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل).
كذلك التضرع في الأسحار، الذي يقوم في وقت السحر، وقد نامت العيون، وهدأت النفوس، وخلا كل حبيب بحبيبه، وخلا أحباء الله بربهم وحبيبهم، في هذا الوقت والسماء صافية تكون الأبواب مفتوحة، والله يتنزل كل ليلة إلى السماء الدنيا في الثلث الآخر من الليل في وقت السحر، فالمسلم لا ينبغي له أن يضيع وقته هباءً منثوراً، فلا يضيع الليل كله في النوم، قال تعالى: وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18] السحر وقت من الأوقات التي يتجلى الله فيها على عباده، وإن عز المؤمن وشرفه قيام الليل، ولأجل أن يطيب قلبك ويحيا قم من الليل ولو قليلاً، عود نفسك على صلاة ركعتين، ثم صلاة أربع ركعات، ثم يفتح الله عليك بجزء من القرآن في ثمان ركعات، ثم بجزئين من القرآن في عشرين ركعة، ثم ثلاثة أجزاء من القرآن، وهكذا تترقى في العبادة؛ ولذلك مر رجل من التابعين على صديق له بجوار بيته في الثلث الأخير من الليل، فما سمع صوتاً، فلما لقيه في الفجر قال: يا فلان أكان البيت نائماً قبل الفجر؟ قال: نعم، ما استيقظنا إلا عند صلاة الفجر، فقلب كفيه وقال: عجباً لمسلمين ينامون طوال الليل.
إذاً: قيام الليل نور المؤمن، يقول أحد السلف: رأينا الحسن البصري وعليه نور وكان رجلاً أسمر، وإذا به كل يوم عليه هالة من النور! قال: فقلت: يا حسن ! عهدناك آدم البشرة فما هذا النور الذي علاك؟ قال: نحن قوم خلونا بالله في ظلمات الليل، فكسانا ربنا من جماله وجلاله.
سلكوا الخط ودخلوا على باب الله الذي ليس له بواب فدخلوا إلى الله عز وجل؛ فأكرمهم برحمته، اللهم أكرمنا معهم يا رب العالمين!
إذاً: مفتاح حياة القلوب تدبر القرآن، والتضرع في السحر؛ لأن الله تعالى قال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، ادع الله يا رب! يا رب! يا رب! ولذلك نحن سمعنا أن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد ما انتهى من صلاة الصبح في المسجد نادى على شاب، وقال له: ماذا كنت تقول في الليل؟ قال: قمت الليل بآية أقولها وأبكي: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ... [النمل:62] إلى آخر الآية، سيدنا الحبيب يقول له: (يا غلام! لقد أبكيت أعين كثير من الملائكة) تجاوبت السماء مع دعاء العبد؛ لأن الملائكة بطبيعتها تؤمن على دعائك، والذي أمنت الملائكة على دعائه إن شاء الله يكون دعاؤه مستجاباً.
قال تعالى: وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ ... [غافر:9] يقول صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة العشاء في جماعة ونام على ذكر الله عز وجل، فلما نام ما منعه من الذكر إلا النوم، تكتب الملائكة طوال نومه أنه جالس وواقف يصلي لله) لأن النوم هو الذي عطله؛ لأنه لابد أن ينام؛ فهو بشر يحتاج إلى النوم، فتقول الملائكة: إنه لو كان صاحياً لاستمر في الذكر، ولواصل الصلاة اللهم اجعلنا من أهل قيام الليل، اللهم اجعلنا من القائمين لله بالليل، اللهم اجعلنا من القائمين لك بالليل يا رب العالمين!
استمع المزيد من د. عمر عبد الكافي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
سلسلة الدار الآخرة بداية علامات الساعة الصغرى | 3039 استماع |
سلسلة الدار الآخرة الحساب [1] | 2903 استماع |
سلسلة الدار الآخرة المنجيات عند الميزان | 2811 استماع |
سلسلة الدار الآخرة الصراط | 2737 استماع |
سلسلة الدار الآخرة الشفاعة | 2607 استماع |
سلسلة الدار الآخرة عذاب النار | 2411 استماع |
سلسلة الدار الآخرة ماذا يحدث عند الحوض؟ | 2361 استماع |
سلسلة الدار الآخرة أسماء يوم القيامة | 2347 استماع |
سلسلة الدار الآخرة علامات الساعة الكبرى | 2237 استماع |
سلسلة الدار الآخرة مفاتيح الجنة | 2163 استماع |