سلسلة الدار الآخرة وصف النار [1]


الحلقة مفرغة

أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذه بمشيئة الله عز وجل هي الحلقة الثامنة عشرة في سلسلة حديثنا عن الدار الآخرة، ندعو الله عز وجل في بداية هذه الحلقة عسى أن تكون ساعة يقبل فيها الدعاء، فاللهم تقبل منا دعاءنا، اللهم تقبل منا دعاءنا، اللهم تقبل منا دعاءنا، اجعل اللهم جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل يا ربنا بيننا شقياً ولا محروماً، ولا تدع لنا في هذه الليلة العظيمة ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا نفسته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ظالماً إلا قصمته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا طالباً إلا نجحته، ولا شيطاناً إلا طردته، ولا مسافراً إلا رددته لأهله غانماً سالماً .

اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، وأدخلنا الجنة بدون سابقة عذاب مع الأبرار يا رب العالمين.

كما نسألك يا مولانا أن تنصر الإسلام وأن تعز المسلمين، وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك معافين، غير فاتنين ولا مفتونين، وغير خزايا ولا ندامى ولا مبدلين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم من أراد بمسلم كيداً فاجعل اللهم كيده في نحره، اللهم اهد كل ضال، اللهم اهد كل ضال، وتب على كل عاص، واشف كل مريض، واقض الدين عن المدينين، وفرج كربنا وكروب المسلمين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وتوفنا على الإسلام يا أكرم الأكرمين! وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

توقفنا في الحلقات السابقة عند مقدمة عن الجنة وعن النار، اللهم اجعل الجنة مآلنا، وابعد كل مسلم ومسلمة وكل مؤمن ومؤمنة عن النار وعن عذاب النار يا رب العالمين!

تحدثنا يوم الإثنين الماضي في النصوص من كتاب الله عز وجل، ومما جاء في سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عن بعض آيات وأحاديث، تمثل نماذج للدخول في مسألة الحديث عن الجنة وعن النار، وما زلت أكرر قائلاً: إن الحديث عن الدار الآخرة ليس فيه قياس لمن يريد أن يقيس، وليس فيه اجتهاد لمجتهد، وإنما الحديث عن الدار الآخرة لا يخرج عن نصوص من كتاب الله ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن نقول: إن أحد الصالحين رأى رؤيا وأصبحت حقيقة من الحقائق التي تتحدث عن الدار الآخرة وما فيها؛ لأن الرؤى لا تمثل نصاً من نصوص الشرع، ولا تمثل ركناً نستند عليه في الحديث عن أمور العقيدة، فقلنا: إن أمر الحديث في أمر الدار الآخرة أو الموقف وما بعده لا يدخل العقل فيه أبداً ولا يدخل فيه التصور.

إن هناك من الأغبياء الأغنياء من يقول: ما هو هذا الحديث في القرآن عن الجنة، حور وقصور وفاكهة ولحم؟! فإنني متمتع بذلك كله في الدنيا، نقول لمثل هذا المغفل: إن الله سبحانه وتعالى من فضله ورحمته وكرمه يرزق عباده في الجنة بتمر مثلاً يفوق وصف العقل، ويؤتى بما لذ وطاب فتقول الملائكة: كل يا ولي الرحمن! إن اللون واحد ولكن الطعم مختلف.

فالله سبحانه وتعالى يقرب لنا مسألة الآخرة لكي نفهمها؛ فليس منا من دخل الجنة ثم عاد ليقص لنا ما فيها؟ ومن منا دخل النار ثم عاد ليحكي لنا ما فيها؟ إذاً: الله عز وجل يقرب للعقول البشرية المحدودة مسألة النعيم في الجنة ومسألة العذاب في النار، وبفضله ورحمته يخاطب الناس حتى يفهموا، فعلى سبيل المثال قوله تعالى: وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ [الواقعة:29] وقوله تعالى: عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15] ، وقوله: لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [محمد:15] ، وقوله تعالى: لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ [الطور:23] ، لكن لو أخبرك عن حقيقة ما في الآخرة فلن تفهم، ولو أخبرك عن حقيقة الوصف بعد موتك لما استوعبت ذلك.

وأضرب مثلاً بسيطاً، لو أن طفلاً صغيراً يدرس ونقول له: انظر يا بني: سأكلمك عن الفرق بين الانشطار النووي والاندماج النووي، وسأكلمك عن العناصر الكيميائية، فهذه رمزها النووي أو الذري كذا، والذرة عبارة عن نواة فيها بروتون موجب ونيترون متعادل وإلكترون سالب، والإلكترون يدور في مدارات بسرعة معينة، وكتلة الإلكترون هذا بالنسبة لحجم الذرة كذا وكذا، فترى الطفل يتركك وأنت تشرح ويذهب ليلعب، لأنه لا يفهم، فلو أن الله سبحانه وتعالى -ولله المثل الأعلى- حدثنا عن حقيقة ما في الدار الآخرة سيكون وضعنا بالضبط كوضع الولد الذي نكلمه عن الذرة تماماً.

إن الله سبحانه وتعالى يقول: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى [النجم:47] على صورة أبينا آدم ستون ذراعاً في السماء، القضية أن نأخذ أمر الدار الآخرة مما جاء في كتاب الله وجاء في كلام رسول الله بدون عرض على العقل؛ لأن العقل محدود، فلو قيل لك: من الناس من يأكل ويشرب ولا يعرق ولا يتغوط ولا يتبول ولا يخرج منياً ولا بصاقاً ولا مخاطاً أبداً وتعرض ذلك على العقل، هل سيرفضها أم يقبلها؟ يرفضها، إذاً: العقل المجرد يرفض، لكن حين تحيل هذا الأمر إلى خالق الأمر وتقول: سمعاً وطاعة يا رب العباد! وتقول: نحن مصدقون بكل ما جاء في كتاب الله، وبكل ما جاء به الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ لأنه رحمة مهداة فإنك تسلك الطريق القويم.

إن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا معنى (غسلين) و(غساق) و(زقوم)، فمعنى (غسلين): العصارة والصديد والقيح الذي يسيل من أهل النار والعياذ بالله، فلو أن دلواً من غسلين أو دلواً من غساق مما أخبر الله عنه في القرآن أهرق على أهل الدنيا لمات أهل الدنيا كلهم من نتن رائحته، إذاً: الوصف لا يدخل تحت نطاق العقل، وقد قال الله سبحانه: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا [الكهف:29] أي: من شدة الحر، فيقولون: نريد أن نشرب يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف:29]، إذا قرب الإناء الذي يمسكه من فمه فتعترضه ثلاثة أشياء: أولاً: يتساقط لحم يديه من شدة حرارة الكوب المصنوع من النار، ثانياً: عندما يقرب من فمه بخار المهل يتساقط منه لحم وجهه ويحترق ويتقطع، ثالثاً: كما قال تعالى: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15].

فإن قيل: هل الله سبحانه وتعالى يريد عذاباً بالعباد؟

الجواب: لا، إن الله أرحم بنا من أمهاتنا، لكن السبب أن المخلوق أبى واستكبر على رب العباد سبحانه، قال تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ [الزمر:45] أي: تشمئز قلوب غير المؤمنين، فالكفار يشمئزون من كلام الله عز وجل.

إن الله خلق الجنة وأحاطها بالمكاره، وخلق النار وأحاطها بالشهوات.

فأنت يا أخي المؤمن! تجد من الناس من يتشاجر مع أخيه في السوق أو في الفندق أو في المدرسة أو في مركز حكومي أو في مركز الأمن فيتضاربان، فالشياطين تقوم بدورها في نشر العداوة والبغضاء بين الناس في مثل هذه الأماكن، لكنك في المسجد جئت إليه عزيزاً لا تطأطئ رأسك إلا لله، ولا تحني هامتك إلا لمن خلقك، فأنت في اطمئنان في بيت الله عز وجل، قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، إذ إن الطاعة كلها عزة، ولذلك فإن المطيع لله عزيز والعاصي لله ذليل، فمن مناظر أهل النار أنك تراهم ناكسي رءوسهم يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى:45].

بينما الرسول صلى الله عليه وسلم جالس بين صحابته رأى مجلسين: مجلس علم ومجلساً يدعون الله فيه ويبتهلون فيه، فجلس في مجلس العلم وقال: (إنما بعثت معلماً).

وثبت في السنة أن ثلاثة جاءوا إلى الحلقة فواحد منهم وجد فرجة في الصف فجلس، أما الثاني فاستحيا أن يتخطى الصفوف فجلس في المؤخرة، أما الثالث فقال: ماذا أصنع هنا؟ فأعرض ومشى، فاسمع تعليق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن كلامه شفاء للأمة، وشقاء الأمة كلها حين تلقي بكلام رسول الله خلف ظهرها.

قال: (أما الأول فقد أقبل على الله فأقبل الله عليه، وأما الثاني فاستحيا من الله فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض عن الله فأعرض الله عنه) ، وشتان بين محب للعلم وغير محب للعلم.

فأنت حين تأتي إلى المسجد لا تكلف نفسك شيئاً، ومع ذلك يجعل الله سبحانه حضورك الجماعة في ميزان حسناتك، والمسلم حين يتحرك من بيته للصلاة فإن الملائكة تكتب له ثواباً كأنه في صلاة إلى أن تقام الصلاة، فتكتب له حسنة وتحط عنه سيئة ويرفع عند الله درجة، ولو كشف الحجاب لرأى أجنحة الملائكة وهي تفرش الطريق أمامه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وتصلي عليه الملائكة حتى يرجع إلى بيته، ومن خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع).

فلو حدث له شيء فهو في سبيل الله، وفرق بين من يذهب في غير سبيل الله فيضرب ويخدش وتأتيه الذبحة الصدرية أو الضغط وتصلب الشرايين ولو مات مات في غير سبيل الله، وبين من حركته كلها لله، فأمر المؤمن كله عجب وليس ذلك إلا لحركته، فهو يتقلب في أنوار خمسة، فكلامه نور، ومجلسه نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، وقبره وعلى الصراط نور.

أما الكافر فهو يتقلب في ظلمات خمس، فكلامه ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومجلسه ظلمة، وقبره وعلى الصراط ظلمة. اللهم أنر لنا طريقنا في الدنيا والآخرة يا رب العالمين!

إذاً: الجنة لا تكلفك شيئاً، لكن النار تكلفك أن تذهب وتشتري مخدرات وخمراً، وتقطع تذكرة السينما وتقف وتشاهد وتتعب، كما قال تعالى: إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] فإن كان خيراً فستجده مسجلاً في كتاب الحسنات، ونسأل الله أن تكون كل أعمالنا خيراً.

فالله عز وجل أحاط الجنة بالمكاره، فالجنة تريد صبراً، ومثابرة وقيام ليل، فشرف المؤمن في قيام الليل، وشرف المؤمن أن الملائكة تشير إليه وتقول: هذا هو الطاهر الشريف، والملك الآخر يقول: هذا فلان من أمة محمد يصلي في الليل، فهو يبدد الظلمة بالأنوار الإيمانية، اللهم أضئ لنا بيوتنا يا رب العالمين بالإيمان! (إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق لتفاضل ما بينهم)، ونحن نرى الكواكب المنيرة في السماء، ونرى الذي يقوم الليل مثل النجم، وتصلي الملائكة على أصحاب هذه البيوت وتدعو لهم بالخير، اللهم اجعلنا ممن تدعو لهم الملائكة يا رب العالمين!

إذا كانت الجنة درجات لأعلى؛ فإن النار دركات لأسفل، فالجنة تجد فيها كل نعيم أحسن من النعيم الذي تحته، وعندما تدخل أسرة مؤمنة إلى الجنة بفضل الله فإنه قد يكون الأب والأم أكثر صلاحاً وأكثر حسنات من الأبناء أو العكس، أو الزوج أعظم صلاحاً من الزوجة، أو الزوجة أكثر إيماناً من الزوج، فكل واحد يدخل الجنة برحمة الله ثم يقتسمونها بعد ذلك بالعمل، فنفرض جدلاً أن الأب صالح بدرجة عالية وزوجته أقل منه قليلاً والأولاد أقل، فيكون لهؤلاء ثلاث درجات، فيتمنى الأب وتتمنى الأم ويتمنى الأبناء أن يجمعهم الله في مكان واحد، فيلحق الله الأدنين بالأعلين.

والنار دركات بعضها أسفل من بعض، ولا خلاف بين العلماء فيها، لكن الخلاف فيمن يسكن هذه الدركات.

وقد اتفقنا من قبل أن أخف أهل النار عذاباً هو أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قبل الله فيه شفاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فوضعه في ضحضاح في جهنم -وهذه صورة من صور العذاب في جهنم- فأخف أهل النار عذاباً أن يلبس أبو طالب نعلين أو خفين من نار يغلي منهما دماغه، يظن أنه أشد أهل النار عذاباً.

من هذا المنطق نقيس أن أخف الناس عذاباً في النار يمكث فيها ما شاء الله سبحانه، واليوم بألف سنة عند الله، ومن أهل النار من ينقص يوماً ومن ينقص يومين ومن ينقص أسبوعاً ومن ينقص شهراً ومن ينقص عاماً، ومن ينقص فيها كعمر الدنيا منذ أن خلقت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فهذه مسألة مرعبة تجعل الإنسان يعيد حساباته أولاً بأول، وإني أوصي نفسي وأوصيك أن تكون بعد سماعك حلقات دار الآخرة أفضل من ذي قبل، فمن الواجب أن تكون لك الفائدة في دروس الدار الآخرة، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

ذكر ما جاء في جهنم

جهنم هي أول دركة من دركات النار، وفيها عصاة موحدون، وهم الذين ماتوا وما زالت لهم سيئات لم يتوبوا منها، ولم يرض الله عز وجل بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، وذلك كمن مات وعليه مظالم للعباد ما استطاع أن يرجعها، وعليه ذنوب لم يتب منها، وعليه أشياء لم يبدلها الله حسنات أو يمحها، عندئذ دخل جهنم.

وسميت بجهنم اشتقاقاً من التجهم، نقول: فلان متجهم أي: مكشر ووجهه غير مريح لمن ينظر إليه، فكأن جهنم تتجهم في وجوه أصحابها، أي: تكون عابسة متجهمة لا يستريح إليها ناظر، وهذه الدركة لمن يدخل النكد على المسلمين من المسلمين أنفسهم، فهذا الصنف يوضع في وادٍ في جهنم يسمى بوادي الحسرات، والحسرات: جمع حسرة، قال تعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167].

فأهل الحسرة ينظر إليهم أهل النار فيرون أنهم أشد أهل جهنم عذاباً؛ لأنهم كانوا يدخلون النكد على المسلمين وعلى بيوتهم، كالمدير الذي ينكد على الموظف في وظيفته، والرئيس الذي ينكد على مرءوسه ويحول حياته إلى جحيم، ويخوفه ويرعبه بالتقارير، فهؤلاء أناس يدخلون الكآبة والحزن على الناس، ومن أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، فأنت تجعل زوجتك مسرورة وأمك كذلك وأختك وعمتك وخالتك بصلة الرحم، فلابد أن تدخل الفرح على المسلمين.

يذكر أن ابن عباس اعتكف في رمضان تحت الحجر الأسود، فجاءه رجل يطلب منه قضاء حاجته، فخرج ابن عباس مع الرجل ثم رجع، فتعجب المسلمون من ذلك، لماذا قطع ابن عباس الاعتكاف، فلما سئل ابن عباس عن ذلك قال: هذا الرجل كانت له حاجة فقضيتها له، فقالوا: أتقطع اعتكافك عند الحجر الأسود من أجل قضاء حاجة هذا الرجل، فقال: لأن أسير خطوة في قضاء حاجة أخي المسلم أحب إلي من أن أعتكف عند الحجر الأسود سبعين سنة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من فرج عن مؤمن كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه).

وجيء برجل مسرف على نفسه، أي: سيئاته أكثر من حسناته فقال الله: أما له من حسنة؟ قالوا: لا يا رب! قال: تعال يا عبدي! أما لك من حسنة؟ قال: كلا يا رب! السيئات أكلت الحسنات، فقال ملك من الملائكة: يا رب! هذا رجل كان موسراً في الدنيا يدين الناس، فكان يقول لغلمانه: من كان معسراً فلتيسروا عليه ومن لا يستطيع أن يرد فاسمحوه، فقال الله: عبدي أأنت أكرم مني؟ أدخلوه الجنة.

واتق الله في دعاء المظلوم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياك ودعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، ويقول الله عز وجل: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين).

يحكى أن الفضل بن الربيع وزير المأمون رمي به في السجن لتهمة ألصقت به فرموه في السجن هو وابنه، ولم يكن الأب يستطيع أن يتوضأ بالماء البارد، فكان ابنه يقوم بعد العشاء بعد أن ينام أبوه ويمسك كوز الماء ويضعه على صدره، ويستمر على ذلك إلى قبيل طلوع الفجر، فيقوم الأب وقد أصبح الماء دافئاً فيتوضأ، وذات مرة استيقظ الأب فوجد ابنه يبكي فسأله عن بكائه فقال: ما هذا الأمر الذي وصلنا إليه يا أبتاه! أذل بعد عز؟ فقال الأب: يا بني! لعلنا ظلمنا أحداً، فهذه دعوة مظلوم سرت في جنح الليل ونحن نيام ولكن الله لم ينم.

يحكى أن صياداً فقيراً اصطاد سمكة، وكان أمير تلك البلدة متعوداً على الظلم، فأخذ السمكة من يد الصياد عنوة، فقال الصياد: إنني فقير، أريد أن أبيعها وأشتري شيئاً لأولادي، فقال الأمير: ليس لدي نقود، وأخذ يشد السمكة فأصيب بشوكة من شوكاتها في إصبعه فرجع إلى بيته وطبخوا له السمكة وأكل من السمكة المغتصبة، وبعد أيام زاد ألم إصبعه وتسممت، فجمعوا له أطباء مملكته لعلاجها فما استطاعوا، فقالوا: لابد من قطعها حتى لا ينتشر السم إلى الذراع، فقطعوا إصبعه، ولكن السم انتشر في الإصبع الأخرى فقطعوها، ثم قطعوا يده والتسمم ما زال منتشراً، وذات ليلة نام الأمير فسمع هاتفاً يقول: وعزة الله وجلاله لنقطعن جسدك إرباً إرباً إن لم تستسمح الصياد الفقير!

فانتبه من الظلم؛ فإن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب؛ لأن المظلوم يدعو عليك وأنت نائم وعين الله لم تنم، وهناك واد -والعياذ بالله- يسمى وادي هبهب يوضع فيه الظلمة، اللهم لا تجعلنا من الظالمين يا رب العالمين.

فجهنم هي الدركة الأولى في النار، والدركة التي بعدها تسمى سقر ثم الحطمة ثم الهاوية ثم الجحيم ثم لظى ثم الدرك الأسفل.

كان الصحابة جالسين مع سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم فسمعوا صوتاً كأنه الرجفة فقالوا: ما هذا يا رسول الله؟! قال: (هذا حجر ألقي منذ سبعين سنة في جهنم وصل قعرها الآن).

نحن ما زلنا مع العصاة الموحدين، والعاصي الموحد هو المسلم الذي مات وعليه ذنوب، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سوف يأتي يوم تصفق جهنم أبوابها) فسيأتي على جهنم يوم تخلو فيه من سكانها، ولكن سيبقى السكان في الدركات الست الباقية، يعني: كل من قال: لا إله إلا الله يخرج من جهنم، نسأل الله أن يدخلنا الجنة بدون سابقة عذاب يا رب العالمين!

إن الله عز وجل بعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبشراً ونذيراً، يبشر بالجنة وينذر ويخوف من النار، والخوف من النار مطلوب، وأنت لو كنت مؤمناً صادقاً فإنك تخاف من الفضيحة يوم القيامة، وتخاف أيضاً من النار وما في النار من عذاب، نسأل الله أن يباعد بيننا وبينها بعد المشرقين.

وأول درجة من الخوف الخوف الذي يبعدك عن الحرام ويحببك في الحلال، فالله عز وجل رزقك مالاً حلالاً لكنه قليل والله سبحانه يبارك في المال الحلال.

وذكر في الأثر أن عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة، هاجر من مكة إلى المدينة وليس معه إلا أربعة دراهم وآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع رضي الله عنه، فقال سعد بن الربيع لأخيه عبد الرحمن : لدي بستانان فخذ أحدهما، ولدي زوجتان فانظر أحسنهما فأطلقها حتى إذا انقضت عدتها تزوجتها، فقال له عبد الرحمن بن عوف : بارك الله لك في مالك وفي بيتك وزوجاتك دلني على السوق؛ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم لـعبد الرحمن بن عوف وقال: (بارك الله لك يا عبد الرحمن بن عوف في صفقة يمينك) فكان واثقاً ببركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو وضعت يده في التراب لربح، أما نحن فلو خسر أحدنا في تجارته قال: كسبت صلاة النبي ويضحك تلك الضحكة الساخرة وهي مكتوبة عليه في ميزان سيئاته.

وهكذا ذهب عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وتاجر بالدراهم التي يملكها، فأخذ يبيع ويشتري حتى جاءته الوفاة بعد عشرات السنين، فأخذوا يقسمون تركته، فكان نصيب زوجته الرابعة من التركة مليوني دينار، وعلى ذلك تصبح تركته أربعة وستين مليون دينار، وكل ذلك ببركة المال الحلال.

إذاً: أول درجة من الخوف هي التي تبعدك عن الحرام فلا تأكل حراماً ولا تتكلم حراماً ولا تنظر إلى حرام، ولا تمد يدك لحرام، ولا تجلس في جلسة فيها حرام، هذه أول درجة من الخوف، فإن لم تكن عندك هذه الدرجة فكن كما قال الحسن البصري: كمن ترك جاريته في السوق ورجع إلى البيت فلم يجدها، فلما عادت سألها: أين كنت؟ قالت: يا سيدي! تركتني في مكان شغل الناس فيه بالبيع والشراء فلم أجد أحداً منهم يذكر الله عز وجل، فخفت أن ينزل غضب الله على من في السوق فأكون معهم فهربت إلى البيت.

وسأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ما خير البقاع وما شرها؟ قال: انتظر حتى أسأل جبريل) فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل فأخبره مما أخبره الله عز وجل: (أن خير البقاع المساجد، وأن شرها الأسواق)، وقد علمنا الحبيب صلى الله عليه وسلم أن نقول عند دخول السوق: (اللهم إني أعوذ بك أن أكسب فيها يميناً فاجرة أو صفقة خاسرة)، ويذكر أن رجلاً أراد شراء ماعز للإمام الشافعي فقال له: بكم تبيعها؟ قال له: قبل أن تشتري إنها ترفس علفها، فانظر إلى الأمانة في البيع، وإلى الخوف من الله عز وجل.

وسمع النبي صلى الله عليه وسلم شاباً من شباب الصحابة يبكي طوال الليل في تهجده ويقول: واغوثاه واغوثاه من النار، فيلتقي الحبيب به في صلاة الصبح فيقول: يا فلان ماذا كنت تقول؟ قال: كنت أقول يا رسول الله: واغوثاه، أي: أغثني يا رب من النار، قال: (لقد أجريت دمعاً غزيراً من كثير من ملائكة السماء)، أي: أبكيت ملائكة السماء من بكائك.

ذكر بعض الآيات والأحاديث الواردة في جهنم

يحكى أن تلميذ الحسن البصري كان ماشياً على شاطئ الفرات فسمع قارئاً يقرأ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف:74-75] فسقط في نهر الفرات فمات. ما استطاع أن يمسك نفسه!

قيل للفضيل بن عياض : قرأ القارئ في الرحمن: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [الرحمن:72] فلماذا بكيت مع أن هذا شيء يبعث الفرح؟ قال: شغلتني الآية التي قبلها: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ [الرحمن:35]، أي: أن هذه الآية شغلته عن الحور المقصورات.

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أوقدت زوجته النار يقرب إصبعه ويقول: يا ابن الخطاب ! ألك صبر على مثل هذا؟ ثم يمتنع عن الأكل الذي كان سيطبخ؛ للخوف الذي اعتراه ويقوم الليل لله رب العالمين.

و سعيد بن جبير رضي الله عنه قبل أن يموت بسنة لم يره أحد يضحك ولا يتبسم أبداً، فسئل عن ذلك فقال: كيف أضحك والنار قد سعرت، والسلاسل والأغلال قد أعدت، والصراط قد مد على جهنم، ولا أدري أناجٍ أنا أم غير ناج؟

ويذكر أن حاتماً الأصم قال: عرضت على نفسي عرضين: الجنة وما فيها من نعيم، والنار وما فيها من عذاب؟ قالت: أريد يوماً أتوب فيه إلى الله. نستغفر الله جميعاً من ذنوبنا، اللهم اغفر لنا يا رب العالمين!

قال الله عز وجل في سورة الأعراف: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ [الأعراف:179]، ذرأنا يعني: جهزنا وخلقنا وأعددنا، قال: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179]، وهذه صفة كل من سمع كلام الله ولم يعمل به، فالمسلم يجب عليه عندما يسمع كلام الله أن يشفق ويخاف، قال: وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:179].

فالله عز وجل خلق وأعد خلقاً من الإنس والجن لهم قلوب مثل قلوبنا ولهم أعين كأعيننا ولهم آذان كآذاننا، لكنها آذان معطلة لا تسمع إلا ما كان خاصاً بالدنيا، أما أن يسمع درساً شرعياً في المكان الفلاني فهذا الذي لا يريده.

وقال تعالى في سورة هود: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:119] وليس معنى ذلك: أن كل الجن والإنس يدخلونها، إنما معنى الآية: مجموعة من الجن ومجموعة من الإنس يجتمعون ويدخلونها نسأل الله السلامة، وهؤلاء هم الجهنميون الذين قصروا في عبادة الله عز وجل.

كذلك قوله تعالى في سورة السجدة: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13].

وقال الله تعالى في سورة الجن: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن:14-15].

فحطب جهنم -والعياذ بالله- مخلوقات من الإنس والجن.

وقال تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:24] فتخيل أن الإنسان وقود جهنم وكما قال الله تعالى: لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [طه:74] ونضرب مثلاً بعصفور فوق نيران ساخنة لا هو يطير فينجو ولا يموت فيستريح، أو عصفور داخل زيت يغلي لا هو يطير فينجو من هذا العذاب ولا يموت ويستريح؛ ولذلك يقول الكفار المشركون يوم القيامة: يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ [الحاقة:27]، وقالوا: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] ولكن الجواب: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، وقيل: إن مالكاً يرد عليهم بعد مائة سنة، يعني: لما طلبوا هذا الطلب جاء الرد عليهم بعد مائة سنة، فيا له من كلام يتصدع له القلب! نسأل الله العافية.

وقال الله تعالى في سورة الأنبياء: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:29].

فالذي يدعي الألوهية، أو يتصف بصفة من صفات الألوهية فجزاؤه عذاب جهنم، والله سبحانه وتعالى يقول: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق:29] وقال الله تعالى في الحديث القدسي: (الكبرياء إزاري، والعظمة ردائي، فمن نازعني فيهما ألقيته في النار ولا أبالي)؛ لأن الكبرياء والجبروت لله عز وجل، فاحذر أن تتكبر على الآخرين.

ذكر أن جبلة بن الأيهم كان أميراً نصرانياً فأسلم، فبينما كان حول الكعبة داس أعرابي عباءته، فلطمه جبلة فشكا الأعرابي جبلة لسيدنا عمر قال: هذا الرجل ضربني فقال عمر: لماذا لطمته يا جبلة ؟! فلما عرف عمر رضي الله عنه السبب: قال له: قف ها هنا يا جبلة! وأمر الأعرابي أن يلطمه فلطمه فعاد إلى قومه وارتد إلى النصرانية.

ودخل فقير مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس بجوار الغني، فضم الغني عباءته، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أخفت أن يعديك فقره، أم خفت أن يعدو عليه غناك؟) فقال الغني: تنازلت له عن نصف مالي يا رسول الله! يريد أن يكفر عن ذنبه الكبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للفقير: أتقبل؟ قال: لا أقبل يا رسول الله! ولم؟ قال: أخاف أن يدخلني من الغرور ما دخله، فمن عباد الله من هو غني لا يصلح له إلا الغنى، لو أفقره الله لفسد حاله، وإن من عباده فقيراً لا يصلح له إلا الفقر ولو أغناه سبحانه لفسد حاله، ولذلك أعظم دعوة: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201] والحسنة عند الله لا يعلمها إلا هو، قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] .

إذاً: من يتصف بصفات الألوهية يقول الله تعالى في شأنه: فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:29] والعياذ بالله رب العالمين.

يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي والترمذي عن أبي هريرة : (لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن إلى الضرع) يعني: أنها قضية مسلم بها، فبما أن اللبن لن يعود إلى الضرع، إذاً: فلن يدخل النار من بكى من خشية الله، فإن كان قلبك قاسياً فرقق قلبك بالصلاة وقيام الليل والتباكي، فالدموع إذا سالت لان القلب، اللهم رقق قلوبنا يا رب العالمين!

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حرمت النار على عين سهرت بكتاب الله، وحرمت النار على عين دمعت من خشية الله، وحرمت النار على عين غضت عن محارم الله، أو فقئت في سبيل الله)، فكل هذه وسائل خير تحجز بينك وبين النار.

وكان سيدنا عمر بن الخطاب يرى لوجهه خطان من الدموع رضي الله عنه، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما اغرورقت عينا عبد من خشية الله إلا حرم الله جسده على النار، فإن فاضت على خده لم يرهقه قتر ولا ذلة، ولو أن عبداً بكى في أمة من الأمم لأنجى الله عز وجل ببكاء ذلك العبد تلك الأمة من النار، وما من عمل إلا وله ثواب إلا الدموع، فإنها تطفئ بحوراً من نار). فكل هذه آثار عن سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم.

وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ورأيت رجلاً يرعد كما ترعد السعفة فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلاً من أمتي هوى في النار فجاءت دموعه اللاتي بكى بها في الدنيا من خشية الله فأخرجته من النار) والنار: اسم عام لكل نار، والعياذ بالله رب العالمين.

وتتعاقب الملائكة بالليل والنهار على المصلين فيقول الله: كيف تركتم عبادي؟ يقولون: كذا وكذا وكذا، يقول: هل رأوا الجنة؟ يقولون: لا يا رب، فيقول: فكيف إذا رأوها؟ قالوا: ويستعيذون من النار، فيقول الله: هل رأوها؟ يقولون: لا يا رب، يقول: فكيف إذا رأوا النار؟ ثم يقول الله: قد أعطيتهم ما يطلبون وعوذتهم مما يتعوذون. أي: أبعدهم عن النار.

وإذا انفتل العبد من صلاة وقال: اللهم أدخلني الجنة وزوجني من الحور العين، وأجرني من النار قالت الجنة: اللهم أدخله عندي، وتقول الحور العين: اللهم زوجه منا، وتقول جهنم: اللهم باعد بيني وبينه وأجره مني يا رب العالمين! وذلك بعد كل صلاة، إذ إن الدعاء مخ العبادة.

أما القانطون من رحمة الله فلهم شأن آخر، فلابد أن تخاف كما خاف الصحابة والصالحون.

وإذا كان يوماً شديد الحرارة فقال العبد: إن هذا يوم شديد الحرارة، اللهم أجرني من حر جهنم، قالت النار: يا رب! إن عبدك فلاناً قد استجار بك مني، اللهم فأجره، وإذا كان يوماً شديد البرد زمهريراً تقول: يا رب! باعد بيني وبين زمهرير جهنم، وكذلك النار تدعو الله لك عز وجل أن يباعد بينك وبينها.

ويقول بعض العلماء: إن الحر في النار والعياذ بالله للإنس، والزمهرير -برد شديد جداً- للجن، لأن الجن مخلوق من النار.

ويذكر أن أعرابية صلت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب فسمعته يقرأ: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر:44] فأغشي عليها، وبعد الصلاة نادوا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأفاقت المرأة فقالت: يا رسول الله! أنبأتنا أن لها سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم، فهل ذلك: أن كل عضو يدخل من باب؟

قال: (لا، يا أمة الله! إنها دركات بعضها أسفل من بعض) قالت: يا رسول الله! لا أملك إلا سبعة من العبيد قد أعتقتهم ابتغاء مرضات الله.

قال الله تعالى: يا محمد بلغ أمة الله أنا أغلقنا أمامها أبواب النار السبعة وفتحنا لها أبواب الجنة الثمانية.

اختلاف العلماء فيمن يسكن سقر ولظى من أهل النار

إن جهنم والعياذ بالله للعصاة الموحدين، أما سقر ولظى ففيهما خلاف بين العلماء، يقول بعض العلماء: إن سقر فيها النصارى ولظى فيها اليهود.

وفريق من العلماء يقول: إن اليهود في سقر وهي تلي المسلمين مباشرة، والنصارى في لظى وهي تلي اليهود.

ورأي آخر يقول: إن النصارى أقرب قليلاً إلى المسلمين، فهم في الدرك الذي أسفل منهم، ورأي يقول: اليهود موحدون والنصارى مثلثون، وأنا أميل إلى الرأي الذي يقول: إن النصارى أشد عدالة من اليهود، هذا ما أستريح له، لكن هذا رأي وهذا رأي، هؤلاء لهم أدلة وهؤلاء لهم أدلة، ونحن نقول فقط نظرة عامة.

إذاً: جهنم للعصاة الموحدين، وسقر لليهود أو للنصارى على خلاف وكذلك لظى.

الحطمة والسعير ومن يسكنهما

والدركة الرابعة: الحطمة وفيها الصابئون، وبعدها السعير للمجوس، ومن بقي الآن كالهندوس، فالهندوس يعبدون البقر وفرقة منهم يعبدون النار.

وفي الهند الآن ترى الهندي بائع الفواكه إذا مرت البقرة وأكلت من قفص الفاكهة أو الخضار يقول: حلت البركة في المحل؛ لأن الرب قد أكل من طعامي، وتأتي البقرة فتنام في ميدان مثل ميدان التحرير فتقف كل الإشارات لأن الرب نائم لا أحد يوقظه! نسأل الله الهداية.

نحمد الله أن هدانا لهذا الدين وما كنا لنهتدي له لولا أن هدانا الله، فالحمد لله الذي هدانا لنعمة التوحيد، وهذه نعمة ما بعدها نعمة، اللهم احفظ علينا نعمة التوحيد.

إذاً: السعير والعياذ بالله فيه المجوس عبدة بوذا وعبدة الشيطان في أمريكا الشمالية والجنوبية الذين يقيمون طقوسهم عند الهرم، يزعمون أن إلههم الشيطان يظهر عند الهرم كما في كتبهم، ويأتون إلى مصر للسياحة فيقيمون طقوسهم عند (أبو الهول).

ويقولون: إن كل شيء أمرت به الأديان لا يعملون بها، وكل شيء نهت عنه الأديان يرتكبونها.

من يسكن الدرك الأسفل من النار

أما الدرك الأسفل ففيه ثلاث عينات: المنافقون وأصحاب المائدة وفرعون ومن تبعه.

قال تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145].

وأصحاب المائدة هم أصحاب سيدنا عيسى، فمن سوء أدبهم قالوا: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ [المائدة:112] انظر إلى التعبير، قالوا: (هل يستطيع ربك) ولم يقولوا: ربنا، وكذلك اليهود قالوا لسيدنا موسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].

قالوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ [المائدة:112]، فأخذ عيسى عليه السلام يذكرهم بالله ويعظهم فقالوا: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:113].

فقال الله: إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ [المائدة:115] واشترط عليهم سيدنا عيسى أن يأكلوا ولا يدخروا؛ وذلك لأن الله سينزل لهم كل يوم مائدة، فلابد من الثقة والإيمان بالله عز وجل، لكنهم أكلوا وخبئوا وظنوا أن عيسى عليه السلام يكذب عليهم.

فغضب الله عليهم غضباً لم يغضب مثله على أحد من العالمين من قبل، فهؤلاء مع المنافقين في الدرك الأسفل، كذلك قال الله تعالى في شأن فرعون وقومه: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46] والعياذ بالله رب العالمين، فهؤلاء سكان دركات النار والعياذ بالله رب العالمين.

وهذا الروح الأمين جبريل جاء منكس الطرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: ما لي أراك يا جبريل حزيناً؟ قال: جئتك بآيات: كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:21-24] إلى آخر السورة، قال: وما الذي أغضبك؟ قال: جيء يومها يا رسول الله! بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، كل زمام يقوده سبعون ألف ملك، فبينما هم كذلك إذ شردت عليهم شردة -يعني: قفزت عليهم وانقلبت من بين أيديهم- فلولا أن أدركوها لأحرقت من في الجمع، فأخذوها برحمة الله عز وجل، وما زال يلقى فيها فوج وفوج ويقول الله لها: هل امتلأت وتقول: هل من مزيد إلى أن يضع الرحمن فيها إصبعه فتقول: قط قط قط، بعزتك قد امتلأت.. بعزتك قد امتلأت.. بعزتك قد امتلأت، وينزوي بعضها إلى بعض خشية وخوفاً من الجبار أن يكون قد خلق خلقاً غيرها يعذبها به.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.