شرح كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة [32]


الحلقة مفرغة

قبل أن نبدأ أحب أن أنبه إلى أن الشيخ هنا يتكلم في نوع الشفاعة، ثم ما يتعلق بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأن هناك فرقاً بين التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبين التوسل به صلى الله عليه وسلم بعد موته.

وقال: إن التوسل به بعد موته على النحو الذي يعمله أهل البدع وسيلة إلى الوقوع في الإشراك، كما أشركت النصارى بالمسيح واليهود بالعزير، ووقعوا في الشركيات حتى عند قبور الأنبياء والصالحين، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يُطرى بمعنى أن يُقدّس أو يعظّم بأعظم مما يحق له، أي أن يوصف بصفات الله عز وجل أو يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله.

ثم ذكر الخلاصة في قوله: وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان:

أحدهما: ألا نعبد إلا الله، والثاني: ألا نعبده إلا بما شرع.

ثم فرّع على هذه المسألة، ولنبدأ الآن بقراءة المقطع.

قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [ وبالجملة فمعنا أصلان عظيمان:

أحدهما: أن لا نعبد إلا الله، والثاني: أن لا نعبده إلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة.

وهذان الأصلان هما تحقيق: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، كما قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2].

قال الفضيل بن عياض رحمه الله: أخلصه وأصوبه.

قالوا: يا أبا علي ، ما أخلصه وأصوبه؟

قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً.

والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، وذلك تحقيق قوله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].

وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحاً، واجعله لوجهك خالصاً، ولا تجعل لأحد فيه شيئاً.

وقال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21].

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ر).

وفي لفظ في الصحيح: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

وفي الصحيح وغيره أيضاً يقول الله تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك).

ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقيف، كما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أنه قبّل الحجر الأسود، وقال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبلتك) ].

هذا مثال لمعنى التوقيف، وهذه العبارة تستعمل كثيراً، وهي عبارة صحيحة وسليمة، لكن أكثر الناس قد لا يفقه معناها بالتفصيل، أي أنه كثيراً ما يقول أهل العلم: هذه المسألة توقيفية، هذا الأمر توقيفي، هذا الحكم توقيفي، ويقصدون بذلك أنه محصور على ما ورد في الشرع، لا يجوز استمداده من غير الشرع، والدين كله توقيفي، لكن التوقيف له حدان، يرجع هذان الحدان إلى نوع التشريع أو نوع الحكم الشرعي، فإذا كان الأمر الشرعي يتعلق بأمر غيب أو بأصول الاعتقاد أو الأحكام القطعية مثل الحلال القطعي والحرام القطعي، أو بضوابط الشرع مثل: (إنما الأعمال بالنيات)، ومثل: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فهذه الأصول كلها توقيفية.

والجانب الآخر هو أيضاً توقيفي، لكنه توقيفي في أصله وليس في فرعه، بمعنى أنه توقيفي في حكمه وليس في تطبيقه، وأعني بذلك النصوص والقواعد الشرعية التي يكون استخراج الأحكام منها اجتهادياً، أي أن إرجاع الصور وأفعال البشر إلى هذه القواعد هو الاجتهادي، فهو توقيفي من حيث الأصل واجتهادي من حيث التطبيق؛ لأن التطبيق يتنازع العلماء أحياناً في إرجاعه إلى أصل من الأصول.

والحاصل أن أحكام الشرع كلها حتى الاجتهادية منها راجعة إلى الأمور التوقيفية، لكن من حيث إلحاق أفعال البشر بالأصول هذا هو الاجتهادي، فإذا نزلت نازلة من النوازل اجتهد العلماء في إلحاقها بالأصول التوقيفية، فهذا يلحقها بالأصل الفلاني، وذاك يلحقها بالأصل الفلاني، وذاك يلحقها بالدليل الفلاني.. فمن هنا كان استمداد الأحكام من النصوص هو الاجتهادي، أما القواعد والأصول فكلها توقيفية.

إذاً: الدين كله توقيفي، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)؛ لأن الدين كله موقوف على ما ورد في الوحي مما جاء عن الله تعالى وصح عن رسوله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: معنى (توقيفي) أن الدين كله إنما يستمد من الوحي -أي من الكتاب والسنة- لا من غيره.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والله سبحانه أمرنا باتباع الرسول وطاعته، وموالاته ومحبته، وأن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما، وضمن لنا بطاعته ومحبته محبة الله وكرامته، فقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، وقال تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]، وقال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء:13]، وأمثال ذلك في القرآن كثير.

ولا ينبغي لأحد أن يخرج في هذا عما مضت به السنة، وجاءت به الشريعة، ودل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة، وما علمه قال به، وما لم يعلمه أمسك عليه، ولا يقف ما ليس له به علم، ولا يقول على الله ما لم يعلم؛ فإن الله تعالى قد حرّم ذلك كله ].

في هذا الكلام يشير الشيخ إشارة واضحة إلى الذين استباحوا التوسلات البدعية، وأجازوها أو توسعوا فيها فضلاً عن الشركية؛ لأنه يقول هنا: كل ما قلتموه ليس له دليل من الكتاب والسنة، وربما تكون عندكم أدلة مشتبهة، والدليل المشتبه لا تقوم به الدلالة، ويرجع إلى الأصل، والأصل إنما هو قواعد الشرع التي تقوم على تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولا يمكن تحقيق الشهادتين إلا بسلامة الاعتقاد وسلامة التوجه والبعد عن البدع، فهو بهذا يرد عليهم رداً تأصيلياً يوقفهم على نصوص الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، وأن قولهم هذا لا يرجع إلى علم ولا إلى أثارة من علم، إنما إلى شبهات وأدلة مشتبهات، والأدلة المشتبهات لا تعتبر أدلة؛ لأنه لا يجوز أن يعمل الإنسان بمبدأ يعبد الله به إلا بدليل صريح من الكتاب والسنة..

وهذا لا يتأتى في جميع بدع أصحاب التوسلات، فإنه ليس عندهم أدلة، وإن وجدت شبهات أو أدلة مشتبهة فدلالتها غير صريحة، ومن هنا يسقط الاستدلال بها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد جاء في الأحاديث النبوية ذكر ما يسأل الله تعالى به، كقوله: (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي، يا قيوم) رواه أبو داود وغيره.

وفي لفظ: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه ].

في هذا المقطع بيّن الشيخ نماذج من التوسلات الشرعية، والتي هي القواعد التي ينطلق منها، فالتوسلات الشرعية هي سؤال الله عز وجل بأسمائه وصفاته، وسؤاله أيضاً بنعمه وما من به على العباد، وكذلك سؤال الله عز وجل بالأعمال الصالحة كما في آخر المقطع: (أسألك بأني أشهد أنك أنت الله...)، وهذا من أعظم وأعلى درجات الإيمان، أعني: شهادة أن لا إله إلا الله، وهي من الأعمال التي يسع المسلم، بل يُشرع له، بل يجب عليه أن يسأل بها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وقد اتفق العلماء على أنه لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى، وهو الحلف بالمخلوقات، فلو حلف بالكعبة، أو بالملائكة، أو بالأنبياء، أو بأحد من الشيوخ، أو بالملوك لم تنعقد يمينه، ولا يشرع له ذلك، بل ينهى عنه إما نهي تحريم، وإما نهي تنزيه؛ فإن للعلماء في ذلك قولين، والصحيح أنه نهي تحريم.

ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليصمت).

وفي الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك).

ولم يقل أحد من العلماء المتقدمين: إنه تنعقد اليمين بأحد من الأنبياء إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن عن أحمد روايتين في أنه تنعقد اليمين به، وقد طرد بعض أصحابه كـابن عقيل الخلاف في سائر الأنبياء، وهذا ضعيف ].

أدلة القائلين بانعقاد الحلف بغير الله تعالى

اعلم أن الذين قالوا تنعقد اليمين به هنا لا يقصدون أنه مشروع، إنما قالوا: إنها تلزم، أي مثل النذر، فالنذر مكروه وقد يحرم لكنه يلزم الإنسان، فكذلك الذين قالوا بانعقاد اليمين في هذه الحال التي يحلف فيها بغير الله لا يقصدون أن اليمين مشروعة، لكن يقصدون أن الإنسان ألزم نفسه بشيء فلزمه مع أن اليمين بدعية، وهي إما محرمة وهو قول الجمهور وهو الصحيح، وإما مكروهة على أقل الأحوال.

ربما يرد تساؤل: وهو أن الذين قالوا: إنها مكروهة منهم أناس من علماء السلف قديماً أو حديثاً وإن كانوا قلة، فكيف عدلوا عن الحديث الصريح بأن الحلف بغير الله شرك؟ والجواب: أن لهم في هذا شبهات كثيرة، منها أنه ظن بعضهم أن مثل هذا الحديث منسوخ، وظنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من باب التأكيد، وأنه أقر بعض الأيمان عند الناس.

ومنهم من قال: إن الجمع بين النصوص يؤدي إلى تنزيل النهي من التحريم إلى الكراهة..

وهذا كله مرجوح؛ لأن الحلف بغير الله تعظيم لغير الله في أمر يعتبر من العقود العظيمة بين البشر، فكيف يكون عقد عظيم بين البشر بغير الله؟ هذا غير لائق، مما يدل على أن ظاهر الحديث التحريم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا وصف الأمر بالشرك فأقل أحواله أنه بدعة أو كبيرة.

فأقول: هذا من باب التنبيه على عذر بعض الأئمة الذين قالوا بأنه مكروه، مع أنهم قلة وقولهم مرجوح، وتوجيههم للأدلة أيضاً مرجوح.

أصل القول بانعقاد اليمين بالنبي

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأصل القول بانعقاد اليمين بالنبي ضعيف شاذ، ولم يقل به أحد من العلماء فيما نعلم، والذي عليه الجمهور كـمالك والشافعي وأبي حنيفة أنه لا تنعقد اليمين به، كإحدى الروايتين عن أحمد ، وهذا هو الصحيح.

وكذلك الاستعاذة بالمخلوقات، بل إنما يستعاذ بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته؛ ولهذا احتج السلف كـأحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق فيما احتجوا به بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات) قالوا: فقد استعاذ بها، ولا يستعاذ بمخلوق.

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً).

فنهى عن الرقى التي فيها شرك، كالتي فيها استعاذة بالجن كما قال تعالى : وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]، ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والإقسام التي يستعملها بعض الناس في حق المصروع وغيره التي تتضمن الشرك، بل نهوا عن كل ما لا يعرف معناه من ذلك خشية أن يكون فيه شرك، بخلاف ما كان من الرقى المشروعة فإنه جائز.

فإذاً لا يجوز أن يقسم لا قسماً مطلقاً، ولا قسماً على غيره إلا بالله عز وجل، ولا يستعيذ إلا بالله عز وجل.

والسائل لله بغير الله إما أن يكون مقسماً عليه ].

لأن الإقسام بالشيء سواء كان من باب الحلف أو الاستشفاع، كله نوع من التوسل، ولذلك فصّل الشيخ في هذه المسألة، أي أنه إذا سأل الله بغير الله بمعنى أنه توسل إلى الله بمخلوق، فهو بذلك استشفع أو توسل وسيلة ممنوعة ولا شك؛ لأن الله عز وجل لم يجعل بينه وبين خلقه وسطاً، وأمر بدعائه مباشرة، والوسطاء من العباد الفقراء إلى الله، فكيف يجعلون وسائل.

الروايات المنسوبة عن أحمد

مداخلة: ماذا يقصد الشيخ بقوله: كإحدى الروايتين عن أحمد ؟

الجواب: قد يقصد أنها نسبت للإمام أحمد ، وكثير ما يذكر الشيخ مثل هذه الأمور عن الإمام أحمد ، وسيأتي في مسألة أهم من هذه وأخطر أنها نسبت للإمام أحمد ، وأنها رواية رويت، لا يلزم أن يكون الشيخ يرى أنها ثابتة، والإمام أحمد نسبت له أشياء كثيرة لم يقل بها، إما وهم من الذين نسبوها خاصة في هذه المسائل، وإما من باب التخريج على قوله كما يفعل كثير من أتباع الأئمة يخرّجون على أقوالهم بما لم يقولوا به، وهذا وقع للأئمة الأربعة ولغيرهم من أئمة السلف، والشذوذ لا يعني بأنه لم يقل به إمام من الأئمة، فالقول الشاذ قد يقول به إمام من الأئمة، ومع ذلك يعتبر شاذ، لأن الأئمة أو العلماء ليسوا معصومين فقد يحدث منهم بعض المواقف والأقوال الشاذة، إما لتوهم أو لاجتهاد خاطئ.

اعلم أن الذين قالوا تنعقد اليمين به هنا لا يقصدون أنه مشروع، إنما قالوا: إنها تلزم، أي مثل النذر، فالنذر مكروه وقد يحرم لكنه يلزم الإنسان، فكذلك الذين قالوا بانعقاد اليمين في هذه الحال التي يحلف فيها بغير الله لا يقصدون أن اليمين مشروعة، لكن يقصدون أن الإنسان ألزم نفسه بشيء فلزمه مع أن اليمين بدعية، وهي إما محرمة وهو قول الجمهور وهو الصحيح، وإما مكروهة على أقل الأحوال.

ربما يرد تساؤل: وهو أن الذين قالوا: إنها مكروهة منهم أناس من علماء السلف قديماً أو حديثاً وإن كانوا قلة، فكيف عدلوا عن الحديث الصريح بأن الحلف بغير الله شرك؟ والجواب: أن لهم في هذا شبهات كثيرة، منها أنه ظن بعضهم أن مثل هذا الحديث منسوخ، وظنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من باب التأكيد، وأنه أقر بعض الأيمان عند الناس.

ومنهم من قال: إن الجمع بين النصوص يؤدي إلى تنزيل النهي من التحريم إلى الكراهة..

وهذا كله مرجوح؛ لأن الحلف بغير الله تعظيم لغير الله في أمر يعتبر من العقود العظيمة بين البشر، فكيف يكون عقد عظيم بين البشر بغير الله؟ هذا غير لائق، مما يدل على أن ظاهر الحديث التحريم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا وصف الأمر بالشرك فأقل أحواله أنه بدعة أو كبيرة.

فأقول: هذا من باب التنبيه على عذر بعض الأئمة الذين قالوا بأنه مكروه، مع أنهم قلة وقولهم مرجوح، وتوجيههم للأدلة أيضاً مرجوح.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأصل القول بانعقاد اليمين بالنبي ضعيف شاذ، ولم يقل به أحد من العلماء فيما نعلم، والذي عليه الجمهور كـمالك والشافعي وأبي حنيفة أنه لا تنعقد اليمين به، كإحدى الروايتين عن أحمد ، وهذا هو الصحيح.

وكذلك الاستعاذة بالمخلوقات، بل إنما يستعاذ بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته؛ ولهذا احتج السلف كـأحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق فيما احتجوا به بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات) قالوا: فقد استعاذ بها، ولا يستعاذ بمخلوق.

وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً).

فنهى عن الرقى التي فيها شرك، كالتي فيها استعاذة بالجن كما قال تعالى : وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]، ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والإقسام التي يستعملها بعض الناس في حق المصروع وغيره التي تتضمن الشرك، بل نهوا عن كل ما لا يعرف معناه من ذلك خشية أن يكون فيه شرك، بخلاف ما كان من الرقى المشروعة فإنه جائز.

فإذاً لا يجوز أن يقسم لا قسماً مطلقاً، ولا قسماً على غيره إلا بالله عز وجل، ولا يستعيذ إلا بالله عز وجل.

والسائل لله بغير الله إما أن يكون مقسماً عليه ].

لأن الإقسام بالشيء سواء كان من باب الحلف أو الاستشفاع، كله نوع من التوسل، ولذلك فصّل الشيخ في هذه المسألة، أي أنه إذا سأل الله بغير الله بمعنى أنه توسل إلى الله بمخلوق، فهو بذلك استشفع أو توسل وسيلة ممنوعة ولا شك؛ لأن الله عز وجل لم يجعل بينه وبين خلقه وسطاً، وأمر بدعائه مباشرة، والوسطاء من العباد الفقراء إلى الله، فكيف يجعلون وسائل.

مداخلة: ماذا يقصد الشيخ بقوله: كإحدى الروايتين عن أحمد ؟

الجواب: قد يقصد أنها نسبت للإمام أحمد ، وكثير ما يذكر الشيخ مثل هذه الأمور عن الإمام أحمد ، وسيأتي في مسألة أهم من هذه وأخطر أنها نسبت للإمام أحمد ، وأنها رواية رويت، لا يلزم أن يكون الشيخ يرى أنها ثابتة، والإمام أحمد نسبت له أشياء كثيرة لم يقل بها، إما وهم من الذين نسبوها خاصة في هذه المسائل، وإما من باب التخريج على قوله كما يفعل كثير من أتباع الأئمة يخرّجون على أقوالهم بما لم يقولوا به، وهذا وقع للأئمة الأربعة ولغيرهم من أئمة السلف، والشذوذ لا يعني بأنه لم يقل به إمام من الأئمة، فالقول الشاذ قد يقول به إمام من الأئمة، ومع ذلك يعتبر شاذ، لأن الأئمة أو العلماء ليسوا معصومين فقد يحدث منهم بعض المواقف والأقوال الشاذة، إما لتوهم أو لاجتهاد خاطئ.