شرح العقيدة الطحاوية [105]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وما يحصل لبعضهم عند سماع الأنغام المطربة من الهذيان، والتكلم ببعض اللغات المخالفة للسان المعروف منه، فذلك شيطان يتكلم على لسانه كما يتكلم على لسان المصروع، وذلك كله من الأحوال الشيطانية، وكيف يكون زوال العقل سبباً أو شرطاً أو تقرباً إلى ولاية الله، كما يظنه كثير من أهل الضلال؟! حتى قال قائلهم:

هم معشر حلوا النظام وخرقوا الـ سياج فلا فرض لديهم ولا نفل

مجانين إلا أن سر جنونهم عزيز على أبوابه يسجد العقل

وهذا كلامُ ضالٍ، بل كافر، يظن أن للجنون سراً يسجد العقل على بابه، لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة، أو تصرف عجيب خارق للعادة، ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين، كما يكون للسحرة والكهان، فيظن هذا الضال أن كل من كاشف أو خرق عادة كان ولياً لله.

ومن اعتقد هذا فهو كافر، فقد قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [الشعراء:221-222] فكل من تنزل عليه الشياطين لا بد أن يكون عنده كذب وفجور ].

في هذا إشارة إلى أن أكثر الذين يتعلق بهم الصوفية من الأشخاص، الذين عندهم شيء من التخرص، تكون مخاريقهم عن طريق الشياطين، وعن طريق الجن، سواء كان الجن فسقة وفجاراً وهو الغالب، أو حتى بعض الصالحين من الجن يستهويهم تعلق الإنسان بهم؛ لأن الجن بطبعه أضعف من الإنسي ويهابه، لا كما يظن كثير من الناس أن الجني له سلطة، وأنه أقوى إرادة من الإنسان، لا، بل العكس، الصحيح أن الإنسان أقوى على الجني إذا اعتمد على الله عز وجل، والجني بطبعه أضعف من الإنسي، فإذا وجد من الإنس نوع انجذاب إليه فرح بذلك واستهواه.

ولذلك يحدث من بعض المقصرين من صالحي الجن الاستحواذ على صالحي الإنس، فيخدمونهم ويقدمون لهم شيئاً مما يطلبون منهم، ولذلك يقع الجن في الكذب؛ من أجل استدراج الإنس، ومن أجل أن يبقوا متعلقين بهم، فلذلك ينبغي التنبه، خاصة من الرقاة والقراء الذين يقرءون على الممسوسين، ينبغي أن يتنبهوا لهذه المسألة، وهو أن بعض صالحي الجن يكذب، بل ربما يضطر للكذب؛ لأن الموقف بالنسبة له حرج، والإنسي لا يقدر هذا الموقف، فالجني لشدة ضعفه قد يضطر للكذب وإن كان صالحاً.

أما فجرة الجن والشياطين فمن باب أولى أن يكون عبثهم بالإنس مما يصل إلى حد دعاوى تكبر عند الإنس، وتجعلهم يظنون أن هذا الإنسي الممسوس إنما يتلقى عن الله عز وجل، أو يتلقى بإلهام مباشر، أو برؤى أو كرامات، كل ذلك من عبث الشياطين.

قال رحمه الله تعالى: [ وأما الذين يتعبدون بالرياضات والخلوات، ويتركون الجمع والجماعات، فهم من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، قد طبع الله على قلوبهم. كما قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً من غير عذر طبع الله على قلبه).

وكل من عدل عن اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، إن كان عالماً بها فهو مغضوب عليه، وإلا فهو ضال، ولهذا شرع الله لنا أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

وأما من يتعلق بقصة موسى مع الخضر عليه السلام في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني، الذي يدعيه بعض من عدم التوفيق، فهو ملحد زنديق. فإن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثاً إلى الخضر ، ولم يكن الخضر مأموراً بمتابعته، ولهذا قال له: أنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم.

ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه، وإذا نزل عيسى عليه السلام إلى الأرض إنما يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن ادعى أنه مع محمد صلى الله عليه وسلم كـالخضر مع موسى، أو جوز ذلك لأحد من الأمة، فليجدد إسلامه، وليشهد شهادة الحق، فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلاً عن أن يكون من أولياء الله، وإنما هو من أولياء الشيطان، وهذا الموضع مفرق بين زنادقة القوم، وأهل الاستقامة، فحرك تر ].

يعني: مسألة دعوى العلم اللدني دعوى يدعيها طوائف من الناس، وكل له فيه فلسفة، وخلاصة الأمر في العلم اللدني: أن هناك دعاوى من كل طائفة من طوائف الضلال، تعتمد على أنهم يستغنون عن الشرع، وأن شيوخهم أو الأئمة أو الأولياء الذين يقدسونهم يتلقون العلم الإلهي بلا واسطة، أي: بدون أن يكون ذلك عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن طريق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة.

والتلقي عن غير الرسول صلى الله عليه وسلم يسمى عندهم علماً لدنياً، لكن لهم فيه فلسفات مختلفة.

فالرافضة يزعمون أن العلم اللدني علم موروث، أطلعه الله عز وجل على طوائف من بني آدم، توارثوا هذا العلم إلى أن وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إلى ذريته من فاطمة رضي الله عنها، ثم بعد ذلك بقي يتوارث بين الأئمة، وهذا العلم عندهم محصل بالغريزة، فهؤلاء الأئمة ولدوا علماء، وانفتح لهم باب علم الغيب، بل إنهم يرون أن أئمتهم يعلمون الغيب كل الأحيان، وأن لهم تدبيراً في الكون.

ويقولون: إن الأئمة اشتملوا على العلم اشتمالاً، ولم يحصلوه تحصيلاً، وإنهم متى ما شاءوا انفتحت لهم أبواب الغيب، وأن هذا العلم متوارث منذ آدم في أشخاص من شخص إلى شخص إلى أن وصل حسب دعواهم إلى الأئمة.

والصوفية يزعمون أن العلم اللدني له عدة طرق، منها ما يحصله الشخص بالتعبد والرياضة العبادية، بحيث يتحلل من الدنيا وينقطع عنها، حتى يتصل قلبه بالله عز وجل، فينفتح له الغيب مباشرة.

وبعضهم يقول: إنه يتلقى العلم اللدني عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، بدون أن يكون ذلك عن طريق الكتاب والسنة، أو عن بعض الملائكة، أو عن الخضر مباشرة، وأن الخضر يعلم هؤلاء الأئمة، ويطلعهم على أسرار التحكم في الكون وعلم الغيب، لكن هناك من الفلاسفة الذين نزعوا نزعة التصوف من لهم في ذلك مذاهب أخرى.

فمنهم من يرى أن العلم اللدني يكون بالإشراق، والإشراق: هو إشراق النور الإلهي على قلوب هؤلاء الذين يزعمون أنهم أولياء أو أئمة، فتنكشف لهم أمور الغيب.

ومنهم من يرى أن ذلك يكون عن طريق الفيض وهو اتصال الروح بالقوى العقلية، التي تتحكم في الكون، يزعمون أن المتحكم في الكون هو العقل.

ومنهم من يزعم الحلول، أي: أنه تقمص الإلهية، وأن الله عز وجل حل فيه أو حل فيه شيء من الإلهية، فمن هنا انفتح له الغيب، بناءً على أنه أصبح يحمل خصائص الألوهية.

وبين هذه المذاهب مذاهب شتى، لكن كلهم يجتمعون على دعوى أن هناك من أئمتهم وأوليائهم وشيوخهم وفلاسفتهم من يتلقى العلم الكامل، أو كثيراً من أمور الغيب، بدون الوحي الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال رحمه الله تعالى: [ وكذا من يقول بأن الكعبة تطوف برجال منهم حيث كانوا، فهلا خرجت الكعبة إلى الحديبية فطافت برسول الله صلى الله عليه وسلم حين أحصر عنها، وهو يود منها نظرة؟! وهؤلاء لهم شبه بالذين وصفهم الله تعالى حيث يقول: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [المدثر:52] إلى آخر السورة ].

قوله: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً).

قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] .

وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105] .

وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].

وقال تعالى: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:118-119] فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف.

وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:176].

وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء -، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة).

وفي رواية: (قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي) فبين أن عامة المختلفين هالكون إلا أهل السنة والجماعة، وأن الاختلاف واقع لا محالة.

وروى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة، والعامة، والمسجد).

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قال لما نزل قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [الأنعام:65] قال: أعوذ بوجهك. أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام:65] قال: أعوذ بوجهك. أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65] قال: هاتان أهون) فدل على أنه لا بد أن يلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم بأس بعض، مع براءة الرسول من هذه الحال، وهم فيها في جاهلية، ولهذا قال الزهري : وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا على أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية ].