أرشيف المقالات

عدم إجابة الدعاء والكُفران بالرحمن

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
قد يعجب القارئ إذا علم أن كثيرًا من أسباب الكفران بالإسلام والخروج منه عياذا بالله تعالى معللة عند أصحابها بأنهم دعوا الله كثيرا فلم يستجب لهم ، وهو شيء عاينته بنفسي حتى قالت إحداهن كنت أحببت شابًّا حبًا جمًا ومع طول دعائي أن يُكتب لي ، غدر بي وتركني ! ثم جعلت هذا مسوّغًا للكفر عياذا بالله تعالى..وهذا مقال لتفكيك هذه الظاهرة النفسية وبيان وهائها بالحجة البرهانية .. إذا أردنا صياغة ذلك في صورة دليل منطقي ، من باب التصوير المناسب ، فيمكن أن نقول هكذا : 1-الله أو الخالق من شأنه أن يجيب الدعاء 2-وحيث إنه لم يجبني في كذا وكذا وكذا =فهذا يعني عدم وجوده ، أو على أقل تقدير فيعني بطلان الإسلام والأديان .. بمثل هذا المنطق المغرق في السطحية تُعلل الردة عن دين الله عز وجل ! وهذا شأن يصدق عليه أن يقال فيه : يغني وصفه عن كشفه ، وسرده عن ردّه ..ومع هذا فإن الفطر يعروها ما يحرفها عن أصل النشأة المستقيمة التي ذرأها الله عليها ، فتقوم الحاجة عندئذٍ للبيان والآن ..دعنا نؤصّل أصلًا ليس مما يتصور وقوع خلافٍ فيه عند العقلاء : أي منظومة فكرية إنما يكون الحكم عليها صحة وضعفا وبطلانا وفق مدى الاقتدار على البرهنة عليها ..من جهة إقامة الحجج الدالة على صحتها ، وخلوّها من التناقض ، الذي يدل على الاتساق الداخلي ..فلا يضر بعد ذلك إذا قامت على برهان سليم أن يجهل المرء جملا من علل تفاصيل بعض الجزئيات التي تشتمل عليها هذه المنظومة .. فإذا تقرر هذا ، فأول سؤال يقال لهؤلاء : هل جاء في مقررات الإسلام : أن الله تبارك وتعالى سيجيب كل دعوة لأي مسلم ، على معنى تعجيل الإجابة بحيث يكون مجرد انتفاء إجابة الدعوات لبعض الناس عائدا بالتكذيب على هذه المقررات ؟ الجواب : قطعا لا ..لم يرد في الإسلام شيء من ذلك ...بل يقال :لو كان الله جعل إجابة الدعاء بهذه الصفة ، لكان كل أحد يدخل في الدين لنيل هذه الأعطيات العاجلة ، فيكون دينًا كآلة العصائر إذا وضعت النقود وكبست زرًا أخرجت المشروب ..! فما حقيقة الدعاء في الإسلام ؟ سوف أحاول رسم صورة تلملم أطراف الأمر من جوانبه أولا-الدعاء في الإسلام نوعٌ من العبادة ، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} (1) ولهذا كان من يدعو غير الله عز وجل من الموتى ونحوهم واقعًا في الشرك الأكبر والعياذ بالله ، كما دل على ذلك آيات كثيرة منها ما جاء في الحديث السابق نفسه .. ثانيا-دعاء المسألة في مفهومه اليسير يتضمن الطلب ..والطلب من المعقول أنه يجاب أو لا يجاب ..وليس ضربة لازب أنه لابد أن يلبّى ..فالله ربٌّ وليس عبدًا حتى تكون مسألته كالأمر النافذ لا محالة !، وهو أعلم سبحانه حيث يجعل إجابته في الموضع اللائق بالحكمة .. وقد بينت الشريعة أن هناك موانع من الإجابة ، واعتبر في ذلك مثلا بالسهم ، ألا ترى أن المرء قد يطلق السهم ، ثم يكون الوتر رخوا فلا يبلغ الغاية ؟ أو يعترض السهم في الطريق مانعٌ يحول دون إصابته الغرض ؟ فكذلك الدعاء جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على معنى المانع المذكور ..ومن ذلك مثلا ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعلوا صالحا إني بما تعملون عليم} وقال {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث اغبر يمد يديه إلى السماء يارب يارب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك )(2) هذا الحديث يصف بعض الموانع دون إجابة الدعاء ، وليس هو مسوقًا على سبيل الحصر ثالثا-ومع هذا فالدعاء إن كان منبعثًا عن صدق وإخلاص ولم يكن الدعاء مشتملا على محظور أو بغي لم يعدم المسلم إحدى ثلاث خصال ، ففي مسند الإمام عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث :إما أن تعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها) ، قالوا إذن نكثر ؟ قال : (الله أكثر )(3) ومن شأن المبطلين عند إثارة الشبهات ، أن يحصروا القسمة في أشياء لا تكون منحصرة فيها ، وهو من ديدنهم في ركوب المغالطات..ومن ذلك موضوعنا هذا ، فيقول : ليس ثم إلا إجابة الدعاء بمعنى تعجيل الإجابة ..ثم يقول : ليس إلا احتمالان : أن تجاب كل دعوة فيكون الله موجودا ، أو لا تجاب كل دعوة فينتفي وجوده!..وهذا كما مرّ معنا ليس من لغة العقل في شيء..بل هو تقرير سمج يعرف أدنى مفكر بطلانه بداهة ..والحديث إذن يقرر أن الداعي الصادق لن يخرج خاليا من إحدى ثلاث منح..تعجيل الإجابة منها على البدلية ، لا على التعيين الحتمي . خامسا-ثم إن من غفلة هؤلاء ، ذهولهم عن كثير من المنح الإلهية المحصّلة بالدعاء ، فإذا كان منهم من يحكي عن تجربته الخاصة ، وسلّمنا أنه لم يُستَجب له في شيء قطُّ –وهذا بعيد – فإنه لا يخلو مسلم عادة من استشعار حلاوةٍ في إجابة دعوة له ,,وكم من إنسان هداه الله للإسلام بعد أن دعا صادقا من قلبه أن يريه الله الحق حقًا ويرزقه اتباعه ..وكم من مسلم نال من بركات أدعيته وإن كان قد يغفل عن تحقق بعضها..ولو تأمل كل امرئ في نفسه سيبصر في حياته من ذلك ما قد يعز على الحصر .. ولهذا كان من لطف الله ورحمته أن ضمّن أم القرآن دعاء {اهدنا الصراط المستقيم } (الفاتحة: 6) فما دعا به أحد ربه بصدق إلا أناله نصيبا من ذلك بقدر صدقه ..وليس في الإمكان إحصاء من استعصى على الأطباء علاج مرضه العضال فلما التجأ إلى ربه عز وجل ..شفاه وعافاه كأن لم يكن مسّه شيء، هذا مجرد مثل للتقريب ،وهو مستفيض متواتر لا يمكن جحده..
ولا يحصي الواقف على أحوال الناس كم من مظلوم أجاب الله دعاءه كفلق الصبح وانتقم من ظالمه ..هذا أمر يدركه العامة والخاصة لشهرته.
سادسا –ويعلم المؤمنون جيدًا أن من الناس مَن اختصهم ربهم تبارك وتعالى قديمًا وحديثًا بإجابة الدعاء على معنى تعجيل تحقيقها في الدنيا وعلى وجهٍ مطّرد ونحوٍ مكرور فصيح، ومن هؤلاء الأولياء القدامى : سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى ، فانظر في سيرته إن شئت ..ومن ذلك ما أخرجه الإمام البخاري عن جابر بن سمرة قال شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر رضي الله عنه فعزله واستعمل عليهم عمارا فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي فأرسل إليه فقال يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي قال أبو إسحاق أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين وأخف في الأخريين قال ذاك الظن بك يا أبا إسحاق فأرسل معه رجلا أو رجالا إلى الكوفة فسأل عنه أهل الكوفة ولم يدع مسجدا إلا سأل عنه ويثنون معروفا حتى دخل مسجدا لبني عبس فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة يكنى أبا سعدة قال أما إذ نشدتنا فإن سعدا كان لا يسير بالسرية ولا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية قال سعد أما والله لأدعون بثلاث اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا قام رياء وسمعة فأطل عمره وأطل فقره وعرضه بالفتن وكان بعد إذا سئل يقول شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد قال عبد الملك فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن! سابعا-وللهِ -جل ثناؤه- سننٌ في كونه ، وله أسماء وصفات يُعرف بها ، ولصفاته مقتضيات في الخارج وآثار ، فليس من العقل اختزال التصور عن الرب في شيء من الصفات-ككونه قريبًا يجيب الدعاء- دون غيرها ، ومن فقه هذا المعنى انحلت عنده كثير من الإشكالات فيما قد يتوهمه خدشًا أو خللًا ، وذلك أن مقتضيات الصفات تعمل معًا وفق قانون الحكمة الإلهية ..فمن كان مصابًا بقصور في نظره ، حدّق على زاوية من المشهد ، دون إدراك كلي لأجزاء الصورة من أطرافها ..ثم خرج بحكم مبني على اجتزاء شديد ، وهو يعلم أن الإحاطة بالتصور التام غير مقدورة له ..والحكم على الشيء : فرعٌ عن تصوّره الكافي..ومن عرف أن الله جبار ، كما أنه غفار ، وعرف أنه رحمن كما أنه عزيز ذو انتقام ، وأنه عليم كما أنه حكيم ..وهكذا ، لم يشكل عليه أن يكون له تصاريف متسقة مع اجتماع هذه المعاني جميعًا..فهي متضافرة لا متنافرة ، لأن الله تقدس اسمه إنما يفعل الشيء على مقتضى الحكمة البالغة .. وما يكون في نظر الرائي خللا ، فليس إلا لقصوره العظيم عن إلمامه بأوجه الحكمة .. أما وقد عرف أن القاعدة العامة هي اتساق الكون وانتظامه في قوانين محكمة، فليس يعكر عليه أن يرى كتاب الله المنظور :فيضانا ، أو زلزالا أو كارثة ..ونظيره في الكتاب المسطور : المحكم والمتشابه ..فآيات الله: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب ، وأخر متشابهات ، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ..ثم ماذا ؟ قال لك : وما يعلم تأويله إلا الله} (آل عمران : 7)..يعني أن كيفيات هذه الغيبيات مما جاء ذكره في الوحي ، لا يعلم كُنهه إلا الله جل ذكره ..وهكذا ما وراء هذا الذي يُرى نقصًا في الكون : ما يعلم حكمته على وجه التمام إلا الله .. {والراسخون في العلم يقولون : آمنا به كلٌّ من عند ربنا} (آل عمران : 7) ..أي مادام استقام عندنا بالبرهان أن هذا كتاب من عند الله تعالى، فليس يصح استشكال ما يجيء فيه من إجمال حول شؤون الغيب مما لا تدرك حقيقته ..وكذلك الشأن في الكون ، ثبت عند العقلاء كافة أن من صنع الله المتقن ، فلا يضرّ الجهل ببعض ما يخالف المعهود من الانتظام العام الدال بكل جلال عى القصد الغائي..فعندئذ يقول العقلاء: آمنا به كلٌّ من عند ربنا !..فإن أجبتنا يارب فهذا فضلك وإن منعتنا فهذه حكمتك .. وما يذّكر إلا أولو الألباب ! ومن الناس مَن يعجل فيظن أنه لم تُجَب دعوته ، ولا يكون موعد الإجابة حان كما عيّنه الله تعالى ، ولهذا نبّه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا فقال (يستجاب لأحدكم مالم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي) (4) ومنهم من قد يدعو بما حقيقته شرٌّ وهو لا يدري مآل ما يدعو به ، فيكون لطف الله عينه متحققا في عدم الاستجابة لما يسأله ، بمنزلة سؤال الطفل أباه شيئًا وأبوه يمنعه إياه لا كراهية له ولا ضنّا بما سأله على ضناه ..ولكنه يعلم أن ما يطلبه يضرّه..فإذا كبِر الصبي عرف رحمة أبيه به وحكمته ، وكذلك الإنسان ، ولله المثل الأعلى {ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا} (الإسراء : 11) ثم إن مما ينبغي ألا يفوت على العبد طرفة عين أن يعلم بأن هذه دار امتحان ، في كل تفاصيلها ..والدعاء من هذه التفاصيل ..فيبتلي الله عباده بالشدة كما يبتليهم بالرخاء ، ويبتليهم بالغنى كما يبتليهم بالفقر ، وهذا واضح في نصوص الكتاب والسنة ، ومنه قوله تعالى {ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون } (الأنبياء : 35). هوامش المقال 1- أخرجه الإمام الترمذي بسند صحيح ح 3372 , ج5 ص 456 ,ط2 مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي, تحقيق وتعليق إبراهيم عطوة عوض 1395هـ - 1975 م 2- صحيح مسلم ح 1015 ج2 ص 703 , تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي ط1 دار الحديث 1412 هـ / 1991م 3- مسند الإمام أحمد (ج17 _ 213 / 214) ح 11133 , ط مؤسسة الرسالة , تحقيق شعيب الأرناؤوط , محمد نعيم العرقسوسي, إبراهيم الزيبق 4- صحيح البخاري ح 6340 ص 1135 مراجعة الشيخ محمد علي القطب و الشيخ هشام البخاري , المكتبة العصرية ط1 , 1423هـ - 2002 م 5- صحيح مسلم ح 2735 ج4 ص 2095 تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي ط1 دار الحديث 1412 هـ / 1991م

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١