أرشيف المقالات

السنيون والشيعة

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
للأستاذ أحمد أمين بهذا العنوان كتب الأستاذ (محمد رضا المظفر) من أفاضل علماء النجف مقالاً قيماً في (عدد الرسالة 118 السنة الثالثة)؛ وقد أستهلها الأستاذ بالعجب من أن أكون كاتب (فجر الإسلام وضحاه)، وكاتب (مقدمة تاريخ القرآن) للأستاذ الزنجاني معاً وأن (النغمة التي ظهرت مني في هذه المقدمة نغمة متواضعة على وتر من إحساس جديد) وإنها على عكس ما ظهر مني في فجر الإسلام وضحاه، وفسر ذلك بأن لي (شخصيتين تباعدتا على قرب العهد بينهما) والحق - يا أخي - أن النغمتين صدرتا عن نفس واحدة كانت تكره الخلاف بين السنيين والشيعة أشد الكره وأعمقه يوم كتبَتْ فجر الإسلام وضحاه كما كانت تكرهه يوم كتبت مقدمة تاريخ القرآن، وكما لا تزال تكرهه إلى اليوم وكل مظاهر الخلاف بين القولين سببه أني بحثت في فجر الإسلام وضحاه مذهب الشيعة كما يبحثه كل عالم، وحاولت جهدي أن أضع التعصب جانباً، وأن أتناسى أني سني أكتب عن الشيعة، وأملأ نفسي عقيدة أني مؤرخ يتطلب الحق حيث هو - ومن أجل ذلك نقدت السنيين كما نقدت الشيعة، وقلت ما اعتقدته الحق في هؤلاء وهؤلاء، ووضعت الفرقتين في كفتي ميزان؛ فإذا قلت إن بعض الشيعة وضعوا بعض الأحاديث قلت إن بعض السنيين وضعوا بعض الحديث أيضاً، لأني اعتقدت الحق في ذلك؛ وهكذا سرت على هذا النهج دائماً وأنصفت المعتزلة في بعض آرائهم، والخوارج في بعض آرائهم، والشيعة في بعض آرائهم.
مع أن العادة جرت أن السنيين لا يرضون عن شيء من ذلك، فأسلوبي في الحالين طلب الحق حيث كان، وإذا كان ديننا يتطلب منا أن نزن الحق في ذاته من غير أي اعتبار آخر سواء كان مصدره مسيحياً أو يهودياً أو وثنياً، فبالأحرى نزنه إن كان مصدره معتزلياً أو خارجياً أو شيعياً؛ وكل ما في الأمر أن بعض أخواني من الشيعة اخطأوا من ناحيتين: الأولى إنهم دائماً طبقوا ما أقوله عن الشيعة على أنفسهم، وفهموا أني لا أعني بالشيعة في كل موضوع إلا إياهم، مع أن الشيعة كما يعلمون فرق مختلفة لا حصر لها، وإن منها الغالي الممعن في غلوه، ومنها المعتدل القريب من الإنصاف، وليست الإمامية التي يد بها أهل العراق وفارس إلا فرقةً واحدة من فرق عديدة، بعضها باق إلى اليوم، وبعضها عفى عليه التاريخ؛ فخطأ محض أن يظنوا أني كلما قلت (الشيعة) عنيتهم؛ إنما يكون لهم الحق كل الحق أن يفهموا إني أقصدهم عندما أتكلم على الإمامية أو الاثني عشرية - والمؤرخ يجب عليه أن يؤرخ الماضي كما يؤرخ الحاضر، وأن يذكر الغلاة كما يذكر المعتدلين، فإذا عاب الغلاة فليس عيبه إذا فهم قوم منه أنه يعنيهم والناحية الثانية هي ما دعوت إليه في (مقدمة تاريخ القرآن) من إنه يجب على العلماء من الطائفتين أن يوسعوا صدرهم للنقد النزيه (ويتلقوا النتائج بصدر رحب)، فهذه شيمة العلماء حقاً، فكم أخطأ الشيعة وكم أخطأ السنيون! فواجب الباحث أن يبحث المسائل حراً طليقاً، ويتأهب للبحث وهو على الحياد بالنسبة للنتائج، فسواء خرجت النتيجة صفراء أو سوداء لا يهمه، لا أن يعتقد أولاً ثم يبحث عن البرهان الذي يؤدي إلى النتيجة التي أعتنقها من قبل، فذلك ليس شيمة العلماء المخلصين للحق.
وكل ما في الأمر أن الواجب أن ينحي العامة وأشباههم عن الدخول في مثل هذه المباحث لأنهم لا يستسيغونها ولا هم متهيئون لها، وليست تنفعهم في دينهم ولا ديناهم بهذه الروح بحثت، ولا أدعى العصمة، فقد أكون أخطأت؛ وقد وجه بعض أخواني من الشيعة نظري إلى أني حين بحثت عولت على مصادر أهل السنة أكثر مما عولت على مصادر الشيعة، وكان الواجب ألا يعتمد في كلام خصم على خصم، وأن ينظر في قول كل فرقة إلى حكاية أصحابها وخصومها معاً، ثم يمحص الحق من ذلك كله؛ وقد أصغيت إلى هذا القول واقتنعت بصحته، فلما أردت أن أكتب فصل الشيعة في الجزء الثالث من ضحى الإسلام توسعت ما وسعني في قراءة الكتب المعتمدة عند الشيعة، ولا أزال أقلبها ظهراً لبطن وأفكر فيها من وجوهها المختلفة حتى ينثلج صدري للحق وأومن بما يقوم عليه البرهان من غير تحزب لناحية - وليس يتطلب مني أكثر من ذلك.
وإنما يتطلب من قادة الرأي في الشيعة والسنيين ألا يضيق صدرهم حرجاً مما يقال متى خلصت نية القائل - وعلى القائل والكاتب أن يعمد إلى الحق والحق وحده، وأن يقوله في أدب لا في تهاتر وسباب وليس من الحق ألا يرضى الشيعة عن المؤرخ إلا إذا مجد كل عقائد الشيعة وصوبها، كما ليس من الحق ألا يرضى السنيون عنه إلا إذا مجد كل عقائدهم وصوبها، فالمؤرخ قاض عادل لا يهمه من رضى ومن غضب، وهو لم ينصب للإرضاء والإغضاب، إنما نصب ليتعرف الحق ويجهر به هذا ما أردت أن أقوله من الناحية العلمية، وأرى من وراء ذلك كله إلى القول بأن البحث العلمي شيء والنزاع والخصام شيء آخر، وأن البحث العلمي لا يمنع التفاهم والوئام، بل هو إذا نظر إليه النظر الواسع العالي سبب من أسباب الألفة أما الناحية العملية في الوفاق فسهلة ميسورة متى أخلص القادة في ذلك - وهي في هذا الزمان أيسر وأسهل؛ وإذا كانت الوطنية قد استطاعت أن توفق في مصر بين الأقباط والمسلمين، وفي سوريا بين المسلمين والمسيحيين، فكيف لا تستطيع المصالح المشتركة القوية الواضحة ألا توحد بين الشيعة والسنيين وهم أهل دين واحد يجمعهم الإيمان العميق في صدورهم بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وان كل الخلاف بينهم موجات على السطح وفقاقيع في الظاهر يستغلها أهل الجاه والمال والرياسة فيوهمون أنها كل شيء في الدين، وليس ذلك بصحيح إلا إذا كانت فقاقيع الماء كل الماء، وأمواج البحر هي كل البحر، وزبد السوائل كل السوائل، والعمامة الخضراء والحمراء والبيضاء هي كل الإسلام؛ فالحق إن الإسلام أعمق من ذلك كله، وما الخلافة والنزاع عليها والفروق الخفيفة في مظاهر الوضوء والصلاة والزواج والطلاق ونحو ذلك إلا أشياء تافهة كل التفاهة بجانب القواعد الأساسية للدين، والفرق بينهما كالفرق بين مظهر الإنسان وقلبه، وبين ملبسه ومخبره.
ليكن الإيمان بالأسس في القلب، ثم ليكن المظهر ما يكون، فالله ينظر إلى قلوبكم لا إلى صوركم وليقلل علماء الدين سنيون وشيعة من تمسكهم بالمظهر ومحافظتهم على وجاهتهم في قومهم وأتباعهم وما يغله ذلك عليهم، يروا أن الوفاق أقرب ما يكون وأسهل ما يكون ويضحكوا ويبكوا من سخافات السلف والخلف الذين أثاروا النزاع على التافه وتركوا اللباب أليس من السخف أن يتقاتل طائفتان على خلاف تاريخي أكان علي أحق بالخلافة أم أبو بكر وعمر، وعلي وأبو بكر وعمر في قبورهم لا يعنون بشيء من ذلك؟ أم ليس من السخف أن يتعادى طائفتان مسلمتان تقرأن كل أسس الإسلام من أجل اختلافهما في جزيئات صغيرة في أشكال الوضوء وما إليه؟ أم ليس من السخف ألا يقر الشيعة بعلم ولا فضل ولا فكرة ولا عمل مجيد إلا إذا صدر من شيعي؟ وألا يقر السنيون بعلم ولا فضل ولا فكرة ولا عمل مجيد إلا إذا صدر من سني؟.
.
لا لا أيها القوم! جعفر الصادق رجل عظيم، وأبو حنيفة رجل عظيم، فليزر شيعة العراق أبا حنيفة لعظمته، وليزر سنيو العراق مشهد الحسين لعظمته؛ والأمهات يلدن النوابغ على السواء، فلم تضن على الشيعة بنوابغ ولا على السنيين بنوابغ، كما لم تضن على الأمم الأخرى بنوابغ، فحصر كل فرقة تعظيمها لرجال فرقتها ضيق في النظر وفقر في الفكر. وإذا زال هذا كله وأمثاله - وهي فيما أرى من البديهيات - رأينا الخلاف قد تبخر ولم يعد له أساس، ولا يبقى إلا عند المؤرخ والباحث، والمؤرخون والباحثون دائماً متصافون متى كان رائدهم الحق، وشعارهم الصدق، ولم تطوح بهم الأغراض والشهوات ليس من وسيلة تدرأ هذا الخلاف إلا أن يتقدم علماء اليوم من الفريقين فيمحوا الآثار السيئة التي خلفها علماء الأمس ولعل أصلح بقعة لذلك هي العراق، لأنها أشد البلاد مظهراً لهذا الخلاف، فيتعاون رؤساء الطائفتين لعقد مؤتمر في بغداد من رؤساء السنيين والشيعة، ويبحثوا وجوه الخلاف وكيف تزال في جو هادئ مخلص؛ وأسبق الطائفتين إلى هذه الدعوة أفضلهم، ولا يجعلوا للعامة والغوغاء سلطاناً، وليحذروا من أصحاب المطامع والشهوات ودسائسهم، وليجعلوا شعارهم في كل مجتمع وعند كل خلاف (مسلمون قبل كل شيء) (مسلمون قبل أن نكون شيعة وسنيين). ولا بأس أن يدعوا قادة الفكر في مصر والشام والحجاز للاشتراك في هذا المؤتمر والتشديد في حصر أغراضه في إزالة الخلاف بين سني وشيعي، فلا يمسون أي موضوع آخر، ثم يرسمون الطريق العملي لإزالة هذا النزاع من تزاور الطائفتين، واتخاذ شعار لهذا الوفاق، وتبيين يوم يتخذ عيداً يذكر بهذا الاتحاد ونحو ذلك.
إنهم إن فعلوا واخلصوا خلصوا من أكبر مشكلة يتعرض لها الطائفتان، وأمكنهم أن يوجهوا هذه القوى - العظيمة التي تذهب في الخلاف - إلى إصلاح شؤونهم الاجتماعية، واستطاعوا أن يتعاونوا على رفع مستوى قومهم، وعجبوا بعد قليل - لما يظهر من نتائج باهرة - كيف كانوا جميعاً في ظلام دامس، وكيف كانوا هذا الزمن الطويل يستمسكون بالعرض، ويضيعون الجوهر، ويفرطون في الكتاب، ويحتفظون بالغلاف واقرر من الآن أني سوف لا أرد على من يتخذ من بعض ما جاء في هذه المقالة وسيلة لإثارة النزاع من جديد، إلا أن يفتح صاحبها مجالاً للكلام في مشروع المؤتمر، أو وسائل الوفاق وباللهالتوفيق.

. أحمد أمين

شارك الخبر

المرئيات-١