شرح العقيدة الطحاوية [86]


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله تعالى:[ قوله: (ونؤمن بالبعث، وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط والميزان):

الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة السليمة، فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز وأقام الدليل عليه ورد على منكريه في غالب سور القرآن ].

مسألة البعث من المسائل التي تكلمت فيها جميع الأمم، الأمم الكتابية والأمم غير الكتابية، وجميع الديانات والمذاهب الكبرى تتكلم عن البعث، وهم بين منكرين وهم القلة، وبين من يقرون بمبدأ البعث لكنهم يختلفون، فمنهم من يقر بمبدأ البعث على نحو تراثي، وهم أكثر الديانات، ما عدا الإسلام، فالإسلام لا شك أنه الدين الحق الذي أبان الله به الحق، فإن الإيمان بالبعث فيه، ومسائل البعث جملة وتفصيلاً جاءت في نصوص من الكتاب والسنة بينة، لا لبس فيها ولا غموض.

والمنكرون للبعث تماماً قلة، وإن كان ورد ذكرهم في القرآن الكريم؛ لأن لهم وجوداً بين العرب وبين نُزاَّع الأمم، ويوجد ذلك في مذاهب الفلاسفة والدهريين وغيرهم.

وأما أغلب الذين يؤمنون بالبعث فقولهم كقول المنكرين، بمعنى أن مؤدى قولهم هو إنكار البعث، حتى أهل الكتاب اليهود والنصارى الآن، فإيمانهم بالبعث شبيه بإيمان الأمم غير الكتابية، ومؤدى رأي غالب الأمم في البعث إلى إنكاره؛ لأنهم يقولون: إن البعث بعث الأرواح فقط، فأغلب الديانات الشرقية، والديانات اليونانية، والديانات القديمة، وكذلك الفلاسفة يتكلمون عن البعث؛ لأنه جاء عن الأنبياء، لكنهم يفسرونه بتفسير هو في الحقيقة إنكار للبعث.

فبعضهم يرون أن البعث ما هو إلا نوع من التناسخ للأرواح، أي: أن أرواح البشر الموجودة الآن تنتقل إلى أجساد أخرى بعد الموت، وهذا هو البعث عندهم.

وبعضهم يفسر البعث بأنه حلقة من حلقات الدنيا تعتبر الحلقة الأخيرة، وهذا موجود عند المجوس وعند بعض الصابئة وعند الرافضة، وعند الباطنية وبعض غلاة الصوفية.

فيرون أن البعث ما هو إلا حياة أخرى لاحقة بالحياة الدنيا تعتبر انتصاراً لمن يقدسونه، وانتصاراً لهم على الآخرين.

فكأن البعث عندهم حلقة من حلقات هذه الحياة الدنيا تعتبر هي الحلقة الأخيرة، يسعد فيها السعداء ويشقى فيها الأشقياء، على نحو خرافي عندهم.

وهذا هو ما عليه أكثر الديانات الوضعية، فهو عند الصابئة وعند المجوس بمختلف دياناتهم، وعند أكثر الديانات الهندية، ويوجد عند بعض الرافضة، وعند غلاة الصوفية، وغلاة الفلاسفة وغيرهم، وأكثر الباطنية.

لكن بعضهم يقول: إن هذه الحلقة تتكرر، بمعنى أن البعث يتكرر على مدار سنين معينة، يعدونها بآلاف السنين.

فبعضهم يقول: ستة آلاف سنة، وبعضهم يقول: في كل ست وثلاثين ألف سنة، وبعضهم يقول: في كل ثلاثمائة وستين ألف سنة... إلى آخره.

فليس البعث عندهم بمعنى تبدل الأرض بغير الأرض، وأن الله عز وجل يميت جميع الناس ثم يحييهم مرة أخرى، ويندر أن يوجد هذا التصور عندهم، حتى عند أصحاب الديانات الكتابية، فبعضهم يرى البعث تناسخاً، وبعضهم يرى البعث حلقات، وهو أيضاً نوع من التناسخ، وبعضهم يرى أن البعث هو الحلقة الأخيرة من هذه الحياة.

فالإيمان بالبعث حتى عند الأمم الكتابية لا يخلو من هذه التصورات الفاسدة، فلا يوجد من يؤمن بالبعث على نحو صحيح سليم إلا المسلمون.

وإن وجد من يؤمن به كذلك فعددهم قليل، وليس هو مذهباً سائداً عند غير المسلمين، ولا حتى عند أهل الكتاب.

ولا شك أن العقول السليمة تدرك ضرورة الإيمان بالبعث، فبعض العقلاء حتى وإن لم يكونوا مسلمين عندهم هذا الشعور، وهو شعور فطري، غريزي؛ لأننا إذا قلنا: إن وجود البشر في هذه الدنيا جاء عن إبداع وعن حكمة ولا شك في ذلك، فنحن نرى الناس يموتون والأمم تنقضي وتفنى، وبينها تفاوت في الأقدار وفي الأعمار وفي الرزق وفي الحظوظ، وهناك الظالم والمظلوم، وفي هذه الدنيا من استكمل نصيبه وحظوظه، وفيها من لم يستكمل، فيموتون على هذا الشكل بتفاوتهم، مما يوجب عند العاقل ضرورة أن يكون هناك حلقة أخرى تكون فيها المساواة، ويكون فيها العدل المطلق، وإن كنا نعرف أن الله عز وجل عدل بين الخلق في الدنيا والآخرة، لكن هناك أمور غيبية لا ندركها.

فالظاهر من كثير الناس الذين ليس عندهم إدراك لحكمة الله عز وجل أو قناعة بأحكام الله على التفصيل أنهم يشعرون بالضرورة وبالغريزة من أنه لا بد من استكمال حلقات الدنيا، أو حظوظ البشر والأمم على نحو ما، فيوجد عندهم الشعور بضرورة البعث، فهذا شعور عام هو أشبه بالدلالة العقلية المجملة، لكن مع ذلك هذه الدلالة لا تعطي يقيناً بالبعث، ولا تعطي أيضاً خبراً عن تفاصيل البعث، وما بعد البعث؛ لأن أحوال القيامة والبعث وما يحدث فيها من أهوال، ثم بعد ذلك انقسام الناس إلى شقي وسعيد، وإلى منعم ومعذب، هذا أمر لا يدرك على التفصيل، حتى وإن أقرت بضرورته بعض العقول السليمة، لكن على التفصيل أنى للإنسان أن يدرك هذه الأمور الغيبية على التفصيل؟! فكان لا بد من الإيمان بالغيب والإيمان بالبعث على نحو ما جاء في الكتاب والسنة، ولا يمكن لأحد أن يصل إلى الإيمان الحقيقي بالبعث على نحو صحيح ويرضي الله عز وجل، ويصدق كلام الله وكلام رسوله إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة، والذين يؤمنون بالبعث من غير المسلمين هم في الحقيقة قد أخطئوا الجادة وأخطئوا الصواب؛ لأنهم يؤمنون بالغيب إجمالاً دون الإيمان بتفاصيل ما ورد في الكتاب والسنة، فهم لم يؤمنوا على الحقيقة؛ لأن تصورهم عن الغيب تصور وهمي خيالي، مجرد أوهام غريزية، فلا يصح أن نقول لمن رأى ضرورة وجود حياة أخرى: إنه مؤمن بالبعث؛ لأن كل ما في الأمر أنه أدرك ضرورة البعث، لكن لم يؤمن بتفاصيل الحياة الأخرى التي وردت في الكتاب والسنة، فعلى هذا لا يكون إيمانه إيماناً، إنما مؤدى إيمانه هو الإنكار وإن وجد عنده التصور الإجمالي للبعث.

اتفاق الأنبياء على الإيمان بالآخرة وموقف الفلاسفة من الأنبياء والبعث

قال رحمه الله تعالى: [ وذلك أن الأنبياء عليهم السلام كلهم متفقون على الإيمان بالآخرة، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم، وهو فطري، كلهم يقر بالرب إلا من عاند كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخر، فإن منكريه كثيرون، ومحمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الأنبياء، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين، وكان هو الحاشر المقفي؛ بيّن تفصيل الآخرة بياناً لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء؛ ولهذا ظن طائفة من المتفلسفة ونحوهم أنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلوا هذه حجة لهم في أنه من باب التخييل والخطاب الجمهوري ].

يقصد بالخطاب الجمهوري أن نظرة الفلاسفة للأنبياء نظرة خاصة؛ لأن الفلاسفة ليسوا من أتباع الأنبياء، فقد اتفق المحققون من أئمة السلف وغيرهم أن الفلسفة لم تأت إلا بمخالفة ما جاء به الأنبياء، الفلسفة بمعناها الاصطلاحي عند السلف، لا أقصد الفلسفة في العصر الحديث؛ لأن الناس توسعوا في مفهوم الفلسفة في هذا العصر، لكن الفلاسفة بمفهوم العلماء في القرون الأولى إلى وقت قريب هم من لم يؤمن بالنبوات، أو إيمانهم بالنبوات منحرف، فلا يمكن أن يكون فيلسوفاً ومؤمناً بالنبيين على وجه الحقيقة، قد يكون هناك إيمان إجمالي؛ فلذلك مبدأ الفلاسفة يقوم على اعتبار أن الأنبياء ما هم إلا أناس عباقرة، عندهم قدرات ومواهب عالية جبارة، استطاعوا أن يصنعوا للناس أشياء وتعاليم يقودون بها الأمم، وبمواهبهم العالية استطاعوا أن يجذبوا إليهم العوام، فخاطبوا الجمهور بخطاب عقلي نابع عن عبقرية ومواهب عالية.

وبعض الفلاسفة قد يفسر بعض أمور النبوة بشيء من التفسيرات الغيبية الوهمية لا الصحيحة، فيقول: نظراً للعقلية الجبارة والمواهب الجبارة عند النبي فقد تتصل به قوة خارجية وأرواح خارجية فتفيض عليه من فتوحاتها، فيقول بأقوال هي أشبه بالهستيريا.

هذه هي مذاهب الفلاسفة إلى يومنا هذا، وكل من أعرفهم من الفلاسفة الإسلاميين هذا كلامهم في النبوات، فالفلاسفة يقدرون الأنبياء ويحترمونهم، لكن على أنهم أناس عباقرة، لا أن الله أوحى إليهم، وإن فسروا الوحي فسروه بنحو خرافي.

إذاً معنى قولهم: إن خطاب الأنبياء خطاب جمهوري، أي: أن الأنبياء بعبقريتهم ومواهبهم العالية خاطبوا الجمهور بخطاب عقلي، فصار لهم أتباع، وصارت لهم ديانات صنعوها من عند أنفسهم، ولذلك كان أمثال العقاد يقول: ما النبوة قبل إبراهيم إلا نمط من الكهانة، وأن الأنبياء قبل إبراهيم ما هم إلا مجموعة من الكهان الذين يحترفون حرفة الكهانة أمام الأمم.

وكان العقاد يفسر النبوة تفسيراً خرافياً على نحو ما يقول الغرب.

تبيين القرآن لمعاد النفس والبدن ومعرفة ذلك عند الأنبياء من آدم إلى محمد عليهم السلام

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والقرآن بيّن معاد النفس عند الموت، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع، وهؤلاء ينكرون القيامة الكبرى، وينكرون معاد الأبدان، ويقول من يقول منهم: إنه لم يخبر به إلا محمد صلى الله عليه وسلم على طريق التخييل، وهذا كذب، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء من آدم إلى نوح إلى إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام.

وقد أخبر الله بها من حين أن أهبط آدم، فقال تعالى: قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ [الأعراف:24-25]، ولما قال إبليس اللعين: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [الحجر:36-38].

وأما نوح عليه السلام فقال: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا [نوح:17-18].

وقال إبراهيم عليه السلام: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82] إلى آخر القصة.

وقال: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:41].

وقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260].

وأما موسى عليه السلام فقال الله تعالى لما ناجاه: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:15-16]

بل مؤمن آل فرعون كان يعلم المعاد، وإنما آمن بموسى قال تعالى حكاية عنه: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر:32-33].. إلى قوله تعالى: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39].. إلى قوله: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46].

وقال موسى: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:156]، وقد أخبر الله في قصة البقرة: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73].

وقد أخبر الله أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين في آيات من القرآن، وأخبر عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71]، وهذا اعتراف من أصناف الكفار الداخلين جهنم أن الرسل أنذرتهم لقاء يومهم هذا، فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم من عقوبات المذنبين في الدنيا والآخرة، فعامة سور القرآن التي فيها ذكر الوعد والوعيد يذكر فيها الدنيا والآخرة.

وأمر نبيه أن يقسم به على المعاد، فقال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ:3].

وقال تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس:53].

وقال تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7].

وأخبر عن اقترابها فقال: اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1].

وقال: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء:1].

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ [المعارج:1-2]، إلى أن قال: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً [المعارج:6-7].

وذم المكذبين بالمعاد فقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [يونس:45].

أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [الشورى:18].

بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمِونَ [النمل:66].

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً [النحل:38]، إلى أن قال: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ [النحل:39].

وقال تعالى: إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [غافر:59].

وقال تعالى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء:97-99].

وقال تعالى: وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:49-52].

فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال سؤال على التفصيل، فإنهم قالوا: أولاً: أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الإسراء:49]، فقيل لهم في جواب هذا السؤال: إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب، فهلا كنتم خلقاً لا يفنيه الموت كالحجارة والحديد، وما هو أكبر في صدوركم من ذلك؟ فإن قلتم: كنا خلقاً على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء، فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم، وبين إعادتكم خلقاً جديداً؟ ].

قال رحمه الله تعالى: [ وذلك أن الأنبياء عليهم السلام كلهم متفقون على الإيمان بالآخرة، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم، وهو فطري، كلهم يقر بالرب إلا من عاند كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخر، فإن منكريه كثيرون، ومحمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الأنبياء، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين، وكان هو الحاشر المقفي؛ بيّن تفصيل الآخرة بياناً لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء؛ ولهذا ظن طائفة من المتفلسفة ونحوهم أنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلوا هذه حجة لهم في أنه من باب التخييل والخطاب الجمهوري ].

يقصد بالخطاب الجمهوري أن نظرة الفلاسفة للأنبياء نظرة خاصة؛ لأن الفلاسفة ليسوا من أتباع الأنبياء، فقد اتفق المحققون من أئمة السلف وغيرهم أن الفلسفة لم تأت إلا بمخالفة ما جاء به الأنبياء، الفلسفة بمعناها الاصطلاحي عند السلف، لا أقصد الفلسفة في العصر الحديث؛ لأن الناس توسعوا في مفهوم الفلسفة في هذا العصر، لكن الفلاسفة بمفهوم العلماء في القرون الأولى إلى وقت قريب هم من لم يؤمن بالنبوات، أو إيمانهم بالنبوات منحرف، فلا يمكن أن يكون فيلسوفاً ومؤمناً بالنبيين على وجه الحقيقة، قد يكون هناك إيمان إجمالي؛ فلذلك مبدأ الفلاسفة يقوم على اعتبار أن الأنبياء ما هم إلا أناس عباقرة، عندهم قدرات ومواهب عالية جبارة، استطاعوا أن يصنعوا للناس أشياء وتعاليم يقودون بها الأمم، وبمواهبهم العالية استطاعوا أن يجذبوا إليهم العوام، فخاطبوا الجمهور بخطاب عقلي نابع عن عبقرية ومواهب عالية.

وبعض الفلاسفة قد يفسر بعض أمور النبوة بشيء من التفسيرات الغيبية الوهمية لا الصحيحة، فيقول: نظراً للعقلية الجبارة والمواهب الجبارة عند النبي فقد تتصل به قوة خارجية وأرواح خارجية فتفيض عليه من فتوحاتها، فيقول بأقوال هي أشبه بالهستيريا.

هذه هي مذاهب الفلاسفة إلى يومنا هذا، وكل من أعرفهم من الفلاسفة الإسلاميين هذا كلامهم في النبوات، فالفلاسفة يقدرون الأنبياء ويحترمونهم، لكن على أنهم أناس عباقرة، لا أن الله أوحى إليهم، وإن فسروا الوحي فسروه بنحو خرافي.

إذاً معنى قولهم: إن خطاب الأنبياء خطاب جمهوري، أي: أن الأنبياء بعبقريتهم ومواهبهم العالية خاطبوا الجمهور بخطاب عقلي، فصار لهم أتباع، وصارت لهم ديانات صنعوها من عند أنفسهم، ولذلك كان أمثال العقاد يقول: ما النبوة قبل إبراهيم إلا نمط من الكهانة، وأن الأنبياء قبل إبراهيم ما هم إلا مجموعة من الكهان الذين يحترفون حرفة الكهانة أمام الأمم.

وكان العقاد يفسر النبوة تفسيراً خرافياً على نحو ما يقول الغرب.