شرح العقيدة الطحاوية [76]


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله تعالى: [ قوله: (والإيمان: هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى) ].

هنا قرر المؤلف أركان الإيمان وأصول الإيمان، وأحب أن أنبه على أمر مهم في جميع مسائل الإيمان القادمة، وينبني عليه فهم الكثير من القضايا المتعلقة بالإيمان، وهو أن الأمور العلمية المتعلقة بالإيمان على نوعين:

النوع الأول: ما يسمى بأصول الإيمان، وهو أركان الإيمان الستة التي عدها المؤلف هنا.

والثاني: ما اصطلح عليه أهل العلم في نهاية القرن الأول وما بعده، وهو ما يسمى بمسائل الإيمان، فمسائل الإيمان هي أيضاً من أصول الدين، وبعض الناس قد يظن أن مسائل الإيمان دون الأركان في الأهمية، لكن الأمر على غير ذلك، فإن أصول الإيمان أو أركان الإيمان لا تختلف عنها مسائل الإيمان في أهميتها في الدين، وإنما فرق بينهما تفريقاً علمياً؛ لأن المسائل تفرعت عن القواعد العامة، لكنها مما أجمع عليه السلف ومما اعتبر من أصول الدين بعدما تكلمت فيه الفرق.

فالنوع الأول يعبر عنه بأصول الإيمان، وأركان الإيمان، وهي الأركان الستة.

والنوع الثاني -وهو مسائل الإيمان- يشمل أموراً:

أولها: تعريف الإيمان.

وثانيها: دخول الأعمال في مسمى الإيمان.

وثالثها: زيادة الإيمان ونقصانه.

ورابعها: الاستثناء في الإيمان.

وبعض أهل العلم زاد فيها مسألة خامسة: وهي الأسماء والأحكام، فبعضهم يلحقها بمسائل الإيمان؛ لأنها ثمرة لها.

والأسماء والأحكام في العقيدة المقصود بها: الأسماء التي نطلقها على العباد المكلفين، ثم الأحكام التي تترتب على هذه الأسماء، مثل: مسلم، مؤمن، فاسق، فاجر، كافر، مشرك .. إلى آخر ذلك من العبارات، فهذه تسمى أسماء.

فالأسماء: هي الألفاظ التي تطلق على العباد المكلفين بحسب أحوالهم، ثم يترتب على هذه الأسماء أمر آخر يسمى: الأحكام.

فالكافر له أحكام تفصيلية، والمسلم له أحكام، والمؤمن له أحكام تفصيلية، والفاسق الفاجر مرتكب الكبيرة له أحكام تفصيلية، فالأحكام فرع عن الأسماء، أو نتيجة للأسماء، والأسماء والأحكام نتيجة عن مسائل الإيمان.

أهمية مسائل الإيمان

مسائل الإيمان لا تقل أهمية عن الأركان؛ لأنها فرع عنها، وإن كانت الأركان منصوصاً عليها بالكتاب والسنة، وعليها إجماع سلف الأمة، لكن المسائل أخرجت بمباحث مستقلة؛ لأنها تكلمت فيها الفرق، وأول ما تكلم السلف عن مسائل الإيمان على وجه فيه تفصيل، فالناس أول القرن الأول في عهد الصحابة كانوا يأخذون الدين بالجملة دون كلام في المسائل البدهية، إلا ما ورد في الكتاب والسنة، ومنها مسائل الإيمان، لكن لما جاءت المرجئة والقدرية خاضوا في هذه الأمور، وخاض قبلهم الخوارج، فالكلام في هذه المسائل ما ظهر إلا حين ظهرت المرجئة، وهي أشبه بردة الفعل ضد الخوارج.

فالمرجئة هم الذين أثاروا قضايا مسائل الإيمان، فقالوا بأن الإيمان هو التصديق، أو التصديق والإقرار، ثم قالوا بأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، بل هي شرط الإيمان وثمرته، ثم نتج عن هذا عدم القول بزيادة الإيمان ونقصانه؛ لأن من قال بأن الإيمان هو التصديق أو القول، فالتصديق والقول لا يدخلهما زيادة ونقص، وتبعاً لذلك قالوا: لا يجوز الاستثناء في الإيمان، فلما تحدث المرجئة عن هذه المسائل تحدث السلف في تقريرها شرعاً على ما ورد في الكتاب والسنة، وأبرزت وقررت على أصولها العلمية، فسميت بهذه الأسماء تحت هذه القضايا الرئيسة، وهي تابعة لأصول الإيمان، وهي أصول أيضاً، أصول من أصول الدين؛ لأن السلف أجمعوا عليها وبدعوا من خالفها، فلا يظن ظان أن مسائل الإيمان أدنى درجة، أو أنها من المسائل الخلافية، بل هي من لوازم أركان الإيمان وأصوله.

مسائل الإيمان لا تقل أهمية عن الأركان؛ لأنها فرع عنها، وإن كانت الأركان منصوصاً عليها بالكتاب والسنة، وعليها إجماع سلف الأمة، لكن المسائل أخرجت بمباحث مستقلة؛ لأنها تكلمت فيها الفرق، وأول ما تكلم السلف عن مسائل الإيمان على وجه فيه تفصيل، فالناس أول القرن الأول في عهد الصحابة كانوا يأخذون الدين بالجملة دون كلام في المسائل البدهية، إلا ما ورد في الكتاب والسنة، ومنها مسائل الإيمان، لكن لما جاءت المرجئة والقدرية خاضوا في هذه الأمور، وخاض قبلهم الخوارج، فالكلام في هذه المسائل ما ظهر إلا حين ظهرت المرجئة، وهي أشبه بردة الفعل ضد الخوارج.

فالمرجئة هم الذين أثاروا قضايا مسائل الإيمان، فقالوا بأن الإيمان هو التصديق، أو التصديق والإقرار، ثم قالوا بأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، بل هي شرط الإيمان وثمرته، ثم نتج عن هذا عدم القول بزيادة الإيمان ونقصانه؛ لأن من قال بأن الإيمان هو التصديق أو القول، فالتصديق والقول لا يدخلهما زيادة ونقص، وتبعاً لذلك قالوا: لا يجوز الاستثناء في الإيمان، فلما تحدث المرجئة عن هذه المسائل تحدث السلف في تقريرها شرعاً على ما ورد في الكتاب والسنة، وأبرزت وقررت على أصولها العلمية، فسميت بهذه الأسماء تحت هذه القضايا الرئيسة، وهي تابعة لأصول الإيمان، وهي أصول أيضاً، أصول من أصول الدين؛ لأن السلف أجمعوا عليها وبدعوا من خالفها، فلا يظن ظان أن مسائل الإيمان أدنى درجة، أو أنها من المسائل الخلافية، بل هي من لوازم أركان الإيمان وأصوله.

قال رحمه الله تعالى: [ تقدم أن هذه الخصال هي أصول الدين، وبها أجاب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور المتفق على صحته؛ حيث جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم على صورة رجل أعرابي وسأله عن الإسلام، فقال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً وسأله عن الإيمان، فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. وسأله عن الإحسان، فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر تارة بسورتي الإخلاص: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وتارة بآيتي الإيمان والإسلام التي في سورة البقرة: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا [البقرة:136].. الآية، والتي في آل عمران: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64].. الآية، وفسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس المتفق على صحته، حيث قال لهم: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم) ].

هذا الحديث تكلم عنه الشارح، لكن في كلامه شيء من الغموض في مسألة الجمع بين الحديثين: حديث تفسير الإيمان بالأركان الستة، الذي هو حديث جبريل، وحديث تفسير الإيمان بأركان الإسلام، الذي هو حديث وفد عبد القيس، فهذان الحديثان بينهما فرق في تفسير الإيمان، ويجمع بينهما ما ذكره أئمة السلف من أنه في حديث جبريل فسر الإيمان مع الإسلام، أي: جاء ذكر الإيمان والإسلام في حديث واحد؛ لأن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام أولاً، ثم سأله عن الإيمان ثانياً، ثم سأله عن الإحسان، والإسلام والإيمان والإحسان أمور متداخلة، فأخصها الإحسان ثم الإيمان ثم الإسلام، وكأنها دوائر ثلاث: الدائرة الصغرى الخاصة الإحسان، والدائرة الوسطى الإيمان، والدائرة الكبرى الإسلام، هذا عندما ذكرت هذه الألفاظ مجتمعة، فعندما ذكرت هذه الألفاظ مجتمعة فسر كل لفظ بالمعنى الذي يخصه.

في الحديث الثاني ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام، إنما ذكر الإيمان، فقال: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟) ففسر الإيمان مفرداً بما يتضمن الإسلام والإحسان، كما هي القاعدة عند أهل العلم؛ أنه إذا ذكر مفرداً يتضمن الإسلام والإحسان، وإن كان الإحسان قد يخرج، لكن هذا أمر لا نجزم به، فالتضمن هو الأصل، بمعنى أنه قد يكون الإنسان مؤمناً مسلماً ولكن ليس بمحسن، فهذا استثناء نحترز به احترازاً عند التفصيل، وإلا فالإيمان الأصل فيه أنه يتضمن الإحسان، ومع ذلك لا يلزم، والعكس هو الصحيح، فالإحسان لابد أن يتضمن الإيمان والإسلام، والإيمان لابد أن يتضمن الإسلام، لكن الإسلام لا يلزم أن يتضمن الإحسان ولا يتضمن الإيمان، بمعنى: قد يكون أحد ظاهره الإسلام وهو منافق، والله أعلم بحاله.

أعود فأقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بأركان الإسلام حينما ذكر الإيمان مفرداً، فلابد أن يتضمن الإسلام، فعلى هذا تطرد القاعدة عند التفصيل والإجمال، فعندما نجمل فتأتي الألفاظ وحدها يتضمن لفظ الإسلام الأمور الثلاثة، وكذلك لفظ الإيمان وكذلك لفظ الإحسان، وعندما يأتي كل لفظ مع الآخر فلابد أن يفسر بأخص معانيه، وكل معنى شرعي له خصوص وعموم، فالصلاة قد تطلق على نوعين من الصلاة: الصلاة الكاملة المؤداة على وجه صحيح، ومجرد الصلاة التي تبرأ بها الذمة فقط، فكلها تسمى صلاة، وهذه مقبولة وهذه مردودة، لكن كلها يسقط بها الفرض، فعلى هذا فإن تفسير الإيمان بأركان الإسلام جاء هنا لأن الإيمان ذكر وحده.

قال رحمه الله تعالى: [ ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، لما قد أخبر في غير موضع أنه لابد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان، وقد تقدم الكلام على هذا ].

[ والكتاب والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق ].

ينبغي أن نضيف كلمة من أجل أن يستقيم الأمر على تصور أهل السنة، فنقول: (والكتاب والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حقيقة الإيمان وحكمه إلا بالعمل الصالح مع التصديق)؛ ذلك أن كلمة (حكم الإيمان) كلمة محتملة، فقد يقصد بحكم الإيمان ثمرته أو الأحكام المترتبة عليه، وقد يقصد بحكم الإيمان حقيقته، فهي عبارة موهمة، فهذه العبارة قد يقول بها المرجئ، وتستقيم على مذهبه، وقد يقول بها السني، لكن فيها نوع من الالتباس.

قال رحمه الله تعالى: [ وهذا أكثر من معنى الصلاة والزكاة، فإن تلك إنما فسرتها السنة، والإيمان بين معناه الكتاب والسنة؛ فمن الكتاب قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2].. الآية، وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15].. الآية، وقوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، نفي الإيمان حتى توجد هذه الغاية دل على أن هذه الغاية فرض على الناس، فمن تركها كان من أهل الوعيد، لم يكن قد أتى بالإيمان الواجب الذي وعد أهله بدخول الجنة بلا عذاب، ولا يقال: إن بين تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبريل وتفسيره إياه في حديث وفد عبد القيس معارضة؛ لأنه فسر الإيمان في حديث جبريل بعد تفسير الإسلام، فكان المعنى أنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، مع الأعمال التي ذكرها في تفسير الإسلام ].

هنا أشار إلى ما ذكرته من أن لفظ الإيمان إذا جاء مفرداً شمل الإسلام، كما في حديث وفد عبد القيس، وإذا جاء مقترناً بالإسلام فسر بالمعنى الأخص، وكما قلت: يمثل ذلك الصلاة، فأنت قد ترى إنساناً صلى الظهر أو العصر لم تعجبك صلاته، بمعنى: أنه ما خشع ولا قام بما ينبغي في الصلاة من الأمور المكملة، فيمكن أن تقول له: ما صليت، تعني: أنه ما أدى الصلاة على وجهها، فالصلاة الخاصة المطلوبة ما صلاها، ولو أنه أخل بالصلاة إخلالاً كاملاً قلت: ما صليت، يعني: ما أديت الصلاة أصلاً، وما قبلت صلاتك.

فكذلك الإيمان والإسلام، ولذلك يتميز مذهب أهل السنة والجماعة بهذه الشمولية في تفسير الألفاظ، واعتبار معاني الألفاظ ورد بعضها إلى بعض، سواء في مثل هذه الأمور أو في غيرها، هذا مما يتميز به منهج السلف عن مناهج أهل الأهواء والفرق، ومنهم المرجئة، وهو الجمع بين ألفاظ الشرع وإعطاء كل لفظ وكل معنى التفصيلات التي تتعلق به.

قال رحمه الله تعالى: [ كما أن الإحسان متضمن للإيمان الذي قدم تفسيره قبل ذكره، بخلاف حديث وفد عبد القيس؛ لأنه فسره ابتداء، لم يتقدم قبله تفسير الإسلام، ولكن هذا الجواب لا يتأتى على ما ذكره الشيخ رحمه الله من تفسير الإيمان، فحديث وفد عبد القيس مشكل عليه ].

يشير إلى تفسير الشيخ للإيمان على مذهب المرجئة؛ لأن الشيخ فسر الإيمان أكثر من مرة، وفي بعض المرات فسره بتفسير يرده حديث وفد عبد القيس.

وهو قوله: (والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى).

فهذا مما يرد عليه الحديث؛ لأنه لا يكون الإيمان واحداً؛ ولا يكون أهله في أصله سواء؛ لأن هذا ينافيه تفسيره بالأعمال التي ذكرت.

فمجموع كلام الطحاوي السابق في الإيمان يفهم منه: أنه وافق المرجئة، وأنه جعل العمل من لوازم الإيمان وليس من الإيمان نفسه، فالشارح يقول بأن حديث وفد عبد القيس لا يتوافق مع تفسير الشيخ للإيمان عند تفصيله، ويعارضه؛ لأن الحديث صريح في تفسير الإيمان بأركان الإسلام.

قال رحمه الله تعالى: [ ومما يسأل عنه: أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من الخصال الخمس التي أجاب بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المذكور، فلم قال: إن الإسلام هذه الخصال الخمس؟ وقد أجاب بعض الناس بأن هذه أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده.

والتحقيق: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقاً، الذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان، فيجب على كل من كان قادراً عليه، ليعبد الله بها مخلصاً له الدين، وهذه هي الخمس، وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب مصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس، بل إما أن يكون فرضاً على الكفاية: كالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما يتبع ذلك من إمارة وحكم وفتيا وإقراء وتحديث.. وغير ذلك، وإما أن يجب بسبب حق الآدميين، فيختص به من وجب له وعليه، وقد يسقط بإسقاطه من قضاء الديون ورد الأمانات والمغصوب والإنصاف من المظالم من الدماء والأموال والأعراض، وحقوق الزوجة والأولاد، وصلة الأرحام ونحو ذلك.

فإن الواجب من ذلك على زيد غير الواجب على عمرو، بخلاف صوم رمضان وحج البيت والصلوات الخمس والزكاة؛ فإن الزكاة وإن كانت حقاً مالياً فإنها واجبة لله، والأصناف الثمانية مصارفها، ولهذا وجبت فيها النية، ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه، ولم تطلب من الكفار، وحقوق العباد لا يشترط لها النية، ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته، ويطالب بها الكفار.

وما يجب حقاً لله تعالى -كالكفارات- هو بسبب من العبد، وفيها معنى العقوبة، ولهذا كان التكليف شرطاً في الزكاة؛ فلا تجب على الصغير والمجنون عند أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى على ما عرف في موضعه ].

قال رحمه الله تعالى: [ وقوله: (والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى):

تقدم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام: (وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وقال تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51]، وقال تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:78-79].. الآية ].

الجمع بين قوله تعالى: (كل من عند الله) وقوله: (فمن نفسك)

قال رحمه الله تعالى: [ فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وبين قوله: فَمِنْ نَفْسِكَ ؟

قيل: قوله كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ : الخصب والجدب والنصر والهزيمة؛ كلها من عند الله، وقوله: فَمِنْ نَفْسِكَ : أي: ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك ].

خلاصة هذا الجمع أن قوله عز وجل: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني: من حيث العلم والتقدير، كل شيء يحدث -ومنه أفعال العباد خيرها وشرها- بعلم الله وتقديره ومشيئته، وقوله: فَمِنْ نَفْسِكَ ونحوه مما جاء في الآيات يعني: من حيث التسبب، فالله عز وجل جعل لأفعال العباد أسباباً، وأفعال العباد التي فيها الشر والضرر عليهم تسببوا في وقوعها على أنفسهم، وكون الله عز وجل قدرها لا يعني ذلك ألا يكون العبد متسبباً؛ لأن الله عز وجل أعطى العباد المكلفين الحرية والقدرة والاختيار، وبين لهم طريق الخير وأقدرهم عليه وأمرهم به، وبين لهم طريق الشر وأقدرهم عليه ونهاهم عنه، فإذا فعلوا الشر فإن فعلهم له سبب في العقوبة، والفعل والعقوبة كلاهما مقدر من الله عز وجل؛ لأنه كل من عند الله.

إذاً: كل من عند الله من حيث العلم والتقدير والمشيئة العامة والإرادة العامة، ويقال للإنسان إذا أصابه ضر بسبب أعماله وسيئاته: فمن نفسك، أي: من حيث التسبب، أنت سببه، فهذا عقوبة لك، وهذا معلوم عند التأمل، بل هو واضح، وهو الذي تقتضيه الفطرة، ومن حاد عن هذا الفهم فلابد أن يختل فهمه ويقع في إشكال.

قال رحمه الله تعالى: [ وقوله: فَمِنْ نَفْسِكَ ، أي: ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك، كما قال: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وأنا كتبتها عليك.

والمراد بالحسنة هنا: النعمة، وبالسيئة: البلية، في أصح الأقوال، وقد قيل: الحسنة الطاعة، والسيئة المعصية، وقيل: الحسنة ما أصابه يوم بدر، والسيئة ما أصابه يوم أحد ].

هذا من تفسير الشيء بجزئه، يعني: كثيراً ما يرد عن السلف تفسير النصوص بأسباب نزولها أو بأحوال خاصة، ولا يعني ذلك أنهم ينكرون عموم اللفظ، بل كانت مداركهم ومفاهيمهم وإدراكهم للغة تغني عن التفصيل، فكان السلف في ذلك الوقت المبكر في عهد الصحابة ومن بعدهم إذا جاء تفسيرهم هكذا -مثل تفسير السيئة بما حصل يوم أحد- فإنهم لا يتطرق إلى أفهامهم أن المقصود حصر معنى الآية على السيئة يوم أحد، إنما الإشارة إلى المثل والسبب، أو تفسير الشيء بجزئه، وهذا كثير جداً في عهد الصحابة والتابعين الأوائل قبل أن يتكلف الناس ويتعمقوا في الكلام ويتوسعوا، وتضعف لغتهم وتضعف مفاهيمهم، ولذلك يظن كثير من الناس أن تفسير الصحابة وتفسير التابعين ليس بشامل؛ لأنه يأتي بمثل هذه الجزئيات، والصحيح أنه أشمل؛ لأنه يأتي بالمثل الذي يدل على القاعدة، ويأتي بالجزء الذي يدل على الكل، ويأتي بالمثال الذي يدل على الأصل، وهذا أشمل في الفهم، لكن لما ضعفت العربية وكثر تكلف الناس، وتعودوا على العنصرة والتعمق وتشقيق الكلام اضطر العلماء إلى التنبيه على عمومات الألفاظ في النصوص.

قال رحمه الله تعالى: [ والقول الأول شامل لمعنى القول الثالث، والمعنى الثاني ليس مراداً دون الأول قطعاً، ولكن لا منافاة بين أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه، مع أن الجميع مقدر، فإن المعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى، فتكون من سيئات الجزاء، مع أنها من سيئات العمل، والحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، كما دل على ذلك الكتاب والسنة ].

دفع احتجاج القدرية على خلق الإنسان فعله بقوله تعالى: (فمن نفسك)

قال رحمه الله تعالى: [ وليس للقدرية أن يحتجوا بقوله تعالى: فَمِنْ نَفْسِكَ ].

يقصد القدرية الذين قالوا بأن الإنسان خالق أفعاله أو بعض أفعاله، فبعضهم قالوا: إنه خلق أفعاله، وبعضهم قالوا: خلق بعض أفعاله، وبعضهم يقول بأنه هو الموجد والأصل في أفعال الشر، وليس لله فيها خلق! تعالى الله عما يزعمون، المهم أن هؤلاء هم القدرية الأولى، وقدرية المعتزلة كذلك.

قال رحمه الله تعالى: [ وليس للقدرية أن يحتجوا بقوله تعالى: فَمِنْ نَفْسِكَ ، فإنهم يقولون: إن فعل العبد حسنة كان أو سيئة فهو منه لا من الله! والقرآن قد فرق بينهما وهم لا يفرقون، ولأنه قال تعالى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، فجعل الحسنات من عند الله، كما جعل السيئات من عند الله، وهم لا يقولون بذلك في الأعمال، بل في الجزاء.

وقوله بعد هذا: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ ، و مِنْ سَيِّئَةٍ ، مثل قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ ، و وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ .

وفرق سبحانه وتعالى بين الحسنات التي هي النعم، وبين السيئات التي هي المصائب؛ فجعل هذه من الله، وهذه من نفس الإنسان؛ لأن الحسنة مضافة إلى الله؛ إذ هو أحسن بها من كل وجه، فما من وجه من وجوهها إلا وهو يقتضي الإضافة إليه.

وأما السيئة فهو إنما يخلقها لحكمة، وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه؛ فإن الرب لا يفعل سيئة قط، بل فعله كله حسن وخير؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الاستفتاح: (والخير كله بيديك، والشر ليس إليك)، أي: فإنك لا تخلق شراً محضاً، بل كل ما تخلقه ففيه حكمة هو باعتبارها خير، ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، فهذا شر جزئي إضافي، فأما شر كلي أو شر مطلق فالرب سبحانه وتعالى منزه عنه، وهذا هو الشر الذي ليس إليه.

ولهذا لا يضاف الشر إليه مفرداً قط، بل إما أن يدخل في عموم المخلوقات، كقوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وإما أن يضاف إلى السبب، كقوله: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2]، وإما أن يحذف فاعله، كقول الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10].

وليس إذا خلق ما يتأذى به بعض الحيوان لا يكون فيه حكمة، بل لله من الرحمة والحكمة ما لا يقدر قدره إلا الله تعالى، وليس إذا وقع في المخلوقات ما هو شر جزئي بالإضافة يكون شراً كلياً عاماً، بل الأمور العامة الكلية لا تكون إلا خيراً ومصلحة للعباد، كالمطر العام، وكإرسال رسول عام ].

قال رحمه الله تعالى: [ فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وبين قوله: فَمِنْ نَفْسِكَ ؟

قيل: قوله كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ : الخصب والجدب والنصر والهزيمة؛ كلها من عند الله، وقوله: فَمِنْ نَفْسِكَ : أي: ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك ].

خلاصة هذا الجمع أن قوله عز وجل: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني: من حيث العلم والتقدير، كل شيء يحدث -ومنه أفعال العباد خيرها وشرها- بعلم الله وتقديره ومشيئته، وقوله: فَمِنْ نَفْسِكَ ونحوه مما جاء في الآيات يعني: من حيث التسبب، فالله عز وجل جعل لأفعال العباد أسباباً، وأفعال العباد التي فيها الشر والضرر عليهم تسببوا في وقوعها على أنفسهم، وكون الله عز وجل قدرها لا يعني ذلك ألا يكون العبد متسبباً؛ لأن الله عز وجل أعطى العباد المكلفين الحرية والقدرة والاختيار، وبين لهم طريق الخير وأقدرهم عليه وأمرهم به، وبين لهم طريق الشر وأقدرهم عليه ونهاهم عنه، فإذا فعلوا الشر فإن فعلهم له سبب في العقوبة، والفعل والعقوبة كلاهما مقدر من الله عز وجل؛ لأنه كل من عند الله.

إذاً: كل من عند الله من حيث العلم والتقدير والمشيئة العامة والإرادة العامة، ويقال للإنسان إذا أصابه ضر بسبب أعماله وسيئاته: فمن نفسك، أي: من حيث التسبب، أنت سببه، فهذا عقوبة لك، وهذا معلوم عند التأمل، بل هو واضح، وهو الذي تقتضيه الفطرة، ومن حاد عن هذا الفهم فلابد أن يختل فهمه ويقع في إشكال.

قال رحمه الله تعالى: [ وقوله: فَمِنْ نَفْسِكَ ، أي: ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك، كما قال: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وأنا كتبتها عليك.

والمراد بالحسنة هنا: النعمة، وبالسيئة: البلية، في أصح الأقوال، وقد قيل: الحسنة الطاعة، والسيئة المعصية، وقيل: الحسنة ما أصابه يوم بدر، والسيئة ما أصابه يوم أحد ].

هذا من تفسير الشيء بجزئه، يعني: كثيراً ما يرد عن السلف تفسير النصوص بأسباب نزولها أو بأحوال خاصة، ولا يعني ذلك أنهم ينكرون عموم اللفظ، بل كانت مداركهم ومفاهيمهم وإدراكهم للغة تغني عن التفصيل، فكان السلف في ذلك الوقت المبكر في عهد الصحابة ومن بعدهم إذا جاء تفسيرهم هكذا -مثل تفسير السيئة بما حصل يوم أحد- فإنهم لا يتطرق إلى أفهامهم أن المقصود حصر معنى الآية على السيئة يوم أحد، إنما الإشارة إلى المثل والسبب، أو تفسير الشيء بجزئه، وهذا كثير جداً في عهد الصحابة والتابعين الأوائل قبل أن يتكلف الناس ويتعمقوا في الكلام ويتوسعوا، وتضعف لغتهم وتضعف مفاهيمهم، ولذلك يظن كثير من الناس أن تفسير الصحابة وتفسير التابعين ليس بشامل؛ لأنه يأتي بمثل هذه الجزئيات، والصحيح أنه أشمل؛ لأنه يأتي بالمثل الذي يدل على القاعدة، ويأتي بالجزء الذي يدل على الكل، ويأتي بالمثال الذي يدل على الأصل، وهذا أشمل في الفهم، لكن لما ضعفت العربية وكثر تكلف الناس، وتعودوا على العنصرة والتعمق وتشقيق الكلام اضطر العلماء إلى التنبيه على عمومات الألفاظ في النصوص.

قال رحمه الله تعالى: [ والقول الأول شامل لمعنى القول الثالث، والمعنى الثاني ليس مراداً دون الأول قطعاً، ولكن لا منافاة بين أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه، مع أن الجميع مقدر، فإن المعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى، فتكون من سيئات الجزاء، مع أنها من سيئات العمل، والحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، كما دل على ذلك الكتاب والسنة ].

قال رحمه الله تعالى: [ وليس للقدرية أن يحتجوا بقوله تعالى: فَمِنْ نَفْسِكَ ].

يقصد القدرية الذين قالوا بأن الإنسان خالق أفعاله أو بعض أفعاله، فبعضهم قالوا: إنه خلق أفعاله، وبعضهم قالوا: خلق بعض أفعاله، وبعضهم يقول بأنه هو الموجد والأصل في أفعال الشر، وليس لله فيها خلق! تعالى الله عما يزعمون، المهم أن هؤلاء هم القدرية الأولى، وقدرية المعتزلة كذلك.

قال رحمه الله تعالى: [ وليس للقدرية أن يحتجوا بقوله تعالى: فَمِنْ نَفْسِكَ ، فإنهم يقولون: إن فعل العبد حسنة كان أو سيئة فهو منه لا من الله! والقرآن قد فرق بينهما وهم لا يفرقون، ولأنه قال تعالى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، فجعل الحسنات من عند الله، كما جعل السيئات من عند الله، وهم لا يقولون بذلك في الأعمال، بل في الجزاء.

وقوله بعد هذا: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ ، و مِنْ سَيِّئَةٍ ، مثل قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ ، و وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ .

وفرق سبحانه وتعالى بين الحسنات التي هي النعم، وبين السيئات التي هي المصائب؛ فجعل هذه من الله، وهذه من نفس الإنسان؛ لأن الحسنة مضافة إلى الله؛ إذ هو أحسن بها من كل وجه، فما من وجه من وجوهها إلا وهو يقتضي الإضافة إليه.

وأما السيئة فهو إنما يخلقها لحكمة، وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه؛ فإن الرب لا يفعل سيئة قط، بل فعله كله حسن وخير؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الاستفتاح: (والخير كله بيديك، والشر ليس إليك)، أي: فإنك لا تخلق شراً محضاً، بل كل ما تخلقه ففيه حكمة هو باعتبارها خير، ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، فهذا شر جزئي إضافي، فأما شر كلي أو شر مطلق فالرب سبحانه وتعالى منزه عنه، وهذا هو الشر الذي ليس إليه.

ولهذا لا يضاف الشر إليه مفرداً قط، بل إما أن يدخل في عموم المخلوقات، كقوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وإما أن يضاف إلى السبب، كقوله: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:2]، وإما أن يحذف فاعله، كقول الجن: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10].

وليس إذا خلق ما يتأذى به بعض الحيوان لا يكون فيه حكمة، بل لله من الرحمة والحكمة ما لا يقدر قدره إلا الله تعالى، وليس إذا وقع في المخلوقات ما هو شر جزئي بالإضافة يكون شراً كلياً عاماً، بل الأمور العامة الكلية لا تكون إلا خيراً ومصلحة للعباد، كالمطر العام، وكإرسال رسول عام ].

قال رحمه الله تعالى: [ وهذا مما يقتضي أنه لا يجوز أن يؤيد كذاباً عليه بالمعجزات التي أيد بها الصادقين؛ فإن هذا شر عام للناس يضلهم فيفسد عليهم دينهم ودنياهم وأخراهم.

وليس هذا كالملك الظالم والعدو؛ فإن الملك الظالم لابد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه، وقد قيل: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام، وإذا قدر كثرة ظلمه فذاك خير في الدين، كالمصائب تكون كفارة لذنوبهم، ويثابون على الصبر عليه، ويرجعون فيه إلى الله، ويستغفرونه ويتوبون إليه ].

هذا فيه إشارة إلى الفارق بين فهم أئمة السلف أئمة السنة وفهم أهل الأهواء فيما يتعلق بالصبر على المظالم والجور والأثرة، وما يتعلق بالتعامل مع الولاة، فهو أشار إلى ذلك هنا بهذه المناسبة ليبين أنه فعلاً قد يحدث من الملوك أو من بعض السلاطين شيء من الظلم والعدوان والأثرة، لكن ورد الصبر على ذلك، بمعنى: يجب ألا يؤدي ذلك إلى الخروج، ولا يعني بذلك عدم النصح وعدم إقامة الحجة أو عدم إنكار المنكر بالطرق المشروعة، لا يقصد هذا، وإنما يقصد أن ما يحدث من هذه الأمور -الظلم والأثرة والعدوان من بعض السلاطين- لا يقتضي بالضرورة أن يكون شراً كله، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ظلم الولاة وجورهم وأثرتهم، وقال: (إنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)، ونحو ذلك من الأحاديث الواردة، بل إنه أمر بالصبر حتى مع جلد الظهر وأخذ المال: (وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك) ونحو ذلك من الأحاديث، وأمر بالصبر حتى على من لا يرى الناس أنه مستحق للولاية كالعبد الحبشي ونحو ذلك.

المهم أن الشاهد هنا أن فيما يحدث من مظالم وعدوان قد يكون شراً، لكنه شر لابد من الصبر عليه، وقد يكون وراءه خير، ثم إنه ليس شراً محضاً، نعم لو كان باختيار الناس لوجب أن يختاروا الأفضل وأن يبتعدوا ولا يقعوا فيما يسبب الظلم والعدوان، لكن الكلام فيما يقدر عليهم وما يكتب لهم في مصائرهم؛ وذلك أن الملك لله يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، فهذا الأمر هو الفارق بين فهم السلف وغيرهم، ولذلك قالوا هذه الكلمة: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام، وهذه قاعدة -في الحقيقة- صحيحة يصدقها الشرع والعقل، فلو افترضنا أن تنفلت أمور الناس ليلة واحدة بلا إمام لفسد دينهم ودنياهم، وما استطاع الإنسان أن يؤدي حتى صلاة الجماعة أو غيرها، وكثير من ضرورات الدين -كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجمعة والجماعات وإقامة الحدود والجنائز وغيرها- كلها لا يمكن أن تؤدى بغير ما يحكم دنيا الناس من إمامة ولو من سلطان ظالم، فهذه الحقيقة هي التي يختلف فيها فهم السلف عن فهم غيرهم من الذين لا يصبرون على الجور ويعدون الجور من المنكرات التي يجب إزالتها بلا حدود ولا ضوابط ولا شروط.

قال رحمه الله تعالى: [ وكذلك ما يسلط عليهم من العدو، ولهذا قد يمكن الله كثيراً من الملوك الظالمين مدة، وأما المتنبئون الكذابون فلا يطيل تمكينهم، بل لابد أن يهلكهم؛ لأن فسادهم عام في الدين والدنيا والآخرة ].

هذا ينطبق أيضاً على مثل الأمر بقتال الخوارج، فالخوارج ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم دون غيرهم من أهل الأهواء، مع أن أهل الأهواء من الجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم أشد كفراً من الخوارج، ومع ذلك ما جاء الأمر إلا بقتال الخوارج؛ لأن منهجهم ومسلكهم يفسد الدين والدنيا، فهم لا يستريحون حتى يقتلوا الناس أو يقتلهم الناس، فلذلك جاء الأمر بقتلهم؛ لأن مناهجهم تفسد دين الناس ودنياهم، وكل منهج يكون كذلك يكون أضر على الناس، وهذا هو السبب في حث السلف على الصبر على الظلم والجور؛ لأن الظلم والجور بذنوب العباد، فالعباد لو استقاموا على دين الله عز وجل وحققوا التوحيد، وحققوا أوامر الله عز وجل واجتنبوا نواهيه لا يمكن أن يولى عليهم من لا يصلح لهم، فهذا لا يتأتى أبداً شرعاً ولا عقلاً، فما يأتي الناس شيء من الجور والظلم من الملوك والسلاطين إلا بسبب ذنوبهم، ولا يمكن ولا يتأتى أن يكون هناك مجتمع مثالي مسلم كمجتمع الصحابة فيولى عليه ظالم، لا يمكن هذا، ولذلك لما قال أحد الناس لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: لم اختلف الناس عليك وقد اتفقوا على أبي بكر وعمر ؟ قال: لأن أبا بكر وعمر كانا ولاة على مثلي، وأنا ولي على مثلك.

والظاهر -والله أعلم- أن الذي سأل علي بن أبي طالب من أهل الأهواء، ولا أجزم، لكن الظاهر من السؤال هو هذا.

قال رحمه الله تعالى: [ قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46].