خطب ومحاضرات
شرح العقيدة الطحاوية [63]
الحلقة مفرغة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ قوله: (ونؤمن بالملائكة والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين):
هذه الأمور من أركان الإيمان، قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285] ... الآيات، وقال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177].
فجعل الله سبحانه وتعالى الإيمان هو الإيمان بهذه الجملة، وسمى من آمن بهذه الجملة مؤمنين، كما جعل الكافرين من كفر بهذه الجملة بقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:136].
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته، حديث جبريل وسؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره).
فهذه الأصول التي اتفقت عليها الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه، ولم يؤمن بها حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل ].
قال رحمه الله تعالى: [ وأما أعداؤهم ومن سلك سبيلهم من الفلاسفة وأهل البدع؛ فهم متفاوتون في جحدها وإنكارها، وأعظم الناس لها إنكاراً الفلاسفة المسمون عند من يعظمهم بالحكماء؛ فإن من علم حقيقة قولهم علم أنهم لم يؤمنوا بالله ولا رسله، ولا كتبه ولا ملائكته، ولا باليوم الآخر، فإن مذهبهم أن الله سبحانه وجوده مجرد لا ماهية له، ولا حقيقة، فلا يعلم الجزئيات بأعيانها ].
بيان المراد بالفلاسفة وما يهتمون به من العلوم
ولذلك فإن الفلسفة تتعلق بالغيبيات، أما ما يتعلق بعالم الشهادة فليس فلسفة، إنما يدخل في العلوم التطبيقية، أو العلوم الطبيعية، أو عالم الشهادة، فلذلك تميز الفلاسفة كلهم ومن سلك طريقهم بأنهم يميلون إلى الأفكار الخيالية وإلى الأوهام.
وليس عند الفلاسفة إلا أوهام، مع أنه قد يوجد من يتعلق عقدياً بالفلسفة والفلاسفة، ويظن أن عندهم شيئاً من الحق أو الحقيقة، وهذا لا يمكن؛ لأن ما عند الفلاسفة نوعان:
نوع يتعلق ببعض الأصول والقواعد المنطقية التي تستقرأ من عالم الشهادة، أو التي تعرف بالبداهة في الفطرة، مثل بعض الأمور الرياضية والحسابية وغيرها، فهذه أمور ليس للفلاسفة فيها ميزة، ولم يسموا من أجلها فلاسفة، وإن تعلقت بفلستهم واهتماماتهم.
والأمر الثاني من اهتمامات الفلاسفة هو ما يتعلق بالخوض في الغيبيات، سواء الغيبيات التي جاء ذكر أصنافها في الكتب المنزلة، كاليوم الآخر، والملائكة، والجن، وما يتعلق بالإلهيات، أو غيرها من الغيبيات الأخرى التي افترضها الفلاسفة مجرد افتراض وتوهم، وسموا بعضها بالعقل الفعال، والعلة الأولى، والعلة الثانية، والمدبرات السبعة، وغير ذلك مما يختلفون في الكلام فيه وفي الاصطلاحات.
وقد يعلقون بعض أوهامهم بأمور موجودة، أو بأمور ورد ذكرها في الكتاب والسنة.
فالأمور الموجودة: كالنجوم، فقد يربطون ما يعتقدون من أوهام وفلسفات بالنجوم، أو بنحوها مما في الكون، وقد يربطونها أيضاً بأمور لها وجود في الكتاب والسنة، لكنها غيبية، وقد يتكلم الفلاسفة في الملائكة، لكن على نحو يخالف الإقرار بالملائكة في الكتاب والسنة، وقد يتكلمون أيضاً عن بعض أحوال الروح، أو عن المعاد أحياناً، لكن على خلاف ما ثبت في الكتاب والسنة.
إذاً: فالفلاسفة ليس عندهم علم، ومن ادعى ذلك فعليه البرهان.
وقد يتكلمون عن بعض العلوم الطبيعية، لكن لا علاقة لها بالفلسفة، وربطها بالفلسفة إنما هو من باب التجوز.
كما أن الفلاسفة قد يهتمون ببعض العلوم المتعلقة بالإنسان كالطب، أو علوم النفس أو غيرها، فهذه علوم إنسانية أو طبيعية لا صلة لها بالفلسفة.
وقد سلك سبيل الفلاسفة من يسمون بالعقلانيين، وهم الذين زعموا أن لعقولهم حكماً في الغيبيات، وهذا المنحى ظهر في الإسلام على أيدي فئات، أولها: أهل الكلام، فهم يحكمون عقولهم في أمور الغيب، وتلبيسهم أشد من تلبيس الفلاسفة؛ لأن الفلاسفة الخلص إلحادهم واضح، لكن أهل الكلام -وأعني بهم الجهمية والمعتزلة ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية ومن سلك سبيلهم، كالكرامية والسالمية والرافضة ومتأخرة الخوارج- كلهم ينزعون نزعة الكلام، وقد أخذوا كثيراً من أصولهم الكلامية عن الفلاسفة، لكن تلبيسهم أشد من تلبيس الفلاسفة؛ لأنهم صاغوا أوهام الفلاسفة باصطلاحات إسلامية، وأخضعوا أصول العقيدة -خاصة في الأسماء والصفات، وفيما يتعلق باليوم الآخر- لصياغة فلسفية ملبسة، فلذلك دخلوا على المسلمين باستعمالهم المصطلحات الإسلامية، وعرض مذاهب الفلاسفة بقوالب ومصطلحات شرعية.
أتباع الفلاسفة في العصر الحديث
وهؤلاء على رأسهم أصحاب الاتجاهات العقلانية الذين يفسرون كثيراً من أمور العقيدة -بل كثيراً من أحكام الإسلام وشرائعه- بتفسيرات عقلانية، ويخضعون بزعمهم الإسلام لمقررات ومقدرات العقل.
ومنهم من تسمى بغير هذه الأسماء، أي: بغير العقلانية، كالحداثيين، وإن كان منهم فئات ملحدة خالصة، لكن هناك فئة منهم عقلانية، ومنهم من سموا أنفسهم بأصحاب الاتجاهات العصرانية، ومنهم من لم يسم نفسه لا بهذا ولا بذاك، وإنما قد يدعي السنة، وقد يدعي أنه يسلك مسالك أهل الحق، لكنه أقرب إلى العقلانيين، وقد يكون منهم من يحمل لواءات في الاتجاهات الإسلامية الحديثة.
وربما يكون من المشاهير الذين تتبعهم حركات كبرى، فهؤلاء على مختلف نزعاتهم كلهم يريدون تجريد المعاني الغيبية، والأصول الإسلامية عن حقائقها، وإعطاءها تصورات وتفسيرات عقلية أغلبها وهمية.
تصورات الفلاسفة لوجود الله تعالى
ولذلك فهم ذهبوا إلى تفسير وجود الله عز وجل بأنه وجود مجرد، وفسروه بتفسيرات تؤدي إلى إنكار أسماء الله وصفاته وذاته وأفعاله، بل إلى إنكار الوجود الحقيقي الذي يتصوره العقلاء.
إذاً: فتصورهم لوجود الله تصور تجريدي يجردونه من الوجود الحقيقي، فمنهم من فسره بالوجود العقلي، والعقل ليس له وجود حقيقي عندهم، إنما هو قوة فعالة، وبعضهم فسره بالروح، أي: فسروا وجود الله عز وجل بأنه روح، وبعضهم فسر وجود الله عز وجل بأنه قوة، وبعضهم فسر وجود الله عز وجل بالحلول في الخلق، وبعضهم فسره بالاتحاد بالخلق، وبعضهم فسره بوحدة الوجود، وقال: إن هذا الوجود كله هو الله، تعالى الله عما يزعمون.
وكل هذه المذاهب هي مذاهب الفلاسفة، لكنها ظهرت في المسلمين تحت شعارات وتحت ألوية الفرق بمسميات إسلامية، إما على أيدي الفلاسفة أو الباطنية، أو الصوفية، أو على أيدي من جمعوا هذه المذاهب كلها، كمتأخرة الزنادقة أمثال: ابن عربي والسهروردي ، وابن سبعين ، وابن الفارض وأمثالهم.
ولذلك لما فسروا النبوات وفسروا الوحي فسروه بما يتفق مع هذه المعاني.
فمنهم من قال: إن الوحي والنبوة إنما هي إشراق من نور الوجود بالمثال إلى عالم المادة، ومنهم من قال: إنها فيض، ومنهم من قال: إنها تأتي عن طريق العقل الفعال كما ستأتي الإشارة إليه.
ومن هنا جردوا الله عز وجل من الأسماء والصفات والأفعال، وإن أقروا له بالصفات، أو أقر بعضهم بالأسماء والصفات، فإنما أقروا بمعانٍ لا تنطبق على موصوف ولا مسمى، إنما هي مجرد معاني دل عليها ظواهر المخلوقات، ولا ترجع إلى موصوف موجود.
قال رحمه الله تعالى: [ فإن مذهبهم: أن الله سبحانه وجود مجرد لا ماهية له ولا حقيقة، فلا يعلم الجزئيات بأعيانها، وكل موجود في الخارج فهو جزئي، ولا يفعل عندهم بقدرته ومشيئته، وإنما العالم عندهم لازم له أزلاً وأبداً، وإن سموه مفعولا له فمصانعة ومصالحة للمسلمين في اللفظ، وليس عندهم بمفعول ولا مخلوق ولا مقدور عليه، وينفون عنه سمعه وبصره وسائر صفاته! فهذا إيمانهم بالله ].
تصورات الفلاسفة لكتب الله تعالى ووحيه
المؤلف هنا اختصر الكلام، وكأنه اعتمد على ما هو أصل عند جميع المسلمين، وهو: أن الكتب المنزلة من عند الله عز وجل هي كلامه.
فبنى على ذلك أن كلامهم في كلام الله عز وجل ينطبق على الكلام في الكتب، فإنهم إذا أنكروا الكلام الذي هو صفة الله عز وجل فإنهم سينكرون أن تكون الكتب من عنده، أو يفسرونها بتفسير لا يطابق الواقع، ولا يدل عليه الوحي، بل يفسرونها بأمور سيأتي ذكرها.
قال رحمه الله تعالى: [ فإنهم لا يصفونه بالكلام، فلا تكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال على قلب بشر زاكي النفس طاهر ].
العقل الفعال عندهم مجرد افتراض، فلو أردنا أن نعرف معنى العقل عندهم لوجدناه مجرد وهم وتصور ليس له حقيقة في الواقع.
وهم لا يعتقدون أن لمثل هذه المعاني حقيقة في الواقع، وإن كان بعضهم قد يقول بأن مثل هذه الأمور -كالعقل الفعال- تتلبس بمخلوقات أخرى، وقد ينسبونها إلى النجوم والكواكب، فبعضهم قد ينسب مثل هذا الاختلاف إلى أكبر الكواكب، أو إلى أصل الكواكب أو أصل النجوم كالقطبين، وكل هذه تفسيرات وهمية، والمهم: أنهم يجردون ذات الله عز وجل عن الوجود الفعلي، وينسبون ما يحدث من أمور خارقة لا يقدر عليها البشر إلى أمور غيبية، أو وهمية كالعقل الفعال، والعقل الفعال يقصدون به: القوة الخفية المدبرة للكون، وقد يقول بعضهم بأن العقل أيضاً يصدر أوامره وتوجيهاته إلى عقول أخرى تحت أمرة هذا العقل، وهذه العقول أيضاً تتجزأ مسئولياتها ثم تتفرع إلى عقول أخرى وهكذا، وقد يجعلون هذا عن طريق النجوم، أو عن طريق الملائكة بأسمائها، أو نحوها.
فالمهم: أن العقل الفعال يقصدون به وجوداً ذهنياً ليس له واقع، إنما هو قوة متوهمة -عندهم- تدبر الكون، وقد يعتقدون أن هذا العقل الفعال له وجود، وليس لهم على ذلك أدلة ولا براهين.
ومن هنا يبقى هذا الأمر مجرد وهم؛ لأن الشيء الغيبي الذي ليس عليه برهان من الله عز وجل من ادعاه بدون دليل فلابد أن يكون قد توهم.
فالأمر الغيبي لابد له من أحد أمرين:
إما أن يكون هذا الغيب جاء عن طريق صحيح، وهو: الوحي المنزل من الله عز وجل، وهذا نؤمن به ونسلم.
وإما أن يكون مجرد توهم، والتوهم لا حقيقة له؛ لأنا نجزم قطعاً بأن الذين قالوا بوجود العقل الفعال لا يمكن أن يأتوا لنا بدليل على وجوده، إنما اضطرهم إليه إنكار وجود الله عز وجل الوجود الذاتي، فاضطروا إلى أن يؤمنوا بمدبر لهذا الكون، سواء أكان عقلاً أم قوة، أم روحاً أو نحو ذلك مما عبروا به، فقالوا بمدبر للكون وهم لا يؤمنون بالله، وإنما يؤمنون به تعالى إيماناً تجريدياً كما ذكرت، فلجئوا بعد ذلك إلى افتراض قوة تدبر الكون سموها العقل الفعال.
قال رحمه الله تعالى: [ والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال على قلب زاكي النفس طاهر، متميز عن النوع الإنساني بثلاث خصائص: قوة الإدراك وسرعته؛ لينال من العلم أعظم مما يناله غيره! وقوة النفس؛ ليؤثر بها في هيولى العالم بقلب صورة إلى صورة! وقوة التخييل؛ ليخيل بها القوى العقلية في أشكال محسوسة، وهي الملائكة عندهم! ].
الهيولى عادة يقصدون بها أموراً، منها: أصل الشيء، أصل الخلقة، أو -بتعبير المحدثين- مادة الخلق، أي: المادة الأساسية قبل أن يتجزأ الخلق إلى عناصر، فالأساس للخلق -سواء كان مادياً، أو قوة أخرى لها تأثير في حركة الكون- قد يعبرون عنه بالهيولى.
قال رحمه الله تعالى: [ وليس في الخارج ذات منفصلة تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، وترى وتخاطب الرسول، وإنما ذلك عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان، فهم أشد الناس تكذيباً به وإنكاراً له ].
وهذا يعني أنهم ينكرون أن يكون هناك ملك اسمه: جبريل ينزل بالوحي، وأن تكون هناك ملائكة تنزل وتصعد بأمر الله عز وجل، ينكرون ذلك كله، ويفسرونه بتفسيرات تجريدية وهمية ذهنية تخييلية، ويقولون: هذه تخييلات يعبر بها عن القوى المعنوية المدبرة للكون.
تصورات الفلاسفة لأحداث الآخرة
يقصد بذلك الفلاسفة ومن نحا نحوهم، والمقصود بالفلاسفة: طائفة من البشر الذين يحكمون عقولهم في أمور الغيب، ويفترضون أوهاماً، ويبنون على افتراضاتهم أحكاماً.
ولذلك فإن الفلسفة تتعلق بالغيبيات، أما ما يتعلق بعالم الشهادة فليس فلسفة، إنما يدخل في العلوم التطبيقية، أو العلوم الطبيعية، أو عالم الشهادة، فلذلك تميز الفلاسفة كلهم ومن سلك طريقهم بأنهم يميلون إلى الأفكار الخيالية وإلى الأوهام.
وليس عند الفلاسفة إلا أوهام، مع أنه قد يوجد من يتعلق عقدياً بالفلسفة والفلاسفة، ويظن أن عندهم شيئاً من الحق أو الحقيقة، وهذا لا يمكن؛ لأن ما عند الفلاسفة نوعان:
نوع يتعلق ببعض الأصول والقواعد المنطقية التي تستقرأ من عالم الشهادة، أو التي تعرف بالبداهة في الفطرة، مثل بعض الأمور الرياضية والحسابية وغيرها، فهذه أمور ليس للفلاسفة فيها ميزة، ولم يسموا من أجلها فلاسفة، وإن تعلقت بفلستهم واهتماماتهم.
والأمر الثاني من اهتمامات الفلاسفة هو ما يتعلق بالخوض في الغيبيات، سواء الغيبيات التي جاء ذكر أصنافها في الكتب المنزلة، كاليوم الآخر، والملائكة، والجن، وما يتعلق بالإلهيات، أو غيرها من الغيبيات الأخرى التي افترضها الفلاسفة مجرد افتراض وتوهم، وسموا بعضها بالعقل الفعال، والعلة الأولى، والعلة الثانية، والمدبرات السبعة، وغير ذلك مما يختلفون في الكلام فيه وفي الاصطلاحات.
وقد يعلقون بعض أوهامهم بأمور موجودة، أو بأمور ورد ذكرها في الكتاب والسنة.
فالأمور الموجودة: كالنجوم، فقد يربطون ما يعتقدون من أوهام وفلسفات بالنجوم، أو بنحوها مما في الكون، وقد يربطونها أيضاً بأمور لها وجود في الكتاب والسنة، لكنها غيبية، وقد يتكلم الفلاسفة في الملائكة، لكن على نحو يخالف الإقرار بالملائكة في الكتاب والسنة، وقد يتكلمون أيضاً عن بعض أحوال الروح، أو عن المعاد أحياناً، لكن على خلاف ما ثبت في الكتاب والسنة.
إذاً: فالفلاسفة ليس عندهم علم، ومن ادعى ذلك فعليه البرهان.
وقد يتكلمون عن بعض العلوم الطبيعية، لكن لا علاقة لها بالفلسفة، وربطها بالفلسفة إنما هو من باب التجوز.
كما أن الفلاسفة قد يهتمون ببعض العلوم المتعلقة بالإنسان كالطب، أو علوم النفس أو غيرها، فهذه علوم إنسانية أو طبيعية لا صلة لها بالفلسفة.
وقد سلك سبيل الفلاسفة من يسمون بالعقلانيين، وهم الذين زعموا أن لعقولهم حكماً في الغيبيات، وهذا المنحى ظهر في الإسلام على أيدي فئات، أولها: أهل الكلام، فهم يحكمون عقولهم في أمور الغيب، وتلبيسهم أشد من تلبيس الفلاسفة؛ لأن الفلاسفة الخلص إلحادهم واضح، لكن أهل الكلام -وأعني بهم الجهمية والمعتزلة ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية ومن سلك سبيلهم، كالكرامية والسالمية والرافضة ومتأخرة الخوارج- كلهم ينزعون نزعة الكلام، وقد أخذوا كثيراً من أصولهم الكلامية عن الفلاسفة، لكن تلبيسهم أشد من تلبيس الفلاسفة؛ لأنهم صاغوا أوهام الفلاسفة باصطلاحات إسلامية، وأخضعوا أصول العقيدة -خاصة في الأسماء والصفات، وفيما يتعلق باليوم الآخر- لصياغة فلسفية ملبسة، فلذلك دخلوا على المسلمين باستعمالهم المصطلحات الإسلامية، وعرض مذاهب الفلاسفة بقوالب ومصطلحات شرعية.
أما في العصر الحديث فإن أصحاب هذه النزعة يتمثلون باتجاهات كثيرة تتفاوت كتفاوت المتكلمين السابقين ما بين الغلو والإفراط في تفسير الأصول الإسلامية والعقائد والغيبيات تفسيرات إلحادية، وبين التأويل وبين نزعة التردد والتشكيك، أو عدم التسليم بحقائق الغيب.
وهؤلاء على رأسهم أصحاب الاتجاهات العقلانية الذين يفسرون كثيراً من أمور العقيدة -بل كثيراً من أحكام الإسلام وشرائعه- بتفسيرات عقلانية، ويخضعون بزعمهم الإسلام لمقررات ومقدرات العقل.
ومنهم من تسمى بغير هذه الأسماء، أي: بغير العقلانية، كالحداثيين، وإن كان منهم فئات ملحدة خالصة، لكن هناك فئة منهم عقلانية، ومنهم من سموا أنفسهم بأصحاب الاتجاهات العصرانية، ومنهم من لم يسم نفسه لا بهذا ولا بذاك، وإنما قد يدعي السنة، وقد يدعي أنه يسلك مسالك أهل الحق، لكنه أقرب إلى العقلانيين، وقد يكون منهم من يحمل لواءات في الاتجاهات الإسلامية الحديثة.
وربما يكون من المشاهير الذين تتبعهم حركات كبرى، فهؤلاء على مختلف نزعاتهم كلهم يريدون تجريد المعاني الغيبية، والأصول الإسلامية عن حقائقها، وإعطاءها تصورات وتفسيرات عقلية أغلبها وهمية.
أما قوله عن الفلاسفة بأن مذهبهم: أن الله سبحانه وجود مجرد لا ماهية له ولا حقيقة، فلا يقصد بذلك أنهم لا يعتقدون أن لله وجوداً ذاتياً مستقلاً عن وجود المخلوقات.
ولذلك فهم ذهبوا إلى تفسير وجود الله عز وجل بأنه وجود مجرد، وفسروه بتفسيرات تؤدي إلى إنكار أسماء الله وصفاته وذاته وأفعاله، بل إلى إنكار الوجود الحقيقي الذي يتصوره العقلاء.
إذاً: فتصورهم لوجود الله تصور تجريدي يجردونه من الوجود الحقيقي، فمنهم من فسره بالوجود العقلي، والعقل ليس له وجود حقيقي عندهم، إنما هو قوة فعالة، وبعضهم فسره بالروح، أي: فسروا وجود الله عز وجل بأنه روح، وبعضهم فسر وجود الله عز وجل بأنه قوة، وبعضهم فسر وجود الله عز وجل بالحلول في الخلق، وبعضهم فسره بالاتحاد بالخلق، وبعضهم فسره بوحدة الوجود، وقال: إن هذا الوجود كله هو الله، تعالى الله عما يزعمون.
وكل هذه المذاهب هي مذاهب الفلاسفة، لكنها ظهرت في المسلمين تحت شعارات وتحت ألوية الفرق بمسميات إسلامية، إما على أيدي الفلاسفة أو الباطنية، أو الصوفية، أو على أيدي من جمعوا هذه المذاهب كلها، كمتأخرة الزنادقة أمثال: ابن عربي والسهروردي ، وابن سبعين ، وابن الفارض وأمثالهم.
ولذلك لما فسروا النبوات وفسروا الوحي فسروه بما يتفق مع هذه المعاني.
فمنهم من قال: إن الوحي والنبوة إنما هي إشراق من نور الوجود بالمثال إلى عالم المادة، ومنهم من قال: إنها فيض، ومنهم من قال: إنها تأتي عن طريق العقل الفعال كما ستأتي الإشارة إليه.
ومن هنا جردوا الله عز وجل من الأسماء والصفات والأفعال، وإن أقروا له بالصفات، أو أقر بعضهم بالأسماء والصفات، فإنما أقروا بمعانٍ لا تنطبق على موصوف ولا مسمى، إنما هي مجرد معاني دل عليها ظواهر المخلوقات، ولا ترجع إلى موصوف موجود.
قال رحمه الله تعالى: [ فإن مذهبهم: أن الله سبحانه وجود مجرد لا ماهية له ولا حقيقة، فلا يعلم الجزئيات بأعيانها، وكل موجود في الخارج فهو جزئي، ولا يفعل عندهم بقدرته ومشيئته، وإنما العالم عندهم لازم له أزلاً وأبداً، وإن سموه مفعولا له فمصانعة ومصالحة للمسلمين في اللفظ، وليس عندهم بمفعول ولا مخلوق ولا مقدور عليه، وينفون عنه سمعه وبصره وسائر صفاته! فهذا إيمانهم بالله ].
استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح العقيدة الطحاوية [68] | 3357 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [43] | 3122 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [64] | 3029 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [19] | 2989 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [31] | 2852 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [23] | 2846 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [45] | 2829 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [80] | 2792 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [92] | 2782 استماع |
شرح العقيدة الطحاوية [95] | 2755 استماع |