شرح العقيدة الطحاوية [60]


الحلقة مفرغة

الردود العقلية

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها.

قيل: لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج، ليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب ].

قولهم: (لا نسلم أنه قابل للفوقية) هذا قول أهل الكلام الفلاسفة والجهمية وكثير من المعتزلة وكثير من المتكلمين الذين سايروا الجهمية والمعتزلة في هذه المسألة، كـالرازي والجويني في أول أمره، فهؤلاء ينكرون الفوقية لله عز وجل، ويؤولون ما ورد في النصوص من الفوقية والعلو لله سبحانه بأمور معنوية، وبعضهم ينكرها بالكلية كغلاة الجهمية، ثم اتسعوا بذلك على أوهام ليس لها أصل، ذلك أن مسألة الفوقية والعلو في حق الله عز وجل لا يجوز للإنسان أن يتفلسف فيها؛ لأن القول بأنه قابل للفوقية أو غير قابل مسألة لا ينبغي أن ترد مع النص أبداً، فنحن نقول بأن الله عز وجل من صفاته أنه علي على خلقه، وكذلك من أسمائه العلي، وأنه القاهر فوق عباده، وأنه في السماء، كل هذه معانٍ جاءت بلسان عربي مبين أراد الله بها حقيقة معناها، وصف الله تعالى بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم في نصوص كثيرة لا تكاد تحصى، فنقف عند هذه النصوص ونعلم أنها حقيقة، ولا نأتي بأمور تشكل وتلبس، ككلمة قابل أو غير قابل، فمن الذي يفرض القبول أو لا يفرضه؟ فالله عز وجل هو القاهر فوق عباده، ولا تحكم لأحد فيه.

فالشارح جاء بعبارات أطلقها المتكلمون والفلاسفة قد تنطلي على كثير ممن ليس عنده علم بعقيدة السلف، فقولهم مثلاً: القيام بالنفس أو عدم القيام بالنفس، يقصدون به أن الله عز وجل له وجود غير وجود المخلوقات، وأنه غني عن مخلوقاته لا يحتاج إليها، وهذا أمر بدهي فطري، فهو سبحانه الغني، وقد أكد الله عز وجل ذلك وأكده رسوله صلى الله عليه وسلم، فلسنا بحاجة إلى أن نعمل العقول الضعيفة في مثل هذه الحقائق الكبرى التي تقتضيها الفطرة ضرورة وورد النص بها قطعاً.

إذاً: فقول الفلاسفة بأنه قائم بنفسه أو غير قائم بنفسه هذا كله خبط وخلط لا يجوز الاعتماد عليه، وإنما اضطر السلف للرد على هذه المسائل من أجل أن يقرروا الحق بمسالك القوم أنفسهم، فيقيموا الحجة عليهم بأدلتهم وبراهينهم.

وكذلك قولهم: (غير مخالط للعالم) هذا أيضاً أمر بدهي، وكذلك كونه موجوداً في الخارج، أي: خارج المخلوقات، أي: أن وجوده غير جنس وجود المخلوقات، وأحياناً يعبر الفلاسفة عن الوجود في الخارج أنه في خارج الأذهان، وهذا أيضاً افتراض فلسفي لا يعقل، فما في الأذهان لا يقبل التحقيق إلا إذا كان له وجود فعلي، والوجود الفعلي إن كان في عالم الشهادة فقد ندركه بحواسنا أو يأتي به خبر الغيب، وإن كان في عالم الغيب فلا ندركه إلا بخبر الغيب.

فإن كان الوجود الذي تتصوره الأذهان يتعلق بأمر وجودي فعلاً وفي عالم الشهادة تدركه الحواس فهذا أمر يصدق ما يرد في الأذهان من تصورات.

وإن كان ما يرد في الأذهان يتعلق بأمر غيبي فإن الأمر الغيبي يقر بما جاء في الخبر لا بما في الأذهان، نعم الأذهان تتصور أشياء قد يكون لها وجود وقد لا يكون لها وجود، فلا سبيل إلى تحقيق وجود الموجودات التي ستتصورها الأذهان إلا بالحواس أو بخبر الغيب، وما تدركه الحواس لا جدال فيه، وما لا تدركه الحواس لا يمكن أن يثبت أبداً إلا بخبر الغيب، وما تتوهمه الأذهان في الموجودات التي لا تدركها الحواس لا يمكن أن تفهم كيفيته أبداً، فقولهم: (إنه موجود في الخارج) يقصدون به أن الله عز وجل موجود خالج المخلوقات، وهذا -كما قلت- أمر فطري بدهي؛ لأن الله ليس بحال في مخلوقاته، وهو عز وجل الأحد الصمد، فلا يمكن أن تتصور الأذهان المجبولة على الفطرة ولا العقول السليمة إلا أن الله عز وجل ليس في مخلوقاته، فكلمة خارج وداخل كلمة فلسفية يجب أن نتفاداها؛ لأن معناها مفهوم بالفطرة والضرورة والنص، لكن اللفظ فيه لبس، فالله عز وجل وجوده وجود فعلي بأسمائه وصفاته، وليس وجوداً ذهنياً كما يتصور الفلاسفة والجهمية.

وقوله: [بل وجوده خارج الأذهان قطعاً] يعني: أنه لا يكون وجوده فيما تتخيله الأذهان.

يقول: [وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارجه]، هذا أيضاً افتراض تكلم به المتكلمون، فقالوا: هو إما داخل العالم وإما خارجه، فلما قالوا هذه الكلمة وردت عليهم معضلات كثيرة؛ لأنهم لما قالوا بافتراض أنه خارج العالم اضطروا إلى أن يقولوا بأن له وجوداً حقيقياً وأسماء وصفات وأفعالاً، فلما اضطروا إلى ذلك نفوا ذلك، فقالوا بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه، تعالى الله عما يزعمون! مع أن هذه مسألة لا تتصور عقلاً، مع أنا نقول: إن هذه الأمور يجب أن لا نخوض فيها، لكن لما خاضوا اضطررنا لتقرير الحق، فالفلاسفة والجهمية وبعض المعتزلة وكثير من المتكلمين المتأخرين -كـالرازي والجويني - زعموا أن الله لا داخل العالم ولا خارجه، والذي لا داخل العالم ولا خارجه لا يكون له وجود، ولذا اضطروا إلى نفي العلو، فانظر إلى هذه التصورات الوهمية التي تصوروها فأدت بهم إلى أمور اضطرتهم إلى تعطيل أسماء الله وصفاته وإلى تعطيل نصوص الشرع؛ لأنهم لما قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه جاءتهم النصوص الواردة بأسماء الله وصفاته وأفعاله، والتي تدل على وجود حقيقي لله عز وجل يليق بجلاله، فلما جاءت هذه النصوص تركوا معناها ليبقى الحكم الوهمي عندهم سليماً.

فهذا معنى قولهم: (لا داخل العالم ولا خارجه)، فلذلك قال المؤلف: لا يمكن هذا؛ فلا بد أن يكون كل موجود إما داخل العالم وإما خارجه.

قال رحمه الله تعالى: [ وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب ].

فبالضرورة نجزم بأن الله عز وجل ليس داخل العالم بذاته؛ لأن هذا يؤدي إلى القول بالحلول عياذاً بالله، ويؤدي إلى القول بتلبس الله جل جلاله بصفات النقص، وهذا لا يليق بجلال الله سبحانه.

وكلمة (خارج العالم) أيضاً يجب أن نتفاداها، لكن معناها الصحيح أن الله عز وجل وجوده غير وجود المخلوقات؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، وهو القاهر فوق عباده، وهو بكل شيء محيط سبحانه.

قال رحمه الله تعالى: [ فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح وأبين ].

المباينة يعني بها أن الله عز وجل غير خلقه، مباين لمخلوقاته، وليس هو المخلوقات، فليست حالة فيه ولا هو حال فيها، يعني: أن وجوده غير وجود المخلوقات، هذا معنى المباينة.

قال رحمه الله تعالى: [ وإذا كان صفة العلو والفوقية صفة كمال لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصاً، ولا يوجب محذوراً، ولا يخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً؛ فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلاً، فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله، والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله إلا بذلك؟! ].

الردود النقلية

قال رحمه الله تعالى: [ فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة والفطر المستقيمة والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه، وكونه فوق عباده، التي تقرب من عشرين نوعاً:

أحدها: التصريح بالفوقية مقروناً بأداة (من) المعينة للفوقية بالذات، كقوله تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50].

الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة، كقوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18].

الثالث: التصريح بالعروج إليه، نحو: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم).

الرابع: التصريح بالصعود إليه، كقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10].

الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه، كقوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، وقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55].

السادس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو: ذاتاً وقدراً وشرفاً، كقوله تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى:51].

السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه، كقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1]، تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غافر:2]، تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت:2]، تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل:102]، حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان:1-5].

الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [الأعراف:206]، وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ [الأنبياء:19]، ففرق بين من له عموماً وبين من عنده من مماليكه وعبيده خصوصاً ].

يعني بذلك أن الله عز وجل له الملك كله، لكن فيما يتعلق بالعندية -أي: تخصيص بعض المخلوقات بأنها عنده- فإن هذا خص به بعض المخلوقات، الأمر الذي يدل على أنها أكثر رفعة وأعلى من غيرها.

قال رحمه الله تعالى: [ وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: (أنه عنده فوق العرش).

التاسع: التصريح بأنه تعالى في السماء، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين:

إما أن تكون (في) بمعنى (على)، وإما أن يراد بالسماء العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز الحمل على غيره. العاشر: التصريح بالاستواء مقروناً بأداة (على) مختصاً بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات، مصاحباً في الأكثر لأداة (ثم) الدالة على الترتيب والمهلة.

الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً). والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط باطل بالضرورة والفطرة، وهذا يجده من نفسه كل داع كما يأتي إن شاء الله تعالى.

الثاني عشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل.

الثالث عشر: الإشارة إليه حساً إلى العلو، كما أشار إليه من هو أعلم بربه وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر، لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله، في اليوم الأعظم، في المكان الأعظم، قال لهم: (أنتم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟) ].

هنا يقصد كلام النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان الذي هو عرفة، في ذلك اليوم العظيم الذي جمع شرف الزمانين: يوم عرفة ويوم الجمعة.

قال رحمه الله تعالى: [ (قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت)، فرفع أصبعه الكريمة إلى السماء رافعاً إلى من هو فوقها وفوق كل شيء قائلاً: (اللهم اشهد) فكأنا نشاهد الكريمة وهي مرفوعة إلى الله، وذلك اللسان الكريم وهو يقول لمن رفع أصبعه إليه: اللهم اشهد، ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين وأدى رسالة ربه كما أمر، ونصح أمته غاية النصيحة، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطع المتنطعين وحذلقة المتحذلقين! والحمد لله رب العالمين. الرابع عشر: التصريح بلفظ (الأين)، كقول أعلم الخلق به، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم بياناً عن المعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه: (أين الله؟) في غير موضع.

الخامس عشر: شهادته صلى الله عليه وسلم لمن قال: إن ربه في السماء بالإيمان.

السادس عشر: إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء؛ ليطلع إلى إله موسى فيكذبه فيما أخبره من أنه سبحانه فوق السماوات، فقال: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:36-37]، فمن نفى العلو من الجهمية فهو فرعوني، ومن أثبته فهو موسوي محمدي.

السابع عشر: إخباره صلى الله عليه وسلم: أنه تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج بسبب تخفيف الصلاة، فيصعد إلى ربه ثم يعود إلى موسى عدة مرار.

الثامن عشر: النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة له تعالى، من الكتاب والسنة، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يرونه كرؤية الشمس والقمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، ولا يرونه إلا من فوقهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رءوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم -ثم قرأ قوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]- ثم يتوارى عنهم، وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم) رواه الإمام أحمد في المسند، وغيره، من حديث جابر رضي الله عنه.

ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية، ولهذا طرد الجهمية الشقين، وصدق أهل السنة بالأمرين معاً ].

يقصد بهذا أن الجهمية قالوا: يلزم من نفي الرؤية نفي العلو والجهة وسائر الصفات الأخرى الذاتية والفعلية، ويلزم من إثباتها إثبات الصفات، ومنها العلو والفوقية، ويشير بهذا إلى تناقض المتكلمين الذين سايروا الجهمية من وجه ثم خالفوهم من وجه آخر، سايروا الجهمية في إنكار الفوقية ثم أثبتوا الرؤية، وهم متكلمة الأشاعرة والماتريدية، فلما أثبتوا الرؤية قال لهم الجهمية: أنتم بهذا تناقضتم؛ لأنكم حينما أثبتم الرؤية يلزمكم أن تثبتوا جميع ما أثبته السلف، وهذا قالوه فعلاً، وليس هو مجرد افتراء، فالمعتزلة والجهمية لما قال الأشاعرة بإثبات الرؤية وأن الحديث ثابت في ذلك ولا يمكن رده، قالوا: إذا قلتم: يرى لزمكم أن تثبتوا جميع ما نفيتموه وأولتموه مما أثبته السلف، مثل الفوقية والعلو؛ لأنه لا يمكن أن يرى إلا من جهة، ولا يليق أن يرى من أسفل، فلا بد أن يرى من أفضل جهة يمكن أن يرى فيها، وهي الفوق، فألزموهم، بمعنى أنهم نقضوا جميع أصولهم التي بنوها على ذلك.

ثم إنهم قالوا: يلزم من إثباتكم للرؤية إثباتكم لجميع الصفات؛ لأنه لا يرى إلا الموصوف، فالجهمية أنفسهم قالوا للأشاعرة والماتريدية: إذا أثبتم الرؤية لزمكم أن تثبتوا جميع الصفات التي أثبتها السلف؛ لأنه لا يمكن يرى إلا وهو موصوف وموجود وجوداً ذاتياً مغايراً للمخلوقات، وله صفات وأفعال، وهذا الإلزام صحيح من الناحية العقلية، فاضطرب الأشاعرة، فجاءوا بكلمة سبق الكلام عنها، وقالوا بقول عجيب لا يصدق عقلاً ولا يمكن أن يتوهم، قالوا: يرى إلى غير جهة!

قال رحمه الله تعالى: [ وصدق أهل السنة بالأمرين معاً وأقروا بهما، وصار من أثبت الرؤية ونفى العلو مذبذباً بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء! وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله! وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك! ].

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها.

قيل: لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج، ليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب ].

قولهم: (لا نسلم أنه قابل للفوقية) هذا قول أهل الكلام الفلاسفة والجهمية وكثير من المعتزلة وكثير من المتكلمين الذين سايروا الجهمية والمعتزلة في هذه المسألة، كـالرازي والجويني في أول أمره، فهؤلاء ينكرون الفوقية لله عز وجل، ويؤولون ما ورد في النصوص من الفوقية والعلو لله سبحانه بأمور معنوية، وبعضهم ينكرها بالكلية كغلاة الجهمية، ثم اتسعوا بذلك على أوهام ليس لها أصل، ذلك أن مسألة الفوقية والعلو في حق الله عز وجل لا يجوز للإنسان أن يتفلسف فيها؛ لأن القول بأنه قابل للفوقية أو غير قابل مسألة لا ينبغي أن ترد مع النص أبداً، فنحن نقول بأن الله عز وجل من صفاته أنه علي على خلقه، وكذلك من أسمائه العلي، وأنه القاهر فوق عباده، وأنه في السماء، كل هذه معانٍ جاءت بلسان عربي مبين أراد الله بها حقيقة معناها، وصف الله تعالى بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم في نصوص كثيرة لا تكاد تحصى، فنقف عند هذه النصوص ونعلم أنها حقيقة، ولا نأتي بأمور تشكل وتلبس، ككلمة قابل أو غير قابل، فمن الذي يفرض القبول أو لا يفرضه؟ فالله عز وجل هو القاهر فوق عباده، ولا تحكم لأحد فيه.

فالشارح جاء بعبارات أطلقها المتكلمون والفلاسفة قد تنطلي على كثير ممن ليس عنده علم بعقيدة السلف، فقولهم مثلاً: القيام بالنفس أو عدم القيام بالنفس، يقصدون به أن الله عز وجل له وجود غير وجود المخلوقات، وأنه غني عن مخلوقاته لا يحتاج إليها، وهذا أمر بدهي فطري، فهو سبحانه الغني، وقد أكد الله عز وجل ذلك وأكده رسوله صلى الله عليه وسلم، فلسنا بحاجة إلى أن نعمل العقول الضعيفة في مثل هذه الحقائق الكبرى التي تقتضيها الفطرة ضرورة وورد النص بها قطعاً.

إذاً: فقول الفلاسفة بأنه قائم بنفسه أو غير قائم بنفسه هذا كله خبط وخلط لا يجوز الاعتماد عليه، وإنما اضطر السلف للرد على هذه المسائل من أجل أن يقرروا الحق بمسالك القوم أنفسهم، فيقيموا الحجة عليهم بأدلتهم وبراهينهم.

وكذلك قولهم: (غير مخالط للعالم) هذا أيضاً أمر بدهي، وكذلك كونه موجوداً في الخارج، أي: خارج المخلوقات، أي: أن وجوده غير جنس وجود المخلوقات، وأحياناً يعبر الفلاسفة عن الوجود في الخارج أنه في خارج الأذهان، وهذا أيضاً افتراض فلسفي لا يعقل، فما في الأذهان لا يقبل التحقيق إلا إذا كان له وجود فعلي، والوجود الفعلي إن كان في عالم الشهادة فقد ندركه بحواسنا أو يأتي به خبر الغيب، وإن كان في عالم الغيب فلا ندركه إلا بخبر الغيب.

فإن كان الوجود الذي تتصوره الأذهان يتعلق بأمر وجودي فعلاً وفي عالم الشهادة تدركه الحواس فهذا أمر يصدق ما يرد في الأذهان من تصورات.

وإن كان ما يرد في الأذهان يتعلق بأمر غيبي فإن الأمر الغيبي يقر بما جاء في الخبر لا بما في الأذهان، نعم الأذهان تتصور أشياء قد يكون لها وجود وقد لا يكون لها وجود، فلا سبيل إلى تحقيق وجود الموجودات التي ستتصورها الأذهان إلا بالحواس أو بخبر الغيب، وما تدركه الحواس لا جدال فيه، وما لا تدركه الحواس لا يمكن أن يثبت أبداً إلا بخبر الغيب، وما تتوهمه الأذهان في الموجودات التي لا تدركها الحواس لا يمكن أن تفهم كيفيته أبداً، فقولهم: (إنه موجود في الخارج) يقصدون به أن الله عز وجل موجود خالج المخلوقات، وهذا -كما قلت- أمر فطري بدهي؛ لأن الله ليس بحال في مخلوقاته، وهو عز وجل الأحد الصمد، فلا يمكن أن تتصور الأذهان المجبولة على الفطرة ولا العقول السليمة إلا أن الله عز وجل ليس في مخلوقاته، فكلمة خارج وداخل كلمة فلسفية يجب أن نتفاداها؛ لأن معناها مفهوم بالفطرة والضرورة والنص، لكن اللفظ فيه لبس، فالله عز وجل وجوده وجود فعلي بأسمائه وصفاته، وليس وجوداً ذهنياً كما يتصور الفلاسفة والجهمية.

وقوله: [بل وجوده خارج الأذهان قطعاً] يعني: أنه لا يكون وجوده فيما تتخيله الأذهان.

يقول: [وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارجه]، هذا أيضاً افتراض تكلم به المتكلمون، فقالوا: هو إما داخل العالم وإما خارجه، فلما قالوا هذه الكلمة وردت عليهم معضلات كثيرة؛ لأنهم لما قالوا بافتراض أنه خارج العالم اضطروا إلى أن يقولوا بأن له وجوداً حقيقياً وأسماء وصفات وأفعالاً، فلما اضطروا إلى ذلك نفوا ذلك، فقالوا بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه، تعالى الله عما يزعمون! مع أن هذه مسألة لا تتصور عقلاً، مع أنا نقول: إن هذه الأمور يجب أن لا نخوض فيها، لكن لما خاضوا اضطررنا لتقرير الحق، فالفلاسفة والجهمية وبعض المعتزلة وكثير من المتكلمين المتأخرين -كـالرازي والجويني - زعموا أن الله لا داخل العالم ولا خارجه، والذي لا داخل العالم ولا خارجه لا يكون له وجود، ولذا اضطروا إلى نفي العلو، فانظر إلى هذه التصورات الوهمية التي تصوروها فأدت بهم إلى أمور اضطرتهم إلى تعطيل أسماء الله وصفاته وإلى تعطيل نصوص الشرع؛ لأنهم لما قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه جاءتهم النصوص الواردة بأسماء الله وصفاته وأفعاله، والتي تدل على وجود حقيقي لله عز وجل يليق بجلاله، فلما جاءت هذه النصوص تركوا معناها ليبقى الحكم الوهمي عندهم سليماً.

فهذا معنى قولهم: (لا داخل العالم ولا خارجه)، فلذلك قال المؤلف: لا يمكن هذا؛ فلا بد أن يكون كل موجود إما داخل العالم وإما خارجه.

قال رحمه الله تعالى: [ وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب ].

فبالضرورة نجزم بأن الله عز وجل ليس داخل العالم بذاته؛ لأن هذا يؤدي إلى القول بالحلول عياذاً بالله، ويؤدي إلى القول بتلبس الله جل جلاله بصفات النقص، وهذا لا يليق بجلال الله سبحانه.

وكلمة (خارج العالم) أيضاً يجب أن نتفاداها، لكن معناها الصحيح أن الله عز وجل وجوده غير وجود المخلوقات؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، وهو القاهر فوق عباده، وهو بكل شيء محيط سبحانه.

قال رحمه الله تعالى: [ فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح وأبين ].

المباينة يعني بها أن الله عز وجل غير خلقه، مباين لمخلوقاته، وليس هو المخلوقات، فليست حالة فيه ولا هو حال فيها، يعني: أن وجوده غير وجود المخلوقات، هذا معنى المباينة.

قال رحمه الله تعالى: [ وإذا كان صفة العلو والفوقية صفة كمال لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصاً، ولا يوجب محذوراً، ولا يخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً؛ فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلاً، فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله، والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله إلا بذلك؟! ].

قال رحمه الله تعالى: [ فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة والفطر المستقيمة والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه، وكونه فوق عباده، التي تقرب من عشرين نوعاً:

أحدها: التصريح بالفوقية مقروناً بأداة (من) المعينة للفوقية بالذات، كقوله تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50].

الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة، كقوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18].

الثالث: التصريح بالعروج إليه، نحو: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم).

الرابع: التصريح بالصعود إليه، كقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10].

الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه، كقوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:158]، وقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55].

السادس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو: ذاتاً وقدراً وشرفاً، كقوله تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]، إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى:51].

السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه، كقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر:1]، تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غافر:2]، تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [فصلت:2]، تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل:102]، حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان:1-5].

الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [الأعراف:206]، وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ [الأنبياء:19]، ففرق بين من له عموماً وبين من عنده من مماليكه وعبيده خصوصاً ].

يعني بذلك أن الله عز وجل له الملك كله، لكن فيما يتعلق بالعندية -أي: تخصيص بعض المخلوقات بأنها عنده- فإن هذا خص به بعض المخلوقات، الأمر الذي يدل على أنها أكثر رفعة وأعلى من غيرها.

قال رحمه الله تعالى: [ وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: (أنه عنده فوق العرش).

التاسع: التصريح بأنه تعالى في السماء، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين:

إما أن تكون (في) بمعنى (على)، وإما أن يراد بالسماء العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز الحمل على غيره. العاشر: التصريح بالاستواء مقروناً بأداة (على) مختصاً بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات، مصاحباً في الأكثر لأداة (ثم) الدالة على الترتيب والمهلة.

الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً). والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط باطل بالضرورة والفطرة، وهذا يجده من نفسه كل داع كما يأتي إن شاء الله تعالى.

الثاني عشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل.

الثالث عشر: الإشارة إليه حساً إلى العلو، كما أشار إليه من هو أعلم بربه وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر، لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله، في اليوم الأعظم، في المكان الأعظم، قال لهم: (أنتم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟) ].

هنا يقصد كلام النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان الذي هو عرفة، في ذلك اليوم العظيم الذي جمع شرف الزمانين: يوم عرفة ويوم الجمعة.

قال رحمه الله تعالى: [ (قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت)، فرفع أصبعه الكريمة إلى السماء رافعاً إلى من هو فوقها وفوق كل شيء قائلاً: (اللهم اشهد) فكأنا نشاهد الكريمة وهي مرفوعة إلى الله، وذلك اللسان الكريم وهو يقول لمن رفع أصبعه إليه: اللهم اشهد، ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين وأدى رسالة ربه كما أمر، ونصح أمته غاية النصيحة، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطع المتنطعين وحذلقة المتحذلقين! والحمد لله رب العالمين. الرابع عشر: التصريح بلفظ (الأين)، كقول أعلم الخلق به، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم بياناً عن المعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه: (أين الله؟) في غير موضع.

الخامس عشر: شهادته صلى الله عليه وسلم لمن قال: إن ربه في السماء بالإيمان.

السادس عشر: إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء؛ ليطلع إلى إله موسى فيكذبه فيما أخبره من أنه سبحانه فوق السماوات، فقال: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر:36-37]، فمن نفى العلو من الجهمية فهو فرعوني، ومن أثبته فهو موسوي محمدي.

السابع عشر: إخباره صلى الله عليه وسلم: أنه تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج بسبب تخفيف الصلاة، فيصعد إلى ربه ثم يعود إلى موسى عدة مرار.

الثامن عشر: النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة له تعالى، من الكتاب والسنة، وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يرونه كرؤية الشمس والقمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، ولا يرونه إلا من فوقهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رءوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم -ثم قرأ قوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]- ثم يتوارى عنهم، وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم) رواه الإمام أحمد في المسند، وغيره، من حديث جابر رضي الله عنه.

ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية، ولهذا طرد الجهمية الشقين، وصدق أهل السنة بالأمرين معاً ].

يقصد بهذا أن الجهمية قالوا: يلزم من نفي الرؤية نفي العلو والجهة وسائر الصفات الأخرى الذاتية والفعلية، ويلزم من إثباتها إثبات الصفات، ومنها العلو والفوقية، ويشير بهذا إلى تناقض المتكلمين الذين سايروا الجهمية من وجه ثم خالفوهم من وجه آخر، سايروا الجهمية في إنكار الفوقية ثم أثبتوا الرؤية، وهم متكلمة الأشاعرة والماتريدية، فلما أثبتوا الرؤية قال لهم الجهمية: أنتم بهذا تناقضتم؛ لأنكم حينما أثبتم الرؤية يلزمكم أن تثبتوا جميع ما أثبته السلف، وهذا قالوه فعلاً، وليس هو مجرد افتراء، فالمعتزلة والجهمية لما قال الأشاعرة بإثبات الرؤية وأن الحديث ثابت في ذلك ولا يمكن رده، قالوا: إذا قلتم: يرى لزمكم أن تثبتوا جميع ما نفيتموه وأولتموه مما أثبته السلف، مثل الفوقية والعلو؛ لأنه لا يمكن أن يرى إلا من جهة، ولا يليق أن يرى من أسفل، فلا بد أن يرى من أفضل جهة يمكن أن يرى فيها، وهي الفوق، فألزموهم، بمعنى أنهم نقضوا جميع أصولهم التي بنوها على ذلك.

ثم إنهم قالوا: يلزم من إثباتكم للرؤية إثباتكم لجميع الصفات؛ لأنه لا يرى إلا الموصوف، فالجهمية أنفسهم قالوا للأشاعرة والماتريدية: إذا أثبتم الرؤية لزمكم أن تثبتوا جميع الصفات التي أثبتها السلف؛ لأنه لا يمكن يرى إلا وهو موصوف وموجود وجوداً ذاتياً مغايراً للمخلوقات، وله صفات وأفعال، وهذا الإلزام صحيح من الناحية العقلية، فاضطرب الأشاعرة، فجاءوا بكلمة سبق الكلام عنها، وقالوا بقول عجيب لا يصدق عقلاً ولا يمكن أن يتوهم، قالوا: يرى إلى غير جهة!

قال رحمه الله تعالى: [ وصدق أهل السنة بالأمرين معاً وأقروا بهما، وصار من أثبت الرؤية ونفى العلو مذبذباً بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء! وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله! وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك! ].

قال رحمه الله تعالى: [ وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جداً، فمنه: ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق، بسنده إلى أبي مطيع البلخي : أنه سأل أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال: قد كفر؛ لأن الله يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وعرشه فوق سبع سماوات، قلت: فإن قال: إنه على العرش، ولكن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر.

وزاد غيره: لأن الله في أعلى عليين، وهو يدعى من أعلى، لا من أسفل. انتهى.

ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة ، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم، مخالفون له في كثير من اعتقاداته، وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم، وقصة أبي يوسف في استتابة بشر المريسي لما أنكر أن يكون الله عز وجل فوق العرش مشهورة، رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره ].

الملاحظ في التاريخ أن أصحاب مذاهب الكلام كان كثير منهم على مذهب أبي حنيفة في الفروع، كمشاهير الجهمية المنتسبين ومشاهير المعتزلة، كما أن كثيراً من المتكلمين كانوا بين شافعية وأحناف، وهذا لا يضر بأصول المذاهب نفسها، لكن هذا من باب العلم بالواقع، وإلا فالأئمة الأربعة كلهم على مذهب أهل السنة والجماعة، وأوائل تلاميذهم كذلك، لكن إذا أرادنا أن نؤرخ لدخول المذاهب الكلامية على المذاهب فسنجد أن الأحناف هم أول من تأثر بمذاهب الجهمية، وأن الشافعية وجد في أوائلهم من دخل في مذاهب الكلابية الذي هو أصل مذهب الأشاعرة والماتريدية، ثم بعد ذلك انتشرت المذاهب الكلامية في جميع المذاهب في بعض المالكية ثم في بعض الحنابلة.