شرح عمدة الأحكام [46]


الحلقة مفرغة

تعريف العرية

قال المصنف رحمه الله تعالى وإياه: [باب العرايا وغير ذلك.

عن زيد بن ثابت رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها) ولـمسلم: (يخرصها تمراً يأكلونها رطباً).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق، أو دون خمسة أوسق)] .

هذا الحديث يتعلق بالعرايا، والعرايا هي النخلة يباع ثمرها وهو في قنوانه بتمر، وهي مستثناة من مسألة المزابنة، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم (نهى عن المزابنة، ورخص في العرايا)؛ وذلك لأن من أنواع الربا بيع التمر بالتمر دون أن يكون متساوياً، أما بيع بعضه ببعض متساوياً فإنه جائز ولا يكون ربا، مثال ذلك: أن يبيع صاع تمر بصاع تمر، هذا له نظر في هذا، وهذا له نظر في هذا، فيجوز، ولا يجوز التفاوت في شيء من ذلك عن قصد، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم أرسل مرة بلالاً يأتيه بتمر من تمر خيبر، فجاءه بتمر جنيب-يعني: جيد قوي نظيف حسن- فتعجب وقال: (أكل تمر خيبر هكذا؟! فقال: لا والله. إنا لنشتري الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيباً)، والجمع: هو التمر المجموع. أي: يكون فيه الرديء والجيد.

والجنيب: هو التمر الذي كله جيد، وكله نظيف، وكله طيب.

يقول: إذا كان عندك تمر رديء، وتريد أن تبدله بتمر جيد فلا تقل: أعطني صاعاً من هذا بصاعين من هذا، فإن هذا ربا، بل هو عين الربا، فلا يباع التمر إلا مثلاً بمثل متساوياً، كما لا يباع البر بالبر إلا مثلاً بمثل، وكذلك جميع الحبوب ولو اختلفت القيم، فلا يباع كيس أرز بكيس أرز من جنس آخر أحسن منه، بل يباع بمثله ولو اختلفت القيم، وإذا كان الإنسان عنده أرز رديء وأراد أن يشتري به أرزاً جيداً؛ باع الرديء بدراهم واشترى بالدراهم جيداً، وهكذا في التمور، وهكذا في الزبيب، وهكذا في الشعير، وهكذا في القمح، وهكذا في كل الحبوب، فلابد -كما سيأتينا في الربا- من بيعها بالدراهم ثم شراء غيرها.

ويستثنى من ذلك مسألة العرايا، فيتسامح فيها لأجل الحاجة، فأما لغير حاجة فلا يجوز، وذلك لعدم تحقق التساوي، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: هل يباع الرطب بالتمر؟ فقال: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فقال: فلا إذاً)، فبين العلة، فالرطب معلوم أنه ثقيل؛ لأن فيه ماء، فإذا وزنت تمراً جافاً بتمر فيه ماؤه كالرطب فإنه قد يتوازن، ولكن متى جف ويبس هذا الرطب خف وزنه وقل كيله، فلا يكون متساوياً، فمن أراد أن يشتري رطباً بتمر فإن عليه أن يبيع التمر بدراهم، ويشتري بالدراهم رطباً.

وذكرنا أنه استثنى من بيع التمر بالرطب مسألة العرايا، وسببها أن بعض الناس يكون عندهم بقية تمر من السنة الماضية، ويأتي الرطب وهو غير موجود عندهم، ويحبون التفكه بأكل الرطب، وليس عندهم دراهم يشترون بها الرطب، فيشترون بالتمر رطباً، فرخص لهم للحاجة.

شروط جواز العرية

يشترط في بيع العرايا خمسة شروط:

الشرط الأول: أن يأكلوها رطباً، فإذا تركوها حتى صارت تمراً لم يصح البيع.

الشرط الثاني: ألا يجدوا دراهم، فإذا وجدوا دراهم اشتروا بها رطباً ليأكلوه.

الشرط الثالث: أن يكون دون خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، أي: أقل من ثلاثمائة صاع، والصاع يقارب نحو ثلاثة كيلو أو أقل؛ وذلك لأنه لا يكون -غالباً- أحد يحتاج إلى أكل تسعمائة كيلو في وقت الرطب، فلذلك لابد أن يكون خمسة أوسق أو دون خمسة أوسق.

الشرط الرابع: التقدير أو الخرص، وهو أن يأتي الذي يعرف قدرها فيقف تحت النخلة فيقول: أقدر بأنها مائة كيلو، أو أنها مائة وخمسون، فهناك من عندهم معرفة بتقديرها وإن لم يصرموها، فإذا قدروها باعوها بقدر ذلك من التمر القديم.

الشرط الخامس: الحلول والتقابض قبل التفرق، فيحضر صاحب التمر تمره تحت النخلة في زنبيل أو نحو ذلك ويقول: اشتريت منك ثمرة هذه النخلة الذي في رءوسها وفي قنوانها بهذا التمر الذي في هذا الفرق، أو في هذه العيبة ونحوها، فيقول: قد بعتك، فهذا يأخذ تمره، وهذا يخلي بينه وبين هذه النخلة ليقتطفها، وليأخذها شيئاً فشيئاً ليتفكه في أيام أكل الرطب، ويطعم أهله.

إشكال وجوابه

قد يقال: إن بينهما تفاوتاً؛ وذلك لأن قيمة الرطب أغلى بكثير من قيمة التمر الذي قد مضى عليه سنة، والغالب أنه قد اسود وقد بدأ فيه التغير!

فنقول: هذا صحيح، ولكن قد يكون أفضل عند كثير من الناس، ومعلوم أن التمر الذي قد مضى عليه سنة أحسن حلاوة وأقوى طعماً من التمر الجديد، وإن كان التمر الجديد له حلاوة وله فاكهة وله لذة حاضرة، ولكن لاشك أن التمر الذي قد نضج وقد مضى عليه مدة وهو ناضج يكون أقوى طعماً، وهذا من جهة.

ومن جهة ثانية أن أهل النخل قد يحتاجون إليه علفاً لدوابهم، وقد يكون التمر الذي في النخل لا يصلح علفاً، فيأخذون هذا التمر في عيبة ونحوها ويبيعونه بهذا الرطب الذي في النخلة.

وقد ذكرنا أيضاً أنه لابد من البدو والصلاح، فلابد أن يكون قد بدا صلاحه في هذه الشجرة، وبدو الصلاح أن يحمر أو يصفر، ومعلوم أن التمر عندما يكون بسراً أو بلحاً يكون لونه أخضر كله، ثم إذا قارب النضج وقارب الاستواء فإنه يصير إما أصفر وإما أحمر، ومعلوم هذا كما هو مشاهد، ثم بعد ذلك يبدأ في النضج ليكون رطباً، وما كان أحمر يكون لونه أسود أو قريباً من السواد، وغيره يكون لونه أحمر، فلا يباع إلا إذا بدا صلاحه، فالعرايا لا تباع إلا إذا بدا صلاحها.

وقد تقدم أنه يجوز بيعها بالدراهم، ولكن تبقى في رءوسها، وتكون إذا تلفت من ضمان صاحبها وهو صاحب النخل، وهي المسألة التي تقدمت وعرفت بوضع الجوائح، فهذه مسألة العرايا.

تفسير آخر للعرايا

قال بعضهم: إن العرايا هي المنح، وذلك أن أصحاب النخل ينزل عندهم بعض المجاورين فيعرونهم نخلاً، فيقول: هذه النخلة أعريتكها، لك ثمرتها مجاناً أو يقول لأخيه الذي ليس له نخل أو لابن أخيه أو لابن عمه أو لقريبه: أعريتك هذه النخلة، يعني: أعطيتك ثمرها بدون مقابل، فيكون هذا من جملة ما يسمى: (عرية)، ولكن الأصل في العرايا أنها ما يؤكل رطباً، وقد عرف أن أهل النخل يأكلون كثيراً من تمرهم ويعطونه بدون مقابل لأهليهم ولأقاربهم.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخراصين الذين يخرصون النخل يقول لهم: (دعوا الثلث، فإن لم تدعوه فدعوا الربع) فإن كان عند أحدهم مائة وعشرون نخلة، فالغالب أنه سوف يأكل منها قسطاً ويعريه لأقاربه، فيقول لهم: اتركوا له الثلث- نحو أربعين نخلة-، فإذا رأيتم أنه أكثر من حاجته فاتركوا له الربع- أي: ثلاثين من مائة وعشرين يأكل هذه هو وأهله رطباً، ويعري هذه، ويعطي هذه، ويمنح هذا، ونحو ذلك- واخرصوا الباقي وقدروه؛ لتؤخذ منه الزكاة.

العرايا تختص بالتمر

مسألة العرايا تختص بالتمر على الصحيح، وبعضهم ألحق بها الزبيب، والزبيب هو ثمر العنب، ومعلوم أيضاً أن العنب ما دام عنباً فإنه لذيذ وشهي، وإذا أصبح زبيباً فقد تقل قيمته، وقد تقل لذته، ولكن لا يزال مرغوباً فيه، فإذا كان إنسان عنده زبيب من العام الماضي، وليس عنده دراهم ويحب أن يأكل من العنب الجديد، فقال لصاحب شجرة العنب: بعني ثمرة هذه الشجرة بهذا الزبيب الذي في هذا المكتل الذي قدره -مثلاً- مائة صاع أو نحو ذلك، فهل يجوز ذلك؟

أجازه بعضهم، ومنعه الآخرون وقالوا: لم تكن العادة أن الحاجة إلى العنب تكون كالحاجة إلى الرطب؛ فإن الرطب يكون قوتاً، وأما الزبيب والعنب فإنما هو فاكهة يتفكه بها.

فعلى هذا تختص العرايا بالنخل الذي يباع بالرطب، وفي هذه الأزمنة الناس يجدون النقود، وما داموا يجدون النقود والدراهم فليسوا بحاجة إلى أن يشتروا الرطب بالتمر، سواء أكان ذلك التمر جافاً وقديماً أم ليس بقديم، فيشترون الرطب أينما كان، كما تشتري -مثلاً- عشرين نخلة بثمرتها كل نخلة بمائة أو بمائتين أو نحو ذلك، ولو تركتها إلى أن أثمرت لا يضر ذلك، إنما الشروط هذه فيما إذا باع ثمرة النخلة بتمر.

قال المصنف رحمه الله تعالى وإياه: [باب العرايا وغير ذلك.

عن زيد بن ثابت رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها) ولـمسلم: (يخرصها تمراً يأكلونها رطباً).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في بيع العرايا في خمسة أوسق، أو دون خمسة أوسق)] .

هذا الحديث يتعلق بالعرايا، والعرايا هي النخلة يباع ثمرها وهو في قنوانه بتمر، وهي مستثناة من مسألة المزابنة، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم (نهى عن المزابنة، ورخص في العرايا)؛ وذلك لأن من أنواع الربا بيع التمر بالتمر دون أن يكون متساوياً، أما بيع بعضه ببعض متساوياً فإنه جائز ولا يكون ربا، مثال ذلك: أن يبيع صاع تمر بصاع تمر، هذا له نظر في هذا، وهذا له نظر في هذا، فيجوز، ولا يجوز التفاوت في شيء من ذلك عن قصد، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم أرسل مرة بلالاً يأتيه بتمر من تمر خيبر، فجاءه بتمر جنيب-يعني: جيد قوي نظيف حسن- فتعجب وقال: (أكل تمر خيبر هكذا؟! فقال: لا والله. إنا لنشتري الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيباً)، والجمع: هو التمر المجموع. أي: يكون فيه الرديء والجيد.

والجنيب: هو التمر الذي كله جيد، وكله نظيف، وكله طيب.

يقول: إذا كان عندك تمر رديء، وتريد أن تبدله بتمر جيد فلا تقل: أعطني صاعاً من هذا بصاعين من هذا، فإن هذا ربا، بل هو عين الربا، فلا يباع التمر إلا مثلاً بمثل متساوياً، كما لا يباع البر بالبر إلا مثلاً بمثل، وكذلك جميع الحبوب ولو اختلفت القيم، فلا يباع كيس أرز بكيس أرز من جنس آخر أحسن منه، بل يباع بمثله ولو اختلفت القيم، وإذا كان الإنسان عنده أرز رديء وأراد أن يشتري به أرزاً جيداً؛ باع الرديء بدراهم واشترى بالدراهم جيداً، وهكذا في التمور، وهكذا في الزبيب، وهكذا في الشعير، وهكذا في القمح، وهكذا في كل الحبوب، فلابد -كما سيأتينا في الربا- من بيعها بالدراهم ثم شراء غيرها.

ويستثنى من ذلك مسألة العرايا، فيتسامح فيها لأجل الحاجة، فأما لغير حاجة فلا يجوز، وذلك لعدم تحقق التساوي، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: هل يباع الرطب بالتمر؟ فقال: (أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، فقال: فلا إذاً)، فبين العلة، فالرطب معلوم أنه ثقيل؛ لأن فيه ماء، فإذا وزنت تمراً جافاً بتمر فيه ماؤه كالرطب فإنه قد يتوازن، ولكن متى جف ويبس هذا الرطب خف وزنه وقل كيله، فلا يكون متساوياً، فمن أراد أن يشتري رطباً بتمر فإن عليه أن يبيع التمر بدراهم، ويشتري بالدراهم رطباً.

وذكرنا أنه استثنى من بيع التمر بالرطب مسألة العرايا، وسببها أن بعض الناس يكون عندهم بقية تمر من السنة الماضية، ويأتي الرطب وهو غير موجود عندهم، ويحبون التفكه بأكل الرطب، وليس عندهم دراهم يشترون بها الرطب، فيشترون بالتمر رطباً، فرخص لهم للحاجة.