شرح العقيدة الطحاوية [54]


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان) إلى آخره، التعمق: هو المبالغة في طلب الشيء. والمعنى: أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان، والذريعة: الوسيلة، والذريعة والدرجة والسلم متقاربة المعنى.

وكذلك الخذلان والحرمان والطغيان متقارب المعنى أيضاً، لكن الخذلان في مقابلة النصر، والحرمان في مقابلة الظفر، والطغيان في مقابلة الاستقامة ].

يقصد بذلك أن الكلام في القدر بأكثر مما ورد في النص والتمادي في إثارة الشكوك وإثارة الأسئلة والإشكالات في القدر لا يزيد الإنسان علماً ولا يقيناً ولا إيماناً، فالقدر سر الله في خلقه، ولابد من الوقوف على ما جاء فيه من النصوص في الكتاب والسنة، ثم إن القدر لا يمكن لأحد من الخلق أن يأتي فيه بجواب بأكثر مما ورد عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.

فتطاول العقول وتعمق الأفكار والوساوس في القدر لا يزيد الإنسان إلا خذلاناً، ولا يزيده إلا غواية وضلالة وبدعة وشكوكاً، وربما يصاب بشيء من الوساوس التي تبقى في نفسه فلا تمحى إلا بصعوبة، وربما تهلكه، فعلى أي حال: يجب على المسلم أن يحذر كل الحذر من إثارة الأسئلة والإشكالات في القدر، وإذا ثارت الأسئلة في أمر عارض فإن على الإنسان أولاً أن يعود إلى مبدأ التسليم، ويحاول أن يصرف ذهنه عما يرد إليه من شكوك وإشكالات، فإن استطاع وإلا فليحاول تلاوة آيات القدر وأحاديث القدر لعله بذلك يشفى قلبه، فإن لم يستطع فليسأل أهل العلم، فإن لم يصل إلى نتيجة فليضرع إلى الله عز وجل بأن يشفيه ويعافيه.

[ وقوله: (فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة):

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان). رواه مسلم .

الإشارة بقوله: (ذاك صريح الإيمان) إلى تعاظمهم أن يتكلموا به.

ولـمسلم أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة؟ فقال: تلك محض الإيمان)، وهو بمعنى حديث أبي هريرة ، فإن وسوسة النفس ومدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين اثنين، فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان].

يقصد بالوسوسة هنا الخواطر العابرة العارضة، فالوسوسة العارضة والأفكار العارضة والخواطر الطارئة قد لا يسلم منها الإنسان، لكنها ما لم تستقر في النفس لا تضر، وهي من محاولة الشيطان إغواء كل إنسان، فإن وجد الإنسان في نفسه يقيناً ودفعها فليعلم أنه بذلك حقق معنى الإيمان، وصريح الإيمان، بمعنى: أن مجرد الوسواس العارض لا يضره، والفارق بين الوسواس العارض والثابت أن الوسواس العارض يجد فيه الإنسان من نفسه نوعاً من الغرابة والإنكار، وشيئاً من النفرة، حيث تنفر منه النفس بالفطرة لاسيما الوساوس المقصودة هنا، وهي الوساوس التي تتعلق بأمور الغيب، بالقدر، أو بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته وأفعاله، ونحو ذلك، فإن هذه الخواطر ترد إلى الإنسان، فالمؤمن لابد من أن يجد في نفسه كراهية لهذه الخواطر ويحاول دفعها بما عنده من مبدأ التسليم لله عز وجل واليقين بالله واليقين بالحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد ذلك فليعلم بذلك أنه -إن شاء الله- حقق معنى الإيمان.

إذاً: ليس المقصود بالوسوسة هنا الوسواس المستقر الذي هو بمثابة الشكوك، بل الوسوسة العارضة التي يسميها الناس أفكاراً وخواطر وخطرات تعرض، إما بسبب يرد إلى الإنسان من الأسباب المنظورة والمشاهدة والمحسوسة أو مما يسمعه من الناس، وإما من وسوسة الشيطان المحضة، لكنه إذا وجد في نفسه إنكاراً لهذه الوساوس فليعلم أن أصل الإيمان موجود عنده، وليحمد الله على ذلك.

إذاً: هناك نوع من الوسواس غير ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، وهو الشكوك، سواء كان منشؤها الأمور العارضة الخارجة عن إرادة الإنسان أو الخارجة عن تفكير الإنسان بذاته، كما يحدث مما يقرؤه بعض الناس أو يسمعونه، أو ما يحدث من شبهات الفلاسفة والمتكلمين والدهريين وغيرهم، فهذا النوع إذا ورد على الإنسان فإن كان عنده شيء من الإيمان وقوة اليقين بالله عز وجل والفقه في دين الله؛ فإن ذلك لا يضر، وإن ضعف إيمانه وقل فقهه فربما تؤثر فيه الشبهات الواردة التي ترد من الناس أو ترد مما يسمعه أو يراه.

كما أن من الشكوك ما يثيره أهل الشكوك أنفسهم من الفلاسفة والدهريين والعقلانيين والكفار والمشركين والمنافقين، فهذه شكوك ثابتة في أنفسهم وليست عارضة، وتكون من أسباب تماديهم في الضلالة، وقد تؤثر هذه الشكوك على بعض مرضى القلوب من المسلمين إذا ضعف إيمانهم وقل علمهم.

ولذلك يجب على المسلم أن يحذر من قراءة الكتب التي تثار فيها هذه الإشكالات، ويجب ألا يتمادى في سماع ما يرد إلى سمعه من هذه الشكوك من الناس أو عبر الوسائل التي ترد فيها هذه الشكوك، كما أنه ينبغي أن يحصن نفسه ابتداء بمعرفة أصول الإيمان بالقدر؛ لأن الإنسان ضعيف، والواردات إلى ذهنه من خارج ذهنه أو من وساوس الشيطان في داخله كثيرة، فإذا وافقت ضعفاً في الإيمان وقلة في الفقه والعلم وعدم رسوخ في العقيدة فربما تؤثر على الإنسان، بل ربما يعتقد عقيدة باطلة من خلال هذه الوسوسة أو من خلال هذه الشكوك وهو لا يشعر.

قال رحمه الله تعالى: [هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، ثم خلف من بعدهم خلف سودوا الأوراق بتلك الوساوس التي هي شكوك وشبه، بل وسودوا القلوب وجادلوا بالباطل؛ ليدحضوا به الحق ].

أول من فعل ذلك صنفان من الناس: أناس كانت عندهم هذه الوساوس بمثابة النزعات الفردية، وقد لا ترجع إلى أصول عقدية ذات قواعد أو إلى فرق أو نحل، وهذه كانت مصيبتها أسهل، وكان السلف الأوائل لهم منها مواقف قضت على هذه النزعات، كما حدث من بعض المشككين من أمثال صبيغ بن عسل التميمي ، وذلك الشاب الذي جاء إلى ابن عباس وكان قد تمادى في الوسوسة في القدر، فجاء به أبوه إلى ابن عباس فأعطاه ابن عباس رضي الله عنهما درساً في ذلك حتى رجع واستقام، ومثلما حدث من بعض أهل الذمة، كـقسطنطين بطريرك النصارى في الشام الذي سلم مفاتيح بيت المقدس لـعمر ، فقد حدثت منه تلك الحادثة بينما كان عمر يخطب بالجابية، فاعترض على القدر وهدده عمر بن الخطاب ، وما حدث من بعض الخوارج كذلك، وما حدث من ابن الكوى وأمثاله.

فإن هذه الأمور كانت نزعات فردية لم تكن أصولاً فلسفية، ولا ترجع إلى فرق، فهذه النزعات كانت بمجرد أن تبدو وتظهر يقضى عليها بسرعة وبقوة وبحزم، وتنتهي إما بالقوة وإما بإقناع أصحابها بالدليل والبرهان.

الصنف الثاني: فرق سودت الكتب وظهر كلامها على شكل أصول، وأول ما ظهرت بعد سنة ستين للهجرة، وظهر كلامها على شكل اعتراض مقنن في مسائل القدر، يعني: كان كلامهم في القدر يحمل أصولاً وقواعد مستمدة من أهل الكتاب ومن الصابئة ومن المجوس، وكلهم تتشابه أقوالهم في القدر، وكان أصحاب هذا القول -أي: الفرق القدرية الأولى- عندهم نوع من التقعيد لمقولتهم، وهو تقعيد عقلاني وفلسفي، ولذلك لما ظهروا فتن بهم طوائف من أبناء المسلمين الذين قل فقههم في الدين ثم لما واجههم السلف كانوا مستعدين بالحجج العقلية والفلسفية، وأولهم معبد الجهني ، ثم غيلان الدمشقي ، ثم بعد ذلك تلقف هذا الاتجاه المعتزلة وصار أصلاً من أصولهم، وسموا بالقدرية فيما بعد.

ثم انتقلت هذه الأصول إلى كثير من الفرق فيما بعد، فدخل القول في القدر إلى الرافضة، ودخل إلى الجهمية، ثم قالت به الفرق الكلامية المتأخرة من الأشاعرة والماتريدية، أي: أنها قالت في بعض مسائل القدر بقول يخالف أصول أهل السنة والجماعة، وإن كانت في الأصول الكبرى في القدر تقول بقول أهل السنة، لكن عندها بعض المسائل التي تخالف فيها أهل السنة، مثل مسألة الاستطاعة ومسألة الحكمة والتعليل لأفعال الله عز وجل ونحو ذلك، وبعد ذلك صار القول بالقدر أصلاً من أصول كثير من الفرق إلى يومنا هذا.

قال رحمه الله تعالى: [ ولذلك أطنب الشيخ في ذم الخوض في الكلام في القدر والفحص عنه.

وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم).

وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، قال: فقال: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم. قال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده). ورواه ابن ماجة أيضاً.

وقال تعالى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [التوبة:69]، الخلاق: النصيب، قال تعالى: وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:200] أي: استمتعتم بنصيبكم من الدنيا كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم، وخضتم كالذي خاضوا، أي كالخوض الذي خاضوه أو كالفوج أو الصنف أو الجيل الذي خاضوا ].

معنى (الذي خاضوا) أي: الذين خاضوا في الكلام في دين الله عز وجل بغير علم، وأول ذلك القدر، فكل الأمم -سواء الأمم الكتابية والأمم غير الكتابية- ضلت في القدر، أما الأمم الكتابية فقد ضلت بعد الهدى اليهود والنصارى، وأما الأمم غير الكتابية فمن الطبيعي أنها لم تهتد إلى الحق أصلاً، فقد قررت مسائل القدر بعقولها، فكل الأمم المنحرفة والضالة خاضت في القدر على نحو يختلف ويتناقض، وأخذوا في مسألة القدر مسالك شتى متناقضة ينقض بعضها بعضاً.

فالله عز وجل في هذه الآية ينهانا وينهى الأمة كلها عن أن تخوض كما خاض الذين سبقوا؛ لأن الخوض في مسائل القدر هو مفتاح الخوض في جميع مسائل الاعتقاد، وما خاض أحد في القدر إلا ضل؛ لأن القدر مبناه على التسليم.

وكذلك سائر أمور الغيب، لكن القدر هو أكثر أمور الغيب إعضالاً، والقدر يستهوي الحديث فيه النفوس، وأكثر الناس يجيد الخصام في القدر؛ لأن إثارة الشكوك فيه تقوم على الألغاز، فمن هنا يستهوي كثيراً من الناس الذين يصابون بمرض الثرثرة والكلام، فالمهم أن الأمم التي ضلت كان من أعظم من أسباب ضلالها الخوض في القدر، وقد نهينا أن نخوض في القدر، وكذلك غير القدر من أمور الغيب الأخرى.

قال رحمه الله تعالى: [وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض؛ لأن فساد الدين إما في العمل وإما في الاعتقاد، فالأول من جهة الشهوات، والثاني من جهة الشبهات].

قال رحمه الله تعالى: [وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتأخذن أمتي مآخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قالوا: فارس والروم؟ قال: فمن الناس إلا أولئك).

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية كان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقوا على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي). رواه الترمذي .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)، رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني: الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة).

وأكبر المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الأمة: مسألة القدر، وقد اتسع الكلام فيها غاية الاتساع ].

لذلك كانت كل الفرق التي انحرفت عن السنة والجماعة عندها مخالفة في القدر، بمعنى أنها تتفق على الخروج عن السنة في مسألة القدر إما خروجاً جزئياً وإما خروجاً كلياً، فأولها القدرية الخالصة، وآخرها: أهل الكلام المتأخرين من الأشاعرة والماتريدية، فقد خالفوا السنة في بعض مسائل القدر.

إذاً: الخروج عن السنة والخروج عن الحق في مسألة القدر قاسم مشترك بين جميع أهل الأهواء، فهو من المسائل التي تتفق عليها فرق الضلال وإن تفاوتت أقوالهم، مع أنها قد تختلف في المسائل الأخرى من مسائل الاعتقاد، أي أن بعضها قد يكون له قول صحيح في بعض مسائل الاعتقاد.

الجزم بحصول الافتراق في الأمة

ثم إن في هذه الأحاديث دلالة على أمور سبق التنويه عليها متفرقة، ولكن تحسن الإشارة إليها الآن، وأقول: إن أحاديث الافتراق دليل قاطع على إن الافتراق لابد واقع في هذه الأمة، وأن وقوعه أمر كتبه الله عز وجل، لكن وقوع الافتراق لا يعني ضياع الحق، فقد صح في الأحاديث المتواترة أنه تبقى في هذه الأمة طائفة على الحق ظاهرة ومنصورة إلى قيام الساعة، هذا أمر.

الأمر الآخر: أن وقوع الافتراق لا يعني الرضا به، إذ هو في كتاب الله عز وجل وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم جاء على نوعين: جاء على طريق الإخبار وجاء على طريق التحذير من الوقوع في الأهواء، وذلك من باب تنبيه الأمة حتى لا تقع في الأهواء؛ لأن الأهواء لابد واقعة، ولذا فإن وقوع الافتراق يعني أن المسلم لابد له من أن يحذر في كل أموره من أن يقع في الهوى أو أن يزل أو أن يضل أو أن يتبع أحداً في الدين غير أهل السنة والجماعة.

بقاء الافتراق والاختلاف إلى قيام الساعة

ثم إن في هذه الأحاديث أيضاً دلالة على أن الافتراق باق إلى قيام الساعة، وبهذا نرد على الذين يزعمون -وهم كثيرون- من المفكرين والعصرانيين والعقلانيين في هذا العصر الذين ينتسبون إلى الإسلام أن دعوى الافتراق دعوى ليست صحيحة، وأن الأمة كلها على الحق، وأن ما يحدث بينها هو أمور خلافية مما يسع فيه الاجتهاد، وأنه لا يجوز أن ندعي أن الأمة مفترقة أو أنها جماعات ينابذ بعضها بعضاً... إلى آخره.

وهذه دعوى -وإن كانت بينة العوار والخطأ- قد أثرت في طائفة من شباب الأمة ومفكريها ومثقفيها، فكان لابد من التنبيه على ذلك، لاسيما أن الذين قالوا بهذه المقولة وزعموا أن هذه الافتراقات ما هي إلا اختلاف في وجهات النظر، وما هي إلا نزاع في أمور اجتهادية بعضهم من المتبوعين الذين يحملون رايات تنتمي إليها جماعات من شباب الأمة، لذا يلزم التنويه بهذه المسألة والتنبيه عليها والتحذير منها.

الفرق المخالفة المتوعدة غير خارجة من الملة

ثم إن هناك أمراً آخر يتعلق بمن ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم من المفارقين من الثنتين والسبعين الذين فارقوا السنة والجماعة، فهم أولاً متوعدون بالنار، وهذا صريح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن توعدهم بالنار لا يعني بالضرورة أنهم من الخالدين فيها، بل اتفق جمهور السلف على أن الفرق المفترقة التي لا تزال في ضمن المسلمين الأصل فيها أنها من أهل الوعيد، وليست من الكفار الخلص أو من المرتدين، ولذلك كان السلف إذا حكموا على أحد من أهل الأهواء بالردة أو الكفر الصريح أخرجوه من الثنتين والسبعين وقالوا: لا يعد هذا من فرق المسلمين، وهذا يكاد يكون محل اتفاق بينهم، فمثلاً: أغلب السلف لا يعدون غلاة الجهمية من فرق المسلمين، ولا يعدونهم من الثنتين والسبعين، ولا يعدون غلاة الرافضة من الثنتين والسبعين، ولا يعدون الباطنية من الثنتين والسبعين، بل يعدونها من ملل الكفر التي لا تنسب إلى الإسلام وإن انتسبت.

إذاً: ففرق المسلمين الثنتان والسبعون التي خرجت عن السنة والجماعة لاشك في أنها ضالة وأنها مبتدعة، ويجب على المسلم أن يتبرأ من مناهجها ومن أهلها، لكنها ليست داخلة في صنف الكفار الخلص ولا في أهل الخلود في النار، إنما تدخل في أهل الوعيد من هذه الأمة.

أقول هذا؛ لأنه اشتهر عند بعض الباحثين المتأخرين القول بأن الفرق الثنتين والسبعين خارجة من الملة، وأنها مخلدة في النار، وأنها تترتب عليها أحكام الكفار الخلص، وهذا خطأ، ورأيت في هذا الأمر بعض المؤلفات التي ظهرت أخيراً، كما أنه بالعكس ظهرت مؤلفات أخرى تزعم أن الفرق الثنتين والسبعين ليست من الفرق الضالة كلها، إنما هي من الفرق المختلفة في أمور اجتهادية، كالمذاهب الأربعة في الفقه، وهذا كله ضلال، لا هذا ولا ذاك، فالقول الوسط قول أهل السنة والجماعة أن الافتراق واقع، وأن الفرق المفارقة للسنة والجماعة ضالة ومبتدعة وخارجة عن السنة، ويجب على المسلم أن يتبرأ منها ومن عقائدها، لكنها غير خارجة من الملة إلا من خرج منها من الملة، وهي متوعدة بالنار، وحكمها حكم أهل الكبائر، والله أعلم.

ثم إن في هذه الأحاديث دلالة على أمور سبق التنويه عليها متفرقة، ولكن تحسن الإشارة إليها الآن، وأقول: إن أحاديث الافتراق دليل قاطع على إن الافتراق لابد واقع في هذه الأمة، وأن وقوعه أمر كتبه الله عز وجل، لكن وقوع الافتراق لا يعني ضياع الحق، فقد صح في الأحاديث المتواترة أنه تبقى في هذه الأمة طائفة على الحق ظاهرة ومنصورة إلى قيام الساعة، هذا أمر.

الأمر الآخر: أن وقوع الافتراق لا يعني الرضا به، إذ هو في كتاب الله عز وجل وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم جاء على نوعين: جاء على طريق الإخبار وجاء على طريق التحذير من الوقوع في الأهواء، وذلك من باب تنبيه الأمة حتى لا تقع في الأهواء؛ لأن الأهواء لابد واقعة، ولذا فإن وقوع الافتراق يعني أن المسلم لابد له من أن يحذر في كل أموره من أن يقع في الهوى أو أن يزل أو أن يضل أو أن يتبع أحداً في الدين غير أهل السنة والجماعة.

ثم إن في هذه الأحاديث أيضاً دلالة على أن الافتراق باق إلى قيام الساعة، وبهذا نرد على الذين يزعمون -وهم كثيرون- من المفكرين والعصرانيين والعقلانيين في هذا العصر الذين ينتسبون إلى الإسلام أن دعوى الافتراق دعوى ليست صحيحة، وأن الأمة كلها على الحق، وأن ما يحدث بينها هو أمور خلافية مما يسع فيه الاجتهاد، وأنه لا يجوز أن ندعي أن الأمة مفترقة أو أنها جماعات ينابذ بعضها بعضاً... إلى آخره.

وهذه دعوى -وإن كانت بينة العوار والخطأ- قد أثرت في طائفة من شباب الأمة ومفكريها ومثقفيها، فكان لابد من التنبيه على ذلك، لاسيما أن الذين قالوا بهذه المقولة وزعموا أن هذه الافتراقات ما هي إلا اختلاف في وجهات النظر، وما هي إلا نزاع في أمور اجتهادية بعضهم من المتبوعين الذين يحملون رايات تنتمي إليها جماعات من شباب الأمة، لذا يلزم التنويه بهذه المسألة والتنبيه عليها والتحذير منها.

ثم إن هناك أمراً آخر يتعلق بمن ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم من المفارقين من الثنتين والسبعين الذين فارقوا السنة والجماعة، فهم أولاً متوعدون بالنار، وهذا صريح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن توعدهم بالنار لا يعني بالضرورة أنهم من الخالدين فيها، بل اتفق جمهور السلف على أن الفرق المفترقة التي لا تزال في ضمن المسلمين الأصل فيها أنها من أهل الوعيد، وليست من الكفار الخلص أو من المرتدين، ولذلك كان السلف إذا حكموا على أحد من أهل الأهواء بالردة أو الكفر الصريح أخرجوه من الثنتين والسبعين وقالوا: لا يعد هذا من فرق المسلمين، وهذا يكاد يكون محل اتفاق بينهم، فمثلاً: أغلب السلف لا يعدون غلاة الجهمية من فرق المسلمين، ولا يعدونهم من الثنتين والسبعين، ولا يعدون غلاة الرافضة من الثنتين والسبعين، ولا يعدون الباطنية من الثنتين والسبعين، بل يعدونها من ملل الكفر التي لا تنسب إلى الإسلام وإن انتسبت.

إذاً: ففرق المسلمين الثنتان والسبعون التي خرجت عن السنة والجماعة لاشك في أنها ضالة وأنها مبتدعة، ويجب على المسلم أن يتبرأ من مناهجها ومن أهلها، لكنها ليست داخلة في صنف الكفار الخلص ولا في أهل الخلود في النار، إنما تدخل في أهل الوعيد من هذه الأمة.

أقول هذا؛ لأنه اشتهر عند بعض الباحثين المتأخرين القول بأن الفرق الثنتين والسبعين خارجة من الملة، وأنها مخلدة في النار، وأنها تترتب عليها أحكام الكفار الخلص، وهذا خطأ، ورأيت في هذا الأمر بعض المؤلفات التي ظهرت أخيراً، كما أنه بالعكس ظهرت مؤلفات أخرى تزعم أن الفرق الثنتين والسبعين ليست من الفرق الضالة كلها، إنما هي من الفرق المختلفة في أمور اجتهادية، كالمذاهب الأربعة في الفقه، وهذا كله ضلال، لا هذا ولا ذاك، فالقول الوسط قول أهل السنة والجماعة أن الافتراق واقع، وأن الفرق المفارقة للسنة والجماعة ضالة ومبتدعة وخارجة عن السنة، ويجب على المسلم أن يتبرأ منها ومن عقائدها، لكنها غير خارجة من الملة إلا من خرج منها من الملة، وهي متوعدة بالنار، وحكمها حكم أهل الكبائر، والله أعلم.