فتاوى نور على الدرب [543]


الحلقة مفرغة

السؤال: أسأل عن الشرك الأكبر وما هو الشرك الأصغر؟

الجواب: الشرك الأكبر: هو الشرك المخرج عن الملة، مثل أن يعتقد الإنسان أن مع الله إلهاً آخر يدبر الكون، أو أن مع الله إلهاً آخر خلق شيئاً من الكون، أو أن مع الله أحداً يعينه ويؤازره، فهذا كله شركٌ أكبر، وهذا الشرك يتعلق بالربوبية، أو أن يعبد مع الله إلهاً آخر مثل أن يصلي لصاحب قبر، أو يتقرب إليه بالذبح تعظيماً له، أو ما أشبه ذلك، وهذا من الشرك في الألوهية، فالشرك الأكبر ضابطه ما أخرج الإنسان عن الملة.

وأما الشرك الأصغر: فهو كل عملٍ أطلق الشارع عليه اسم الشرك وهو لا يخرج من الملة، مثل الحلف بغير الله فإنه من الشرك الأصغر، كأن يقول قائل: والنبي محمدٍ ما فعلت كذا، أو والنبي محمدٍ لأفعلن كذا، أو يحلف بالكعبة فيقول: والكعبة المعظمة ما فعلت كذا، أو والكعبة المعظمة لأفعلن كذا أو ما أشبه ذلك، فالمهم أن الحلف بالله من الشرك، لكنه شركٌ أصغر لا يخرج به الإنسان من الملة، والدليل على أنه من الشرك قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) إلا أنه إذا اعتقد أن لهذا المحلوف به من التعظيم مثل ما لله عز وجل من التعظيم فهنا يكون مشركاً شركاً أكبر؛ لأنه ساوى المخلوق بالخالق، فيكون بذلك مشركاً شركاً أكبر، وليعلم أن الشرك لا يغفره الله عز وجل سواءٌ كان أصغر أم أكبر؛ لعموم قول الله تبارك وتعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48] هذا في آية، وفي آية أخرى: وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [النساء:116] .

السؤال: لدي محلات دكاكين، وأريد أن أقوم بتأجيرها على بعض صوالين الحلاقة، فهل في ذلك حرج؟

الجواب: في ذلك حرج، إذا أجرت الدكاكين للحلاقين فإنه من المعلوم حسب العادة أن الحلاقين يحلقون كل شيء، يحلقون الرأس ويحلقون اللحية، بل ربما كان حلق اللحى لديهم أكثر من حلق الرءوس، هذا هو العادة والغالب، وعلى هذا؛ فلا يجوز تأجير الدكاكين للحلاقين إلا إذا اشترط عليهم أن لا يحلقوا فيها اللحى فحينئذٍ لا بأس، وإذا ثبت أنه حلق لحية في هذه الدكاكين كان لمؤجر الدكان أن يفسخ الإجارة؛ لأن المستأجر أخل بشرطٍ صحيح لم يوفِ به، هذا هو الجواب عن تأجير الدكاكين للحلاقة، بمعنى أنه لا يجوز أن يؤجرها للحلاقين إلا إذا اشترط عليهم ألا يحلقوا فيها حلقاً محرماً كحلق اللحى، ويدل لذلك أن تأجيرها إعانةٌ لهم على فعل هذا المحرم، وقد قال الله تعالى: وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، ويدل على تحريم أجرتها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ( إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه ) والأجرة ثمن للمنفعة التي حصل عليها المستأجر.

السؤال: أفيدكم بأنني -ولله الحمد- منذ صغري قد نشأت على طاعة الله عز وجل حتى كبرت، وهذا من فضل الله علي، ولكن سؤالي بأنني أذكر الله وأستغفر بصوتٍ مرتفع، وهذا خارج عن إرادتي، ودائماً يدخل علي الشيطان ويوسوس علي ويقول: أنت ترائي، هذا رياء، ويعلم الله أنني تعودت على ذلك أي: منذ الصغر، وأخشى من زملائي في العمل، فهل أترك ذلك، يقول: ومثال على ذلك أنا أقول في العمل مثلاً: أستغفر الله لا إله إلا الله لا حول ولا قوة إلا بالله؟

الجواب: إن نصيحتي لك أن تستمر على التزامك وأن تحمد الله سبحانه وتعالى على هذا، وأن لا تعجب بعملك، واحرص على أن يكون عملك سراً، اللهم إلا إذا ذكرته من أجل تشجيع غيرك فالعمل بالنيات، أما بالنسبة لرفع الصوت فلا ترفع الصوت على وجهٍ يؤذي من حولك؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج على أصحابه وهم يصلون ويرفعون أصواتهم بالقراءة، فقال صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤذين بعضكم بعضاً بالقراءة ). وإن كان لا يؤذي وخشيت على نفسك من الرياء وهو من الأذكار التي لا يسن رفع الصوت بها فلا ترفع صوتك، وحاول أن تمرن نفسك على ذكرٍ واستغفارٍ ليس فيه رفع صوت.

وقولي: (وهو من الأذكار التي لا يسن رفع الصوت بها) احترازٌ من الأذكار التي يسن رفع الصوت بها، كالأذكار عقب الصلاة، فإن المشروع في الأذكار عقب الصلاة المفروضة أن يرفع الإنسان صوته بها؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: كان رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

واحترازٌ أيضاً من التلبية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يرفعوا صوتهم بالإهلال، يعني: بالتلبية، وكانوا يرفعون أصواتهم بذلك حتى تبح أصواتهم، كانوا يصرخون بذلك صراخاً، فالمهم أن الأفضل في الذكر أن يكون خفيةً وسراً، فإن آذى الجهر به كان حراماً، أعني: الجهر به، وإن لم يؤذِ الجهر به فلا بأس به، إلا أن يخاف الإنسان على نفسه الرياء كما أفاده سؤال السائل فليسر به، هذا ما لم يكن الذكر مما يشرع فيه الجهر فليجهر به.

السؤال: أرجو إيضاح الفرق بين الرؤيا والحلم، وما رأيكم بكتب تفسير الأحلام؟

الجواب: الرؤيا جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والحلم من الشيطان يضرب للنائم أمثالاً يراها في منامه، والضابط الغالب أن ما يكرهه الإنسان فيما يراه من منامه أنه من الشيطان، فإن الشيطان يضرب الأمثال للنائم في أمورٍ تزعجه ويكرهها من أجل أن يدخل عليه الحزن والغم، حيث إن الشيطان عدو، والعدو يحب ما يؤذي عدوه، ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، وقول الله تعالى: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:10]، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الحلم من الشيطان، وأمر من رأى ما يكره أن يتفل عن يساره ثلاث مرات ويستعيذ بالله من شر ما رأى ومن شر الشيطان وأن ينقلب إلى الجنب الآخر، وأن لا يحدث بذلك أحداً، وأخبر أنه إذا فعل ذلك فإنه لا يضره ما رآه في منامه، فإذا رأيت الحلم ورأيت أنه ليس له أساس وليس له أصل وليس له هدف أو رأيت أنه يحزنك فاعلم أنه من الشيطان، وقد ذكر رجلٌ لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه رأى في منامه أن رأسه قد قطع، وأنه ذهب يشتد سعياً وراء رأسه، يعني: رأسه مقطوع وهرب الرأس، وهذا يركض وراءه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تحدث الناس بتلاعب الشيطان بك في منامك )؛ لأن هذا غير معقول وليس له هدف.

السؤال: دخلت المسجد ووجدت الإمام في التشهد الأخير، فهل أعتبر أدركت الجماعة؟

الجواب: بعض العلماء يرى أن الجماعة تدرك إذا كبر للإحرام قبل أن يسلم الإمام، وعلى هذا فأنت مدرك لصلاة الجماعة، وبعض العلماء يقول: إن صلاة الجماعة لا تدرك إلا بإدراك ركعةٍ تامة؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ( من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، فإن مفهوم هذا الحديث أن من أدرك أقل من ركعة لا يكون مدركاً للصلاة، وهذا القول هو الراجح.

وبناءً على هذا؛ نقول: إذا أتيت للمسجد والإمام في التشهد الأخير وأنت تعلم أو يغلب على ظنك أنك تدرك مسجداً آخر من أول الصلاة أو في أثنائها فلا تدخل مع الإمام واذهب إلى المسجد الآخر، وإن كنت لا يغلب على ظنك أنك تدرك جماعةً أخرى في غير هذا المسجد فادخل مع الإمام، وما أدركت معه فهو خير، وإذا كان تخلفك هذا عن عذر فإنا نرجو أن يكتب الله لك أجر الجماعة كاملاً.

السؤال: أدرس القرآن وآخذ على ذلك أجراً، فهل علي في ذلك شيء؟

الجواب: ليس في أخذ الأجر على تعليم القرآن شيء، بل قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله )، وكما أن الإنسان يشتري المصحف ليقرأ فيه بالدراهم كذلك لا حرج عليه أن يؤجر شخصاً يعلمه القرآن، لكننا نقول: الأولى بالشخص إذا أغناه الله عز وجل ألا يأخذ على تعليم القرآن أجراً؛ لأنه يكتسب من الأجر إذا علم القرآن بدون أجرٍ دنيوي يكتسب أجراً عظيماً؛ لأن قارئ القرآن له بكل حرف عشر حسنات، والمعلم الذي لم يدرك المتعلم القرآن إلا به لا شك أنه يؤجر بمثل أجر القارئ؛ لأنه دل على خير والدال على الخير كفاعله. وعلى هذا؛ ننصح إخواننا الذين يعلمون الناس كتاب الله عز وجل سواءٌ في حلق المساجد أو في بيوتهم إذا كان الله قد أغناهم ننصحهم ألا يأخذوا على تعليمهم أجراً من الدنيا؛ ليتوفر لهم أجر الآخرة: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:17] ، وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يوسف:57] فعلى هذا ننصح إخواننا بما ذكرنا ولكن لو أخذوا على هذا أجراً فلا بأس.

السؤال: كيف يكون إخلاص النية في العمل يا فضيلة الشيخ؟

الجواب: إخلاص النية في العمل هو أن يتناسى الإنسان كل ما سوى الله، وألا يكون الحامل له على هذه العبادة إلا امتثال أمر الله عز وجل وإرادة ثوابه وابتغاء وجهه عز وجل، وأن يتناسى كل شيء يتعلق بالدنيا في هذه العبادة، فلا يهتم بالناس أرأوه أم لم يروه، أسمعوه أم لم يسمعوه، ولا يبالي بهم أثنوا عليه أم قدحوا فيه، كذلك أيضاً من أسباب الإخلاص أن يكون الإنسان حين فعله لعبادة مستحضراً لأمر الله عز وجل بها، ومستحضراً لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، مثال ذلك: رجل قام يتوضأ للصلاة، فهنا نقول: أولاً: استحضر أنك إنما توضأت امتثالاً لأمر الله عز وجل، كأنك الآن تقرأ قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ [المائدة:6]، وكأنك لوضوئك تقول: سمعاً وطاعة، تجد في هذا حلاوة ولذة وحباً للطهارة؛ لأن الله أمرك بها، ثم استحضر أنك في هذا العمل متبعٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامك وأنت تتبعه في هذا الوضوء، وبهذا يتحقق لك الثواب والأجر للإخلاص والمتابعة، وبذلك تحقق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

السؤال: ما هي البدعة، وهل لها أقسام، وكيف أعرف أن هذا العمل مبتدع؟

الجواب: البدعة في اللغة: كل شيء يأتي به الإنسان لم يسبقه إليه أحد، هذه البدعة في اللغة سواءٌ كان في العادات أو في المعاملات أو في العبادات، ولكن البدعة الشرعية المذمومة هي البدعة في العبادات، بأن يتعبد الإنسان لله عز وجل بما لم يشرعه، سواءٌ كانت هذه العبادة تتعلق بالعقيدة أو تتعلق بقول اللسان أو تتعلق بأفعال الجوارح، فالبدعة شرعاً هي التعبد لله بما لم يشرعه، هذه البدعة شرعاً.

وبناءً على ذلك، نقول: إذا كان الشيء يفعل لا على سبيل التعبد وإنما هو من العادات ولم يرد نهيٌ عنه فالأصل فيه الإباحة، وأما ما قصد الإنسان به التعبد والتقرب إلى الله فإن هذا لا يجوز إلا إذا ثبت أنه مشروع، هذه هي القاعدة في البدعة.

وأما تقسيم بعض العلماء -رحمهم الله- البدعة إلى أقسام فإن هذا التقسيم لا يرد على البدعة الشرعية؛ لأن البدعة الشرعية ليس فيها تقسيم إطلاقاً، بل هي قسمٌ واحد حدده رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث قال: ( كل بدعةٍ ضلالة )، وجميع من يعرف اللغة العربية وأساليبها يعلم أن هذه الجملة جملةٌ عامة شاملة لا يستثنى منها شيء ( كل بدعةٍ ضلالة )، والقائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه من قواعد الشريعة، ولكن إذا ظن ظانٌ أن هذه بدعة وأنها حسنة فهو مخطئٌ في أحد الوجهين: إما أنها ليست ببدعة وهو يظن أنها بدعة، كما لو قال: تصنيف السنة وتبويبها هذا بدعة، لكنه بدعةٌ حسنة، أو قال: بناء المدارس بدعة لكنه بدعةٌ حسنة أو ما أشبه ذلك، نقول: أنت أخطأت في تسمية ذلك بدعة؛ لأن فاعل ذلك لا يتقرب إلى الله تعالى بنفس الفعل، لكن يتقرب إلى الله بكونه وسيلةً إلى تحقيق أمرٍ مشروع، فتصنيف الكتب مثلاً وسيلة إلى تقريب السنة وتقريب العلم، فالمقصود أولاً وآخراً هو السنة وتقريبها للناس، وهذا التصنيف وسيلة إلى قربها إلى الناس فلا يكون بدعةً شرعاً؛ لأنك لو سألت المصنف قلت: تصنف هذا الكتاب على الأبواب والفصول تتعبد إلى الله بهذا التصنيف بحيث ترى أن من خالفه فقد خالف الشريعة، أو تتقرب إلى الله تعالى بكونه وسيلةً إلى مقصودٍ شرعي وهو تقريب السنة للأمة، سيقول: إني أقصد الثاني لا أقصد الأول.

وبناءً على هذا؛ نقول: إن تصنيف الكتب ليس ببدعةٍ شرعية، كذلك أيضاً بناء المدارس للطلاب هذا أيضاً ليس موجوداً في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه وسيلةٌ إلى أمرٍ مقصودٍ للشرع وهو القيام بمعونة الطالب ليتفرغ للعلم، فهو ليس في ذاته عبادة ولكنه وسيلة، ولهذا تجد الناس يختلفون في بناء المدارس، بعضهم يبنيها على هذه الكيفية وبعضهم يبنيها على هذه الكيفية، ولا يرى أحد الطرفين أن الآخر مبتدعاً، لكونه أتى بها على صفة أو على وجه مخالف للمدرسة الأخرى؛ لأن الكل يعتقد أن هذه وسيلة ليست مقصودةٌ لذاتها.

إذاً: هذا ليس ببدعة لكنه وسيلةٌ إلى عملٍ مشروع، ولو قال قائل: أنا أريد أن أحدث في الليلة التي يزعمون أنها الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدث صلوات على الرسول عليه الصلاة والسلام وثناءً عليه، وأحتفل بهذه الليلة؛ لأن الثناء على الرسول عليه الصلاة والسلام والصلاة عليه عبادة لا شك، فأفعل هذا إحياءً لذكراه، وهذا حسن، إحياء ذكرى الرسول في القلوب حسن، فتكون هذه بدعة حسنة، فنقول: هذه بدعة صح؛ لأنها نفسها قربة، فالصلاة على الرسول عليه الصلاة والسلام قربة لا شك والثناء عليه قربة، وإحياء ذكراه في القلوب قربة، لكن تخصيصها في هذا الوقت المعين بدعة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفعله ولم يسنه لأمته لا بقوله ولا بإقراره ولا بفعله، وكذلك الخلفاء الراشدون، ولم تحدث بدعة الاحتفال بالمولد إلا في القرن الرابع بعد مضي ثلاثمائة سنة من الهجرة، وعلى هذا؛ فإذا قال لنا هذا الرجل: هذه بدعة حسنة قلنا: صدقت في قولك إنها بدعة، ولكنها ليست بحسنة؛ لأنها عبادةٌ على غير ما شرع الله ورسوله، وبهذا علمنا أن من قال: إن من البدع ما هو حسن فإنه مخطئٌ في أحد الوجهين: إما أنه ليس ببدعة وهو حسن كما مثلنا في تصنيف الكتب وبناء المدارس وما أشبه ذلك، فهو حسن لكنه ليس ببدعة؛ لأن الإنسان لا يتعبد لله تعالى بهذا الشيء، وإما أنه بدعة لكن ليس بحسنة، كالاحتفال بمولد الرسول عليه الصلاة والسلام فإنه لا شك أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وذكره بالثناء الحسن بدون غلوٍ لا شك أنه قربى إلى الله عز وجل سواءٌ فعل في تلك الليلة أم في غيرها، فتخصيصه في تلك الليلة يكون بدعة وهو غير حسن؛ لأنه لم يكن مشروعاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا عهد الخلفاء الراشدين ولا الصحابة ولا التابعين، مع أن الشريعة انقطعت بوفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، أي: انقطع التغيير فيها والتجديد والحذف بوفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، إلا ما كان داخلاً تحت القواعد الشرعية فهذا يكون قد أتت به الشريعة من قبل وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام.

وعلى هذا فلا تقسيم للبدعة، كل بدعةٍ في الدين فإنها ضلالة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن المعلوم لنا جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بشريعة الله، وأنه صلى الله عليه وسلم أنصح الخلق لعباد الله، وأنه صلى الله عليه وسلم أفصح الخلق في بيانه بما يقول، أفصح الخلق في بيانه وبلاغته عليه الصلاة والسلام، إذا كان كلامه صادراً عن علمٍ تام وعن نصحٍ تام وعن بلاغةٍ تامة فكيف يمكن أن نقول: إن من البدع ما هو حسن وهو قد قال: ( كل بدعةٍ ضلالة ).

وليعلم أن كلام الله وكلام رسوله مشتملٌ على الأوصاف التي توجب القبول بدون تردد، أولها: العلم، وثانيها: الصدق، وثالثها: الإرادة، ورابعها: البلاغة، هذه مقومات الأخبار وموجبات صدقها، فكلام الله وكلام رسوله لا شك أنه عن علم، وكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لا شك أنه عن إرادة خير كما قال الله تعالى: يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء:26] ، يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ [النساء:176] وكلام الله وكلام رسوله في غاية الصدق، ومن أصدق من الله حديثا، وكلام الله ورسوله أبلغ الكلام وأفصح الكلام، فأفصح الكلام وأبلغه كلام الله، وأفصح كلام الخلق وأبلغه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.