أرشيف المقالات

النهي عن البول في الماء الراكد

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
النهي عن البول في الماء الراكد


عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: "لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ".
وفي رواية: "الَّذِي لاَ يَجْرِي".
وفي رواية البخاري: "ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيْهِ".

ألفاظ الحديث:
(لاَ يَبُولَنَّ): لا: ناهية، والفعل بعدها مجزوم بها.

(أَحَدُكُمْ): خطاب لجميع الأمة ذكرانهم وإناثهم، وجاءت صيغة الخطاب للمذكر تغليباً وإلا فلا فرق بين المذكر والمؤنث وكذا في جميع الأحاديث إلا إذا وجدت قرينة تفرق بينهما.

(فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ): فسرته الرواية الأخرى (الذي لا يجري) فالمقصود بالماء الدائم هو الماء الثابت المستمر الذي لا يجري فينتقل من مكانه، كمياه البرك التي في البساتين، والغدران التي في البراري ونحو ذلك، وقيل في معنى عبارة (الذي لا يجري) تفسير آخر فقيل إن معناه الذي لا يجري أبداً احترازاً من الذي لا يجري بعضه ويجري بعضه الآخر كالبرك التي في المزارع مثلاً ونحوها.

(ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ): وفي رواية البخاري (ثم يغتسل فيه) وكأن هاتين العبارتين فيهما الحكمة من عدم البول بمعنى الاستنكار، إذا كان يبول بما سيكون طهوراً له بعد ذلك بالاغتسال.

وكلا اللفظين (ثم يغتسل منه) و(ثم يغتسل فيه) يفيد حكماً بالنص وحكماً بالاستنباط كما ذكر ابن دقيق العيد فرواية " ثم يغتسل منه" تفيد معنى التناول من الماء الدائم بالنص ويستنبط منها أن الانغماس فيه منهي من باب أولى.

ورواية (ثم يغتسل فيه) تفيد العكس فتفيد معنى الانغماس بالنص، وعلى معنى التناول بالاستنباط، فالمحصِّلة أن كلاً منهما تفيد ما تفيده الرواية الأخرى.
 
من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: الحديث فيه دلالة على النهي عن البول في الماء الدائم لأن مثل هذا الفعل يسبب تلويث الماء بالنجاسة والأمراض التي قد يحملها البول، فتضر كل من استعمل هذا الماء بل ربما تضر نفس البائل حين يستعمل هذا الماء في وضوئه وغسله ونحوه.
 
• وهل النهي عن البول في الماء الدائم للتحريم أم للكراهة؟
القول الأول: أن النهي للكراهة.
القول الثاني: فرقوا بين الماء القليل والماء الكثير فقالوا إذا كان الماء الذي بال فيه قليلاً فالنهي يحمل على التحريم لأنه أسرع تلوثاً وتغيراً، وإن كان الماء كثيراً فيحمل النهي على الكراهة.

والقول الثالث: أن النهي للتحريم، وهذا القول هو الأظهر والله أعلم لأن الحديث لم يفرق بين القليل والكثير فكل ماء راكد لا يجري فإنه يحرم البول فيه، وأما المستبحر وهو الكثير جداً الذي لا يمكن أن يتأثر بالبول كماء البحر فهو لا يدخل في النهي بإجماع العلماء كما نقل ذلك ابن دقيق العيد.
انظر: "شرح العمدة"(1/ 127).
إذن الماء المستبحر وهو الكثير لا يدخل في النهي بالاتفاق فهو مُخصَّص من النهي بالإجماع.
 
الفائدة الثانية: لا فرق في ذلك بين البول وبالماء نفسه أو البول في إناء ثم صبه في الماء أو كأن يبول بقرب الماء ثم يجري البول فيه لأن النتيجة واحدة، والتغوط في الماء الدائم كالبول أيضاً بل هو أقبح وجميع الصور السابقة تدخل في النهي بالإجماع كما نقله النووي حيث قال: " لم يخالف في هذا أحد من العلماء إلا ما حكي عن داود بن علي الظاهري أن النهي مختص ببول الإنسان بنفسه وأن الغائط ليس كالبول، وكذا إذا بال في إناء ثم صبه في الماء أو بال بقرب الماء، وهذا الذي ذهب إليه خلاف إجماع العلماء وهو أقبح ما نقل عنه في الجمود علي الظاهر والله أعلم " انظر: "شرح مسلم للنووي" ( 3/ 152).
 
الفائدة الثالثة: ظاهر الحديث يدل على أن المنهي عنه هو أن يجمع بين البول والاغتسال، حيث لو بال فقط من دون أن يغتسل فلا نهي في ذلك، والصحيح أنه لو بال فقط من دون أن يحتاجه للاغتسال أنه ينُهى عن ذلك وجاء ذلك مصرحاً في رواية أبي داود ولفظه " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة " ففي هذه الرواية نهيان نهي عن البول مفرداً، ونهي عن الاغتسال مفرداً أيضاً.
قال ابن دقيق العيد عن حديث الباب:" يؤخذ النهي عن الجمع من هذا الحديث، ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر".
 
الفائدة الرابعة: يُفهم من حديث الباب جواز البول في الماء الذي يجري، لأن البول يجري مع الماء ولا يستقر، لكن إن كان في أسفل هذا الماء الجاري أحد يستعمله فلا يبال فيه لما في ذلك من أذيته بإلقاء القذر.
 
الفائدة الخامسة: الحديث فيه دلالة على النهي عن الاغتسال في الماء الدائم الذي بيل فيه، وسيأتي في الحديث القادم أن النهي عن الاغتسال في الماء الدائم مطلقاً سواء بال فيه أحد أو لم يبل، وحكم الوضوء في الماء الدائم الذي بال فيه كحكم الاغتسال فينُهى عن الوضوء منه أيضاً لما أخرجه أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه " ولأن الوضوء والغسل يتساويان في المعنى الذي يقتضيه النهي.
 
الفائدة السادسة: لا يلزم من النهي عن البول في الماء الدائم وكذلك الاغتسال كما سيأتي أن الماء نجس إذا فُعل به.

ذلك لأن الراجح أن الماء الذي وقعت فيه النجاسة لا ينجس إلا إذا تغَّير بالنجاسة لا بمجرد ملاقاة النجاسة سواء قَّل الماء أو كثُر.

مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الطهارة).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢