شرح العقيدة الطحاوية [35]


الحلقة مفرغة

قال رحمه الله تعالى: [ فالواجب كمال التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يعارضه بخيال باطل يسميه معقولاً، أو يحمله شبهة أو شكاً، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالة أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول ].

تسمية هذين الأصلين بأنهما توحيدان فيها نوع غموض أو لبس، مع أن المقصود واضح، فهو يقصد وجوب توحيد الله عز وجل بالعبادة، كما أنه لا يطاع غير الرسول صلى الله عليه وسلم في الدين، لكن تسميتهما بالتوحيدين فيها لبس، فالأولى أن يقال: هما أصلان: توحيد المرسل، يعني: توحيد الله عز وجل الذي أرسل الرسل وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا التوحيد هو الأصل، أما الثاني فهو توحيد المتابعة، بمعنى توحيد مصدر الدين، فلا يؤخذ الدين إلا عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله.

إذاً: فالأولى أن نسميهما أصلين، ولا نقول: توحيدان.

قال رحمه الله تعالى: [ فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره، وإلا فإن طلب السلامة فوضه إليهم وأعرض عن أمره وخبره، وإلا حرفه عن مواضعه وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً، فقال : نؤوله ونحمله ].

هذا الانحراف في التلقي نجده واضحاً في كثير من الأمة، والانحراف في التلقي هو أخذ الدين عن غير الرسول صلى الله عليه وسلم والتسليم لغيره عليه الصلاة والسلام، أو الرجوع عند التنازع إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا نجده واضحاً في عدة طوائف من الأمة، أولها: الفرق عموماً ابتداء من الخوارج والرافضة الشيعة، والشيعة الأوائل انقرضوا، وما بقي إلا الرافضة ومن تفرع عنهم، وكذلك القدرية والمرجئة والمعتزلة والجهمية والمشبهة والجبرية وأهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية ثم الفلاسفة والباطنية، كل هؤلاء وإن سلم بعضهم بالمبدأ بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله إلا أنهم عند التنفيذ وعند تلقي الدين أو الأخذ به أو العمل به نجدهم يتلقونه ممن هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم بغير هدى ولا بصيرة، وفي الآونة الأخيرة ظهرت نزعات جديدة تميل إلى هذا الاتجاه، وهي رجوع أصحاب الشعارات إلى شيوخهم وإلى رءوسهم وقاداتهم.

وأقصد بالشعارات الشعارات التي ينضوي تحت لوائها جماعة من الناس، تضع لنفسها مناهج وتضع لنفسها أصولاً تعقد عليها الولاء والبراء وتحكمها عند الخلاف وترجع إليها في بعض أمور دينها أو في أمور الدعوة ونحو ذلك، فهذه الشعارات واللواءات أيضاً وقعت فيما وقع فيه الأولون، فإذا جاء الخبر عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم أرجعوه إلى أصولهم، فإن وافق أصولهم أخذوا به وإن خالف أصولهم سوغوا لمخالفته بتأول أو بتفسير شاذ أو باحتجاج بواقع أو بقول شيخ أو نحو ذلك.

كما أن هناك طائفة ثالثة وقعت، لكنها أخف من غيرها، وهي متعصبة المذاهب، فمتعصبة المذاهب وقعوا في التلقي عمن دون الرسول صلى الله عليه وسلم والتحاكم إليه مع تسليمهم للمبدأ، فمتعصبة المذاهب أحياناً يأتيهم الدليل الذي يخالف مذهبهم ويثبت أنه صحيح وأنه غير منسوخ.. إلى آخر ذلك من القواعد المعروفة في ثبوت الدليل وثبوت دلالته، ثم يعرضون عنه، ويقولون: هذا لا يمشي مع القاعدة التي قال بها فلان، وأحياناً ينسبون القاعدة إلى إمام من أئمة الدين الذين لا يرضون هذا الأسلوب، كالإمام أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد .

ولذلك وجد في شواذ المذاهب ما يخالف الإسلام أصلاً، وسبب ذلك أن طائفة من متأخري أتباع المذاهب حكموا القواعد ولم يحكموا النصوص أحياناً، وعلى سبيل المثال وليس على سبيل القدح أذكر مثالاً لطائفة وهو مثال واضح من أوضح الأمثلة، وقد يوجد نحوه في كل مذهب، لكن أجده في أحد المذاهب واضحاً جداً، خاصة من بعض المنتسبين إلى هذا المذهب المتعصبين له، وهو مذهب الأحناف، والمذهب الحنفي من مذاهب أهل السنة وفي أتباعه وفي شيوخه خير كثير، وكثير منهم من أئمة الإسلام، لكن وجد عند المتأخرين تعصب شديد، فالمثال هو وجود طائفة منهم الآن نراهم في الحرم وفي غيره لا يتمون الركوع أبداً، بل ركوعهم كبعض الرافضة إذا رفع رأسه من الركوع لا يكاد يتم الرفع، مجرد إشارة إلى فوق ثم يهوي ويسجد، فلا يقول: سمع الله لمن حمده، ولا يستكمل الدعاء ولا يعتدل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رجعنا إلى أصل هذا العمل وجدناه يرجع إلى قواعد في المذهب الحنفي، ولا يرجع إلى نص شرعي صحيح؛ والصلاة من أعظم شعائر الدين التي تواتر نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا يمكن لأحد أن يخفى عليه شيء من واجباتها وأركانها، فالصلاة من أعظم شعائر الإسلام التي بقيت كما كانت في المسلمين إلى اليوم إلا من حرف وبدل، فهذا مثال لمتعصبي المذاهب.

قال رحمه الله تعالى: [ فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب -ما خلا الإشراك بالله- خير له من أن يلقاه بهذه الحال، بل إذا بلغه الحديث الصحيح يعد نفسه كأنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يسوغ له أن يؤخر قبوله والعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وكلامه ومذهبه؟!

بل كان الفرض المبادرة إلى امتثاله من غير التفات إلى سواه، ولا يستشكل قوله لمخالفته رأي فلان، بل تستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة وتلغى لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولاً، نعم هو مجهول، وعن الصواب معزول، ولا يوقف قبول قوله على موافقة فلان دون فلان كائناً من كان.

قال الإمام أحمد : حدثنا أنس بن عياض حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حَجْرة، إذ ذكروا آية من القرآن، فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً قد احمر وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: مهلاً يا قوم! بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً، وإنما يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه) ].

هذا فيه إشارة إلى قاعدة في التعامل مع النصوص أرى كثيراً من الناس -بل حتى بعض طلاب العلم في هذا الزمان- لا يتأدبون بأدبها، وهي في المراء والخوض في المسائل العلمية غير البينة أو التي تحتاج إلى الاجتهاد بشروطه والكلام فيها بغير علم مع ضرب النصوص بعضها ببعض، أقول: كثير من الناس اليوم يتساهل، فقد تذكر أحياناً أحاديث أو مسائل علمية في بعض المجالس فتجد كل واحد من الحاضرين ينتزع دليلاً من القرآن أو دليلاً من السنة ويضربون الأدلة بعضها ببعض بدون أدب مع كتاب الله تعالى ومع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدون اعتبار لأصول الاجتهاد وأصول الأخذ بالنصوص، ودون تورع عن القول على الله بغير علم، مع أن مثل هذه المسائل كثيراً ما تؤدي إلى الخصومات والمراء والجدل والنزاع، وأحياناً تؤدي إلى التشاحن، فابتداء الأمر بهذه الصورة خطأ فضلاً عن أن نهايته تؤدي إلى الإثم، فعلى هذا ينبغي أن يناصح الناس وتثار هذه المسألة كثيراً بين طلاب العلم، فيتواصون بعدم التساهل في أخذ المسائل العلمية بغير نهج سليم وفي ضرب الأدلة بعضها ببعض، فتجد أن كثيراً من الناس من السهولة عنده بمكان أن يأخذ آية ويستدل بها على أمر يراه هو مجرد رأي دون أن يعرف هل وجه الاستدلال صحيح وهل الآية تدل على المراد أم لا، وهل هي ناسخة أو منسوخة، ثم هل هو ممن يملك الاجتهاد ويعرف المسائل والأدلة وكيف يجمع بينها.. إلى آخره، كل ذلك لا يراعى في كثير من أحاديث الناس اليوم.

فينبغي أن تتواصوا بهذا الأمر؛ لأنه بدأ يستفحل ويكثر في الناس، حتى إنه تجرأ على ذلك العوام والشباب الصغار والنساء؛ لكثرة تعلم الناس وكثرة القراء فيهم وقلة الفهم، فأخذوا يضربون الآيات بعضهما ببعض والنصوص بعضها ببعض، وكل يأتي وينتزع الدليل على هواه، وأحياناً يستدلون بطرق غريبة جداً لا تتناسب مع فهم العربية فضلاً عن أصول الاستدلال.

وتجدهم يفسرون الآيات على أهوائهم، وينقلون الحديث ثم يفسرونه على أهوائهم، وهذا مشهور وواقع، تتبناه بعض الصحف وتنشره علانية، وهذا نوع من انتشار هذه الظاهرة عند الصحافة والصحفيين، حيث ظهرت الجرأة على أحكام الله تعالى وعلى أحكام الشرع، وعلى قضايا الأمة الخطيرة وما هو من أمور العلم الشرعي، وما الصحافة إلا مظهر من مظاهر ما يحدث في المجتمع، وإن كانت الصحافة في الغالب مجروحة العدالة أصلاً وابتداء، لكن الناس الأصل فيهم العدالة، ونحن ننصح الناس، وأما الصحافة فينبغي أن تردع الصحافة ينبغي أن تردع من قبل الولاة عن الجرأة على دين الله تعالى وعلى أحكامه.

تحريم القول على الله بغير علم

قال رحمه الله تعالى: [ ولا شك أن الله قد حرم القول عليه بغير علم، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، وقال تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، فعلى العبد أن يجعل ما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه، فيصدق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل، وإن لم يعلم هل خالفه أو وافقه لكون ذلك الكلام مجملاً لا يعرف مراد صاحبه، أو قد عرف مراده لكن لم يعرف هل جاء الرسول بتصديقه أو بتكذيبه؛ فإنه يمسك عنه، ولا يتكلم إلا بعلم، والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول.

وقد يكون علم عن غير الرسول، لكن في الأمور الدنيوية، مثل الطب والحساب والفلاحة، وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية؛ فهذه العلم فيها ما أخذ عن الرسول لا غير ].

في هذا المقطع قرر قاعدة من قواعد الفقه في الدين، وهي قاعدة عظيمة، وتشمل عدة مسائل:

المسألة الأولى: تحريم القول على الله بغير علم، وهذا يعني: أن من تكلم في أصول الدين وفي مسائل الحلال والحرام وفي الأمور الشرعية فإنه قائل على الله، فإن كان كلامه عن علم وعن دليل وافق الحق وأصاب، وإن كان كلامه عن غير علم ولا دليل فقد أخطأ في قوله وإن أصاب أو وافق الحق، فحينما يوافق الحق تخرصاً لا ينفعه ذلك، فهو قول على الله بغير علم، ولا يجوز القول على الله بغير في مسائل الدين ولا في غيرها، لكن مسائل الدين هي مقصوده هنا، فلا يجوز القول بأن هذا حق أو باطل، أو بأن هذا حلال أو حرام، أو بأن هذه هي العقيدة أو بأن هذا مراد الله إلا بعلم.

ومن وسائل العلم بالنسبة للمسلم: أن يعرف الدليل ووجه الاستدلال.

ومن ذلك: أن يكون الأمر مما هو معلوم من الدين بالضرورة، كتحريم الكذب مثلاً وتحريم الزنا وتحريم الربا ونحو ذلك، فهذا كله معلوم من الدين بالضرورة، حتى لو لم يستحضر الإنسان الدليل؛ لأنه نقل بالإجماع والتواتر.

ومن ذلك نقله عن إمام هدى وعالم يقتدى به، فلا مانع من أن يقول: قال العالم أو قال الشيخ، فمن هنا تبرأ الذمة ويسلم الإنسان من القول على الله بغير علم.

أما بغير هذا فإنه إذا قال في مسألة من الأمور الشرعية: إن الله أراد كذا أو حرم كذا أو أحل كذا، أو هذا هو الحق دون أن يكون صادراً عن الدليل مع فهم الدليل، أو عما هو معلوم بالضرورة، أو عن قدوة؛ فإنه بذلك يخطئ.

وجوب اعتقاد أن ما جاء به الرسول هو الحق والصدق المطلق

المسألة الثانية: أنَّه يجب على الإنسان المسلم أن يعتقد أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق والصدق مطلقاً، وما عداه من سائر كلام الناس يعرض على هذا الحق والصدق، فإن وافقه فهو كذلك حق وإن لم يوافقه فليس بحق.

وجوب التوقف فيما لم يتبين الحق فيه من الباطل

المسألة الثالثة: أن المسلم إذا أشكلت عليه مسألة من المسائل فلم يعرف هل هي حق وتوافق الحق أم هي باطل؛ وبذل وسعه وتكلف في البحث عن الدليل وسأل أهل العلم، فلم يتبين له وجه الحق؛ فإنه يتوقف، ويسعه التوقف والإمساك، فلا يثبت ولا ينفي ولا يحلل ولا يحرم، ولا يقول: هذا حق ولا باطل؛ بل يقول: الله أعلم، أو: لم يتبين لي وجه الحق. وهذا منهج السلامة الذي عليه أهل الحق، إذاً: لا يتكلم إلا بعلم، والعلم لا يكون علماً إلا إذا قام على الدليل، وهذه قاعدة عامة.

علم الرسول هو العلم النافع الذي تضبط به علوم الدنيا

المسألة الرابعة: أن النافع من العلوم الشرعية هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أما العلوم الدنيوية فإنها تضبط في عموماتها بالشرع في كونها غايات أو وسائل، وكونها -مثلاً- تفيد أو لا تفيد.. إلى آخره، فهذه تضبط بضوابط الشرع، لكنها أمور علمية مبنية على عالم الشهادة، وليست من الأمور التي وردت فيها نصوص الشرع تفصيلاً، وإنما وردت فيها نصوص الشرع على وجه الإجمال، فالعلوم الطبيعية والعلوم المادية ليست محكومة بنصوص جزئية، إنما تحكم بغايات الشرع وقواعد الشرع ونصوص الشرع العامة.

ثم إن هناك من العلوم الدنيوية ما يكون فيه نوع اشتباه بالعلوم الشرعية، تختلط مسائله وأصوله وقواعده وجزئياته بالعلوم الشرعية، وهذا لابد أن يكون للشرع فيه رأي حتى في بعض تفصيلاته، وهو ما يسمى بالعلوم الإنسانية، وبعض المفكرين أو بعض المثقفين حتى من المسلمين يزعم أن العلوم الإنسانية لا دخل للشرع فيها، كعلوم الاجتماع وعلوم السياسة وعلوم الاقتصاد وعلوم التاريخ والحضارة وسائر العلوم الإنسانية، وأنها إنما تحكم بقواعدها عند المتخصصين، وهذا خطأ فادح انبنى عليه في العصر الحاضر أخطاء كثيرة في مفاهيم المسلمين وأعمالهم دولاً وشعوباً وترتب عليه أخطاء قد يصعب علاجها إلا بعد سنين، وسبب ذلك عزل العلوم الإنسانية عن علوم الشرع، فالعلوم الإنسانية ليست كالعلوم الطبيعية والمادية، بل لابد من أن تحكم بالشرع جملة وتفصيلاً، ولابد من أن تنطلق من منطلقاته الأساسية في قواعدها وفي أصولها وفي أهدافها وفي مسائلها الجزئية وفي أحكامها وفي تطبيقاتها، لابد أن تنظم بأصول الشرع والفقه الإسلامي، والفقه ثري بهذه الأمور، بل أغلب الفقه الإسلامي -إذا استثنينا منه العبادات- وجله في العلوم الإنسانية، كعلوم الاجتماع وأحكام الأسرة وعلوم الاقتصاد والبيع وعلوم السياسة، والأحكام السلطانية وغيرها، فالعلوم الاجتماعية في عصرنا الآن مفصولة عن أحكام الشرع التفصيلية، وعزلها عن الفقه يعتبر كارثة أوقعت المسلمين في كثير من الأخطاء والمفاهيم الخطيرة التي أدت إلى الوقوع في انحرافات يصعب علاجها إلا بعد حين.

قال رحمه الله تعالى: [ ولا شك أن الله قد حرم القول عليه بغير علم، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، وقال تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، فعلى العبد أن يجعل ما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه، فيصدق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل، وإن لم يعلم هل خالفه أو وافقه لكون ذلك الكلام مجملاً لا يعرف مراد صاحبه، أو قد عرف مراده لكن لم يعرف هل جاء الرسول بتصديقه أو بتكذيبه؛ فإنه يمسك عنه، ولا يتكلم إلا بعلم، والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول.

وقد يكون علم عن غير الرسول، لكن في الأمور الدنيوية، مثل الطب والحساب والفلاحة، وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية؛ فهذه العلم فيها ما أخذ عن الرسول لا غير ].

في هذا المقطع قرر قاعدة من قواعد الفقه في الدين، وهي قاعدة عظيمة، وتشمل عدة مسائل:

المسألة الأولى: تحريم القول على الله بغير علم، وهذا يعني: أن من تكلم في أصول الدين وفي مسائل الحلال والحرام وفي الأمور الشرعية فإنه قائل على الله، فإن كان كلامه عن علم وعن دليل وافق الحق وأصاب، وإن كان كلامه عن غير علم ولا دليل فقد أخطأ في قوله وإن أصاب أو وافق الحق، فحينما يوافق الحق تخرصاً لا ينفعه ذلك، فهو قول على الله بغير علم، ولا يجوز القول على الله بغير في مسائل الدين ولا في غيرها، لكن مسائل الدين هي مقصوده هنا، فلا يجوز القول بأن هذا حق أو باطل، أو بأن هذا حلال أو حرام، أو بأن هذه هي العقيدة أو بأن هذا مراد الله إلا بعلم.

ومن وسائل العلم بالنسبة للمسلم: أن يعرف الدليل ووجه الاستدلال.

ومن ذلك: أن يكون الأمر مما هو معلوم من الدين بالضرورة، كتحريم الكذب مثلاً وتحريم الزنا وتحريم الربا ونحو ذلك، فهذا كله معلوم من الدين بالضرورة، حتى لو لم يستحضر الإنسان الدليل؛ لأنه نقل بالإجماع والتواتر.

ومن ذلك نقله عن إمام هدى وعالم يقتدى به، فلا مانع من أن يقول: قال العالم أو قال الشيخ، فمن هنا تبرأ الذمة ويسلم الإنسان من القول على الله بغير علم.

أما بغير هذا فإنه إذا قال في مسألة من الأمور الشرعية: إن الله أراد كذا أو حرم كذا أو أحل كذا، أو هذا هو الحق دون أن يكون صادراً عن الدليل مع فهم الدليل، أو عما هو معلوم بالضرورة، أو عن قدوة؛ فإنه بذلك يخطئ.

المسألة الثانية: أنَّه يجب على الإنسان المسلم أن يعتقد أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق والصدق مطلقاً، وما عداه من سائر كلام الناس يعرض على هذا الحق والصدق، فإن وافقه فهو كذلك حق وإن لم يوافقه فليس بحق.

المسألة الثالثة: أن المسلم إذا أشكلت عليه مسألة من المسائل فلم يعرف هل هي حق وتوافق الحق أم هي باطل؛ وبذل وسعه وتكلف في البحث عن الدليل وسأل أهل العلم، فلم يتبين له وجه الحق؛ فإنه يتوقف، ويسعه التوقف والإمساك، فلا يثبت ولا ينفي ولا يحلل ولا يحرم، ولا يقول: هذا حق ولا باطل؛ بل يقول: الله أعلم، أو: لم يتبين لي وجه الحق. وهذا منهج السلامة الذي عليه أهل الحق، إذاً: لا يتكلم إلا بعلم، والعلم لا يكون علماً إلا إذا قام على الدليل، وهذه قاعدة عامة.