شرح العقيدة الطحاوية [15]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [والشيخ رحمه الله أشار بقوله: (ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه) إلى آخر كلامه إلى الرد على المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة، فإنهم قالوا: إنه تعالى صار قادراً على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً عليه؛ لكونه صار الفعل والكلام ممكناً بعد أن كان ممتنعاً، وأنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي! وعَلَى ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما، فإنهم قالوا: إن الفعل صار ممكناً له بعد أن كان ممتنعاً منه].

كل هذه لوازم التزمها هؤلاء؛ بسبب خضوعهم للجهمية والفلاسفة، فحينما ذهبوا لبعض مقولات الفلاسفة والجهمية وقعوا في هذه البلية، وإلا فلو أخذوا بما أخذ به السلف من الوقوف في أمور الغيب على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم الخوض في هذه الأمور بغير علم؛ لما وقعوا في هذه اللوازم.

أقول: منشأ هذا الكلام الذي قالوه -وهو قولهم بأن الله تعالى تكلم بعد أن لم يكن متكلماً وأنه فعل بعد أن لم يكن فاعلاً، وأن الفعل صار ممكناً بعد أن كان ممتنعاً- كل ذلك منشؤه مسألة واحدة، وهي أن هؤلاء المتكلمين صدقوا أسلافهم في أن تجدد القدرة لله تعالى يعتبر من الحوادث، والله منزه عن الحوادث، وهذا كله وهم في أصله وفي فرعه، فالمعتزلة ومن قبلهم من الفلاسفة قالوا بأن تجدد القدرة يدل على وقوع الحوادث في الله تعالى أو به تعالى، وهو منزه عن الحوادث، فإذا كان منزهاً عن الحوادث فكل شيء من أفعال الله تعالى يعتبر مستأنفاً، فهو حادث، وعلى هذا ينفى عن الله.

فلذلك أنكروا أن يكون الله سبحانه وتعالى تكلم بالقرآن فقالوا -بالمعنى الذي فهموه هم ووقع في أذهانهم تشبيهاً-: إن الكلام يعني حدوث أشياء في الله تعالى لم تكن، وهي الكلام والحروف والأصوات. وهذه كلها لوازم لا تلزم أولاً، وإخضاع ذلك إلى قاعدة عقلية إنما هو وهم، والله سبحانه وتعالى منزه عما توهموه، فالله تعالى ليس كمثله شيء، فكل هذه الأوهام لا اعتبار لها.

وسيأتي الكلام عن هذا التفصيل في مسألة الحوادث ووقوعها في الله تعالى أو به أو منه.. إلى آخره، وهذه الأمور إن أمكن طالب العلم أن يكف عنها فهو الأولى، لكن إذا اضطر للرد على مثل هؤلاء فلابد من أن يلتزم الحق ويحترز كثيراً، يجب الاحتراز عندما نتكلم في مثل هذه الأمور، ولا نتكلم في الله تعالى ابتداء، إنما نتكلم فيما يقع بعباراتهم لردها لا لتقريرها.

وللمحقق تعليق على ابن كلاب ، حيث قال: [هو رأس المتكلمين بالبصرة في زمانه، وقد عده الشهرستاني والأشعري وابن طاهر البغدادي من متكلمي أهل السنة].

وهذه مسألة فيها تلبيس، فالأشاعرة يعدون أصحابهم من متكلمي أهل السنة، بل يعدون الماتريدية والكلابية والأشاعرة كلهم من متكلمي أهل السنة، والحق أن أهل السنة ليس فيهم متكلم، وهذا يجب أن يفهم، ومن تكلم ممن ينسب إلى أهل السنة والجماعة فأخذ بأصول الكلامي جزئية أو عامة؛ فإنه فيما أخذ به ليس من أهل السنة، فمنهجه فيما أخذ به ليس محسوباً على أهل السنة.

فهذه الكلمة في رأيي أنها شنيعة في حق السلف، فلا يجوز قولنا مثلاً: فلان من متصوفة أهل السنة، أو: فلان من متكلمي أهل السنة، أو: فلان من فلاسفة أهل السنة، فهذا كله خلط لا يجوز، وإن كان قد يرد على ألسنة بعض أهل العلم، لكنه يفسر بتفسير آخر غير المفهوم الذي يقوله هؤلاء الذين يبجلون متكلمي الأشاعرة والماتريدية والكلابية ونحوه.

إذاً: فلا يصح أن يقال: إن ابن كلاب من متكلمي أهل السنة، وإن كان في أمور من أصول الدين وافق أهل السنة والجماعة ولاشك، وله من المقولات المحمودة شيء كثير، لكنَّه مع ذلك خالف أهل السنة في جوانب، ومنها علم الكلام، فنسبته ونسبة كلامه لأهل السنة فيه خطر، فيجب التنبه.

وهناك تعليق آخر يقول عن ابن كلاب : هو عبد الله بن سعيد بن كلاب ، كان إمام أهل السنة في عصره وإليه مرجعها. ولا أدري هل المعلق تبع غيره أم أنه يعتقد هذا؟! ونحن نقول: هو إمام المتكلمين، وليس بإمام أهل السنة لا في وقته ولا بعد وقته، وأهل السنة قدحوا في جانب التكلم فيه وبدعوه في هذا وخطئوه واعتبروا كلامه من كلام الفرق، وعُدَّ من المفارقين للسنة في المقولات التي انفرد بها، وهي المقولات الكلامية، كقوله في كلام الله، وهو من أشهر مقولاته، وسيأتي.

قال رحمه الله تعالى: [وأما الكلام عندهم فلا يدخل تحت المشيئة والقدرة، بل هو شيء واحد لازم لذاته، وأصل هذا الكلام من الجهمية، فإنهم قالوا: إن دوام الحوادث ممتنع، وإنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ؛ لامتناع حوادث لا أول لها، فيمتنع أن يكون الباري عز وجل لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئة، بل يمتنع أن يكون قادراً على ذلك؛ لأن القدرة على الممتنع ممتنعة!].

كل هذه الفلسفة لا طائل وراءها، وهي لوازم لا تلزم عقلاً وكلها أوهام وما رتب عليها أوهام، والأوهام خطر في أمور الغيب، بل هي خطأ وانحراف، وقبل أن يبدأ بالرد أحب أن أشير إلى ضعف عقول هؤلاء وإن كان منهم من يشار إليهم بالبنان، خاصة فيما خالفوا فيه السلف.

فأقول: إن منشأ هذه الضلالة -كما أسلفت- أنهم عولوا على عقولهم في أمر الغيب، والعقول مخلوقة وقاصرة وضعيفة، فما عرفت نفسها وما عرفت كيف هي وكيف تعمل، فكيف تعرف ما يتعلق بذات الله تعالى وأفعاله وأسمائه وصفاته؟!

وما أشبه هؤلاء بالأطفال الصغار، وإن كان الأطفال الصغار أطهر منهم فطرة، لكن الأطفال الصغار أحياناً يتكلمون بخيال ويصدقون خيالهم، فالطفل إذا تحدى أحداً من الناس فربما قال: سآخذ هذا البيت وأضربك به، أو: سأحمل هذا الجبل وأرميه عليك، بل بعض الأطفال قد يقول: سأنزل عليك السماء، وبعد أن يكبر ويرشد يعلم أن هذه أوهام، أليس كذلك؟!

فالمتكلمون على صنفين: منهم من يستمر في أوهامه، فيقول: هذا ممتنع في حق الله، والله يقدر أو لا يقدر، وهذا لا يتعلق بالمشيئة.. إلى آخره، فيتكلم بكلام هو رجم بالغيب، وكل ذلك لا أصل له في الكتاب والسنة، وما لا أصل له في الكتاب والسنة فهو رجم بالغيب، وإذا كان رجماً بالغيب فليس بحق.

فبعضهم يستمر -نسأل الله العافية- على اعتقاداته حتى يموت على ذلك.

وبعضهم يرشد كما يرشد الطفل، وهذا ثبت عن كثير منهم، بل ثبت عن مثل الغزالي وعن مثل الرازي ونحوهما ممن دخلوا في علم الكلام وكان عندهم شيء من التقوى والصلاح وقصد الخير، لكنهم فتنوا بالكلام في أول أعمارهم، فهؤلاء ثبت أنهم وصلوا إلى حد الاعتراف بأنهم ما استفادوا من الكلام إلا ضياع الوقت والجهد وضياع الدين، حتى قال الجويني : ليتني أموت على عقيدة عجائز نيسابور، وحتى إن الرازي أيضاً تكلم عن علم الكلام بكلام رائع يكتب بماء الذهب، وحتى إن الغزالي انصرف وصرف نفسه وتناسى ما كتبه وما قاله وأكب على كتب السنة يريد أن يصرف ذهنه عما وقع فيه من الكلاميات وغيرها، وغيرهم كثير يعدون بالمئات من الذين رجعوا.

فإذاً كان هؤلاء من أصحاب علم الكلام قد رجعوا عنه وتابوا إلى الله وحذَّروا كل التحذير، كما ثبت عن الجويني وعن الرازي ، وحذروا تحذير المشفق على الأمة من الوقوع في علم الكلام دقيقه وجليله؛ فكيف تبقى طائفة من الأمة تتبع هذا النهج وتدين به؟! فنسأل الله العافية.

الرد على القائلين بامتناع كون الله لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئة

ٍقال رحمه الله تعالى: [وهذا فاسد؛ فإنه يدل على امتناع حدوث العالم وهو حادث، والحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً فلا بد أن يكون ممكناً، والإمكان ليس له وقت محدود، وما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت فيه، فليس لإمكان الفعل وجوازه وصحته مبدأ ينتهي إليه، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً صحيحاً، فيلزم أنه لم يزل الرب قادرا عليه، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها.

قالت الجهمية ومن وافقهم: نحن لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له، لكن نقول: إمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له، وذلك؛ لأن الحوادث عندنا تمتنع أن تكون قديمة النوع، بل يجب حدوث نوعها ويمتنع قدم نوعها، لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه، فإمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا أول له، بخلاف جنس الحوادث].

هذا الكلام متناقض لا يدخل العقل، فسليم العقل لا يستطيع أن يجمع بين هذا القول وبين قول الجهمية من جانب آخر بامتناع حوادث لا بداية لها ولا نهاية، وهذه المقولة هي التي أوقعت الجهمية في إنكار كثير من أصول الدين، فإنكارهم لأسماء الله وصفاته مبني على هذا، وإنكارهم للرؤية مبني على هذا، بل قولهم بفناء الجنة والنار، وإنكارهم للحسيات أو للسمعيات الثابتة مثل الصراط والميزان ونعيم الجنة المادي -لأنهم يقولون: النعيم نعيم روحي- كل ذلك مبني على هذه المقولة في مسألة الحوادث.

والذين تأثروا بهم وقعوا في بعض ما وقعوا فيه، فالمعتزلة وقعوا في إنكار صفات الله وإنكار بعض السمعيات؛ لأنهم قالوا ببعض مقولات الجهمية، ثم جاء بعدهم المتكلمون وأولوا الصفات وأولوا بعض السمعيات، وقالوا بعض المقولات التي قال بها الجهمية والمعتزلة؛ نظراً لأنهم أخذوا بعض قاعدة الفلسفة حول الحوادث التي سيأتي الكلام عنها بشكل أكثر تفصيلاً.

قال رحمه الله تعالى: [فيقال لهم: هب أنكم تقولون ذلك، لكن يقال: إمكان جنس الحوادث عندكم له بداية، فإنه صار جنس الحدوث عندكم ممكناً بعد أن لم يكن ممكناً، وليس لهذا الإمكان وقت معين، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم دوام الإمكان وإلا لزم انقلاب الجنس من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث شيء، ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث أو جنس الحوادث أو جنس الفعل أو جنس الأحداث أو ما أشبه هذا من العبارات من الامتناع إلى الإمكان هو مصير ذلك ممكناً جائزاً بعد أن كان ممتنعاً من غير سبب تجدد، وهذا ممتنع في صريح العقل.

وهو أيضاً انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي؛ فإن ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة، وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين؛ فإنه ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب ممكناً، فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكناً، وهذا أبلغ في الامتناع من قولنا: لم يزل الحادث ممكناً، فقد لزمهم فيما فروا إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا منه؛ فإنه يعقل كون الحادث ممكناً ويعقل أن هذا الإمكان لم يزل، وأما كون الممتنع ممكناً فهو ممتنع في نفسه، فكيف إذا قيل: لم يزل إمكان هذا الممتنع؟! وهذا مبسوط في موضعه].

ٍقال رحمه الله تعالى: [وهذا فاسد؛ فإنه يدل على امتناع حدوث العالم وهو حادث، والحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً فلا بد أن يكون ممكناً، والإمكان ليس له وقت محدود، وما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت فيه، فليس لإمكان الفعل وجوازه وصحته مبدأ ينتهي إليه، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً صحيحاً، فيلزم أنه لم يزل الرب قادرا عليه، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها.

قالت الجهمية ومن وافقهم: نحن لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له، لكن نقول: إمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له، وذلك؛ لأن الحوادث عندنا تمتنع أن تكون قديمة النوع، بل يجب حدوث نوعها ويمتنع قدم نوعها، لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه، فإمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا أول له، بخلاف جنس الحوادث].

هذا الكلام متناقض لا يدخل العقل، فسليم العقل لا يستطيع أن يجمع بين هذا القول وبين قول الجهمية من جانب آخر بامتناع حوادث لا بداية لها ولا نهاية، وهذه المقولة هي التي أوقعت الجهمية في إنكار كثير من أصول الدين، فإنكارهم لأسماء الله وصفاته مبني على هذا، وإنكارهم للرؤية مبني على هذا، بل قولهم بفناء الجنة والنار، وإنكارهم للحسيات أو للسمعيات الثابتة مثل الصراط والميزان ونعيم الجنة المادي -لأنهم يقولون: النعيم نعيم روحي- كل ذلك مبني على هذه المقولة في مسألة الحوادث.

والذين تأثروا بهم وقعوا في بعض ما وقعوا فيه، فالمعتزلة وقعوا في إنكار صفات الله وإنكار بعض السمعيات؛ لأنهم قالوا ببعض مقولات الجهمية، ثم جاء بعدهم المتكلمون وأولوا الصفات وأولوا بعض السمعيات، وقالوا بعض المقولات التي قال بها الجهمية والمعتزلة؛ نظراً لأنهم أخذوا بعض قاعدة الفلسفة حول الحوادث التي سيأتي الكلام عنها بشكل أكثر تفصيلاً.

قال رحمه الله تعالى: [فيقال لهم: هب أنكم تقولون ذلك، لكن يقال: إمكان جنس الحوادث عندكم له بداية، فإنه صار جنس الحدوث عندكم ممكناً بعد أن لم يكن ممكناً، وليس لهذا الإمكان وقت معين، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم دوام الإمكان وإلا لزم انقلاب الجنس من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث شيء، ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث أو جنس الحوادث أو جنس الفعل أو جنس الأحداث أو ما أشبه هذا من العبارات من الامتناع إلى الإمكان هو مصير ذلك ممكناً جائزاً بعد أن كان ممتنعاً من غير سبب تجدد، وهذا ممتنع في صريح العقل.

وهو أيضاً انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي؛ فإن ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة، وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين؛ فإنه ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب ممكناً، فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكناً، وهذا أبلغ في الامتناع من قولنا: لم يزل الحادث ممكناً، فقد لزمهم فيما فروا إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا منه؛ فإنه يعقل كون الحادث ممكناً ويعقل أن هذا الإمكان لم يزل، وأما كون الممتنع ممكناً فهو ممتنع في نفسه، فكيف إذا قيل: لم يزل إمكان هذا الممتنع؟! وهذا مبسوط في موضعه].