ذكاء مؤمن آل فرعون
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
ذكاء مؤمن آل فرعونهذا أنموذجٌ فريدٌ من الدعاة إلى الله عز وجل يستخدم كلَّ أدوات الداعية الواعي ليقنع المخاطبين، ويلجم المعاندين.
صفاته: إن القرآن العظيم يصف هذا الداعية بصفات أربع: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ ﴾ [غافر: 28]، بهذا الوصف الموجز المعجز اتَّضحت لنا صفات هذا الداعية الفذ:
إنه (رجل)، ولولا رجولته ما وقف هذا الموقف يتحدث ببسالة في حضرة فرعون وملَئِه.
وهو (مؤمن)، فإذا به يجمع بين القوة والصلابة والثبات التي تمثلها كلمة (رجل)، وبين الإيمان الراسخ الذي يستمد منه التثبيت.
وهو (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ)، وهذا النسب المثير وحده كافٍ لينصت الملأ لكل حرفٍ ينطق به، خاصة وهو يمثل دور المعارض لسياسة فرعون!
ثم يُختَم الوصف لهذا الداعية المؤمن بأنه ﴿ يَكْتُمُ إِيمَانَه ﴾؛ لأنه يعلم أن الكتمان لا بد منه في هذه المرحلة، حتى يستطيعَ أن يُقيم الحجة الدامغة على فرعون وملئِه بأسلوب مَن يتحدث كأنه واحد منهم وناصحٌ لهم.
ذكاؤه في عرض الموضوع: إن فرعون يريد قتل موسى ﴿ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى ﴾، وقد جمع ملأه ليشاورهم في ذلك، فيضع الداعية المؤمن يده على الموضوع مباشرة ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُم ﴾ [غافر: 28].
لقد تجلَّى ذكاؤه هنا في استخدام صيغة الجمع، رغم أن المصرَّ على قتل موسى هو فرعون وحده، ولكنه استخدم صيغة الجمع؛ لكيلا يظن فرعون أنه يقصده هو بعينه فيبطِش به، إن وقْعَ البداية كان كالصاعقة على فرعون وملئه، لذلك بادَر الداعية المؤمن بتقديم مبررات دفاعه عن موسى، إنه رجل واحد أعزل، فكيف تتمالؤون عليه لتقتلوه؟ إنه يثير فيهم عاطفة الشفقة على رجل أعزل، ويثير فيهم عاطفة الإعجاب برجلٍ يتمتَّع برجولة فائقة في التحدي للحاكم الظالم، وهدْم نظريته القائمة على قوله: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ﴾، إنه يقول لهم: إن موسى في القمة من الشجاعة في إبداء الرأي، فناقشوا هذا الرجل قبل أن تُصدروا حكمًا بإعدامه! أما المبرر الآخر فهو أن موسى يقول: ﴿ رَبِّيَ الله ﴾، فما الذنب في ذلك؟ وهل هذا يكفي لإدانة رجل والحكم عليه بالقتل، خاصة وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟ إن هذا ما لا يُقره منطق أو عقل سليم.
تركيزه على الإقناع العقلي: إن الداعية المؤمن يعلن صراحة في لمحة ذكية خاطفة أن الرب ليس هو فرعون، وإنما الرب هو الذي أيَّد موسى بالآيات البينات ﴿ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُم ﴾، فالبينات من عنده لا من عند فرعون، فناقِشوا موسى بعقلانية و موضوعية: ﴿ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِى يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾، إنه خطاب عقلاني ساطع إذا افترضنا أن موسى كاذب، فماذا يضيركم من كذبه؟ وإن افترضنا أنه صادق فأنتم أول المستفيدين من اتباعه، وفي جميع الأحوال لا أرى مُسوِّغًا لقتله.
استخدامه أسلوب التلميح بذكاء: ثم يعرِّض الداعية الذكي بفرعون وكأنه يقصد موسى، فيقول: ﴿ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾ إنه يوهم الحاضرين أنه يقصد موسى بقوله: مسرف كذاب، وهو في الحقيقة يقصد فرعون؛ لأنه أسرف في قتل أبناء شعبه دون جريرة من ذنب، وكذب عليهم كذبة هائلة فاضحة بقوله لهم: أنا ربكم الأعلى! وأعظم دليل على أنه يقصد فرعون بقوله مسرف كذاب، قوله في أول الجملة ﴿ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي ﴾.
فالهادي هو الله وليس فرعون، وهو تأكيد جديد من الداعية للحاضرين بأن فرعون ليس إلهًا كما يزعم، لقد كان الداعية شديد الذكاء في استخدام لغة التلميح والإشارة، وهذا ما هزَّ الحاضرين وعلى رأسهم فرعون نفسه.
استخدامه أسلوب المقارنة: كما استخدم بذكاء شديد أسلوب المقارنات بين غير متكافئين لإقامة الحجة الدامغة، إنه يقارن بين قوة وبأس فرعون من جهة، وقوة الله عز وجل وبأسه الجبار من جهة أخرى! واحكموا أنتم إذا كانت المقارنة بين قوة عبد / إنسان / مخلوق، لا حول له ولا قوة في الحقيقة، وقوة العزيز الجبار القوى المتين سبحانه، إنه يقول لهم: ﴿ يَا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جَاءَنَا ﴾ غافر 29، لقد هزَّت هذه المقارنة الرهيبة فرعون هزًّا عنيفًا، فجعلته لا يستطيع الرد على الحجة بالحجة، وإنما لجأ إلى الاستبداد الذي كان من سماته المعروفة، ورد في نبرة المهدد للجميع: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾، ويعطينا الداعية المؤمن درسًا في تجاهل المعترضين المغرورين، وعدم تضييع الوقت في الرد على مقاطعتهم ما دامت الحجة قاطعة لا تدع مجالًا لِرَدٍّ يُسمَع، وأخذ الداعية الذكي يطرق الحديد وهو ساخن، فراح يضرب أمثلة لأمم سابقة؛ إنه يذكِّرهم بما جرى للمعاندين المكذبين الطغاة من الأمم السابقة، فيقول لهم: ﴿ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ [غافر: 30 – 31].
إنه يستخدم ثقافته الواسعة، ومعرفته بما جرى للأمم السابقة في الوقت المناسب وفي اللحظة الحاسمة، فإذا بكلامه يهز الجمع من الداخل، مما مهَّد فيما بعد إلى إيمان الكثيرين برسالة موسى عليه السلام.
استخدامه لغة العاطفة: نتعلم كذلك من الداعية المؤمن، كيفية السيطرة على قلوب المخاطبين باستخدام أسلوب النداء الذي يرقق القلوب، إنه يكرر في مخاطبته لهم نداءه: ﴿ يَا قَوْمِ ﴾؛ ليستميل قلوبهم ويصرفهم إليه، ثم هو لم يكتفِ بذلك، وإنما يكرر قوله: ﴿ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ ﴾؛ ليقرِّر في نفوسهم أنه واحد منهم ينشد لهم الخير، والجديد أنه استخدم مع النداء والمقارنة أسلوب الاستفهام التعجبي والاستنكاري؛ كي يستخدموا عقولهم هم أنفسهم؛ ليجيبوا بالحق دون تردُّد: ﴿ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لأِكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ ﴾.
قوة الحجة تكمن في العلم والإيمان: إن هذا الداعية العظيم يعلمنا الثبات في وجه العواصف مهما كانت قوية، متسلحين بسلاح الإيمان والعلم، وليس بسلاح العنف أو السب، أو مقابلة الإرهاب - كالذي مارسه فرعون - بإرهاب مثله، كلا، إنما يعطينا درسًا في أن القوة تكمن في العلم والإيمان، ويعطينا درسًا في النهاية يتمثل في أن الداعية عليه أن يبذل وسعه في الدعوة، والهادي هو الله عز وجل وحده، ومن هنا وجب التفويض في كل الأمور لله ﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 44].
فإذا أدى الداعية واجبه الدعوى على الوجه الأكمل، كان من الطبيعي أن يُكافَأ من ربِّه سبحانه: ﴿ فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: 45].