شرح زاد المستقنع باب صفة الحج والعمرة [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فالمصنف رحمه الله تعالى يقول: [وصفة العمرة أن يحرم بها من الميقات أو من أدنى الحل]

لقد شرع المصنف رحمه الله في بيان صفة العمرة، والعمرة من أجلّ الطاعات وأحب القربات إلى الله عز وجل، وكتاب المناسك يعتني فيه فقهاء الإسلام رحمهم الله ببيان أحكام الحج والعمرة، فبعد أن فرغ رحمه الله من بيان مناسك الحج وصفة الحج إلى بيت الله الحرام، شرع في بيان مناسك العمرة وصفتها، وهذا يعتبره أهل العلم رحمهم الله من باب التدرج من الأعلى للأدنى، فقد بيّن رحمه الله الحج الأكبر وبيّن صفاته وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، ثم شرع في بيان الحج الأصغر وهو العمرة.

قوله: (وصفة العمرة) صفة الشيء حليته وما يتميز به عن غيره، والعبادات توقيفية، حيث أن المكلف فيها يتوقف على نص الشرع من الكتاب والسنة في كيفية أدائها والقيام بها على وجهها.

فهو رحمه الله سيبين ما ينبغي على المعتمر أن يقوم به إذا أراد أن يؤدي هذا النسك، والعمرة أصلها في لغة العرب: الزيارة، وتطلق أيضاً بمعنى: القصد، ومن إطلاقها بمعنى الزيارة، قول العرب: جاءنا معتمراً، أي: جاءنا زائراً، وكذلك يقولون: اعتمر بمعنى قصد، ومن هنا قال أهل العلم رحمهم الله: إن العمرة في اصطلاح الشرع: القصد إلى بيت الله الحرام على الوجه المخصوص، والمراد بهذا الوجه المخصوص: أن يؤدي مناسك العمرة بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة.

وهذه العبادة -أعني العمرة- تقع على سبيل اللزوم وعلى سبيل النفل، فتكون واجبة على المكلف وتكون نفلاً تطوعاً من المسلم غير واجبة عليه، فأما وجوبها فيأتي على صورتين:

الصورة الأولى: أن يلزمه بها الشرع، وهذا إن توفرت الشروط المعتبرة ووجدت عند المكلف، وهذا القول -أعني: القول بوجوب العمرة- إنما هو على أحد قولي العلماء رحمهم الله، وقد ذكرنا نصوص الكتاب والسنة التي تدل على رجحان هذا القول، وأن الله فرض على المسلم أن يعتمر إلى بيته الحرام، كما فرض عليه الحج إلى بيته الحرام، وذكرنا هذا الخلاف، وذكرنا أدلة القولين وحجج الطائفتين، وأن الأقوى والأرجح هو القول: بوجوب العمرة، ولذلك وصفت بكونها حجاً أصغر؛ لقوله سبحانه وتعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3]، فجعل الحج منقسماً إلى حج أكبر وحج أصغر، وهي واجبة على المكلف بإيجاب الشرع مرة في العمر، كوجوب الحج، لكن هذا الوجوب يتقيد بشرائط، وقد تكلمنا على هذه الشرائط في مقدمة مناسك الحج، وذكرنا ما الذي ينبغي توفره من الشروط للحكم بوجوب الحج والعمرة.

الصورة الثانية: أن يقوم المكلف بإلزام نفسه بها، وذلك إذا نذر بالعمرة إلى بيت الله الحرام فقال: لله عليَّ أن أعتمر في رمضان، أو لله عليَّ أن أعتمر هذا الأسبوع، فإنها تكون واجبة ولازمة عليه، ولكن هذا الإيجاب والإلزام إنما هو من نفسه وليس من الشرع.

أما وقوعها على سبيل النفل ففي كل وقت، في أشهر الحج وغيرها، وكونها نافلة فهي طاعة وقربة من أجل الطاعات والقرب وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى؛ لاشتمالها على توحيد الله سبحانه، ونية التقرب له سبحانه وتعالى والإهلال بالتوحيد والتلبية، ثم الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، مع اشتمالها على ذكر الله عز وجل وإقامة شعائره، ولذلك وردت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في استحباب العمرة وفضلها، حتى صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرات ما بينهن ما اجتنبت الكبائر) ، فجعل العمرة إلى العمرة مكفرة ما بينهما بشرط اجتناب الكبائر، ومعنى ذلك أنها لا تبقي صغائر الذنوب، وهذه نعمة ورحمة من الله سبحانه وتعالى، فإن الصغائر وإن كانت ذنوباً يسيرة إلا أنها إذا اجتمعت ربما أهلكت العبد والعياذ بالله! والله عز وجل يتدارك عبده بلطفه حينما جعلها مكفرة لذنبه، فإن هذا التكفير وإن كان من صغائر الذنوب رحمة من الله سبحانه، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام، وصححه غير واحد من العلماء، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب إلى المتابعة بين الحج والعمرة فقال: (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد والفضة) ، فبيّن هذا الحديث فضل الاعتمار إلى بيت الله الحرام، واستحب السلف رحمهم الله هذه الطاعة وفضلوها.

يكون الإنسان معتمراً على وجهين:

الوجه الأول: أن يعتمر اعتماراً حقيقياً فينال هذا الفضل.

والوجه الثاني: أن يكون في حكم المعتمر من جهة الثواب وحصول الفضيلة، فيكون معتمراً فضلاً لا حقيقة، بمعنى: أن الله يعطيه ثواب العمرة، وذلك بطاعات ورد الشرع بفضلها والترغيب فيها، ومن ذلك التطهر في البيت وإتيان مسجد قباء والصلاة فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء وصلى فيه كان له كأجر عمرة) ، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من صلى صلاة الصبح في جماعة ثم جلس في مجلسه -وفي رواية: في مقعده- يذكر الله حتى تطلع عليه الشمس ثم صلى ركعتين كان له كأجر حجة وعمرة تامة تامة)، فهذا الفضل من جهة التنزيل، أي: أنه ينال فضل الاعتمار والحج إلى بيت الله الحرام.

هنا مسألة فقهية اختلف العلماء رحمهم الله فيها وهي: إذا كانت النصوص قد دلت على فضيلة الاعتمار إلى بيت الله الحرام وزيارته، فهل الأفضل أن يكرر المسلم ذلك الاعتمار، أو لا يكرره؟

فقال جمهور العلماء: يستحب للمسلم أن يكثر ويكرر من الاعتمار بالبيت، وبهذا القول قال فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الظاهر والحديث، فقالوا: يستحب للمسلم أن يكثر من العمرة، وأنه لا بأس أن يعتمر أكثر من عمرة في عام واحد.

وذهب بعض السلف، وهو قول الإمام مالك رحمه الله: إلى أنه لا يكرر العمرة في السنة أكثر من مرة، أي: أنه لا يشرع تكرار العمرة.

واحتج الجمهور على مشروعية تكرار العمرة بقوله عليه الصلاة والسلام: (الصلوات الخمس، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة مكفرات ما بينهن) قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص في هذا الحديث على أن ما بين العمرتين يغفر بشرط ترك الكبيرة، ويفهم من الحديث الترغيب والندب للإكثار منها، فدل على الاستحباب ولم يرد ما يقيد ذلك بعام ولا غيره.

أما الدليل الثاني الذي دل على مشروعية تكرار العمرة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تابعوا بين الحج والعمرة) قالوا: إن هذا يدل على مشروعية التكرار، فإن المتابعة بين الحج قد يكون الإنسان في حجه متمتعاً، وقد يكون في حجه قارناً، وعلى هذا يتابع بين عمرة حجه وعمرة مستقلة.

وكذلك أيضاً من أنسب الأدلة وألطفها، والتي استدل بها على مشروعية تكرار العمرة، ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه كان يأتي قباءً كل سبت) ، فكونه عليه الصلاة والسلام كان يأتي مسجد قباء كل سبت، إنما هو لفضيلة العمرة، فلما تكرر ذلك منه دل على ندب واستحباب تكرار العمرة.

وقد جاء عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كرروا العمرة في العام الواحد، أثر ذلك عن أبي بكر الصديق ، وكذلك أثر عن بنته الصديقة عائشة رضي الله عن الجميع، وأثر عن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عن الجميع، أنهم كانوا يعتمرون أكثر من عمرة في العام الواحد، وهذا هو القول الصحيح والأولى، خاصة وأن الأصل يدل على مشروعية ذلك.

وقوى بعض العلماء هذا القول: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حجت معه أم المؤمنين عائشة كما في الصحيحين، وكان حجها تمتعاً، فلما أصابها الحيض قبل أن تتحلل من العمرة أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنقلب قارنة، فانقلبت قارنة لقوله عليه الصلاة والسلام في ختام حجها: (طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك) فحكم عليه الصلاة والسلام بأنها قد جمعت بين الحج والعمرة وذلك بالقران، ومع كونها قد جاءت بحج وعمرة قراناً فإنها أصرت على أن تعتمر، فأذن لها أن تعتمر من الحل فاعتمرت من التنعيم رضي الله عنها وأرضاها، وهذا بلا إشكال تكرار للعمرة بعد العمرة، فدلت هذه النصوص على مشروعية التكرار، خاصة وأن الشرع لم يقيد ذلك بحد كما لا يخفى.

صفة العمرة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: صفة الإجزاء: وهذه الصفة هي التي يبين فيها أركان العمرة وواجباتها، بمعنى: أنه يجب على المكلف أن يوقع عمرته على هذه الصفة، ولا تجزيه عمرته إلا إذا وقعت على هذا الوجه المخصوص، الذي دلت النصوص الشرعية على لزومها.

القسم الثاني من صفات العمرة: صفة الكمال:وهي الصفة التي يعتنى فيها ببيان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الكامل، فتذكر فيها الأركان والواجبات والسنن والمستحبات، فهذه الصفة الثانية فيها ما هو لازم على المكلف أن يأتي به: كالطواف، والسعي، والحلق أو التقصير، الذي هو التحلل، وابتداء النسك بالإحرام، ومنها ما ليس بلازم ولا واجب عليه، وإنما هو على سبيل الندب والاستحباب: كالأذكار المستحبة، وكيفما كان فأهل العلم رحمهم الله برحمته الواسعة يعتنون في كتبهم ببيان الصفتين.

قوله: (أن يحرم بها) أي: بالعمرة، فإن كانت واجبة عليه أحرم ناوياً إبراء ذمته من الفرض، وإن كانت نذراً نواها نذراً، وإن كانت نافلة نواها نافلة، وإن كانت عن غيره أحرم بها عن ذلك الشخص.

قوله: (من الميقات) أي: ميقاته الذي أوجب الله عليه أن يحرم منه، وقد تقدم معنا في أول كتاب المناسك بيان المواقيت التي وردت في حديثي الصحابيين الجليلين عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع وأرضاهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان حدود المواقيت، فهو بقوله: (أن يحرم بها من ميقاته) أي: أن العمرة كالحج، فكما أنه في الحج يلزم بالإحرام من الميقات، كذلك في العمرة يحرم من ميقاته، فإن كان دون الميقات فإنه يحرم بها من حيث أنشأ، حتى وإن كان قريباً من حدود الحرم وليس بينه وبين الحرم إلا اليسير، فإنه يحرم من موضعه، وهكذا لو دخل دون المواقيت ثم طرأت عليه العمرة، فإنه من حيث طرأت عليه وأنشأ العمرة يحرم وذلك ميقاته.

أقسام الناس في المواقيت والإحرام

قوله: (أو من أدنى الحل) الناس ينقسمون إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكونوا خارجين عن المواقيت، فهؤلاء يتقيدون بالمواقيت إن دخلوا مارين بها ناوين العمرة، فيحرمون منها كما تقدم.

القسم الثاني: أن يكونوا دون المواقيت، وهؤلاء ينقسمون أيضاً إلى قسمين:

القسم الأول: منهم من هو دون الميقات خارج حدود الحرم، فهؤلاء يحرمون من مواضعهم كأهل عسفان وقديد، وهكذا أهل اليتمة فإنهم دون ميقات المدينة فيحرمون من اليتمة، وهكذا أهل المهد يحرمون من المهد؛ لأنهم دون ميقات المدينة ولا يؤخرون لمحاذاة ميقات الجحفة؛ لأن ميقات الجحفة للساحل، وهكذا بالنسبة لمن كان بعسفان وقديد يحرمون من عسفان وقديد؛ لأنهم دون ميقات المدينة، فإذا بلغوا إلى قديد، فإن من جاوز قديد يكون قد تداخل الميقاتان في حقه، فيصبح دون ميقات المدينة ودون ميقات الجحفة فيحرم من موضعه.

القسم الثاني: هم أهل مكة ومن كان قد طرأت عليه العمرة وهو داخل حدود الحرم، فهؤلاء ميقاتهم أن يخرجوا إلى أدنى الحل؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تكن من أهل المواقيت حينما طرأت عليها العمرة؛ لأن العمرة -كما ورد النص- إنما طرأت عليها بمكة، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (أيرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج؟! فقال عليه الصلاة والسلام: طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك، فأبت)، فحينئذٍ تأمل قولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيرجع الناس بحج وعمرة) معناه: أنها تريد العمرة وخاطبته داخل حدود الحرم، فلما وقع خطابها لرسول الله صلى الله عليه وسلم داخل حدود الحرم، فإنها حينئذٍ تكون في حكم أهل مكة، فلما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى أدنى الحل، دل على أن المكي ينشئ العمرة من أدنى الحل، وهذا واضح وظاهر، وعلى هذا قالوا: إن المكي إذا أنشأ العمرة فإنه ينشئها من أدنى الحل؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها لما أنشأت عمرتها داخل مكة أخذت حكم أهل مكة بالإجماع، فدل على أن ميقات المكي أن يحرم من أدنى الحل لكي يجمع بين الحل والحرم.

قوله: [من مكي ونحوه لا من الحرم].

هذا من باب التنويع، فقال: من ميقاته، أو من موضعه، أو من أدنى الحل، فجمع الأحوال الثلاثة للطوائف الثلاث: من كان آفاقياً، ومن كان بين المواقيت والحرم، ومن كان داخل الحرم وطرأت له عمرته داخل الحرم.

إجزاء الإحرام لمن بمكة من التنعيم وغيره

وليس الحكم متوقفاً على التنعيم، قالت أم المؤمنين : (والله ما ذكر التنعيم ولا غيره) ، فلو أن إنساناً من أهل مكة أراد أن يحرم بالعمرة -أو آفاقياً جاء إلى مكة وأنشأ العمرة- فإنه يجزيه أن يصيب أدنى الحل، فلو خرج إلى عرفات أو أدنى الحل من جهة اليمن أو من جهة جدة التي هي الحديبية، فحينئذٍ لو خرج إلى أدنى الحل ولو خطوة واحدة وأحرم منه، وجمع بين الحل والحرم لصح وأجزأ، قال العلماء: لله الحكمة البالغة، فإن الناس إذا حجوا والمكي معهم، فإن المكي في حجه يجمع بين الحل والحرم، وذلك أنه يخرج إلى عرفات، ولا يصح حجه إلا بالخروج إلى عرفات، وعرفات خارج حدود الحرم، فهو في حجه يجمع بين الحل والحرم، ولكنه في عمرته لا يبقى داخل الحرم وإنما يؤمر بالخروج؛ لأن العمرة كالحج، ومن هنا قال تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3] ، وقال عليه الصلاة والسلام: (واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) ، فهناك تداخل بين العبادتين، فقالوا: إنه يجمع بين الحل والحرم كما جمع في حجه بين الحل والحرم.

فقد كانت قريش وأهل الشرك في الجاهلية يرون أن أهل مكة لا يخرجون عن حدود الحرم، فكان فعله عليه الصلاة والسلام يوم حجة الوداع إلغاء لهذا الأمر، الذي أحدثته قريش وأحدثه الحمس، حينما كانوا يقولون: نحن أهل الحرم، ولا يخرجون من حدود الحرم، وهو الذي عناه الله بقوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] ، وعلى هذا قالوا: إنه في العمرة يجمع بين الحل والحرم كما يجمع في حجه بين الحل والحرم.

قوله: (أو من أدنى الحل) الناس ينقسمون إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكونوا خارجين عن المواقيت، فهؤلاء يتقيدون بالمواقيت إن دخلوا مارين بها ناوين العمرة، فيحرمون منها كما تقدم.

القسم الثاني: أن يكونوا دون المواقيت، وهؤلاء ينقسمون أيضاً إلى قسمين:

القسم الأول: منهم من هو دون الميقات خارج حدود الحرم، فهؤلاء يحرمون من مواضعهم كأهل عسفان وقديد، وهكذا أهل اليتمة فإنهم دون ميقات المدينة فيحرمون من اليتمة، وهكذا أهل المهد يحرمون من المهد؛ لأنهم دون ميقات المدينة ولا يؤخرون لمحاذاة ميقات الجحفة؛ لأن ميقات الجحفة للساحل، وهكذا بالنسبة لمن كان بعسفان وقديد يحرمون من عسفان وقديد؛ لأنهم دون ميقات المدينة، فإذا بلغوا إلى قديد، فإن من جاوز قديد يكون قد تداخل الميقاتان في حقه، فيصبح دون ميقات المدينة ودون ميقات الجحفة فيحرم من موضعه.

القسم الثاني: هم أهل مكة ومن كان قد طرأت عليه العمرة وهو داخل حدود الحرم، فهؤلاء ميقاتهم أن يخرجوا إلى أدنى الحل؛ لأن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لم تكن من أهل المواقيت حينما طرأت عليها العمرة؛ لأن العمرة -كما ورد النص- إنما طرأت عليها بمكة، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين-: (أيرجع الناس بحج وعمرة وأرجع بحج؟! فقال عليه الصلاة والسلام: طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة كافيك لحجك وعمرتك، فأبت)، فحينئذٍ تأمل قولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيرجع الناس بحج وعمرة) معناه: أنها تريد العمرة وخاطبته داخل حدود الحرم، فلما وقع خطابها لرسول الله صلى الله عليه وسلم داخل حدود الحرم، فإنها حينئذٍ تكون في حكم أهل مكة، فلما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى أدنى الحل، دل على أن المكي ينشئ العمرة من أدنى الحل، وهذا واضح وظاهر، وعلى هذا قالوا: إن المكي إذا أنشأ العمرة فإنه ينشئها من أدنى الحل؛ لأن أم المؤمنين رضي الله عنها لما أنشأت عمرتها داخل مكة أخذت حكم أهل مكة بالإجماع، فدل على أن ميقات المكي أن يحرم من أدنى الحل لكي يجمع بين الحل والحرم.

قوله: [من مكي ونحوه لا من الحرم].

هذا من باب التنويع، فقال: من ميقاته، أو من موضعه، أو من أدنى الحل، فجمع الأحوال الثلاثة للطوائف الثلاث: من كان آفاقياً، ومن كان بين المواقيت والحرم، ومن كان داخل الحرم وطرأت له عمرته داخل الحرم.

وليس الحكم متوقفاً على التنعيم، قالت أم المؤمنين : (والله ما ذكر التنعيم ولا غيره) ، فلو أن إنساناً من أهل مكة أراد أن يحرم بالعمرة -أو آفاقياً جاء إلى مكة وأنشأ العمرة- فإنه يجزيه أن يصيب أدنى الحل، فلو خرج إلى عرفات أو أدنى الحل من جهة اليمن أو من جهة جدة التي هي الحديبية، فحينئذٍ لو خرج إلى أدنى الحل ولو خطوة واحدة وأحرم منه، وجمع بين الحل والحرم لصح وأجزأ، قال العلماء: لله الحكمة البالغة، فإن الناس إذا حجوا والمكي معهم، فإن المكي في حجه يجمع بين الحل والحرم، وذلك أنه يخرج إلى عرفات، ولا يصح حجه إلا بالخروج إلى عرفات، وعرفات خارج حدود الحرم، فهو في حجه يجمع بين الحل والحرم، ولكنه في عمرته لا يبقى داخل الحرم وإنما يؤمر بالخروج؛ لأن العمرة كالحج، ومن هنا قال تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3] ، وقال عليه الصلاة والسلام: (واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) ، فهناك تداخل بين العبادتين، فقالوا: إنه يجمع بين الحل والحرم كما جمع في حجه بين الحل والحرم.

فقد كانت قريش وأهل الشرك في الجاهلية يرون أن أهل مكة لا يخرجون عن حدود الحرم، فكان فعله عليه الصلاة والسلام يوم حجة الوداع إلغاء لهذا الأمر، الذي أحدثته قريش وأحدثه الحمس، حينما كانوا يقولون: نحن أهل الحرم، ولا يخرجون من حدود الحرم، وهو الذي عناه الله بقوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199] ، وعلى هذا قالوا: إنه في العمرة يجمع بين الحل والحرم كما يجمع في حجه بين الحل والحرم.

[فإذا طاف وسعى وحلق أو قصر: حل]

أي: إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة عن عمرته، وحلق أو قصر فقد حل من عمرته. وهناك أمور لازمة بالنسبة للعمرة:

الأمر الأول: يحرم للعمرة، ولذلك عده جمع من العلماء ركناً من أركان العمرة، وقال بعض العلماء: الإحرام من الواجبات وليس من الأركان، وقد تقدم معنا هذا الخلاف.

الأمر الثاني: أن يطوف بالبيت؛ لأن المقصود من العمرة زيارة البيت، ومن هنا كره بعض السلف لأهل مكة أن يعتمروا؛ لأن الأفضل لهم بدل أن يخرجوا إلى الحل أن يطوفوا بالبيت، والزيارة إنما هي للآفاقي، ولمن هو خارج حدود مكة، بخلاف المكي فإنه يتمكن من الطواف، ومن هنا شدد ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه في هذا، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله. وعليه فإن العمرة يلزم لها الطواف، وهذا الطواف يعتبر بقصد الزيارة إلى البيت وبه تتحقق زيارة البيت.

الأمر الثالث: أن يسعى بين الصفا والمروة، وهو ركن من أركان العمرة كما سيأتي إن شاء الله.

الأمر الرابع: أن يحلق أو يقصر، فإذا حلق أو قصر فقد تحلل من عمرته. هذه الأمور كلها لازمة، ولم يفصل رحمه الله في صفة الطواف ولا في صفة السعي، ولم يبين ذلك؛ لأنه سبق وأن بيّن صفة الطواف الكاملة في الحج، وعلى هذا اكتفى في العمرة بالإجمال فقال: يطوف، ثم يسعى، ثم يحلق أو يقصر، وقد بسط ذلك وبينه وبين هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطواف، وفي السعي بين الصفا والمروة، وكذلك في بيان أحكام الحلق والتقصير.