حوار مع الأحداث


الحلقة مفرغة

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورضي الله عن صحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله عز وجل فضل هذه الأمة بهذا الدين، وأكرمها ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيها، وجعلها آخر الأمم وأفضل الأمم في الدنيا والآخرة، ثم إن الله عز وجل تكفل بحفظ هذا الدين إلى أن تقوم الساعة، وتكفل ببقاء طائفة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم إلى أن تقوم الساعة، ووعد الله حق وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم صدق، لكن قد يبتلي الله بعض عباده، وقد تتقلب أمور الأمة من حال إلى حال، من قوة إلى ضعف ومن ضعف إلى قوة، وجعل الله عز وجل أسباب قوة المسلمين واجتماعهم وعزتهم بالتمسك بدينه، وهذه حقيقة كبرى جهلها كثير من المسلمين اليوم ولاسيما العرب، وغابت عن أذهان بعض الدعاة والمصلحين، هذه الحقيقة هي أنه لا عز لهذه الأمة ولا رفعة ولا نصر في دينها ودنياها إلا بالتمسك بهذا الدين. نعم، قد ترقى أمة من الأمم الأخرى الكافرة وقد تعتز وقد تقوى إلى حين بأسباب الدنيا، أما هذه الأمة فلن يكون لها عز ولا رفعة ولن تخرج مما وقعت فيه في العصور المتأخرة من حال الذل والهوان والفرقة والشتات والفتن التي بدأت تتوالى يوماً بعد يوم لن تخرج الأمة من هذه الحال إلا بالعودة إلى دينها وباللجوء إلى الله عز وجل حق اللجوء والاستمساك بدين التوحيد والاجتماع على السنة والجماعة التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبجمع الكلمة على الحق والهدى، وبتثبيت الأجيال على مسلمات الدين التي هي معقد العز بتوفيق الله عز وجل.

مسلمات الدين سأشير إلى شيء منها فقد غفل عنها الكثيرون لاسيما في مثل هذه الظروف التي كان يجب على الأمة أن تعرف موطن الداء وتعرف أين الدواء، وهو موجود بين ظهرانيها في كتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي نهج المؤمنين الذي هو سبيل المؤمنين الذي توعد الله من خالفه فقال عز وجل: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، ولما حادت كثير من طوائف الأمة عن سبيل المؤمنين ولاها الله عز وجل ما تولت ووكلها الله إلى أسبابها الضعيفة، وكلها الله إلى غير حول ولا قوة إلى قوة وحول العباد الضعفاء فوقعت فيما وقعت فيه.

وأعيد وأكرر هذه المسألة وهي مسألة أنه غفل كثير من الدعاة والمصلحين وكثير من المفكرين والساسة وغيرهم عن هذه الحقيقة الكبرى، فراحوا يلتمسون أسباب العز عند الخلق، وراحوا يلتمسون أسباب القوة عند من لا ينصح لهذه الأمة ولن ينصح.

قال الله عز وجل: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، فمن أراد للأمة العز والرفعة وجمع الشمل فعليه أن يلجأ إلى هذه الحقيقة، وعلى هذا فإن حال الأمة اليوم يعتبر من الأحوال التي لم تمر بها في تاريخها، والله أعلم.

ولاسيما الفرقة والشتات والإعراض عن دين الله.

فالأمة تعيش اليوم واقعاً لم يحدث مثله في التاريخ، ولا يعني ذلك اليأس من رحمة الله؛ فإن أسباب العلاج وإن أسباب العز موجودة في الأمة، وهي نفسها تحمل الدواء لكنها لم تدركه، ولم يدرك هذا الدواء إلا القليل، نعم مرت الأمة بفتن كبار في تاريخها الطويل وامتحان من الله عز وجل، وكانت الأمة تتجاوز هذا الامتحان في كثير من أحوالها، أو على الأقل طوائف من هذه الأمة تتجاوز هذا الامتحان باللجوء إلى الله عز وجل والاعتصام بكتابه والأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم وتحقيق المسلمات الكبرى وعلى رأسها الجماعة، وهي مرجعية العلماء.

وقبل أن أبدأ بأحداث اليوم التي هي منذ سنين قريبة منذ ثلاثين سنة تقريباً إلى يومنا أحب أن أشير إلى أمر مهم لابد لنا في كل مسألة تتعلق بالأحداث وعلاجها أن نتذكر هذه المسألة، وهي نعمة الله عز وجل الكبرى التي تتمثل أولاً بالإسلام، وهذه نعمة لا تعدلها نعمة، وتستوجب من الشكر ما يجب أن نتفطن له، شكر القلوب والألسنة والأعمال والأفعال:

فوالله لولا الله ما اهتدينا

ولا تصدقنا ولا صلينا.

هكذا كان الصحابة يقولون في أناشيدهم.

وإن هذه نعمة لها ضريبة لا تبقى إلا بأداء هذه الضريبة، وهي شكر الله عز وجل والثبات على هذه النعمة وحمايتها ثم غرسها في قلوب الأجيال مصحوبة بالاستفادة من العبر، فأكثر أجيالنا اليوم لا تعرف عبر التاريخ حتى القريب منها؛ لأنها ليس في قلوبها الثوابت الشرعية والثوابت التاريخية.

فالله عز وجل وفقنا وهدانا لنعمة السنة، والله عز وجل ابتلى الأمة منذ آخر عهد الصحابة إلى يومنا هذا بوجود الافتراق، فكانت فرق من الأمة تتساقط خروجاً عن السنة إلى سبل الأهواء والضلال التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، فبعد الفتنة العظمى التي كان فيها قتل عثمان رضي الله عنه فتنة الغوغائية فتنة الغلاة من الخوارج وأمثالهم بعدها ظهرت أول بذور الافتراق، فظهرت الخوارج والشيعة، ثم جاءت فتن وبدع العباد الذين سلكوا مسالك الأمم الضالة في العبادة، وظهرت الطرق الصوفية، ثم ظهر الكلام في الله عز وجل والقول على الله بغير علم، فظهرت القدرية وظهرت الجهمية وظهرت المعتزلة وظهرت الفرق الكلامية.. وهكذا؛ مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع).

وقوله في الحديث الآخر: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة.. ثم قال: وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا واحدة)، هذه الفرق وإن كانت لم تخرج من الإسلام إلا القليل منها -نسأل الله العافية- سلكت سبيل الردة، وحادت عن السنة فوقعت فيما نهى الله عنه من التنازع والفشل وضلوا عن سبيل الله، وأرهقوا الأمة بالافتراق، وأصابوا الأمة بالذلة والهوان فتسلط عليها العدو.

لكن مع ذلك بقي الحق في أمرين: بقي بمصادره الكتاب والسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، وهذا إلى قيام الساعة.

ثم أيضاً بشر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مهما بلغ الافتراق ومهما خرجت طوائف من الأمة عن السنة وسبيل الحق إلا أنه تبقى طائفة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم إلى أن تقوم الساعة، فتقوم الساعة وهم ظاهرون ويقاتل آخرهم مع المهدي وعيسى ابن مريم إلى أن يقضي الله بما يشاء وتنتهي هذه الدنيا وتقوم الساعة على شرار الخلق بعد أن يسخر الله ريحاً تقبض أرواح المؤمنين، لكن ذلك لا يكون إلا بفتن جسام، نسأل الله العافية.

ثم إن الله عز وجل تكفل بحفظ مصادر الدين بأن حفظ هذا القرآن، قال عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

وأيضاً قيض من أئمة الدين من يحفظون للأمة سنة النبي صلى الله عليه وسلم ويعملون بها.

أما خصوصية هذه البلاد فيما أنعم الله به عليها فهي تتمثل في الجماعة والسنة، هذه النعمة التي ملتها بعض أجيالنا؛ لأننا لم نعد نذكر الأجيال بهذه النعمة، حيث انصبت جهود الناس اليوم إلى الدنيا، والدنيا ضحكت للناس ضحكة الذئب، وأصبحت همَّ الأغلب إلا من عصم الله، فتركنا الأجيال فريسة الأهواء والتيارات وفريسة الشبهوات والغزو المركز الذي استهدف قلوب أجيالنا وعقولهم واستهدف سلوكياتهم وأخلاقهم؛ إنه غزو رهيب مركز عبر الوسائل المدمرة من الإنترنت حمار الدجال، ومن الفضائيات ومن الصحف ومن جلساء السوء ومن دعاة السوء، فانقسمت أجيالنا -إلا من عصم الله- بين تيارات متنازعة قسم منهم اجترفه تيار التفريط والتساهل والتميع في الدين، والتنكر للسنة وأهلها والتنكر للعلماء والتنكر للحق وثوابت الدين وثوابت هذه البلاد، وقسم آخر أيضاً اجتذبته تيارات الغلو في الدين والتشدد والتنطع والتنكر لنعمة الإسلام ونعمة الأمن والتنكر للعلماء والولاة، والتنكر أيضاً لمقومات حفظ هذه البلاد، التنكر للمسلمات الكبرى التي قام عليها هذا الكيان. وبقيت -ولله الحمد- طوائف من شبابنا -وهي الأكثر- على البراءة والفطرة.

لكن ماذا عملنا تجاه حماية هذه الأجيال؟ فمن أعرض نسأل الله له الهداية، وكذلك من أفرط وغلا نسأل الله له الهداية وجب أن نعالج هذا، وهذا لكن أيضاً مما يجب أن يعنى به جيداً الآن كلنا آباء وإخواناً ومربين ومعلمين ومسئولين في الدولة والمحكومين كلنا يجب أن تتظافر جهودنا لحماية هذه الأجيال، وتثبيتها على ثوابت الدين الحق الذي هو مصدر عزنا.

ولعله من المناسب أن أقف على بعض المسائل المهمة في تذكير إخواني بهذه النعمة التي نحن فيها وما يجب تجاه شكر الله فيها:

أولاً: تميزت هذه البلاد -ولله الحمد- بميزات مهمة جداً هي ثروة لا تقل عن الثروة المادية التي حبانا الله بها وهي نتيجة للثروة الأولى، وإذا ذهبت الثروة الأولى ذهبت الثروة الثانية، إذا ذهبت ثروة العقيدة والدين فعلى الدنيا السلام، وخاصة في هذه البلاد بالذات؛ لأنها بلاد الله عز وجل جعل لها خصائص ورسالة، فإذا تخلت عن خصائصها ورسالتها فتتحمل النتائج الوخيمة، وأول ذلك وأعظمه العقوبة من الله عز وجل، فإن الله يمهل ولا يهمل، وليس بينه وبين أحد عهد إلا عهد الإسلام، ففي هذه البلاد إن قام أهل هذه البلاد حكاماً ومحكومين بواجب رسالتهم وإلا فليتحملوا نتيجة تفريطهم، قال عز وجل: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ [محمد:38]، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح قال: (لا يزال الله يغرس لهذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته)، فأين سيكون هذا الغرس؟ الله أعلم، لكني أرى -ولله الحمد- عند الكثير منا بقاء على أصول الرشد لكن يجب أن نتذاكر ونتواصى.

أقول: هذه البلاد مهبط الوحي، هذه البلاد حباها الله بالسنة، هذه البلاد هي منطلق الدين في الأول، وهي مرد الدين فيما بعد في آخر الزمان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

فكما انطلق شيء من هذه البلاد سيعود إليها وتبقى هي الأنموذج وهي القدوة لجميع الخلق، لكن هذا رهين بتمسك أهلها بها، ففي تواريخ مضت كانت هناك بعض الثغرات في تاريخ هذه البلاد قبل دعوة الإمام الشيخ: محمد بن عبد الوهاب ؛ حيث وقع بعض أهل هذه البلاد في شيء من الفرقة والبدع والشتات والتناحر، فأضاعوا رسالتهم فقيض الله لها غيرهم.

ولما ضعفت الخلافة في بلاد العرب بلاد الشام وجزيرة العرب في زمن مضى أقام الله خلافة المسلمين وعزتهم في تركيا، فالخلافة العثمانية في أول عهدها كانت حاملة رسالة الإسلام، لكن في آخر عهدها دخلتها البدع ودخلها داء الأمم، ثم عاد الإسلام على أصوله النقية أصول السنة والجماعة بتلكم الدعوة المباركة التي ورثنا خيراتها في الدين والدنيا، لكن هل قدرنا هذا الإرث، هذا ما يجب أن نتساءل فيه، فقد قامت هذه الدعوة المباركة على يد الإمام محمد بن عبد الوهاب ، فقد دعا إلى التوحيد وإلى السنة وإلى نفي البدع والخرافات، وجد في ذلك، وبدأ في تعليم الناس، وتدرج في بناء الدين والكيان، وبدأ في غرس العقيدة في قلوب الناس، وعلم، ثم بث تلاميذه وطلابه يعلمون، فصارت البلاد من حوله خلايا نحل في كل قرية، بل وحتى في البادية صار يرسل تلاميذه في البادية وهكذا تلاميذ التلاميذ حتى انتشر الخير وغرست مبادئ الدين النقية الصافية في قلوب الأفراد، وقبل أن يبدأ باستصلاح دنياهم وأحوالهم وأمنهم بدأ بغرس الدين في القلوب فنشأ جيل على السنة بعيداً عن البدعة، جيل تمكنت فيه أصول الحق في القلوب والأعمال.

ثم بعد ذلك وجد أن الأمة وجد فيها غرس ولو لم يصلحوا كلهم أو يتعلموا كلهم هو علم ما يمكنه أن يعلم، فركز على تعليم الأجيال، فلما وجدت بذرة السنة بدأ الناس يتطلعون إلى تحقيق ركائز الدين في واقع الحياة، فقيض الله الإمام محمد بن سعود رحمه الله، فآزر الدعوة وآزر الداعية وتبايع الإمامان على نصر دين الله عز وجل ونشر السنة ونفي البدع.

فقامت الدولة السعودية الأولى على هذا الأساس، وتمكنت الدعوة وتمكن الخير من قلوب الناس في أغلب جزيرة العرب، فصارت قوة هابها كل عدو، وصارت دولة محترمة تظهر شرائع الإسلام وتعتز بالدين وتظهر السنة وتنفي البدع، فحسدت وتكالبت عليها الأمم من حولها، فجاءها في فترة ضعف وشقاق عدو استأصل ظاهرها ولم يستأصل باطنها؛ بل بقيت في قلوب الناس، وقد قال المحققون في ذلك الوقت عندما جاء إبراهيم باشا إلى هذه البلاد وظن أنه قضى على الدعوة والدولة قال له أهل الخبرة: أنت لم تقض على الدولة ولا الدعوة؛ لأنها في قلوب أجيال من الناس، ولن ترجع إلا وستقوم مرة أخرى، وفعلاً هذه مقالات موجودة وقرأناها، فكثير من العقلاء والمحللين قالوا لـإبراهيم باشا وللذين طبلوا وفرحوا: لا تفرحوا، فهذه دعوة موجودة في القلوب، أنتم قضيتم على مبان، فسيبنون مثلها عشر مرات، وفعلاً ما إن رجع إبراهيم باشا زاعماً أنه منتصر وإذا هي تقوم دولة فتية أخرى تحمل رسالة الدعوة والتوحيد.

ثم مرت بفترة شقاق وضعف مرة أخرى فجاءت بعدها الدولة السعودية الثالثة التي نحن الآن نجني ثمارها، فهل شكرنا النعمة؟ أرجو ذلك.

جاء الإمام عبد العزيز بن سعود رحمه الله ومن عاونه من العلماء والأمراء والقواد ورؤساء العشائر ووجوه الناس وأهل الحل والعقد فأقاموا هذا الكيان تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، فجمعوا الكلمة، وأمنت السبل، وظهرت شعائر الإسلام، وظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعمل الناس بشرع الله، وتحاكموا إلى القضاء، وأمنت دنيا الناس، وحفظ لهم دينهم، قام هذا الكيان على هذه الأسس، أسس الدولة وأسس الدعوة، وكلها ترجع إلى السنة وإلى الإسلام.

ثم مع الزمن خرجت أجيال الآن لم تعرف لهذه النعمة قدرها، ومن سبقوهم غفلوا عن التربية، فإلى وقت قريب كان الناس يتناقلون هذا الخير ويذكر بعضهم بعضاً به وتتلقى الأجيال اللاحقة عن الأجيال السابقة العبر ودروس التاريخ والفروق بين أيام الجاهلية وأيام الفوضى وأيام التشتت وأيام الفرقة قبل دعوة الشيخ والفروق بينها وبين الوقت الذي أمنوا فيه، فكان للدين قيمة وللأمن قيمة وللسلطان قيمة وللعلماء قيمة، لكن في الآونة الأخيرة مع تسلط الأعداء وتشتت الأفكار ووجود شيء من الغفلة من الآباء والمربين ظهر جيل تنكر لهذه النعمة، وكثير منهم حالهم كحال الذين قالوا: رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا [سبأ:19]، وهذا هو الواقع الذي يدركه كل عاقل؛ لأننا ما علمناهم؛ قصرنا في التعليم، وقصرنا في تنشئة الأجيال على هذه الحقيقة، وطبعاً ليس هذا كثيراً بحمد الله، فأنا أرى أن أغلبية شبابنا فيهم هدوء ورشد ووداعة وحب للخير، وعلى الفطرة، حتى من كان عنده بعض الجنوح تجد عنده شيئاً من بقايا الخير والفطرة، لكن أقول: هناك طوائف، هذه الطوائف قليلة صغيرة، لكن معظم النار من مستصغر الشرر.

فيجب ألا نستهين بالأفكار التي تفرق الأمة والتي تهز النعمة وأيضاً تجحد حقائق ومسلمات في الدين والدنيا، فهذه خطيرة ويجب أن نعالجها، وهي ما نرى آثارها الآن في الآونة الأخيرة، يعني: في السنين العشرين أو الثلاثين الماضية مرت علينا أحداث كبار المفروض أننا نستجدي منها العبر والدروس، ونعرضها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن نرجع في تقويمها وفي الاستفادة منها إلى أهل الحل والعقد إلى المرجعية، وأولهم العلماء والولاة.

فمن الأحداث التي أنا أذكرها أحداث فعلاً فيها عبر: فتنة دخول الحرم، ودخول الحرم في الحقيقة فتنة عجيبة أنا عايشت هذه الحادثة وعايشها كثيرون ممن هم في سني أو أقل أو أكثر بقليل، وفيها عبر وفيها دلالات وفيها دروس لو أنها عرضت نقية صافية على الشباب الذين أفسدوا بالغلو في هذا الوقت والتكفير والتفجير لما وقعوا فيها بإذن الله، فلو استفادوا من الدروس من تلك الفتنة لما وقعوا فيما وقعوا فيه.

والكلام فيها يطول، لكن أحب أن أشير إلى بعض الوقفات: أولاً: الذين ابتلوا بتلك الفتنة في بداية أمرهم قبل أن يخرجوا على المسلمات هم أناس من أجيالنا بعضهم زملاؤنا في الدراسة وبعضهم سبقونا بقليل وبعضهم بعدنا مباشرة، ذلك الجيل أنا أحكي عن معايشته، ذلك الجيل الذي وقعت فيه الحادثة بعض الناس كنا نعيش معهم في الكليات وفي العمل وفي دروس العلم عند المشايخ، فما الذي حدث؟

الذي حدث فيه عبرة، نسأل الله العافية، وألا يجعلنا شامتين، فيه العبرة والعظة، فأحداثهم تشبه الأحداث الأولى التي حدثت في عهد الصحابة في الفتنة الكبرى، فأول أمرهم نجد أن كثيراً منهم من خيار الشباب تديناً وحرصاً على العلم والتفافاً حول العلماء وحرصاً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحباً للخير.

لكن ربما دخلهم مجموعة من أهل الأهواء الله أعلم بحالهم، وقد يكونون بعدد أصابع اليد أو أقل أو أكثر استغلوا اندفاعهم وغيرتهم فبدءوا يشحنونهم الشحن السياسي المعروف ضد الأحداث وضد الولاة وضد المشايخ.. إلى آخره، وباسم الغيرة وباسم إنكار المنكرات بدءوا يموجون في مسألة إنكار المنكرات، ويعملون أشياء كثيرة صحيحة، وأشياء فيها نظر، وبدءوا يجادلون ويناقشون، وبدأت المسألة تظهر إلى مسألة الخلافات بين الشباب، ثم انتقلت إلى الخلافات عند العلماء الكبار، فصار العلماء والمشايخ الكبار وعلى رأسهم في ذلك الوقت الشيخ ابن حميد رحمه الله، والشيخ ابن باز وابن عثيمين وطبقة من المشايخ عنوا بالأمر وبدءوا يناقشون هؤلاء الشباب وخاصة الغلاة منهم، فرجع منهم إلى طريق المشايخ من رجع وبقي منهم من تعصب وتحزب وصاروا يعتبون على المشايخ أول الأمر، فهل انتهى الأمر إلى هذا الحد؟

ما هي إلا أشهر قليلة وعبوا تعبئة غير مرشدة وحسبنا الله ونعم الوكيل، فبدءوا يتكلمون في ذمم المشايخ وقالوا: المشايخ تعلقوا بالدنيا واشتروا بالرواتب والتهوا بالإقطاعات، وهو نفس الكلام الذي قاله الغوغائية في عثمان رضي الله عنه تماماً خطوة بخطوة، فبدأ العقلاء يتشاورون، وبدأ الناصحون لهم ينصحون حتى إني والله! أذكر أنه في المسجد الحرام بدأت مساجلات ومناظرات طويلة بينهم وبين بعض المعتدلين من طلاب العلم الناصحين المشفقين وكثير منهم أحياء يشهدون بما حدث، فاعتدل منهم من اعتدل وتراجع منهم من تراجع عن سب المشايخ، لكن بقي تعاطف مع هذه الاتجاه، وصاروا بين بين، هذا الاتجاه تعمق في أهله حتى توصل إلى تبني المواجهة مع العلماء ومع الولاة، فحصل من الدولة -وفقها الله- أنها أرادت أن تدرأ الفتنة، فسجنت بعضهم، لكن لا يزال المشايخ الكبار عندهم أمل وحسن ظن، فشفعوا لهم وأخرجوهم من السجون، فلما أخرجوهم -والحق يقال- تراجع منهم كثيرون واستفادوا من الدرس واستفادوا من التجربة، وعرفوا أن إنكار المنكرات لا يتم إلا بالتناصح بينهم وبين ولاتهم وأن ما يحدث من المشايخ إنما هي أخطاء غير مقصوده، وأنه لا يتم هذا إلا بالنصيحة التي أوجبها الله ووصى بها الرسول صلى الله عليه وسلم وعرفوا أن الفتنة لا تؤدي إلى نتيجة وأن المعارضة أمر لا يمكن أن ينكر به المنكر ولا يقال به معروف فاعتدلوا.

وبدءوا يناقشون الآخرين، فتعصبت الفئة الغالية وبعض المغترين فيها فصارت كياناً معارضاً تماماً، فجرتهم العزلة عن العلماء وترك العلماء إلى الفتنة، وأنا حسب علمي ما من طائفة مهما كانت على الصلاح والاستقامة تنازل العلماء إلا وتبتلى بفتنة إلا وتصاب بفتنة أقولها وأنا جاد، هذا حد علمي ما أعرف طائفة من شباب الأمة صار بينهم وبين العلماء شيء من الخصام ثم نابذوا علماءهم إلا ويصابون ويعاقبون بفتنة، وارجعوا إلى التاريخ، فمن ذلك: الفتنة على عثمان .. فتنة الخوارج.. فتنة أهل حروراء.. فتنة ابن الأشعث .. فتن بالعشرات، وكلما ظهرت طائفة تعتزل عن العلماء وتستهين بهم تبتلى ببلوى تكون موطن عبرة.

هؤلاء لما تجمعوا وتكتلوا دخلهم أهل الأهواء وزينوا لهم أعمالاً عجيبة، الله يعلم ما الذي حدث، لكن فيها أشياء نعرف عنها، وبعض من نشط معهم نشاطاً عجيباً وكنا نعرفه نشط في تحويلهم إلى الحرم، وتوهيمهم أن المهدي موجود وبيعتهم لفلان المهدي ، واسمه محمد بن عبد الله القحطاني ، فقالوا: كيف يصير قحطانياً؟ لأنهم طلاب حديث، فصنع لهم بحيلة صكاً على أنه قرشي هاشمي وإنما هو قحطاني بالحلف من حلفاء قحطان، فبايعوه فوقعت الفتنة!

ثم هندس لهم ذلك الرجل وأمثاله القضية إلى أن تكون في الحرم، فحشروا في الحرم، والله أعلم أن الذي حشرهم في الحرم عدو لهم وهم لا يشعرون، فوقعت الكارثة، نسأل الله العافية، ونسأل الله ألا يجعلنا شامتين، وحصلت فتنة، ومهديهم كنا نعهده رجلاً صالحاً قبل أن يغيب عنا معهم، كان من أصلح الناس، لكنها الفتنة والابتلاء وقلوب العباد بين أصابع الرحمن يقلبها حيث يشاء، فلذلك نقول: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ونعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

فأوهموه وأوهموه وشحنوه بالعواطف حتى أقنعوه بأنه المهدي ، وبايعوه وأنا لا أريد والله! أن أكون بالشامت في هذا، لكن أريد أن نتعرف هل يعقل أن المهدي يموت بدخان الكفرات في قبو الحرم؟ لكنها العظة والعبرة، فلقوا جزاءهم في الدنيا، وأمرهم إلى الله في الآخرة، هذه عبرة.

ومرت أحداث الخليج الأولى والثانية وما بعدها وصار فيها نوع من النذارات لنا، أنذرنا نذارات، وجاءنا خبر محقق، وإيران الله عز وجل دفعها عنا، وتكاتفت جهود علمائنا وولاتنا وعقلائنا على درء الفتنة فكان خيراً.

ثم جاءت فتنة صدام ودخوله الكويت وكان الخطر محدقاً، لكن الله عز وجل دفع عنا، وهذه نعمة، لكنها تحتاج إلى شكر، وما أظن هذا بأسبابنا، بل هذه من الله عز وجل وبالبقية الباقية من معالم الخير التي بقيت عندنا، فتكاتف العلماء مع الولاة مع الناصحين مع العقلاء والحمد لله دفع الله عنا فتنة.

ثم جاءت موجة أسميها التصعيد واستنهاض الشباب ضد الدولة وضد المشايخ وصارت فتنة سجن فيها من سجن ورجع كثير منهم إلى عقولهم، وآخرون خرجوا خارج الحدود وصاروا الآن أصحاب رايات فتنة على بلادهم، فواحد في لندن وواحد لا ندري أين هو الآن، والآخر كذلك.

والآن من أشد ما يوجه علينا في دولتنا وفي شعبنا وفي مشايخنا أشد ما يوجه هو من أبناء جلدتنا الذين ذهبوا وصاروا يحملون رايات المعارضة والفتنة ويدعون أنهم يجاهدون في بلادنا، ثم تصيدوا مجموعة من الغيورين من شبابنا الأحداث وعبئوهم وشحنوهم وجاءوا بهم يفجرون ويكفرون؛ زعماً منهم أن هذا جهاد، وهل يكون الجهاد بمفاصلة العلماء وبمفاصلة الولاة وبعدم النصيحة التي أوجبها الله عز وجل وبهذه الأمور العظائم؟ من قال هذا؟ وفي أي دين وبأي شرع؟ نسأل الله العافية.

ثم جاءت أحداث أمريكا كما تعرفون أيضاً، وهذه القشة هي التي قصمت ظهر البعير، نسأل الله العافية وألا يبتلينا، الأحداث التي صارت في ضرب الأبراج في أمريكا هذه أحداث فعلاً عجيبة، وهي فتنة، نعم هي في بلاد كفار، لكن ضررها علينا أكثر من الضرر عليهم هم، ويعلم الله أني من أول لحظة سمعت بالحدث جاء في قلبي أن هذا شر، وأنها ستستغل ضد الإسلام والمسلمين، هذا قبل أن أعرف تفاصيل القضية، هذا في اللحظة التي جاء الحدث فيها وقبل أن أسمع أي تعليق، وقع في قلبي -وقلبي يرتجف- أن هذه ستكون قميص عثمان الذي يستغل ضد الإسلام والمسلمين؛ لأنه حادث فعلاً له دلالات.

والأمر لله من قبل ومن بعد، والله عز وجل هو الذي يسير الكون، لكن أيضاً ما وقفنا عند العبر، فهذا استعدى علينا الأعداء من الداخل والخارج، واستعدى علينا أهل الغلو وأهل الإفراط.

ونحن عندما نتكلم يجب أن ننصف.

من أعظم أسباب الغلو والتطرف والتفجير والتكفير وجود النفاق والفساد على مستوى الأرض كلها والكون كله، ثم على المستوى العالمي الإسلامي ثم في بيئاتنا، وغيرة الغيور الذي لم ينضبط بضوابط الشرع ولا عنده فقه من الدين ولا عنده تجارب ثم يشحنه آخرون هذا يسمى استغلال الحدث.

لكن ومع ذلك هل ما يوجد من فساد وإعراض وما يوجد أحياناً من تجاوزات يبرر الغلو في الدين؟ وهل يبرر التكفير والتفجير؟ لا والله! ليس هذا بمبرر؛ لأنه لا يجوز أن نبرر الفساد بفساد، ولا أن نعالج الخطأ بخطأ، فهذا ليس في موازين الشرع، ومنذ أن ظهر الغلو في تاريخ الأمة وهو محجوج بنصوص الشرع وقواعده وبأقوال العلماء، ومع هذا يأتي من يدعي أو يبرر لمثل هذه الأعمال الشنيعة التي أساءت إلى الإسلام وإلى المسلمين وإلى البلاد، يبررها بوجود المفاسد، والمفاسد تعالج بالطرق الشرعية، فنحن نعترف أن عندنا تقصيراً وخللاً نسأل الله أن يعفو عنا جميعاً، والتقصير بعضه يأتي من الناس وبعضه قد يأتي من بعض من يتحملون مسئوليات، لكنهم بشر، والواجب علينا فيما يحدث بيننا دولة وحكاماً ومحكومين من أمور مبناها على التناصح كما أمر الله عز وجل وأوصى رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟! قال: لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، وأئمة المسلمين هم الحكام والعلماء.

ولا يخلو مجتمع من أخطاء حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكنها تتفاوت، ونحن نعترف أن عندنا أخطاء كثيرة علاجها أولاً: بالنصيحة، وثانياً: باجتماع الشمل والحفاظ على الأمن، وثالثاً: بأن نرجع إلى من أمرنا الله بالرجوع إليهم في مثل هذه الأمور وهم العلماء حتى وإن ادعى من يدعي أنهم مقصرون، فالعلماء هم حجة الله وهم أهل الذكر الذين عناهم الله عز وجل بقوله: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، بل إن الله وجهنا إلى الرجوع إلى العلماء في مثل هذه الأحداث التي نعيشها بآية بينة واضحة نسيها كثير من المسلمين قال عز وجل: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، ومن هم الذين يستنبطون الأقوال؟ هل هو مبتدئ أو حدث أو إنسان يتطفل على العلم والعلماء؟ الجواب: لا، بل الذين يستنبطون هم العلماء الراسخون الكبار، وكثير من شبابنا هداهم الله لهم تجاوزات على مشايخنا، لكن ومع ذلك مشايخنا هم أفضلنا وهم أزكانا وهم أعلمنا وهم مرجعنا وهم معقد الحل والعقد فينا، ومن نعمة الله عز وجل علينا التي ما شكرناها وجود العلماء في هذه البلاد، ولا تزال الدولة وفقها الله وهداها وسددها تعتبر العلماء وتجعل لهم الصدارة حتى وإن حصل تقصير، نعم قد يحصل، لكن مع ذلك هذه حقيقة يجب أن نقولها وأن نعترف بها، وهي نعمة يجب أن نشكرها ونشكر من فعلها، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.

ومن الثوابت الكبرى والأمور المحمودة في هذه البلاد المباركة: بقاء الاعتبار للعلماء، وقد أتانا كثير من البلاد الإسلامية وغير الإسلامية يتمنون واحداً من علمائنا يذهب إليهم، يقولون: هاتوا لنا شيخاً واحداً نشتريه بأي ثمن، وبعضهم إذا جئته تجده يتفطر كمداً ويتفطر غيرة ويكاد يحترق قلبه، فتقول له: لماذا؟ فيقول: لأني سمعت من بعض شبابكم من يسب علماءكم، فدعوهم لنا؛ لأنكم لا تعرفون قدرهم، وهذه والله! حقيقة، لكن ليس كلنا لا نعرف قدرهم، وإنما يوجد من سفهائنا من لا يعرف قدر العلماء، وهذا ما سأشير إليه من الثوابت.

فيجب أن نتذكر نعمة الإسلام ثم نعمة السنة التي هي معقد الاجتماع دائماً، ولا يوجد ولن يوجد في تاريخ الإسلام من أوله إلى آخره -واستعرضوه- أن تجتمع كلمة المسلمين في بلد ما على كيان قوي له اعتباره دولة ومجتمعاً إلا على السنة والجماعة، ومتى ما وجدت البدع وجد الافتراق، ومتى ما وجد الغلو وجد الافتراق حتى وإن كان باسم الدين والغيرة، وأول افتراق حدث في الأمة كان بسبب الغلو؛ فإن الذين خرجوا على عثمان كانوا ناساً غيورين وما أخرجهم على عثمان إلا الغيرة، لكن على غير هدى، ولم يرجعوا إلى الصحابة، بل كانوا يتهمون نيات الصحابة، بل استحلوا دماءهم، فالخوارج استحلوا دم علي وطلحة والزبير وعثمان بن عفان ، ويفتخرون بهذا إلى اليوم.

وإن كان تاب بعضهم فالبقية كلهم يعتبرون هذا مفخرة، وهم متدينون، وسبب خروجهم إنكار المنكرات كما يزعمون، نعم هناك منكرات لكن سبيل تغييرها النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر، بل حتى المظالم أمرنا بالصبر عليها، وقد جاءني سؤال يتكرر في كل محاضرة في هذا الموضوع، يقول: الشباب يعانون ضغوطاً وكثير من المجتمع يعانون ضغوطاً ما يجدون وظائف وما يجدون أعمالاً.. قلت: الله عز وجل يقسم الأرزاق بين عباده، والله فضل بعضكم على بعض في الرزق، فالناس يتفاوتون ولن يكونوا سواسية، ومن يقول لكم: هم سواسية، هذا يكذب، فلا يستوي الناس أبداً في أرزاقهم وفي أقدارهم وفي وظائفهم، فهذا تتاح له الفرص وهذا ما تتاح، هذا يوفق وهذا لا يوفق، وهذا يعدل معه وهذا يظلم.

فبعض الناس قد يكون ضاقت عليه سبل العيش ما وجد وظيفة فهل السبيل في حل هذه المشكلات هو التكفير والتفجير أو يقتل واحد نفسه، وضربت لهم مثلاً فقلت: لو أن واحداً في الشارع عندما أحس بالضائقات النفسية وكذا نرفز ورأى واحداً في الشارع فضربه وصفعه إلى أن سقط -مع أن هذه أسهل من التكفير والتفجير- فلما سألناه قال: أنا أعاني من ضغوط نفسية، أنا أعاني من مشكلات فوجدت أقرب واحد هو هذا الذي ضربته، فهل نعطيه صك براءة أو ندافع عن المضروب ونأخذ حقه، من قصاص ونحو ذلك؟

وهكذا هؤلاء لما صار عندهم ضغوط وصارت عندهم مشكلات وعندهم غيرة ورأوا منكرات هل يغيرونها بإهدار الأرواح؟ وهل يغيرونها بإتلاف الممتلكات وبإرهاب الناس بهذه الطريقة من تفجير ونحو ذلك؟

والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من الخوارج وأمر بقتالهم وقال: لمن قتلهم الجنة، لكن أمرهم أسهل؛ لأنهم يلاقون سيفاً بسيف، والإنسان الشجاع القوي يفك نفسه منهم.

لكن الآن تذهب أرواح وممتلكات بالجملة لا يدري القاتل لما قتل ولا المقتول لماذا قتل، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فالآلاف الذين ماتوا سيبعثون يوم القيامة سيقول لهم الله عز وجل: لماذا قتلكم هؤلاء الغلاة سيقولون: يا ربنا لا ندري، ما ندري لماذا قتلونا.

فالأمر عظيم وأنا أعجب ولا ينقضي عجبي أن يوجد من بعض من يسمون عقلاء وكباراً وفاهمين من قد يتعاطف مع هذا التوجه الخبيث ويسميه ديناً وغيرة.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، وقال صلى الله عليه وسلم في أحداث هذا الزمان وكأنه أراد أن ينبهنا لثوابت الدين وثوابت سنن الله فقال: (سيخرج آخر الزمان أناس حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية)، يعني: من خير قول الأنبياء وقول الصالحين وهو كلام الله، لكن قال: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، ولا أستعدي الناس عليهم، ولكن أبين حكم الله فيهم إذا وصلوا إلى هذه الدرجة من سفاهة الأحلام وحداثة السن ويقولون من خير قول البرية ويستحلون الدماء ويمرقون من الدين بالغلو ولو كان باسم الغيرة والجهاد، قال: (فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن لمن قتلهم الجنة)، وقال في حديث آخر: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل ثمود وعاد)، وقال في مثل هذه الفتن فيمن نازع الحاكم: (فاقتلوا الآخر منهما كائناً من كان) يعني: ولو كان صالحاً، ما دام أنه جاء يشق عصا الطاعة والناس مجتمعون على إمام وعلى دولتهم وعلى مشايخهم وإن كان عندهم أخطاء.

فيجب أن نعترف ونتقي الله عز وجل ونخافه، ولا نقول: ليس عندنا أخطاء، لكن السبيل الشرعي الذي أمر الله به وأوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الناصح الأمين هو ما قاله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه)، بل قال نصاً في هذه القضية: (إن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي بالعنف)، وبعض الناس يظن أن العنف كلمة إعلام، وليس كذلك، بل العنف كلمة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تعالج هذه الأعمال بالعنف، فإن الله ليعطي بالرفق ما لا يعطي بالعنف، وهاتوا لي حادثة في التاريخ فيها أنه ظهرت جماعة على الأمة استطاعت أن تغير بالعنف والقوة، والله! ما أعرف في التاريخ أنه تغير منكر بالعنف, ولا أقر معروف بالعنف.

فقد ظهر الذين خرجوا على عثمان ، وظهر أصحاب الحرة، وظهر أصحاب ابن الأشعث على الحجاج وهو ظالم بإجماع المسلمين، وظهر من ظهر، وفي التاريخ الحديث ظهرت جماعة جهيمان .. ظهرت الذين صعدوا بعد أزمة الخليج وأخيراً تكون المفاسد أكبر من المصالح، والشر أكثر من الخير، بل يضيق على الخير وأهله أكثر مما كان من قبله؛ فالآن كم تضررت الجمعيات الخيرية؟ وكم تضررت دور الحسبة؟ وكم تضرر العلماء؟ وكم تضرر الدعاة؟ وكم من أضرار عادت على المسلمين في هذه البلاد أكثر من قبل بسبب هذه الأحداث؟ فقد تسلط المنافق وتكلم أصحاب العلمنة وأصحاب النفاق وبدءوا يتجرءون على المتدينين وعلى الدين، وبدءوا يتكلمون في المشايخ ويقولون: انظروا هؤلاء غرس المشايخ.

ونحن نعلم أنهم يكذبون، لكن هناك أناس لا يدرون أنهم يكذبون، وتنطلي عليهم الشبهات، ويقولون: هؤلاء أفراخ دروس المشايخ، هؤلاء أفراخ الدعاة، هؤلاء أفراخ التحفيظ، هؤلاء.. وكذبوا والله يعلم وهم يعلمون أيضاً أنهم يكذبون؛ لأنهم عندهم عقول ويفكرون لكن أرادوا استغلال الأحداث.

فجاءت هذه التفجيرات والتكفير وحرب العلماء وحرب الدولة بهذا الوباء العظيم الذي فرق الجماعة وفرق الأمة، ويؤسفني أن يذكر لي أنه يوجد من يتعاطف مع هذا الغلو بدعوى أن هذا دين، فإذا كنت منصفاً وتحب الحق فابتعد عن الهوى، فكما تمقت الإعراض والفسق والفجور يجب أن تمقت الغلو والتكفير والتفجير، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بقتال أحد من أهل الأهواء إلا الخوارج، فلماذا ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال أحد من أهل الأهواء إلا الخوارج؟ ولما عرف علي أنه قتلهم سجد لله شكراً، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيظهر خوارج في آخر الزمان وقال: لمن قتلهم الجنة، فلماذا؟

لأنهم يضربون الدين باسم الدين، فخطرهم أعظم على الأمة، وأمرهم خفي على أكثر الناس، فهم كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم: (تحقرون صلاتكم عند صلاتهم وصياكم عند صيامهم)، ويقول ابن عباس لما زارهم وناقشهم: لهم دوي كدوي النحل؛ هذا يذكر الله، وهذا يتلو القرآن، وهذا يسبح، وهذا يهلل، وجوههم مصفرة من العبادة، فرسان النهار رهبان الليل، ومع ذلك لما قضى عليهم علي بن أبي طالب وهم قريباً من عشرة آلاف سجد لله شكراً، هذا أمر يجب أن نفقهه، فهو ما قتلهم غلا لما كفروا ولما استحلوا دماء المسلمين.

فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال الخوارج وأمثالهم من البغاة والمحاربين والمفسدين في الأرض؛ لأنهم يهلكون الحرث والنسل، وبعملهم يفسد الدين والدنيا، فبعمل الخوارج تخسر الأمة دينها ودنياها، ألا ترون مظاهر الخسران في الدين؟ أي عاقل يدرك هذا، بدأنا نخرس وبدأ يتجرأ المنافقون وبدأ يتجرأ أصحاب الشبهات والشهوات وكل حاسد وحاقد علينا؛ لأن الواحد منهم يقول: هذا دينكم، فكيف لو بقيتم متدينين في السنين القادمة؟ معناه أنكم كلكم ستصبحون مفجرين.

أكثر ما تحدثت به معلوم، لكن ما الحل؟

الله عز وجل أرشدنا إلى الحل، والحل في أمور:

ضرورة التوبة إلى الله عز وجل

الأمر الأول: مما يجب أن نتذاكر ونتواصى به دائماً ضرورة التوبة إلى الله عز وجل، فهذه الأحداث حصائد ذنوبنا، وكونه يتسلط علينا ناس من شبابنا ومن أبنائنا وباسم ديننا هذا لاشك أنه نتيجة تقصير منا في حق الله عز وجل، ويجب أن نعترف بهذا، وما لم نعترف فالمسألة أعظم، ومع الأسف بعض الجهلة إذا قيل: نحن مذنبون ونحتاج تجديد توبة أو هذا نتيجة المعاصي، قال: أنتم بس ما عندكم إلا التوبة، ونحن ماذا نعمل؟ نحن أمة مسلمة ومجتمع مسلم.. إلى آخره، ومع ذلك لو لم نكن مجتمعاً مسلماً يمكن ألا نعاقب، ويمكن أن تزدهر عندنا الدنيا ونأخذ حظنا من الدنيا، وليس لنا من الآخرة نصيب، نسأل الله العافية، لكننا نحن أمة مسلمة نعاقب على الذنب ويكفر الله بذلك عنا، لكن ومع ذلك هذه الحقيقة يجب أن نتوصل لها، لابد من توبة صادقة مع الله عز وجل من الجميع، وأن نتواصى على هذا حكاماً ومحكومين.. علماء ومتعلمين وعامة وسائر طبقاتنا.

ضرورة الاجتماع على كلمة الحق

الأمر الثاني: ضرورة الاجتماع على كلمة سواء على ثوابت الدين والدنيا التي اجتمعنا وتبايعنا عليها حكاماً ومحكومين، فكلنا في أعناقنا بيعة، فعندما بايع أهل الحل والعقد لهذه الدولة وفقها الله لكل خير فمعناه أن البيعة في ذمة الجميع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، والبيعة هي معقد الاعتصام، بها نستطيع أن نطبق أمور الإسلام، والله عز وجل يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فيجب أن نعتصم بحبل الله، وحبل الله هو الثوابت التي سأذكرها، والله عز وجل نهى عن التنازع، فقال: وَلا تَنَازَعُوا [الأنفال:46]، حتى على الدنيا، لكن تنازع الدين أخطر وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، وقال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153]، فالبدع والأهواء والتيارات والحزبيات هذه يجب أن نتجنبها، وأن نبتعد عنها؛ لأنها سبيل الفرقة والشتات وهي التي تغذي الفتنة وهي وقودها.

فيجب أن نجتمع، لكن أيضاً الله عز وجل جعل لهذا الاجتماع معاقد وعرى ممسكات مستمسكات، فما هي هذه المستمسكات؟

أولها الدين بجملته، فعلينا أن نأخذ بالدين كما أمر الله لا كما نشتهي، فكثير من الناس يقول: نريد الدين، لكن يأخذ من الدين الذي يعجبه والذي لا يعجبه لا يأخذ به، والدين كله لله، يجب أن نأخذ بالدين بجملته، ثم الدين لا يبقى إلا بجماعة، والجماعة هي السلطان والعلماء وأهل الحل والعقد والمرجعية وأن الأبناء يخضعون لآبائهم ويخضعون لمن ولاه الله أمرهم، والشباب يعرفون قدر الكبار، وكل يعرف مرجعيته في دينه ودنياه، فيرجع رجال العشائر إلى شيوخهم، ويرجع أصحاب المؤسسات إلى رؤسائهم، ويرجع أبناء المدارس إلى مدرائهم، ويرجع أبناء الفصل إلى معلميهم، ويرجع الطلاب والتلاميذ إلى مشايخهم وعلمائهم، فرأس الأمة هم أهل الحل والعقد ومن بيده شيء من مصالح الأمة وإن لم يكن صالحاً ولو كان فاسقاً، وبعض الناس ما يفهم هذا، والله عز وجل جعل رأس الجماعة خيار الأمة وهم العلماء ثم الولاة، والولاة لهم حقوق وعليهم حقوق، والذي لهم أوجب من الذي عليهم؛ لأن الذي لهم يوجب أمن الجميع، والذي عليهم قد تكون حقوقاً فردية، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالسمع والطاعة فقال: (ولو أخذ مالك وضرب ظهرك) لأنك إذا ما سمعت ولا أطعت شققت عصا الجماعة وأخللت بالأمن.

إذاً: أعود وأقول: لا يمكن أن يكون دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بسلطان، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنصح للسلطان وبطاعته في المعروف براً كان أو فاجراً، بل حتى لو وقع ظلم كما وقع في تاريخ الأمة كلها، حتى إنه أوصى حتى الأفراد فقال: (وإن أخذ مالك وضرب ظهرك) يعني: تسمع وتطيع.

وقال توجيهاً عاماً للأمة: (إنكم ستلقون بعدي أثرة)، يعني: أنكم قد تظلمون وتؤخذ أموالكم وتؤخذ المصالح العامة كما حدث في كثير من تاريخ الأمة، قال: (إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)، ولم يقل: كفروا وفجروا، وإنما قال: (فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)، فهذه ثوابت يجب أن نغرسها في قلوب الأجيال؛ ليعتزوا ولا يذلوا، لا كما يزعم البعض فالله! ما في الدين إلا العزة والخير والجماعة وحفظ الأمن.

ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، فمن نعم الله علينا أن الله حبانا بدولة تحمل الإسلام ونظام الحكم فيها وجود القضاء ووجود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجود احترام المشايخ وجود أصل الخير، ولا يعني ذلك عدم وجود تجاوزات، فأنا أعرف من كثير من المسئولين أنهم اعترفوا علناً وسراً في مجالس خاصة وعامة بوجود أخطاء كبيرة، لكن ما السبيل إلى علاج هذه الأخطاء؟ السبيل هو التناصح والشورى، ومع ذلك ما يلزم أن تتغير كل المنكرات، فبعض المتعجلين -خاصة الشباب المتحمس- يقول: أنكرنا وأنكرنا، وأنكر المشايخ ولا نفع، فأقول: وإذا ما نفع فأوصيك بالصبر.

كنا كثيراً في مجالس الشيخ ابن باز نجد من بعض طلاب العلم الغيورين جزاهم الله خيراً يشكون للشيخ: أننا نريد كذا، فيقول الشيخ: اكتبوا أنتم للمسئولين وادخلوا عليهم، اكتبوا لهم أو وصوا من يكتب لهم، ما هو لازم الشيخ ابن باز وابن عثيمين ، كذا يقول، ابحثوا بأي طريق ووصلوا الأمر للمسئولين وكلموهم، وكان بعضهم يقول: يا شيخ! تكلمنا في الموضوع الفلاني وتكلمت أنت وما أفاد، فكان الشيخ إذا قالوا هذا الكلام يهون عليهم، حتى إنه أحياناً يبكي وذكر أنه نصح في مسألة من المسائل وكتب أكثر من عشرين مرة أو قال: عشرين مرة، وما استجيب له إلا في المرة العشرين، وفي أمور يقول: لا نطاع فيها إلى الآن، لكن أمرنا لله، وفي أمور كثيرة يتحقق منها خير، وشهد للولاة بأنهم كثيراً ما يستجيبون، وهذه شهادة عدل لقي ربه عز وجل، وكلنا نعلم أنه خيارنا في هذا الزمان.

ولا يعني ذلك التزكية المطلقة؛ لأن بعض الناس ما يطيق مثل هذا الكلام؛ لأنه لا يعرف ميزان العدل، فيا إخوان! تعودوا ميزان العدل، ومن العدل أن نقول: إن المسئولين -وفقهم الله- فيهم خير كثير، وإنهم كثيراً ما يقبلون النصيحة وقد يقدرون على التغيير وقد لا يقدرون كما هو في غيرهم، فبعض الناس ما يستطيع أن يصلح بيته، أليس كذلك؟ بيوتنا أحياناً ما نستطيع أن نصلحها، فالآن الشر عم وطم، وليس هذا اعتذاراً عن المقصرين، فالمقصرون سيحاسبهم الله عز وجل، لكن هذا شهادة في الواقع.

فالجماعة لا تحدث إلا بإمارة وسلطة مهما كانت السلطة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالسمع والطاعة لكل من تولى حتى إنه ضرب مثلاً عجيباً، وهل النبي صلى الله عليه وسلم يضرب الأمثال عبثاً؟

قال: (ولو تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) عبد يعني: مملوك، ولا يعاب لكونه حبشياً، فالأحباش من خيار الخلق، لكن القصد أنه رقيق مملوك، فأمر بالسمع والطاعة ولو لرقيق مملوك لا يملك من أمره شيئاً، فيجب أن تسمع وتطيع، فهل اعتبر المسلمون بهذه الوصية، والله! لو أخذوا بها لكان حالهم غير ما هم عليه.

ضرورة السمع والطاعة لولاة الأمر في غير معصية

ثم أيضاً الدين والجماعة والإمارة لا يمكن أن تكون إلا بسمع وطاعة، فـعثمان رضي الله عنه يقول: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن؛ لأن السلطان معه قوة مادية والقرآن ما هو إلا توجيه يأخذ به المؤمن ويتركه المنافق، لكن ما الذي يأخذ العاصي والمنافق والظالم والباغي والمفسد والقاتل؟ الذي يأخذه بالقوة هو السلطان.

ثم أيضاً بعد السمع والطاعة لابد من الأمن، وما أدراكم ما الأمن؟

بعض الناس يظن الأمن مصلحة هامشية أو ضرورية لكنها من أدنى المصالح، وليس كذلك، بل الأمن هو تاج ذلك كله، والدين جاء بحفظ الضرورات الخمس، وكثير من نصوص الدين وقواعده وأساسياته تقوم على هذا الأساس: حفظ الضرورات الخمس، والدين لا هل يمكن إقامته على الوجه الكامل بدون أمن، فهل تستطيع أن تصلي الجماعة بلا أمن أو تقيم الجمعة بلا أمن أو تصلي الاستسقاء أو تصلي الجنازة بدون أمن؟ وهل تستطيع أن تحج بدون أمن؟ قبل دعوة الشيخ: محمد بن عبد الوهاب كان هناك خوف، واقرأ في تاريخ ابن بشر وابن غنام تجد أحدهم يقول: وفي هذا العام لم يحج أحد، وبعد حوالي عشر سنين لم يحج أحد، لماذا ما حج أحد؟

واختلال السبل، حتى من مكة كان الحاج إذا خرج من مكة يوجد في الجبال من ينهبه ويقتله.

وقبل أن يتمكن الملك عبد العزيز رحمه الله كان الناس يصلون في الحرم أربع جماعات كل واحدة لا تعترف للأخرى، فهل هذا دين نرضاه؟ جاء الملك عبد العزيز رحمه الله وجمعهم على إمام واحد، هذه الفضائل تنساها أجيالنا؛ لأننا لا نذكرهم بها، وأكثر الناس -مع الأسف- مثل الحشرة لا يقع إلا على الجرح فقط أو على موطن المرض، لكن الحسنات لا يذكرها إطلاقاً.

فإذاً: ينبغي أن نذكر لأجيالنا هذا الخير؛ فلا يمكن حفظ الدين إلا بأمن، ولا يمكن حفظ العقول بلا أمن، ولا يمكن حفظ الأموال بلا أمن، ولا يمكن حفظ الأرواح بلا أمن، ولا يمكن حفظ الأعراض والأنساب بلا أمن، وما أدراك ما الأعراض والأنساب؟

وبعض الذين يحاضرون أحياناً لا يكون عنده شعور بهذه المسائل حتى يذكر العرض فإذا ذكر العرض انتفض وعرف أن المسألة خطيرة، وأنه وصل المحز إلى العظم، ونحن نسأل الله ألا تأتي هذه الساعة، وإن شاء الله نحن موقنون بأن الله عز وجل سيحفظنا، لكن ومع ذلك هذا مشروط بأن نبقى على ديننا ونتوب ونتعاون مع ولاتنا وعلمائنا ومشايخنا وتجتمع كلمتنا على الحق والهدى، ومشروط بأن ندفع الغلو، لا أن نجلس نتفرج، فبعض الناس يقول: نحن مشغولون بالإصلاح، نعم الإصلاح له شروطه، ومن الإصلاح دفع الفساد، وأنا أضرب مثلاً لما يحدث عندنا من كثير من المفاسد والمنكرات التي يجب أن نعالجها مع الغلو: بأناس في بيتهم هذا البيت يحتاج ترميمات ويحتاج إصلاحات ويحتاج إلى حماية.. إلى آخره، كل مشغول بشغله ولم يشغلوا بإصلاح هذا البيت، فأتاهم واحد سفيه معه شهاب من نار، وقال: أريد أن أحرق البيت من أجل أن أريحكم، فما رأيكم؟!

فمن عنده نوع من سوء الفهم قال: دعوه يحرقه، لكن أيهما أسفه هذا الذي يحرق أو هذا الذي يؤيده؟! لكن العاقل والذي يعمل بالدين سيكف السفيه الذي سيحرق ويشتغل بالإصلاح في وقت واحد، فيمد يداً للإصلاح ويمد يداً أخرى لكف الكارثة والفتنة التي تقضي على كل شيء.

أهمية المرجعية في حياة الأمة

ومن الأمور الثوابت التي يجب أن نتذكرها المرجعية، وما أدراك ما المرجعية؟ وقد أشرت إلى هذا كثيراً، فما لم نرجع إلى علمائنا فهذا -نسأل الله العافية- دليل شؤم ودليل عدم توفيق وخذلان، وإذا ما أكدنا على هذه الحقيقة وتواصينا ووصينا أجيالنا وأبناءنا وربينا أنفسنا وغيرنا على مرجعية العلماء وطاعة الولاة في المعروف فسنتحمل مسئولية هذا التقصير.

الأمر الأول: مما يجب أن نتذاكر ونتواصى به دائماً ضرورة التوبة إلى الله عز وجل، فهذه الأحداث حصائد ذنوبنا، وكونه يتسلط علينا ناس من شبابنا ومن أبنائنا وباسم ديننا هذا لاشك أنه نتيجة تقصير منا في حق الله عز وجل، ويجب أن نعترف بهذا، وما لم نعترف فالمسألة أعظم، ومع الأسف بعض الجهلة إذا قيل: نحن مذنبون ونحتاج تجديد توبة أو هذا نتيجة المعاصي، قال: أنتم بس ما عندكم إلا التوبة، ونحن ماذا نعمل؟ نحن أمة مسلمة ومجتمع مسلم.. إلى آخره، ومع ذلك لو لم نكن مجتمعاً مسلماً يمكن ألا نعاقب، ويمكن أن تزدهر عندنا الدنيا ونأخذ حظنا من الدنيا، وليس لنا من الآخرة نصيب، نسأل الله العافية، لكننا نحن أمة مسلمة نعاقب على الذنب ويكفر الله بذلك عنا، لكن ومع ذلك هذه الحقيقة يجب أن نتوصل لها، لابد من توبة صادقة مع الله عز وجل من الجميع، وأن نتواصى على هذا حكاماً ومحكومين.. علماء ومتعلمين وعامة وسائر طبقاتنا.

الأمر الثاني: ضرورة الاجتماع على كلمة سواء على ثوابت الدين والدنيا التي اجتمعنا وتبايعنا عليها حكاماً ومحكومين، فكلنا في أعناقنا بيعة، فعندما بايع أهل الحل والعقد لهذه الدولة وفقها الله لكل خير فمعناه أن البيعة في ذمة الجميع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، والبيعة هي معقد الاعتصام، بها نستطيع أن نطبق أمور الإسلام، والله عز وجل يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فيجب أن نعتصم بحبل الله، وحبل الله هو الثوابت التي سأذكرها، والله عز وجل نهى عن التنازع، فقال: وَلا تَنَازَعُوا [الأنفال:46]، حتى على الدنيا، لكن تنازع الدين أخطر وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، وقال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الأنعام:153]، فالبدع والأهواء والتيارات والحزبيات هذه يجب أن نتجنبها، وأن نبتعد عنها؛ لأنها سبيل الفرقة والشتات وهي التي تغذي الفتنة وهي وقودها.

فيجب أن نجتمع، لكن أيضاً الله عز وجل جعل لهذا الاجتماع معاقد وعرى ممسكات مستمسكات، فما هي هذه المستمسكات؟

أولها الدين بجملته، فعلينا أن نأخذ بالدين كما أمر الله لا كما نشتهي، فكثير من الناس يقول: نريد الدين، لكن يأخذ من الدين الذي يعجبه والذي لا يعجبه لا يأخذ به، والدين كله لله، يجب أن نأخذ بالدين بجملته، ثم الدين لا يبقى إلا بجماعة، والجماعة هي السلطان والعلماء وأهل الحل والعقد والمرجعية وأن الأبناء يخضعون لآبائهم ويخضعون لمن ولاه الله أمرهم، والشباب يعرفون قدر الكبار، وكل يعرف مرجعيته في دينه ودنياه، فيرجع رجال العشائر إلى شيوخهم، ويرجع أصحاب المؤسسات إلى رؤسائهم، ويرجع أبناء المدارس إلى مدرائهم، ويرجع أبناء الفصل إلى معلميهم، ويرجع الطلاب والتلاميذ إلى مشايخهم وعلمائهم، فرأس الأمة هم أهل الحل والعقد ومن بيده شيء من مصالح الأمة وإن لم يكن صالحاً ولو كان فاسقاً، وبعض الناس ما يفهم هذا، والله عز وجل جعل رأس الجماعة خيار الأمة وهم العلماء ثم الولاة، والولاة لهم حقوق وعليهم حقوق، والذي لهم أوجب من الذي عليهم؛ لأن الذي لهم يوجب أمن الجميع، والذي عليهم قد تكون حقوقاً فردية، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالسمع والطاعة فقال: (ولو أخذ مالك وضرب ظهرك) لأنك إذا ما سمعت ولا أطعت شققت عصا الجماعة وأخللت بالأمن.

إذاً: أعود وأقول: لا يمكن أن يكون دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بسلطان، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنصح للسلطان وبطاعته في المعروف براً كان أو فاجراً، بل حتى لو وقع ظلم كما وقع في تاريخ الأمة كلها، حتى إنه أوصى حتى الأفراد فقال: (وإن أخذ مالك وضرب ظهرك) يعني: تسمع وتطيع.

وقال توجيهاً عاماً للأمة: (إنكم ستلقون بعدي أثرة)، يعني: أنكم قد تظلمون وتؤخذ أموالكم وتؤخذ المصالح العامة كما حدث في كثير من تاريخ الأمة، قال: (إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)، ولم يقل: كفروا وفجروا، وإنما قال: (فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)، فهذه ثوابت يجب أن نغرسها في قلوب الأجيال؛ ليعتزوا ولا يذلوا، لا كما يزعم البعض فالله! ما في الدين إلا العزة والخير والجماعة وحفظ الأمن.

ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، فمن نعم الله علينا أن الله حبانا بدولة تحمل الإسلام ونظام الحكم فيها وجود القضاء ووجود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجود احترام المشايخ وجود أصل الخير، ولا يعني ذلك عدم وجود تجاوزات، فأنا أعرف من كثير من المسئولين أنهم اعترفوا علناً وسراً في مجالس خاصة وعامة بوجود أخطاء كبيرة، لكن ما السبيل إلى علاج هذه الأخطاء؟ السبيل هو التناصح والشورى، ومع ذلك ما يلزم أن تتغير كل المنكرات، فبعض المتعجلين -خاصة الشباب المتحمس- يقول: أنكرنا وأنكرنا، وأنكر المشايخ ولا نفع، فأقول: وإذا ما نفع فأوصيك بالصبر.

كنا كثيراً في مجالس الشيخ ابن باز نجد من بعض طلاب العلم الغيورين جزاهم الله خيراً يشكون للشيخ: أننا نريد كذا، فيقول الشيخ: اكتبوا أنتم للمسئولين وادخلوا عليهم، اكتبوا لهم أو وصوا من يكتب لهم، ما هو لازم الشيخ ابن باز وابن عثيمين ، كذا يقول، ابحثوا بأي طريق ووصلوا الأمر للمسئولين وكلموهم، وكان بعضهم يقول: يا شيخ! تكلمنا في الموضوع الفلاني وتكلمت أنت وما أفاد، فكان الشيخ إذا قالوا هذا الكلام يهون عليهم، حتى إنه أحياناً يبكي وذكر أنه نصح في مسألة من المسائل وكتب أكثر من عشرين مرة أو قال: عشرين مرة، وما استجيب له إلا في المرة العشرين، وفي أمور يقول: لا نطاع فيها إلى الآن، لكن أمرنا لله، وفي أمور كثيرة يتحقق منها خير، وشهد للولاة بأنهم كثيراً ما يستجيبون، وهذه شهادة عدل لقي ربه عز وجل، وكلنا نعلم أنه خيارنا في هذا الزمان.

ولا يعني ذلك التزكية المطلقة؛ لأن بعض الناس ما يطيق مثل هذا الكلام؛ لأنه لا يعرف ميزان العدل، فيا إخوان! تعودوا ميزان العدل، ومن العدل أن نقول: إن المسئولين -وفقهم الله- فيهم خير كثير، وإنهم كثيراً ما يقبلون النصيحة وقد يقدرون على التغيير وقد لا يقدرون كما هو في غيرهم، فبعض الناس ما يستطيع أن يصلح بيته، أليس كذلك؟ بيوتنا أحياناً ما نستطيع أن نصلحها، فالآن الشر عم وطم، وليس هذا اعتذاراً عن المقصرين، فالمقصرون سيحاسبهم الله عز وجل، لكن هذا شهادة في الواقع.

فالجماعة لا تحدث إلا بإمارة وسلطة مهما كانت السلطة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالسمع والطاعة لكل من تولى حتى إنه ضرب مثلاً عجيباً، وهل النبي صلى الله عليه وسلم يضرب الأمثال عبثاً؟

قال: (ولو تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) عبد يعني: مملوك، ولا يعاب لكونه حبشياً، فالأحباش من خيار الخلق، لكن القصد أنه رقيق مملوك، فأمر بالسمع والطاعة ولو لرقيق مملوك لا يملك من أمره شيئاً، فيجب أن تسمع وتطيع، فهل اعتبر المسلمون بهذه الوصية، والله! لو أخذوا بها لكان حالهم غير ما هم عليه.


استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة اسٌتمع
المعيار في معرفة المتشبهين بالكفار 3329 استماع
أحكام الأعياد 3185 استماع
توجيهات في طريق الصحوة 3031 استماع
مسلمات في العقيدة 3020 استماع
حقيقة التدين 2994 استماع
علامات الساعة وقيامها 2908 استماع
الوسواس أسبابه وعلاجه 2787 استماع
منهج السلف في تقرير العقيدة ونشرها والرد على المخالفين 2720 استماع
مصير الانسان 2495 استماع
مفتريات حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب 2473 استماع