الضلال الفكري


الحلقة مفرغة

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وارض اللهم عن صحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضله ورحمته.

أما بعد:

فإن الله عز وجل كتب على الخلق وقدر في سابق قدره الاختلاف والفرقة، إلا من هداه الله ووفقه، كما قال سبحانه: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:118-119]، نسأل الله أن يتغمدنا برحمته، فإنه لولا توفيق الله ما اهتدينا، كما كان الصحابة يقولون في أنشودتهم:

والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا

وطريق الهداية هو توفيق من الله عز وجل، ولذلك يجب على المسلم دائماً أن يسأل ربه الهداية والتوفيق، والسداد والاستقامة على دين الله؛ لأنه مهما بلغ الإنسان من العقل والذكاء والفطنة والمعلومات والثقافة والعلم، فإن ذلك وحده لا يكفيه ما لم يوفقه الله ويهده، وإلا فنحن نرى أن كثيراً من المشركين في جميع العصور وفي عصرنا -والآن قد اطلعنا على كثير من الشرك؛ بسبب اختلاط الأمم ووسائل الإعلام- من يعبد أخس المخلوقات، فبعضهم قد يعبد قرداً، وبعضهم قد يعبد الحية، وآخر قد يعبد البقرة، وآخرون يعبدون أحياناً أموراً وسخة، أترون أنه ليس لهم عقول؟ لهم عقول، لكن ليست عقول هداية ومستقيمة، أتظنون أن عباد الأوثان هؤلاء ليس فيهم أذكياء؟ ليس فيهم من عنده ثقافة؟ أترون أنهم كلهم أغبياء وجهلة حتى في الأمور الدنيوية؟ لا، لكن الله عز وجل قدر عليهم الضلالة، وما نفعتهم عقولهم إلا في أمور معاشهم في أمور دنياهم، وأما أمور الدين فهي توفيق من الله عز وجل.

ومن هنا فإن الضلال مسلك خطير يحصل للإنسان بأسباب عدة، منها: وساوس الشيطان وشبهاته وإضلاله، ومنها: هوى النفوس واتباع الشهوات والشبهات، ومنها: الجهل بدين الله وشرعه، ومنها: قرناء السوء ودعاته، ودعاة الضلالة، وأصحاب السبل ودعاته الذين حذر منهم النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أن في كل طريق وفي كل سبيل من سبل الضلالة داعية يقول للناس: هاهنا طريق الحق، وهكذا دعاة الباطل لا يقولون: تعالوا إلى جهنم، أو تعالوا للباطل، أو تعالوا للفساد والإعراض والبدع، وإنما يلبسون على الناس، فيزعمون أنهم يدعون الناس إلى الجنة وإلى الحق وإلى السنة، فيلبسون الحق بالباطل، ومن هنا ليس العبرة بالدعاوى.. وغير ذلك من أسباب الضلال، لكني سأقف بعض الوقفات التي أرى أنها مفيدة لشبابنا في هذا الوقت، والتي أرى أنها موازين شرعية قررها الله في كتابه وقررها الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، وهي سبيل المؤمنين وسبيل السلف الصالح، هذه القواعد والمسلمات هي بإذن الله تعتبر المعالم والموازين التي إذا استمسك بها الشاب المسلم صارت بعد توفيق الله من أسباب سلامته من الضلال، وقبل أن نعرف هذه القواعد والموازين لابد أن نعرف أن الحق بين وواضح لمن طلبه، لكن من قصر في طلبه فإنه يعمى عليه الحق، ولو كان مثل الشمس في بيانها ووضوحها، ولذلك سمى الله هذا الوحي في القرآن هدى وفرقاناً ومبيناً، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم بالواضحة وبالبيضاء، فقال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك)، وهذا الحق البين الواضح الهدى المبين الفرقان الصراط المستقيم.. وغير ذلك من الأوصاف، قد يعمى على الإنسان إذا فرط في معرفته، ولم يتعرف على ثوابت الدين، أو على الموازين الشرعية، أو لم يقتد بالقدوة، وهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة ثم التابعون، ولم يسلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم وطريق الصحابة والتابعين، وسبيل المؤمنين التي هي الواضحة، وهي أصول الدين وقواعده وثوابته ومسلماته التي رسمها النبي صلى الله عليه وسلم في منهاج السنة والجماعة، فهذه الأصول بينة لمن طلبها، أما من قصر وفرط وتهاون في طلبها، حتى وإن عاش بين المسلمين، أو في أسرة من أهل السنة، أو عاش في مجتمع سني، وقصر في تثبيت الحق وطلبه في نفسه، فإنه يقع في الضلالة والغواية؛ لأنه فرط.

معرفة إكمال الله عز وجل لدين الإسلام

من هذه الموازين التي أشير إليها بإجمال دون الدخول في التفاصيل، أولاً: يجب أن نعرف أن الله عز وجل قد أكمل الدين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، ومعنى: أكمله، أي: لا يحتاج الناس إلى زيادة أو نقص؛ لأن الدين قد كمل، وكل مسلم يأخذ من الدين بقدر استطاعته، ولذلك الله عز وجل ركب هذا الدين عقائده وفرائضه وواجباته وسننه ومستحباته ومنهياته على قدر فطرة الإنسان، ولا يحتاج الإنسان بعد ذلك إلى زيادة أو إلى نقص، ولو نقص عليه شيء من الاعتبارات الإيمانية والروحية فهو كنقص الماء والطعام عليه، فإذا نقص من اتباع الدين وفرط وأعرض وجد آثار ذلك في نفسه، فوجد الشقاوة وعدم الأمن، ووجد الاضطراب والقلق، وكذلك إذا زاد فيه وجد الغلو والتشدد والتنطع الذي يؤدي به إلى مرحلة تجعله يصادم الحياة، ولذلك الدين لا إفراط فيه ولا تفريط، وإنما هو وسط وكامل: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، ويتفرع عن هذه القاعدة، أعني: أن الدين كامل: أن الناس لا يحتاجون إلى أن يقرروا شيئاً ويقولون: هذا من الدين، أو أن ينزعوا شيئاً منه ويقولون: هذا لا يحتاجه الدين! إن الإنسان يعمل بقدر استطاعته، ولا نستطيع أن نقول: إنه يجب على كل إنسان أن يعمل بكل الدين؛ لأن الله قال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فالناس قدرات ومواهب تختلف بعضها عن بعض، لكن يجب على كل مسلم أن يعمل من الدين ما يستطيع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والدين من حيث هو كامل يفي بحاجة الإنسان، سواء كان هذا الإنسان من أرقى الناس في مواهبه أو أدنى الناس في مواهبه، فالدين يفي بحاجتهما في دنياهما وآخرتهما.

حفظ الله عز وجل لدين الإسلام

ثانياً: حفظ الله لهذا الدين، لكن قد يقول بعض الناس: إن التشريع قد تم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الناس قد فرطوا من بعده وأحدثوا كذا وكذا، فنقول: إنه مهما حدث من الأحداث والفتن فإن الله قد تكفل بحفظ هذا الدين، وما حدث من أناس أنهم قد ابتدعوا في الدين أو أعرضوا أو أخلوا، فإن هذا الإخلال أو الإعراض أو الابتداع ليس من الدين، ولا يعني ذلك أن الدين قد ضاع، فالدين لا يضيع منه شيء في جزئية أو كلية؛ لأنه محفوظ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، ولذلك ختم الله النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولولا أن الدين محفوظ لاحتجنا إلى نبوة، والذي تكفل بحفظ الدين هو الله عز وجل، فحفظ مصادره، وحفظ الطائفة القدوة التي تبقى متمثلة للدين إلى قيام الساعة، والذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم إلى أن تقوم الساعة)، قوله: (ظاهرين)، أي: العلماء، لأن العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم دائماً على رأس الظاهرين من أهل الحق ومن أهل السنة والجماعة، ولا يمكن أن تكون هذه الأمة ظاهرة وأهل الحق ظاهرين بلا علماء، وإلا إذا قادهم الجهلة لم يعودوا ظاهرين.

وحفظ الله لدينه يقتضي صلاحيته لكل زمان ومكان، وإن حصل أن الناس وقع عليهم حرج أو عنت في بعض أمور الدين أو تقصير فهذا من تفريطهم وليس نقصاً في الدين، وهذا كما يحصل في المسلمين اليوم، فكثير من الأمور ينسبون النقص فيها والتقصير والذلة والخذلان إلى دينهم، وهذا غلط، فالدين لا يمكن أن يكون هو السبب؛ لأن الدين كامل ومحفوظ، وإنما السبب هو في عدم استمساك الناس بالدين، وتقصيرهم وإعراضهم وتشددهم وتنطعهم، وكل هذا موجود في المسلمين.

حرمة الابتداع في الدين

ثالثاً: أنه لا يجوز الابتداع في الدين، وهذه قاعدة شرعية قررها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث متواترة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقال: (كل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة)، فعلى هذا كل ما أحدث عند المسلمين أو عند بعض المسلمين هو خلاف لأهل الحق (الطائفة المنصورة)؛ لأنهم لم يبتدعوا ولم يحدثوا ولن يحدثوا بإذن الله، والعصمة لمجموعهم لا لأفرادهم، وكل ما أحدث في الدين من الاعتقادات أو الأحكام أو الأقوال أو الأفعال أو الاتجاهات أو الأحزاب أو الفرق أو المواقف فهو من البدع.

وأيضاً: كل ما لم يكن على أصول أهل السنة والجماعة فهو من المحدثات، سواء من الأقوال أو الأفعال أو الأفكار أو المعتقدات أو الأساليب أو الوسائل وغير ذلك مما لا يستقيم على أصول الشرع.

ولذلك يعتبر الناس الذين ابتدعوا وأحدثوا أموراً في الدين، سواء من البدع الاعتقادية أو بدع العبادات أو بدع الأعمال هم من أهل الأهواء، سواء قصدوا أو لم يقصدوا، وأيضاً بابتداعهم يلزمهم أن الدين ناقص، وإلا فلماذا يأتون بدين من عندهم؟! إن هذا يسمى استدراك على الدين، وأهل العلم يقولون: كل من قال ببدعة أو فعل بدعة أو اعتقد بدعة، فهو مستدرك على الدين، وكأنه يرى أن الله لم يكمل الدين، فجاء بشيء من عنده لم يشرعه الله، وهذا يعني: أنه شرع ما لم يشرعه الله، وكأنه رأى أن في الدين نقص يحتاج إلى زيادة وتشريع، سواء في الاعتقاد أو الأقوال أو الأعمال، وكما أن الابتداع يكون في العبادات أو الأحوال أو الأحكام يكون في مناهج وأصول وقطعيات هذا الدين، وهذا كما هو حاصل عند الفرق.

من هذه الموازين التي أشير إليها بإجمال دون الدخول في التفاصيل، أولاً: يجب أن نعرف أن الله عز وجل قد أكمل الدين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، ومعنى: أكمله، أي: لا يحتاج الناس إلى زيادة أو نقص؛ لأن الدين قد كمل، وكل مسلم يأخذ من الدين بقدر استطاعته، ولذلك الله عز وجل ركب هذا الدين عقائده وفرائضه وواجباته وسننه ومستحباته ومنهياته على قدر فطرة الإنسان، ولا يحتاج الإنسان بعد ذلك إلى زيادة أو إلى نقص، ولو نقص عليه شيء من الاعتبارات الإيمانية والروحية فهو كنقص الماء والطعام عليه، فإذا نقص من اتباع الدين وفرط وأعرض وجد آثار ذلك في نفسه، فوجد الشقاوة وعدم الأمن، ووجد الاضطراب والقلق، وكذلك إذا زاد فيه وجد الغلو والتشدد والتنطع الذي يؤدي به إلى مرحلة تجعله يصادم الحياة، ولذلك الدين لا إفراط فيه ولا تفريط، وإنما هو وسط وكامل: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، ويتفرع عن هذه القاعدة، أعني: أن الدين كامل: أن الناس لا يحتاجون إلى أن يقرروا شيئاً ويقولون: هذا من الدين، أو أن ينزعوا شيئاً منه ويقولون: هذا لا يحتاجه الدين! إن الإنسان يعمل بقدر استطاعته، ولا نستطيع أن نقول: إنه يجب على كل إنسان أن يعمل بكل الدين؛ لأن الله قال: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فالناس قدرات ومواهب تختلف بعضها عن بعض، لكن يجب على كل مسلم أن يعمل من الدين ما يستطيع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، والدين من حيث هو كامل يفي بحاجة الإنسان، سواء كان هذا الإنسان من أرقى الناس في مواهبه أو أدنى الناس في مواهبه، فالدين يفي بحاجتهما في دنياهما وآخرتهما.

ثانياً: حفظ الله لهذا الدين، لكن قد يقول بعض الناس: إن التشريع قد تم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الناس قد فرطوا من بعده وأحدثوا كذا وكذا، فنقول: إنه مهما حدث من الأحداث والفتن فإن الله قد تكفل بحفظ هذا الدين، وما حدث من أناس أنهم قد ابتدعوا في الدين أو أعرضوا أو أخلوا، فإن هذا الإخلال أو الإعراض أو الابتداع ليس من الدين، ولا يعني ذلك أن الدين قد ضاع، فالدين لا يضيع منه شيء في جزئية أو كلية؛ لأنه محفوظ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، ولذلك ختم الله النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولولا أن الدين محفوظ لاحتجنا إلى نبوة، والذي تكفل بحفظ الدين هو الله عز وجل، فحفظ مصادره، وحفظ الطائفة القدوة التي تبقى متمثلة للدين إلى قيام الساعة، والذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من عاداهم إلى أن تقوم الساعة)، قوله: (ظاهرين)، أي: العلماء، لأن العلماء هم ورثة الأنبياء، وهم دائماً على رأس الظاهرين من أهل الحق ومن أهل السنة والجماعة، ولا يمكن أن تكون هذه الأمة ظاهرة وأهل الحق ظاهرين بلا علماء، وإلا إذا قادهم الجهلة لم يعودوا ظاهرين.

وحفظ الله لدينه يقتضي صلاحيته لكل زمان ومكان، وإن حصل أن الناس وقع عليهم حرج أو عنت في بعض أمور الدين أو تقصير فهذا من تفريطهم وليس نقصاً في الدين، وهذا كما يحصل في المسلمين اليوم، فكثير من الأمور ينسبون النقص فيها والتقصير والذلة والخذلان إلى دينهم، وهذا غلط، فالدين لا يمكن أن يكون هو السبب؛ لأن الدين كامل ومحفوظ، وإنما السبب هو في عدم استمساك الناس بالدين، وتقصيرهم وإعراضهم وتشددهم وتنطعهم، وكل هذا موجود في المسلمين.

ثالثاً: أنه لا يجوز الابتداع في الدين، وهذه قاعدة شرعية قررها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث متواترة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقال: (كل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة)، فعلى هذا كل ما أحدث عند المسلمين أو عند بعض المسلمين هو خلاف لأهل الحق (الطائفة المنصورة)؛ لأنهم لم يبتدعوا ولم يحدثوا ولن يحدثوا بإذن الله، والعصمة لمجموعهم لا لأفرادهم، وكل ما أحدث في الدين من الاعتقادات أو الأحكام أو الأقوال أو الأفعال أو الاتجاهات أو الأحزاب أو الفرق أو المواقف فهو من البدع.

وأيضاً: كل ما لم يكن على أصول أهل السنة والجماعة فهو من المحدثات، سواء من الأقوال أو الأفعال أو الأفكار أو المعتقدات أو الأساليب أو الوسائل وغير ذلك مما لا يستقيم على أصول الشرع.

ولذلك يعتبر الناس الذين ابتدعوا وأحدثوا أموراً في الدين، سواء من البدع الاعتقادية أو بدع العبادات أو بدع الأعمال هم من أهل الأهواء، سواء قصدوا أو لم يقصدوا، وأيضاً بابتداعهم يلزمهم أن الدين ناقص، وإلا فلماذا يأتون بدين من عندهم؟! إن هذا يسمى استدراك على الدين، وأهل العلم يقولون: كل من قال ببدعة أو فعل بدعة أو اعتقد بدعة، فهو مستدرك على الدين، وكأنه يرى أن الله لم يكمل الدين، فجاء بشيء من عنده لم يشرعه الله، وهذا يعني: أنه شرع ما لم يشرعه الله، وكأنه رأى أن في الدين نقص يحتاج إلى زيادة وتشريع، سواء في الاعتقاد أو الأقوال أو الأعمال، وكما أن الابتداع يكون في العبادات أو الأحوال أو الأحكام يكون في مناهج وأصول وقطعيات هذا الدين، وهذا كما هو حاصل عند الفرق.

الجهل بالكتاب والسنة

إن من أعظم أسباب الابتداع والضلالات التي حدثت في الأمة، سواء كان ضلالاً فكرياً أو اعتقادياً أو في الأعمال: الجهل بمصادر الدين، يعني: الجهل بالكتاب والسنة، والجهل بالكتاب والسنة أنواع: جهل بالأدلة نفسها، فكثير من أهل الأهواء والبدع لا يحيط بأدلة القرآن والسنة، أو يحفظ قليلاً من أدلة السنة ويبقى عليه الكثير، ومن هنا إذا تكلم في شيء من أمور الدين تكلم بغير علم؛ لأنه يجهل الأدلة، وأحياناً قد يكون الخلل في مصدر التلقي، أي: في مصدر الدين، أو الخلل في فهم النصوص، أو الخلل في الاستدلال بها، وهو الذي عليه جميع أهل الأهواء قديماً وحديثاً، بمعنى: أنه قد يعرف الآية أو الحديث، لكن لا يعرف كيف يستدل بهما، وهذا أخطر ما يكون على المسلمين اليوم؛ لأن الأدلة أمامهم معروضة، والآن كل شاب وكل طالب علم يستطيع أن يستعرض الأدلة خلال دقائق من خلال الوسائل الحديثة، لكن كيف يسقط الدليل على القضية، أو كيف يحكم على القضية من خلال الدليل، أو كيف ينزل الدليل على المسائل، أو كيف يسقط الأدلة على الأحداث والوقائع؟ إن هذا أمر لا يدركه إلا الراسخون في العلم، ولذلك ترون الآن كثرة الخلط وكثرة الآراء الشاذة، والاضطراب والتناقض والتعارض في الآراء، وترك سبيل العلماء والقدح فيهم وفي آرائهم وفتاويهم، كل ذلك بسبب أن الأكثر يأخذ النصوص الشرعية فيطبقها كما يشاء، ويحكم بها كما يشاء، ولا يفرق بين الناسخ والمنسوخ، أو بين المطلق والمقيد، أو بين العام والخاص، ولا يرد الأدلة بعضها إلى بعض، ولا يفسر القرآن بالقرآن، ولا يفسر الآية بالحديث، ولا يفسر الحديث بأعمال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله، ولا يفسر أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بأفعال الصحابة، وكل ذلك لا يعرف، وهذا كإنسان عنده مادة خام ولا يعرف كيف يفصلها، فربما قد يكسرها فيؤدي ذلك إلى إعدامها أو إتلافها، وكذلك الذين يتناولون الاستدلال الآن ليسوا بعلماء، بل ولا يعرفون منهج الاستدلال، وهذا حال أكثر الناس اليوم، بل أكثر طلاب العلم يخبطون ويربطون؛ لأنهم لا يعرفون كيف يستدلون، ولذلك وقعنا في كوارث من الأفكار الخطيرة جداً، والتي تعتبر مخلة بالدين وبثوابته ومسلماته، ومخلة بأمن الأمة واستقامتها؛ لأن أكثر الناس لا يعرفون منهج الاستدلال، ومنهج الاستدلال يقوم أولاً على الإحاطة بالنصوص، والعالم الراسخ لابد أن يحيط بأكثر النصوص، فإذا استدل استحضر الأدلة بمجموعها، وعرف الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، وما يترتب على الحكم في هذه القضية، وعرف النص الذي له سبب والذي ليس له سبب.. إلى آخره، بينما الذي ليس عنده هذا الحس وهذا الإدراك لو عرف النصوص فلابد أن يقع في الخطأ في الاستدلال.

الاعتماد على الرأي والهوى في التعامل مع الأدلة الشرعية

من أسباب الضلالة والابتداع في الدين: الاعتماد على الرأي والهوى والمزاج، وهذا وقع فيه كثير من المسلمين اليوم، فيكون له هوى وتوجه ومزاج في قضية معينة، ويأتي بالدليل كما يشاء فيخضعه لرأيه ولا يخضع هو للدليل، وهذا ما عليه أكثر الناس اليوم، إذ إنه يخضع الدليل لرأيه ولا يخضع هو للدليل، ولا يكون رائده الحق، وإنما رائده أن ينتصر لما يراه هو، لذلك كان من أسباب الخلل والضلال: الاعتماد على الرأي والعقل وعلى وجهات النظر والعاطفة، وعدم التجرد للحق، ثم نضيف إلى هذا: الهوى والغرور واتباع المتشابه والإعراض عن الدين، سواء كان إعراضاً جزئياً أو كلياً.

الكذب والمراء والغلو والتعصب وعدم الرجوع إلى العلماء ومشاورتهم

كذلك الكذب والمراء والغلو والتعصب وعدم الرجوع إلى العلماء، وترك سبيل المؤمنين الذي توعد الله من خالفه بقوله: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، فسبيل المؤمنين هو سبيل أهل الحق، أهل السنة والجماعة، والذي يمثله العلماء في كل عصر من العصور إلى قيام الساعة، إلى أن يرث الأرض ومن عليها، إلى أن ينزل عيسى عليه السلام فيخضع للموجود عنده من العلماء وعلى رأسهم المهدي ، ويقول: أنتم الذين تعملون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً: عدم الرجوع إلى أهل الرأي والمشورة والعلماء والراسخين في العلم.

ترك القدوة وعدم التثبت والإعراض عن الحق

من الأسباب كذلك: ترك القدوة وعدم التثبت في الأمور.. إلى آخره، وجماع ذلك كله الإعراض، أي: الإعراض عن الدليل وعن الحق وعن الهدى، واتباع الهوى والمزاج، ولا تظنون أنه لا يتبع الهوى إلا الفاسق أو الفاجر أو الكافر، بل الحق أننا لو تأملنا التاريخ لوجدنا -في هذا عبرة- أن أغلب الذين أنشئوا البدع أو الأهواء أو الافتراق في الأمة هم من المتدينين، بل كلهم متدينون، وكل أصل الفرق متدينون، ما نعرف فاسقاً أو فاجراً رفع راية فرقة فتبعه الناس، والذي يعرف ذلك فعليه بالدليل، وعلى سبيل المثال: الذين أسسوا مذهب الشيعة والرافضة متدينون.

وكذلك الذين أسسوا مذهب الخوارج متدينون، بل ووصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (تحقرون صلاتكم عند صلاتهم، وصيامكم عند صيامهم).

والذين أسسوا مذهب القدرية متدينون ومشهورون بالزهد والورع.

والذين أنشئوا مذهب المعتزلة متدينون ومشهورون بالزهد والورع.

وكذلك الذين أنشئوا مذاهب التصوف هم من أشهر العباد والنساك في تاريخ الأمة؛ وأنا أقول هذا لأن بعض الشباب عندما تجد عنده فكراً منحرفاً يقول لك: يا أخي! أنا سمعت من فلان، وحسبك منه ورعه وتقواه، فنقول له: لكن ليس كل من حمل هذه الصفات يكون مؤهلاً بأن يكون قدوة؛ لأنه قد يكون منحرفاً في الاستدلال أو الاتباع أو الأفكار، بل وقد يكون صاحب هوى وإن تدين، فلذلك يجب أن يتنبه الشباب إلى أن كثيراً من أصحاب رايات الأهواء الآن هم من المتدينين، بينما أهل النفاق مفروغ منهم، وكذلك العلمانيون مفروغ منهم، ولا يمكن أن يكون هناك متدين يقتدي بالعلمانيين، ويرى أنهم قدوة في الدين؛ لأن هذا لا يعقل ولا يتصور أصلاً.

ولذا فمن هنا يأتي الخطر من الغلو في الدين أو التفريط في الدين، وذلك من قبل أناس يتدينون، فالمرجئة وأصحاب الإرجاء هم علماء وفقهاء متدينون، لكنهم أخطئوا في جانب التساهل في الدين، فنشأ عنهم مذهب المرجئة والإرجاء.

وعلى العكس من ذلك: الخوارج أصحاب التكفير والغلو فيه هم من المتدينين، بل أشد الناس تديناً، ومع ذلك صدرت عنهم مواقف خطيرة ضد الأمة، فاستحلوا دماء العشرة المبشرين بالجنة، فالذين قتلوا الزبير وطلحة وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعاً متدينون، بل الأعجب أنهم قتلوهم تديناً احتساباً لله.

ولذا فيجب أن نفهم مصادر الأفكار، وكيف تكون هذه المصادر؟ ومن نأمن ومن لا نأمن؟ وأن الأمان لا يكون إلا للعلماء الراسخين مهما كان وضعهم، ولابد أن يكون للأمة مرجع، والمرجع لابد أن يكون قدوة في جميع أحواله، ولابد أن يكون من الراسخين في العلم، ولابد أن يكون من أهل الاعتدال والوسطية، فلا إفراط ولا تفريط.