مفهوم الافتراق


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، الذي حذر أمته بقوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه).

وبعد:

فإن من أهم الموضوعات التي ينبغي أن يعنى بها أهل العلم وطلابه في هذا العصر، والتي أحوج ما يحتاج إليها المسلمون بعامة وطلاب العلم بخاصة مسألة: الافتراق.

الافتراق مفهومه وأسبابه، وسبل التوقي منه، والحذر من الوقوع فيه، لاسيما في هذا العصر الذي كثرت فيه البدع وظهرت وأخرجت أعناقها، وكثرت فيه الأهواء وسيطرت على الناس، وكثر فيه الخبث والنفاق، وكادت رسالة الإسلام أن تكون في غربة مع كثرة العلم وانتشاره، إلا أنه علم لا يفيد الكثيرين ممن تلقوه؛ لأنه إما أن يكون تلقيه عن غير المصادر الأصلية، أو عن غير منهج أهل العلم والفقه في الدين، وكثرة وسائل العلم رغم أنها نعمة إلا أنها قد أضرت كثيراً من الناس، حيث اكتفوا بها عن أخذ العلم عن أهله، وهو الأصل الذي هو سبيل المؤمنين، لهذا فإني سأتحدث بما يتيسر إن شاء الله عن الافتراق مفهومه وأسبابه، وسبل التوقي منه بقدر ما يتسع له الوقت إن شاء الله.

وسأحصر الحديث هذا الموضوع على خمس مسائل:

المسألة الأولى: مفهوم الافتراق.

الافتراق في اللغة: من المفارقة، وهي المباينة والمفاصلة والانقطاع، والافتراق مأخوذ من الانشعاب والشذوذ، ومنه الخروج عن الأصل، والخروج عن الجادة، والخروج عن الجماعة.

وفي الاصطلاح: الافتراق: هو الخروج عن السنة والجماعة في أي أصل من أصول الدين القطعية أو أكثر، سواء كانت الأصول الاعتقادية، أو الأصول العملية المتعلقة بالقطعيات، أو المتعلقة بمصالح الأمة العظمى أو بهما معاً.

فمخالفة أهل السنة والجماعة في أصل من أصول الدين افتراق، ومخالفة إجماع المسلمين افتراق، ومخالفة جماعة المسلمين وإمامهم فيما هو من المصالح الكبرى افتراق، والخروج عن جماعة المسلمين افتراق، وكل كفر أكبر يعد افتراقاً، وليس كل افتراق كفراً.

كل كفر يخرج به الإنسان عن الإسلام وعن السنة والجماعة فإنه مفارقة، لكن ليس كل افتراق كفراً، بمعنى أنه قد يقع الافتراق من طائفة أو فريق من الناس أو جماعة، لكن لا توصف بالكفر، حتى وإن افترقت عن جماعة المسلمين في عمل ما، كافتراق الخوارج، فالخوارج الأولون افترقوا عن الأمة، وخرجوا عليها بالسيف، وأيضاً فارقوا جماعة المسلمين وإمامهم، ومع ذلك لم يحكم الصحابة بكفرهم.

المسألة الثانية: الفرق بين الاختلاف والافتراق.

وهذا أمر مهم جداً، وينبغي أن يُعنى به أهل العلم؛ لأن كثيراً من الناس خاصة بعض الدعاة وبعض شباب الصحوة الذين لم يكتمل فقههم في الدين، لا يفرقون بين مسائل الخلاف ومسائل الافتراق، ومن هنا قد يرتب بعضهم على مسائل الاختلاف أحكام الافتراق، وهذا خطأ فاحش أصله الجهل بأصول الافتراق، ومتى يكون؟ وكيف يكون؟ ومن الذي يحكم بمفارقة شخص أو جماعة ما؟

من هنا كان لابد من ذكر بعض الفروق بين الاختلاف وبين الافتراق، وسأذكر خمسة فروق على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر:

الفرق الأول: أن الافتراق أشد أنواع الاختلاف، بل هو من ثمار الخلاف، إذ قد يصل الخلاف إلى حد الافتراق وقد لا يصل، فالافتراق اختلاف وزيادة، لكن ليس كل اختلاف افتراقاً، وينبني على هذا الفرق الثاني.

الفرق الثاني: وهو أنه ليس كل اختلاف افتراقاً بل كل افتراق اختلافاً.

الفرق الثالث : أن الافتراق لا يكون إلا على أصول كبرى من أصول الدين التي لا يسع الخلاف فيها، والتي ثبتت بنص قاطع أو بإجماع، أو استقرت منهجاً عملياً لأهل السنة والجماعة لا يختلفون عليه، فما كان كذلك فهو أصل، ومن خالف فيه فهو مفترق، أما ما دون ذلك فإنه يكون من باب الاختلاف.

فالاختلاف يكون فيما دون الأصول مما يقبل التعدد بالرأي، ويقبل الاجتهاد، ويحتمل ذلك كله، وتكون له مسوغات عند قائله، أو يحتمل فيه الجهل والإكراه والتأول، وذلك في أمور الاجتهاديات والفرعيات، والفرعيات أحياناً قد تكون في بعض مسائل العقيدة التي يتفق على أصلها، ويختلف على جزئياتها.

الفرق الرابع : أن الاختلاف قد يكون عن اجتهاد وعن حسن نية، ويؤجر عليه المخطئ ما دام متحرياً للحق، والمصيب أكثر أجراً، وقد يحمد على الاجتهاد أيضاً، أما إذا وصل إلى حد الافتراق فهو مذموم كله، بينما الافتراق الذي لا يكون عن اجتهاد ولا عن حسن نية فصاحبه لا يؤجر بل هو مذموم، وهو لا يكون إلا عن ابتداع أو عن اتباع هوى.

الفرق الخامس : أن الافتراق يتعلق به الوعيد، وكله شذوذ وهلكة، أما الاختلاف فليس كذلك مهما بلغ الخلاف بين المسلمين في أمور يسع فيها الاجتهاد، أو يكون صاحب الرأي المخالف له مسوغ، أو يحتمل أن يكون قال الرأي المخالف عن جهل ولم تقم عليه الحجة، أو عن إكراه قد لا يطلع عليه أحد، أو عن تأول ولا يتبين ذلك إلا بعد إقامة الحجة.

بمناسبة الفرق بين الاختلاف والافتراق لابد من التنبيه على بعض الأخطاء التي يقع فيها كثير من الناس في هذا العصر، خاصة الذين يواجهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مع ضعف في العلم.

فمن هذه الأخطاء:

إنكار وجود الافتراق في الأمة

الخطأ الأول: إنكار أن يكون في الأمة افتراق، وينبني عليه أيضاً نزوع بعضهم إلى إنكار حديث الافتراق الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي الكلام عنه تفصيلاً بعد قليل، وهذا خطأ فادح، والمنكر لذلك يزعم أنه يريد إظهار حسن النية في الأمة، ومعاملة الأمة بالظاهر، ومن هنا يتنكر لحديث الافتراق أو يؤوله، أو يصرف الافتراق إلى فرق خارجة عن الإسلام قطعاً، أو إلى فرق في الأمة هي من غير المسلمين، وهذا خطأ فادح، بل هو معارضة صريحة لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، بل الأخبار القاطعة في الكتاب والسنة تدل على وقوع الافتراق، فالأمة فعلاً فيها افتراق وهذا حق، والافتراق من الابتلاء، والحق لا يتبين إلا بضده.

والله سبحانه وتعالى كتب منذ الأزل ألا يبقى على الحق إلا الأقلون، وعلى هذا فإن القول بوقوع الافتراق لا يعد إساءة ظن بالأمة، بل هو أمر واقع لابد من الاعتراف به، ولابد من تصديق خبر النبي صلى الله عليه وسلم فيه كما أخبر، وكون الافتراق يقع في الأمة لا يعني أن الإنسان يُسلم بالأمر الواقع، أو يرضى بأن يفارق أو لا يتحرى الحق ولا يبحث عنه، بل إن وقوع الافتراق هو دافع لكل مسلم بأن يتحرى الحق، وليعلم أن الحق متحدد في نهج النبي صلى الله عليه وسلم وفي نهج صحابته ونهج السلف الصالح.

التسليم السلبي بوجود الافتراق في الأمة يبرر الإقرار بالبدع والوقوع فيها

الخطأ الثاني: وهذا الخطأ أيضاً قد يتخذ ذريعة للمفارقة، وهو يقابل الخطأ الأول ويضاده، وهو اعتقاد أن المفارقة ما دامت أمراً واقعاً فهذا يعني أن الأمة تقع فيه برضاً وتسليم، وأنه لا يضر المسلم أن يكون مع أي فريق كان؛ لأن المفارقة أمر واقع، فعلى المسلم أن يذهب مع من يعجبه من أهل الأهواء وأهل الفرق.

وهذه دعوى باطلة، بل هي تلبيس على المسلمين، فلا يجوز أن يكون الخبر عن الاختلاف ذريعة للمفارقة، أو ذريعة للرضا بالبدع وبالأهواء وبالخطأ؛ حتى وصل الأمر عند بعض من ينتسبون للدعوة أن يقول: ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الأمة ستفترق، فإذاً لابد أن نرضى بالبدع ونقرها أمراً واقعاً، ونرضى بالأهواء ونقرها أمراً واقعاً، ونسلم للأمر الواقع، ولنعرف أنه لا ديـن إلا بدخن! وهذه دعوى باطلة، بل هي من مداخل الشيطان على الإنسان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أخبر عن الافتراق أخبر بأنه ستبقى طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرة منصورة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وهذه الطائفة تقوم بها الحجة، ويهتدي بها من أراد الهدى، ويقتدي بها من أراد الحق والخير.

فإذاً: الحجة لابد أن تكون قائمة، والحق لابد أن يظهر، ولا يمكن أن يخفى على ذي بصيرة، ولا على من يريد الحق ويسعى إليه.

فمن هنا كان الرضا بالبدع والأهواء على أنها أمر واقع لا يجوز شرعاً، بل هو تلبيس على المسلمين، وهو أيضاً إقرار بالباطل.

الاستعجال في وصف المخالفين بالخروج والمفارقة والبدعة

الخطأ الثالث: الذين يجعلون من الاختلاف ذريعة في وصف المخالفين بالخروج والمفارقة والمروق، وما يستتبع ذلك من الاستعجال في الحكم على المخالفين، حتى من مرتكبي البدع والأهواء دون تثبت من ترتيب الأحكام عليهم بالكفر أو بالبراء والبغض والهجر، والتحذير من المخالف مطلقاً دون التثبت ودون إقامة الحجة، أعني بذلك أنه لا ينبغي لكل من رأى بدعة في شخص أن يصفه بالمفارقة، ولا كل من رأى أمراً مخالفاً للشرع والدين والسنة أن يصفه بالمفارقة والمخالفة؛ لأن من الناس من يجهل الأحكام، والجاهل معذور حتى يعلم، ومن الناس من يكون مكرهاً في بيئة أو في مكان ما، كما يحدث في بعض البلاد الإسلامية التي يُكره فيها المسلمون على حلق اللحى، أو على ممارسة بعض الأعمال التي لا تجوز شرعاً، ويكرهون بذلك ولو لم يفعلوا لقتلوا، أو عذبوا، أو انتهكت أعراضهم.. أو نحو ذلك.

إذاً: عارض الإكراه لابد أن يرد في ذهن الحاكم على الناس بأي حكم من الأحكام، ثم أيضاً لابد من إقامة الحجة على الناس، بمعنى أنه قد يرى أحد منا إنساناً يرتكب بدعة من البدع التي عادة إنما يرتكبها أهل الافتراق كبدعة الموالد مثلاً، فإذا فعلها إنسان عامي جاهل فلا يعني أن يوصف بالافتراق حتى يُبيّن له الأمر، أما الابتداع فيوصف فعله بالابتداع، لكن لا يوصف بأنه مفارق أو أنه خارج عن الجماعة، أو أنه من الفرق الهالكة بمجرد رؤية بدعة أظهرها حتى تقام عليه الحجة، اللهم إلا البدع المكفرة، وليس المقام هنا يتسع للكلام عنها.

إذاً: اتهام الناس بالمفارقة للدين فيما هو دون الأصول من البدع والمخالفات والمحدثات هذا لا يجوز، بل هو من التعجل، وينبغي على من رأى شيئاً من ذلك أن يتثبت وأن يسأل أهل العلم.

الجهل بما يسع فيه الخلاف وما لا يسع

الخطأ الرابع : الجهل بما يسع فيه الخلاف وما لا يسع، يعني: عدم التفريق عند كثير من المنتسبين للإسلام، بل من المنتسبين للدعوة، عدم التفريق بين ما هو من أمور الخلاف، وما هو من الأمور التي ليس فيها خلاف، وأضرب لذلك أمثلة:

الأول: هناك من الناس من يعد المسائل الخلافية من القطعيات والأصول، دون أن يرجع إلى أصول أهل العلم وإلى أقوالهم، أو دون أن يهتدي بأهل الفقه في الدين الذين يبصرون في هذه الأمور.

الثاني: عدم التفريق بين الأصول المكفرة وبين البدعيات الكبار، أو البدعيات المخرجة من الدين أو المكفرة وبين الحادثة التي تحدث من الأشخاص، أو من الهيئات أو من الجماعات، وأقصد بذلك أن بعض الناس إذا عرف بأصل من الأصول التي تكفر، كالقول مثلاً بأن القرآن مخلوق، إذا عرضوا هذا الأصل طبَّقه على كل قائل بهذه المقولة دون الأخذ بأحكام التكفير، وهكذا في بقية المسائل، بمعنى عدم التفريق بين الأصل وبين الحكم على المعين، وهذا أمر مخالف لأصول السلف وأصول أهل السنة والجماعة.

أهل السنة والجماعة يفرقون بين الأحكام، الأحكام بالكفر، والأحكام بالفسق ، والأحكام بالتبديع.. وغير ذلك، وبين الحكم على المعين، فقد نحكم على شيء ما بأنه كفر، ونحكم على مقولة ما من المقولات بأنها كفر، وهذا لا يعني أن كل من فعل هذا الكفر يكفر، ولا كل من قال بهذا القول يكفر، أقول: هناك كثيرون لا يفرقون في هذه المسائل فيكفرون باللوازم ودون الأخذ بأحكام التكفير؛ لأن الكفر لا يجوز إطلاقه حتى التثبت وبيان الحجة وإقامتها، وبيان الدليل ومعرفة عدم وجود الجهل، وعدم وجود الإكراه، وعدم وجود التأول.

وهذه مسألة تحتاج إلى مقامات طويلة، وإلى مقابلة للأشخاص، وإلى جلوس معهم، وإلى نقاش ونصيحة، أما أن نرتب أحكام الكفر على كل من ظهرت منه حالة كفر، أو مقولة كفر، أو اعتقاد كفر، فهذا لا يجوز إلا في الأمور الكبرى التي تعلم من الدين بالضرورة، مثل إنسان أنكر شهادة أن لا إله إلا الله، هذا معلوم من الدين بالضرورة كفره، أو أنكر شهادة أن محمداً رسول الله، هذا معلوم من الدين بالضرورة كفره، أو من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا معلوم من الدين بالضرورة كفره، لكن هناك ما هو دون ذلك من أصول الدين كمسائل الصفات، مسائل القدر، مسائل الرؤية والشفاعة، مسائل الصحابة.. وغير ذلك من الأمور التي لا يعلمها العامة.

بل تخفى حتى على بعض من ينتسبون إلى العلم ، تخفى عليهم تفصيلاً، وربما يتلفظ بعضهم بلفظ كفر وهو لا يشعر، أو وهو لا يدري، أو لم يتمعن العبارة، فهل هذا يحكم بكفره؟ لا.

إذاً: من أشد الأخطاء التي يقع فيها كثيرون من الذين يتعرضون للحكم على الناس خاصة صغار طلاب العلم، والأحداث منهم الذين لم يتفقهوا في الدين على أهل العلم، إنما أخذوا العلوم، الشرعية عن الكتب والوسائل دون اهتداء، ودون اقتداء، ودون مراعاة للأصول، ولا معرفة بأصول الاستدلال وأصول الأحكام، فهؤلاء يقع بعض منهم في هذه المسائل الخطيرة، وهي عدم التفريق بين الأصول وبين تطبيق الأصول على الجزئيات والحوادث والنوازل.

فأحكام الكفر والتكفير لا تعني تكفير كل شخص يقول بها أو يعملها أو يعتقدها، وأحكام الولاء والبراء لا تعني تطبيق هذا الولاء والبراء على كل من يظهر منهم ذلك حتى التأكد، أقصد بذلك البراء بخاصة، أما الولاء فهو الأصل.

كذلك عدم اعتبار المصالح والمفاسد، أو الجهل بقواعد المصالح والمفاسد في هذا الجانب، وهي أساس كبير من أسس الخطأ في هذا الجانب.

الخطأ الأول: إنكار أن يكون في الأمة افتراق، وينبني عليه أيضاً نزوع بعضهم إلى إنكار حديث الافتراق الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي الكلام عنه تفصيلاً بعد قليل، وهذا خطأ فادح، والمنكر لذلك يزعم أنه يريد إظهار حسن النية في الأمة، ومعاملة الأمة بالظاهر، ومن هنا يتنكر لحديث الافتراق أو يؤوله، أو يصرف الافتراق إلى فرق خارجة عن الإسلام قطعاً، أو إلى فرق في الأمة هي من غير المسلمين، وهذا خطأ فادح، بل هو معارضة صريحة لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، بل الأخبار القاطعة في الكتاب والسنة تدل على وقوع الافتراق، فالأمة فعلاً فيها افتراق وهذا حق، والافتراق من الابتلاء، والحق لا يتبين إلا بضده.

والله سبحانه وتعالى كتب منذ الأزل ألا يبقى على الحق إلا الأقلون، وعلى هذا فإن القول بوقوع الافتراق لا يعد إساءة ظن بالأمة، بل هو أمر واقع لابد من الاعتراف به، ولابد من تصديق خبر النبي صلى الله عليه وسلم فيه كما أخبر، وكون الافتراق يقع في الأمة لا يعني أن الإنسان يُسلم بالأمر الواقع، أو يرضى بأن يفارق أو لا يتحرى الحق ولا يبحث عنه، بل إن وقوع الافتراق هو دافع لكل مسلم بأن يتحرى الحق، وليعلم أن الحق متحدد في نهج النبي صلى الله عليه وسلم وفي نهج صحابته ونهج السلف الصالح.

الخطأ الثاني: وهذا الخطأ أيضاً قد يتخذ ذريعة للمفارقة، وهو يقابل الخطأ الأول ويضاده، وهو اعتقاد أن المفارقة ما دامت أمراً واقعاً فهذا يعني أن الأمة تقع فيه برضاً وتسليم، وأنه لا يضر المسلم أن يكون مع أي فريق كان؛ لأن المفارقة أمر واقع، فعلى المسلم أن يذهب مع من يعجبه من أهل الأهواء وأهل الفرق.

وهذه دعوى باطلة، بل هي تلبيس على المسلمين، فلا يجوز أن يكون الخبر عن الاختلاف ذريعة للمفارقة، أو ذريعة للرضا بالبدع وبالأهواء وبالخطأ؛ حتى وصل الأمر عند بعض من ينتسبون للدعوة أن يقول: ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الأمة ستفترق، فإذاً لابد أن نرضى بالبدع ونقرها أمراً واقعاً، ونرضى بالأهواء ونقرها أمراً واقعاً، ونسلم للأمر الواقع، ولنعرف أنه لا ديـن إلا بدخن! وهذه دعوى باطلة، بل هي من مداخل الشيطان على الإنسان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أخبر عن الافتراق أخبر بأنه ستبقى طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرة منصورة، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وهذه الطائفة تقوم بها الحجة، ويهتدي بها من أراد الهدى، ويقتدي بها من أراد الحق والخير.

فإذاً: الحجة لابد أن تكون قائمة، والحق لابد أن يظهر، ولا يمكن أن يخفى على ذي بصيرة، ولا على من يريد الحق ويسعى إليه.

فمن هنا كان الرضا بالبدع والأهواء على أنها أمر واقع لا يجوز شرعاً، بل هو تلبيس على المسلمين، وهو أيضاً إقرار بالباطل.

الخطأ الثالث: الذين يجعلون من الاختلاف ذريعة في وصف المخالفين بالخروج والمفارقة والمروق، وما يستتبع ذلك من الاستعجال في الحكم على المخالفين، حتى من مرتكبي البدع والأهواء دون تثبت من ترتيب الأحكام عليهم بالكفر أو بالبراء والبغض والهجر، والتحذير من المخالف مطلقاً دون التثبت ودون إقامة الحجة، أعني بذلك أنه لا ينبغي لكل من رأى بدعة في شخص أن يصفه بالمفارقة، ولا كل من رأى أمراً مخالفاً للشرع والدين والسنة أن يصفه بالمفارقة والمخالفة؛ لأن من الناس من يجهل الأحكام، والجاهل معذور حتى يعلم، ومن الناس من يكون مكرهاً في بيئة أو في مكان ما، كما يحدث في بعض البلاد الإسلامية التي يُكره فيها المسلمون على حلق اللحى، أو على ممارسة بعض الأعمال التي لا تجوز شرعاً، ويكرهون بذلك ولو لم يفعلوا لقتلوا، أو عذبوا، أو انتهكت أعراضهم.. أو نحو ذلك.

إذاً: عارض الإكراه لابد أن يرد في ذهن الحاكم على الناس بأي حكم من الأحكام، ثم أيضاً لابد من إقامة الحجة على الناس، بمعنى أنه قد يرى أحد منا إنساناً يرتكب بدعة من البدع التي عادة إنما يرتكبها أهل الافتراق كبدعة الموالد مثلاً، فإذا فعلها إنسان عامي جاهل فلا يعني أن يوصف بالافتراق حتى يُبيّن له الأمر، أما الابتداع فيوصف فعله بالابتداع، لكن لا يوصف بأنه مفارق أو أنه خارج عن الجماعة، أو أنه من الفرق الهالكة بمجرد رؤية بدعة أظهرها حتى تقام عليه الحجة، اللهم إلا البدع المكفرة، وليس المقام هنا يتسع للكلام عنها.

إذاً: اتهام الناس بالمفارقة للدين فيما هو دون الأصول من البدع والمخالفات والمحدثات هذا لا يجوز، بل هو من التعجل، وينبغي على من رأى شيئاً من ذلك أن يتثبت وأن يسأل أهل العلم.

الخطأ الرابع : الجهل بما يسع فيه الخلاف وما لا يسع، يعني: عدم التفريق عند كثير من المنتسبين للإسلام، بل من المنتسبين للدعوة، عدم التفريق بين ما هو من أمور الخلاف، وما هو من الأمور التي ليس فيها خلاف، وأضرب لذلك أمثلة:

الأول: هناك من الناس من يعد المسائل الخلافية من القطعيات والأصول، دون أن يرجع إلى أصول أهل العلم وإلى أقوالهم، أو دون أن يهتدي بأهل الفقه في الدين الذين يبصرون في هذه الأمور.

الثاني: عدم التفريق بين الأصول المكفرة وبين البدعيات الكبار، أو البدعيات المخرجة من الدين أو المكفرة وبين الحادثة التي تحدث من الأشخاص، أو من الهيئات أو من الجماعات، وأقصد بذلك أن بعض الناس إذا عرف بأصل من الأصول التي تكفر، كالقول مثلاً بأن القرآن مخلوق، إذا عرضوا هذا الأصل طبَّقه على كل قائل بهذه المقولة دون الأخذ بأحكام التكفير، وهكذا في بقية المسائل، بمعنى عدم التفريق بين الأصل وبين الحكم على المعين، وهذا أمر مخالف لأصول السلف وأصول أهل السنة والجماعة.

أهل السنة والجماعة يفرقون بين الأحكام، الأحكام بالكفر، والأحكام بالفسق ، والأحكام بالتبديع.. وغير ذلك، وبين الحكم على المعين، فقد نحكم على شيء ما بأنه كفر، ونحكم على مقولة ما من المقولات بأنها كفر، وهذا لا يعني أن كل من فعل هذا الكفر يكفر، ولا كل من قال بهذا القول يكفر، أقول: هناك كثيرون لا يفرقون في هذه المسائل فيكفرون باللوازم ودون الأخذ بأحكام التكفير؛ لأن الكفر لا يجوز إطلاقه حتى التثبت وبيان الحجة وإقامتها، وبيان الدليل ومعرفة عدم وجود الجهل، وعدم وجود الإكراه، وعدم وجود التأول.

وهذه مسألة تحتاج إلى مقامات طويلة، وإلى مقابلة للأشخاص، وإلى جلوس معهم، وإلى نقاش ونصيحة، أما أن نرتب أحكام الكفر على كل من ظهرت منه حالة كفر، أو مقولة كفر، أو اعتقاد كفر، فهذا لا يجوز إلا في الأمور الكبرى التي تعلم من الدين بالضرورة، مثل إنسان أنكر شهادة أن لا إله إلا الله، هذا معلوم من الدين بالضرورة كفره، أو أنكر شهادة أن محمداً رسول الله، هذا معلوم من الدين بالضرورة كفره، أو من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا معلوم من الدين بالضرورة كفره، لكن هناك ما هو دون ذلك من أصول الدين كمسائل الصفات، مسائل القدر، مسائل الرؤية والشفاعة، مسائل الصحابة.. وغير ذلك من الأمور التي لا يعلمها العامة.

بل تخفى حتى على بعض من ينتسبون إلى العلم ، تخفى عليهم تفصيلاً، وربما يتلفظ بعضهم بلفظ كفر وهو لا يشعر، أو وهو لا يدري، أو لم يتمعن العبارة، فهل هذا يحكم بكفره؟ لا.

إذاً: من أشد الأخطاء التي يقع فيها كثيرون من الذين يتعرضون للحكم على الناس خاصة صغار طلاب العلم، والأحداث منهم الذين لم يتفقهوا في الدين على أهل العلم، إنما أخذوا العلوم، الشرعية عن الكتب والوسائل دون اهتداء، ودون اقتداء، ودون مراعاة للأصول، ولا معرفة بأصول الاستدلال وأصول الأحكام، فهؤلاء يقع بعض منهم في هذه المسائل الخطيرة، وهي عدم التفريق بين الأصول وبين تطبيق الأصول على الجزئيات والحوادث والنوازل.

فأحكام الكفر والتكفير لا تعني تكفير كل شخص يقول بها أو يعملها أو يعتقدها، وأحكام الولاء والبراء لا تعني تطبيق هذا الولاء والبراء على كل من يظهر منهم ذلك حتى التأكد، أقصد بذلك البراء بخاصة، أما الولاء فهو الأصل.

كذلك عدم اعتبار المصالح والمفاسد، أو الجهل بقواعد المصالح والمفاسد في هذا الجانب، وهي أساس كبير من أسس الخطأ في هذا الجانب.

المسألة الثالثة : وقوع الأمة في الافتراق.

هذه المسألة محسومة بأمور:

الأول: الأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع الافتراق في هذه الأمة، من ذلك حديث الافتراق: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)، هذا حديث مشهور للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد رواه جمع من الصحابة، ورواه أيضاً الأئمة العدول الثقات في السنن، كالإمام أحمد ، وكـأبي داود ، والترمذي ، وابن ماجة ، والحاكم ، وابن حبان ، وأبي يعلى الموصلي ، وابن أبي عاصم ، وابن بطة ، والآجري ، والدارمي ، واللالكائي .

كما صححه جمع من أهل العلم، كـالترمذي ، والحاكم ، والذهبي ، والسيوطي ، والشاطبي ، وأيضاً للحديث طرق حسنة كثيرة جداً بمجموعها تصل إلى حد الجزم بصحته، هذا أمر، وأمر آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بخبر آخر: أن الأمة ستتبع الأمم السابقة، وهو الحديث الصحيح المتفق عليه في الصحاح والسنن: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة).

الثاني: هذا الحديث أيضاً فسر بنصوص وألفاظ كثيرة، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، وقوله: (شبراً بشبر وذراعاً بذراع)، وغير ذلك من الألفاظ التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر على سبيل التحذير أن الأمة ستقع في الافتراق حتماً، وأن وقوعها أمر واقع يبتلي الله به هذه الأمة، وليس وقوع الافتراق ذماً إلا للمفترقين، ليس هو ذماً على الإسلام، ولا ذماً على أهل السنة والجماعة وأهل الحق، إنما هو ذم للمفترقين، والمفترقون ليسوا هم أهل السنة والجماعـة.

أهل السنة والجماعة هم الباقون على الأصل، وهم الباقون على الإسلام، وهم الذين أقام بهم الله الحجة على الناس إلى قيام الساعة.

إذاً: الافتراق واقع حتماً، وهو أمر حتى لو لم يشهد به الواقع، وتشهد به العقول، فهو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق وألفاظ عديدة؛ لذلك ورد التحذير منه، وإذا كثر التحذير دل على أن الأمر واقع أو سيقع.

الثالث: النصوص الواردة تتضمن التحذير، من ذلك قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].

وقد شرح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية شرحاً بيناً مفصلاً، بأن خط خطاً طويلاً مستقيماً ثم خط خطوطاً تتفرع عن هذا الخط وتخرج عنه، فقال: إن هذا صراط الله، وهذه السبل هي التي تخرج عن الصراط المستقيم.

وكذلك نهانا الله سبحانه وتعالى عن التنازع فقال: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].

وكذلك توعد الله سبحانه وتعالى الذين يخرجون عن سبيل المؤمنين: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، نسأل الله العافية.

وسبيل المؤمنين هو سبيل أهل السنة والجماعة.

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب أحكاماً على المفارقة بدليل أنها ستقع، إضافة إلى إخباره عن الخوارج، وأنهم سيخرجون عن هذه الأمة، وأنهم يمرقون، والمروق لا يعني الكفر والخروج من الملة قطعاً، إنما المروق من أصل الإسلام الذي هو جماعته، والسنة التي عليها أهل السنة.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل المفارق للجماعة، وكذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من مات مفارقاً للجماعة مات ميتة جاهلية، وأن الفرقة عذاب، وأن الشذوذ هلكة، وغير ذلك من الأمور والمعاني التي تدل على أن الفرقة واقعة، والتحذير منها لم يكن عبثاً؛ إنما لأنها ستقع ابتلاء، ولا تقع إلا والناس على بصيرة، يعرفون الحق وهو موجود في الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، ويميزون بين الحق والباطل، فمن اهتدى اهتدى على بصيرة، ومن ضل ضل على علم، نسأل الله العافية.

المسألة الرابعة: تاريخ الافتراق في الإسلام، وهذا مفيد؛ لأن فيما حدث في أول الإسلام عبرة، ولا أستطيع أن أتكلم عن تاريخ الافتراق تفصيلاً، لكني سأقف على بعض النقاط التي هي موطن عبرة، والتي لابد من تصحيح المفهوم فيها، فيما أخطأ فيه كثير من الناس في العصر الحاضر:

أولاً: أول عقائد الافتراق التي ظهرت في الأمة هي العقائد السبئية عقائد الشيعة، فأول ما سمع الصحابة من عقائد الافتراق والفرقة بين المسلمين هي عقائد السبئية، وقد قال بها شخص اختلف في اسمه، والأشهر أنه عبد الله بن سبأ ، فقال بها بين المسلمين فاعتنقها كثير من المنافقين، ومن الكائديـن الذين كادوا للإسلام، ومن الجهلة، ومن الموتورين الذين ظهر الإسلام على بلادهم وعلى أديانهم، فاعتنقوا مقولات ابن سبأ فسارت بين المسلمين سراً حتى ظهرت منها: الشيعة، والخوارج.

هذا بالنسبة لأول العقائد التي ظهرت بين المسلمين تخالف أصول الإسلام وتشمل سائر أمور العقيدة.

أما أول الفرق ظهوراً وافتراقاً عن إمام المسلمين وعن جماعتهم فهي الخوارج، والخوارج نابتة نبتت من السبئية، الخوارج هي فرقة سبئية، وبعض الناس يظن أن السبئية شيء والخوارج شيء آخر، لا، الخوارج هم نبتة من نبتات السبئية النكدة، وكذلك الشيعة نبتة من نبتات السبئية النكدة، والسبئية افترقت إلى فرقتين رئيسيتين: هي الخوارج، والشيعة.

رغم ما بين الخوارج والشيعة من بعض الفوارق، إلا أن الأصل واحد، وأصل ذلك الفتنة على عثمان رضي الله عنه التي أثارها ابن سبأ بأفكاره وعقائده وأعماله، فانبجست منها أخبث العقائد: وهي الخوارج، والشيعة.

والفرق بين الشيعة والخوارج أيضاً صنعه المبطلون، بمعنى أن ابن سبأ بذر بذوراً تناسب طائفة الخوارج، وبذوراً أخرى تناسب طائفة الشيعة، وجعل بينهما شيئاً من العداء لتفترق الأمة كما يحدث الآن، أو كما صنع أعداء الإسلام ضد المسلمين ما يسمى بلعبة اليمين واليسار، قسموا المسلمين إلى أحزاب، هذا أحزاب يمين وهذه أحزاب يسار، وهذه اللعبة واحدة، ومنشؤها واحد، وأصل القائلين بها واحد، هذا أمر.

وأمر آخر لابد من التنبيه عليه: وهو أنه في تاريخ الافتراق لم يحصل من الصحابة أفترق ألبتة، وما حصل بين الصحابة إنما هو خلافات كانت تنتهي إما بالإجماع، وإما بالخضوع لرأي الجماعة والالتفاف حول الإمام، هذا هو ما حصل بين الصحابة، ولم يحصل من صحابي أن افترق عن الجماعة، فالصحابة الأئمة المقتدى بهم في الدين لم يحصل من أحد منهم أنه فارق الجماعة أبداً، ولم يحصل أن أحداً منهم أيضاً يُعد قوله أصلاً في البدع، ولا أصلاً في الافتراق، والذين نسبوا بعض المقولات أو بعض الفرق إلى بعض الصحابة إنما افتروا عليهم أكبر فرية، ولا صحة لما يقال: من أن علي بن أبي طالب هو أصل التشيع، أو أن أبا ذر هو أصل الاشتراكية، أو أن فلاناً من الصحابة هو أصل كذا، كل ذلك إنما هو من الباطل المحض.

ثم إن الافتراق لم يحدث إلا بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، وحينما حدثت الفتنة بين المسلمين خرجت خارجة الخوارج، وخارجة الشيعة، أما في عهد الخليفتين أبي بكر وعمر ، بل حتى في عهد عثمان لم يحدث افتراق ألبتة.

ثم إن الصحابة قاوموا الافتراق، ولا يظن ظان أن الصحابة غفلوا أو جهلوا، أو أنهم لم يتنبهوا لمسائل الافتراق، سواء كانت أفكاراً أو عقائد أو مواقف أو أعمالاً، بل وقفوا ضد الافتراق أشد الوقوف، وأبلوا في ذلك بلاء حسناً بحزم وقوة، لكن أمر الله لابد أن يقع.

من المناسب أن أشير إلى أصول البدع التي انبثقت عنها الفرق، ثم انبثق عنها الافتراق، وأقصد بذلك الأشخاص الذين تولوا كبر ذلك وصاروا أئمة ضلالة إلى يوم القيامة، وبعدهم انفتح باب الافتراق، وكثر المضللون.

أول أولئك: عبد الله بن سبأ اليهودي الذي ادعى الإسلام، وأتباعه وأشياعه كثر، فقد جمع بين بدعة الخوارج وبدعة السبئية.

ثم بعد ذلك ظهرت بدعة القول بالقدر، وأول من قال بها على نحو معلن وصار له أتباع هو معبد الجهني ، لكن بدعته لم تكن على الحد الذي كانت عليه فيما بعد من الانحراف والخطورة.

ثم جاء بعده غيلان الدمشقي الذي تولـى إثارة كثير من القضايا حول القدر، وأيضاً حول التأويل والتعطيل.

وغيلان بعدما استتيب ولم يتب قتل.

ثم جاء بعده الجعد بن درهم فتوسع في هذه المقولات، وجمع بين مقولات القدرية، ومقولات المعطلة والمؤولة، وأثار الشبهات بين المسلمين، حتى انبرى له كثير من السلف واستتابوه ولم يتب، وجادلوه وأقاموا عليه الحجة فلم يرجع، فلما افتتن به الناس حكم بضرورة قتله درءاً للفتنة، فقتله خالد بن عبد الله القسري في قصته المشهورة، حينما قال بعد خطبته في عيد الأضحى ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـالجعد بن درهم ؛ فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً.. إلى آخره من المقولات، فعدها ثم نزل من المنبر وقتله مرتداً.

ثم بعد ذلك انطفأت الفتنة بعض الوقت، حتى ظهرت على يد الجهم بن صفوان ، وهذا أيضاً جمع بين مساوئ الأولين وضلالاتهم وزاد عليها، وخرجت عنه بدعة الجهمية، وبدع الجهمية وقولها كفريات.

ثم ظهر في وقته واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وهذان هما أصل المعتزلة.

ثم انفتح باب الافتراق فبدأت الرافضة تعلن عقائدها، وانقسمت إلى فرق كثيرة، وظهرت المشبهة من الرافضة على يد داود الجواربي وهشام بن الحكم وهشام الجواليقي ، وهؤلاء هم أصول المشبهة الأوائل، وهم رافضة.

ثم جاء المتكلمون، ثم المتصوفة والفلاسفة، فانفتح باب الافتراق على مصراعيه لكل ضال ومبتدع ومتبع للهوى، وبقيت أصول الفرق بين المسلمين حتى اليوم.

لا تزال أصول الفرق بين المسلمين باقية حتى يومنا هذا، بل تتجدد بدع وحوادث جديدة تضيف إلى الافتراق افتراقاً جديداً، بحسب أهواء الناس وتمرسهم في البدع والضلالات.