إشراقة الحنين
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
إشراقة الحنينالحنين كلمةٌ لها درجاتٌ وأحوالٌ بقدر اختلاف طباع الناس، ولكل نفسٍ طبْعُها وجيناتُها؛ ولذا من الصعب تعريفه تعريفًا اصطلاحيًّا؛ كالتعاريف الجامعة المانعة، ولكنك تجد بعض العارفين يصفه بما يقرب مفهومه: إما بذكر بعض آثاره، أو حالته القلبية.
ولكننا ندرك أنه ما مِنْ إنسان له ضميرٌ حيٌّ إلَّا ويغشاه الحنين لأمر هو مشغوف به، فمِنَ الناس مَنْ يحنُّ لسيارته القديمة، أو لداره القديمة، أو لمهنته القديمة.
وبعضهم تراه يحِنُّ لمكتبته الغابرة أو لشيخ من شيوخه، وترى شخصًا كان صيَّادًا، فتراه يحِنُّ إلى رحلات صيده الماضية أو لأدواته الفانية.
وهكذا نلاحظ أن الحنين يخضع لظروف الشخص وطَبْعِه، ويخضع لما يَملِك قلبه ويغلب عليه.
وكلامي هذا هو تلميح فقط؛ لأن الحنين شعورٌ قلبيٌّ وإحساسٌ وجدانيٌّ، مَنْ أراد أن يحيط بأحواله كمَنْ يريد أن يحصر عدد البشر؛ بل الكائنات الحيَّة كلها؛ لأن الحنين شعورٌ ينتاب الحيوانات كذلك، وهذا أمرٌ لا عجب منه، وهو كثير:
فالصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه يخبرنا أنهم كانوا في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا قد توقَّفوا بمكان، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقضاء حاجته، وبينما هو يقضي حاجته، رأى بعض الصحابة عُشًّا لطير يقال له: (الحُمرة)، وفي العُشِّ فرخان، فأخذ أحد أصحاب رسول الله الفرخين، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس، جاءت أُمُّ الفرخين وقامت تحوم وترفرف فوق رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: ((مَنْ فَجَعَ هذه بوَلَدِها؟!))، فأمر بردِّ الفرخين.
فتأمَّل معي هذا الحنين الفطري الذي جعل الطير يأتي ويخاطر مِنْ أجل فَقْدِه لفرخيه، وكم سمِعنا الكثير من ذلك! بل إني على علمٍ بأنك تعرِف خبرَ الجِذْع الذي كان يخطب عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما صنعوا له منبرًا، تركه رسول الله، فسَمِعَ الصحابة للجِذْع خوارًا وصوتًا كصوت الناقة عندما تحِنُّ وَلَهًا على فصيلها، فلم يسكت حتى مسح عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسكت كما يسكت الطفل، وهذا الخبر مشهور ومعروف، فهذا نوع من الحنين صوَّر لنا أجمل صورة.
أخي القارئ: إني لأعلم أنك ذو قلبٍ لا يخلو منه الحنين، فقد تكون فقَدْتَ عزيزًا عليك، أو هجرت مكانًا لك فيه ذكريات طفولتك، وغير ذلك؛ مما يدُلُّ على أنك ذُقْتَ شيئًا من طيف الحنين، وبرقتْ خافقَيْك بارقاتُه، فيا له من طيفٍ! كم أحرق من قلوب! وكم أسْهَرَ من مُقَلٍ! وكم أمطر من دموع! وكم أشعَل من أشواق! وكم أثار من قرائحَ؟! حتى امتلأت الآفاق بأنَّات الشعراء، وجرت الرياح بسحاب أشواقهم، فجاءت الأشعار هتَّانًا غدقًا، وتغاريد تحدو بها الألسن على مرِّ الأزمان، فهذه دواوين العرب تزخر بأبيات الحنين، ومِنْ جميل ما قيل - والجميل منه كثير -: قول القاضي الفاضل يحيى الدين:
وَمِنْ عَجَبٍ أَنِّي أَحِنُّ إِلَيْهِمُ
وَأَسْأَلُ عَنْهُمْ مَنْ رَأَى وَهُم مَعِي
وَتَطْلُبُهُمْ عَيْنِي وَهُمْ فِي سَوَادِهَا
وَيَشْتَاقُهُمْ قَلْبِي وَهُمْ بَيْنَ أَضْلُعِي
فانظر ماذا يفعل تَوقانُ النفس إذا اعتلج مع خيال أديب بليغ فصيح؟!
«كتاب: هزة الحنين »