شرح الأربعين النووية - الحديث الحادي والثلاثون


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

قال المصنف رحمه الله: [عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله سلم فقال: يا رسول الله! دلني على عمل إذا عملتُه أحبني الله وأحبني الناس، فقال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس). حديث حسن، رواه ابن ماجة وغيره بأسانيد حسنة].

أيها الإخوة! نجد في ألفاظ هذا الحديث تصويراً لاتجاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبُعد غايتهم، فهذا رجل جاء يسأل رسول الله عن عمل، لا لمال يحصل عليه، ولا لرئاسة يتولاها، ولا لمفخرة في الدنيا؛ ولكن جعل نصب عينيه أن يكون في الدنيا محبوباً عند الناس، وفي الآخرة محبوباً عند الله، فمحبة الله سبحانه غايته، وهكذا حال الصحابة يسعون بكل أعمالهم للحصول على شرف محبة الله سبحانه، فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة:54]، وإن تبادل المحبة بين العبد وربه أمر عجيب! يصعب على إنسان أن يصوِّر كنهه، وهو -كما يقولون-: أمرٌ ذوقيٌّ، يتذوقه الإنسان ولا يستطيع أن يعبر عنه.

هذا الرجل أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الاتجاه؛ لأن غايته سليمة، ومطلبه كريم، ويوجهه إلى العمل الذي يحصل به على هذه المحبة من الله ومن الناس: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس).

إذاً: الزهد طريق المحبة، فإن كان لله فزهدك في الدنيا، وإن كان للناس ففي ترك ما في أيديهم.

ولو فتشنا تفتيشاً أدق قليلاً: فهل الذي بأيدي الناس كله والذي يزهد فيه الإنسان إنما هو جزء من الدنيا؟!

ولكن عملياً: الزهد في عموم الدنيا هو الزهد في خصوص ما بأيدي الناس.

تعريف الزهد في الدنيا

كثر كلام العلماء في تعريف الزهد، فترك الكسب ليس بمناسب، ويقول بعض العلماء: الزهد في السلطة أشد على النفس من الزهد في الدينار والدرهم، أو أشد على النفس من الزهد في الذهب والفضة، وفي التاريخ أن بعض خلفاء بني أمية جاءه رأس بعض الناس فنكت بالقضيب في وجهه وهو يقول: والله! إنك كنت لي صديقاً حميماً؛ ولكن هذا الملك عقيم، كان صديقاً ولكن خرج عليه، فقتله حفاظاً على الرئاسة والملك!

وبعض الناس يتكلف ويقول: الزهد من ثلاثة حروف: زاي وهاء ودال، فالزاي: من الزينة، والهاء: من الهوى، والدال: من الدنيا، وكلها ترجع إلى مدلول واحد؛ لأن الزينة والدنيا شيء واحد.

وبعضهم يقول: حقيقة الزهد هو: القناعة بقضاء الله، والرضا بعطائه الذي أعطاكه.

ويقول أحمد بن حنبل : الزهد في الدنيا قصر الأمل فيها.

ويبحثون مسألة: أيهما أفضل: الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟

فيرجح كثير من العلماء أنه الغني الشاكر؛ لأن غناه مع شكره سينتفع به غيره.

من زهد السلف

أويس القرني ، أويس رجل من أهل اليمن أوصى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب به، فقال له: (إن استطعت أن يدعو لك فافعل) وذكر له صفته.

عمر وفود اليمن:

أفيكم أويس القرني ؟

إلى أن وجده فقال: ادعُ الله لي.

قال: كيف أدعو لك وأنت أمير المؤمنين؟!

قال: ادعُ الله لي أولاً، فدعا له، ثم قال له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصاني بك.

قال: أما وقد علمت بذلك فأنا أريد أن أخرج من المدينة.

قال: إلى أين ستذهب؟

قال: إلى العراق.

قال: سوف أعطيك خطاباً لعامل العراق.

قال: أريد أن أكون في عامة الناس، لا يعلم بي أحد.

ثم ذهب يعمل أجيراً عند رجل، فكان عمر يوصي وفود أهل العراق أن يسلموا عليه.

فكان الحُجاج يسألون عن أويس القرني : أين هو؟ وأين محله؟ وعند مَن؟ حتى استدل عليه رجل وقال: أوصاني عمر أن أبلغك السلام، فقال: ألقيت عمر؟

قال: نعم، فخرج من الكوفة، ولم يعلم به أحد فيما بعد!

فهذا يريد أن يكون في عامة الناس، على ما هو عليه من منزلة عند الله، ولا يرغب في الدنيا، حتى عمر يقول له: أعطيك كتاباً كوصية، فرفض، والشخص منا عندما يكون له حاجة عند إنسان، ينظر! صديقه ليكون الواسطة، فيقول له: اعمل معروفاً وأعطني خطاباً له، ووصِّه عليَّ، وهذا أمير المؤمنين يريد أن يكتب لعامله ليكرمه، فيقول: لا أريد أحداً يعلم بي، أريد أن أكون في عامة الناس!

وعمر بن عبد العزيز كان من أعظم الشباب تمتعاً، وفي أبهه. يقول بعض المؤرخين: كان إذا لبس حلة وخلعها لا يرجع إليها، وإذا أرسل حلة للغسال ليغسلها فإن الناس يرسلون ثيابهم لتغسل عند هذا الغسال لتُغسل عقب ثياب عمر وتصيب من طيبها!

وحينما تولى الخلافة خرج من هذا كله، وزوجته كان أبوها خليفة، وأخوها خليفة، فقال لها: يا فاطمة! أنا تركت الدنيا وخرجت منها واشتغلت بهؤلاء الناس، فإن كنت تريدين البقاء معي على ما أنا عليه فابقي أو فاذهبي إلى أهلك!

فقالت: بل أكون معك.

وعندما أراد أن يُصْلِح بيته كانت تصنع الطين وتناوله إياه، فهذا هو الذي خرج من الدنيا فعلاً بعد أن امتلكها.

وكذلك مصعب بن عمير الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرئ أهل المدينة، ويعلمهم الإسلام، فبعد بيعة العقبة الثانية ذهب إلى الأوس والخزرج على مياههم ليدعوهم إلى الإسلام.

يقول الذهبي في ترجمته: مَرَّ ذات يوم على أصحاب رسول الله فخفضوا رءوسهم حياءً لأنهم لا يجدون ما يكسوه، وكان عليه إزار مرقع بقطع من الأدم أي: الجلد!!

وكانت أمه ذات ثراء، وكانت تكسوه اللين من الثياب، وتطعمه الناعم من العيش، فترك ذلك كله لله ولرسوله، وترك أمه وكل نعيمها وأموالها مسخرة لخدمته وترفيهه، فأسلم فخرج من هذا كله، وهاجر وصار رداؤه وإزاره مخرقاً ومرقعاً بجلد، وربما كان جلد قربة قديمة أو جلدَ فروة أو شيئاً من هذا يُرقَّع ثوبه به!

ومع هذا كان هو الداعية الأول، والمعلم الأول في المدينة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها.

حقيقة الزهد

نريد أن نبين موطنين في كتاب الله يكشفان لنا حقيقة الزهد.

فليس الزهد ترك العمل بالكلية، والعزوف عن الدنيا، والهروب منها، بل هو تسخيرها وتذليلها وجمعها وإنفاقها في سبيل الله وفي أوجه الخير.

الموطن الأول في سورة آل عمران: يصور لنا متاع الدنيا بمختلف مجالاتها، ويبين لنا أن من شُغل بتلك المفاتن وكانت غايته، فهي نهايته، ومن أعرض عنها ولم يقف عندها، وكانت وسيلة في يده وليست غاية، فهو حقيقة الزاهد وما له عند الله سبحانه أعظم.

أهل الدنيا

قال الله عز وجل: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ [آل عمران:14]، وهذا أمر جِبِلِّي، وغريزة في الإنسان، وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم يقول: (حبب إلي من دنياكم ثلاثاً: الطيب والنساء -وهذان متلازمان- وجُعِلت قرة عيني في الصلاة)، يعني: النساء والطيب ما شغلاني عن الصلاة، بل كان يقوم الليل حتى تفطرت قدماه، فما شغله الفراش ولا الزوجات ولا الطيب عن أداء واجبه والتقرب إلى ربه.

قال تعالى: حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ ، مكدس بعضُها فوق بعض، مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ، ليست خيلاً عاديةً هاملة، بل خيلاً عربية أصيلة، وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ ، من البقر والإبل والغنم، وَالْحَرْثِ : كل المزروعات، ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، من المسمَّيات التي هي ألذ ملاذِّ الدنيا، وهل هناك مال آخر؟

الآن أصبح هناك العمارات، وهي داخلةً في هذا، فهي تقابل الحرث في السابق، عمائر فاخرة، ومبانٍ شاهقة، ولكن كل ذلك متاع، والمتاع شيء مؤقت.

قال تعالى: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وهل وصفُ الحياة بـ(الدنيا) من الدنو والقرب أو الدناءة؟

من الدنو والقرب في مقابل الآخرة.

ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14] أي: المرجع، وهو جنة الخلد.

إذا نظرنا في هذا: فإن تلك المسميات هي متاع الحياة الدنيا، وعلى الإنسان ألا يكون معها لمجرد المتعة، والنتيجة ذاهبة، لكن إذا كانت وسائل وليست غايات فلا بأس، فالمرأة هي سبيل الولد، والنكاح مقصد من مقاصد الحياة لبقاء النسل وعفة الإنسان، وإذا تزوج الرجل فإنه يعف نفسه، ويعف المرأة أيضاً، ويولد له من يذكر الله معه ومن بعده.

إذاً: ينبغي أن المرأة وسيلة للإعفاف، ولبقاء النسل، ولعمارة الكون، ولتكثير هذه الأمة، ولتحقيق رغبته صلى الله عليه وسلم في قوله: (فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة).

وينبغي أن يطلب الولد ليكون صالحاً يدعو له، أو يكون وديعة عند الله وشهيداً في سبيل الله، أو يكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر عالماً بكتاب الله، وعمله في صحائف والده.

أما الخيل فقد أشرنا أنها على ثلاثة أقسام: أجر، وستر، ووزر.

وهكذا الأنعام إذا اقتناها، وأدى حق الله فيها وفي رقابها وظهورها؛ كان له بذلك الأجر العظيم.

عثمان رضي الله تعالى عنه جهَّز جيش العسرة، وإذا لم يكن عنده مال فكيف يجهز جيشاً؟! ولهذا يقول بعض الناس: كثير من الوعاظ يذم الدنيا ويقبحها وكأنها مصيبة وجريمة وقعت على الناس، هذه الدنيا إن لم تكن موجودة فكيف نكتسب الآخرة؟ فنحن لا نحصل على ثواب الآخرة إلا من الدنيا، فالدنيا مزرعة الآخرة.

وفي بعض الآثار: (من الناس من يسب الدنيا، فتقول له: قبح الله أعصانا لله! أنا الذي أعصي الله أم أنت؟!)، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فطلع لنا جبل أحد، فقال: (يا أبا هريرة ! وددت لو أن لي مثل جبل أحد ذهباً، أقول به هكذا وهكذا -وأشار يميناً وشمالاً- فلا يمضي ثلاثاً وعندي منه شيء، إلا شيء رصدته لدَينٍ)، فالرسول تمنى أن يكون عنده مثل أحد ذهباً؛ لكي ينفقه في سبيل الله.

إذاً: الأموال والقناطير المقنطرة يجب أن تكون: (نعم المال الصالح للرجل الصالح).

ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]

فضل الزهد في الدنيا

هذه الأشياء محبَّبة ومزيَّنة عند الناس وكأنها كل شيء، لكن قال الله: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15]، من شهوة النساء والبنين والقناطير المقنطرة والخيل المسومة والأنعام والحرث، أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا اتقوا محارم الله ومعصيته ونواهيه سبحانه وتعالى، وامتثلوا الأوامر واجتنبوا النواهي.

لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [آل عمران:15].

إذاً: هؤلاء عندهم الحرث، والحرث جنات وحدائق وبساتين؛ ولكن ليس مثل هذه الجنات؛ لأن جنات الآخرة تجري من تحتها الأنهار، وجنات الدنيا كما قال الله: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً [الكهف:32-33]، لكن جنات الآخرة: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، وليس هو نهراً واحداً، بل المتنوعة الأصناف كما قال الله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15].

وقوله تعالى: ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14]؛ لا تظن أنه متاع الحياة الدنيا من أول آدم إلى يوم القيامة! لا، بل يقصد به مدة حياة الإنسان، والله سبحانه جعل لنوح عليه السلام عمراً طويلاً: أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً [العنكبوت:14]؛ وكما جاء في الأثر: (إذا كان يوم القيامة يؤتى برجل من أهل النار فيُغمس غمسة في النار، ثم يقال له: هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله! يا رب! ثم يؤتى برجل من أهل الجنة، فيغمس في الجنة غمسة ثم يقال له: هل مر بك بؤس في الدنيا قط؟ فيقول: لا والله! ما رأيت شيئاً)، إذاً: نعيم الدنيا كله للكافر لا يساوي غمسة في النار!

وفي الحديث: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يُدخل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع!)، كم يأخذ هذا؟ هذا مثل الدنيا في الآخرة! وفي الحديث (لموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها)، فالنعيم الحقيقي الذي لا يعادله شيء في الوجود، هو الدوام والخلود في الجنة، وأيُّ شخص في الدنيا سواء أكان عاقلاً أو نصف عاقل إذا قيل له: نبني لك مدينة خيالية؛ من أثاث ونعيم ومتاع وجوارٍ مدة حياتك، وبعد ذلك إلى النار -عياذاً بالله-، أو تعيش نصف حياتك في هذا النعيم والنصف الثاني في الصحراء ، أو نبني لك عشةً وعندك من الماء ما تيسر، ومن الخبز ما يكفيك بالكفاف، وعندك الهواء الصافي، والظل، وتستمر فيها على استمرار، فأيهما تختار؟

سيختار الحياة العادية بصفة دائمة، ولن يختار المدينة الخيالية التي يعيش فيها نصف عمره، ثم النصف الآخر يُرمى به في الصحراء؟ فما الفائدة من النعيم ثم الجحيم؟

ولذا يقولون: لو أن إنساناً خير بين بيت من خشب دائم، وبيت من ذهب مؤقتٍ؛ لكان العاقل يختار البيت الدائم، فكيف ببيت من ذهب دائم تستبدله ببيت من خشب؟!

حينما تتذكر الجنة -نسأل الله من فضله- تشعر بأن نعيمها هو النعيم المقيم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا [آل عمران:15]، فهو عطاء دائم، وأنت مخلد فيه، وأعتقد أنه لو نقص نصف هذا النعيم مع الخلود فيه فلن يضرك شيء.

إذاً: بقاء الجنة وخلود الإنسان فيها أكبر نعيم، وهو أكبر من نعيم الجنة نفسها، وهذا النعيم الدائم هو السعادة بكاملها، ومع هذا أيضاً: وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [آل عمران:15].

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ [آل عمران:14]، عندما تنظر للمرأة في الدنيا ترى أن ثلاثة أرباع عمرها في حالة الله أعلم بها، وربع العمر ضائع في الدورة الشهرية؛ لكن نساء الجنة مطهرات من هذا كله، فالمرأة في الدنيا إذا ولدت فشهران يذهبان في النفاس، وشهر قبل النفاس في الوحم، وجِبِلَّة الإنسان يأكل ويفرِّغ؛ لكن أزواج الجنة مطهرات من ذلك كله، بل كما في الآية الكريمة: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]، وأيضاً إذا عاد إليها وجدها بكراً.

إذاً: هناك فرق كبير، بل ليس هناك موضع مقارنة، قال تعالى: أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ [آل عمران:15]، قال الله: وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، قال الله: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ [آل عمران:15]، ونضرب أمثلة لذلك -ولله المثل الأعلى-: إذا جئت ضيفاً على صديق، وشعرت بأن زيارتك لهذا الصديق تفرحه، ألا يكون ذلك إكمالاً لسرورك بوجودك في ضيافته؟! بخلاف إذا جئت ضيفاً عند شخص وشعرت أنه يستثقل وجودك.

فإذا شعر الإنسان أنه مخلد في جنة نعيمها كما بين سبحانه: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ، وهو مخلد فيها، وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ ، ثم بعد هذا كله قال الله: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ .

وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15] بصير بأعمالهم، وسيجازيهم على قدر ما عملوا، وبحسب موقفهم فيما زُيِّن لهم من تلك المسميات.

من صفات الزاهدين في الدنيا

انظر إلى وصف أولئك الذين وعدهم الله بالجنة التي هي خيرٌ من زينة الدنيا ومتاعها، فمن هؤلاء أصحاب النعيم؟

قال الله: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16]، ليس الإنسان معصوماً من الذنب، ولو لم يكن هناك ذنب، وطلبوا المغفرة فإن ذلك علو في درجاتهم، كما هو حال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ويقول: (توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)، ويحث على الاستغفار فيقول: (إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة) وفي رواية: (مائة مرة).

ولذا قالوا: استغفاره صلى الله عليه وسلم علو في درجاته، وبعضهم يقول: يستغفر للمؤمنين؛ لكن هذا جانب وذاك جانب آخر، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:3].

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:16]، وهذه هي صفات الزُّهَّاد حقاً، فمَن اتصف بهذه الصفات فهو الزاهد حقاً، وما هي صفاتهم؟

قال الله: الصَّابِرِينَ [آل عمران:17]: الصابرين على ماذا؟

على تلك الشهوات التي زُيِّنت لهم، فإذا لم يجدها إنسان من هؤلاء الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا ، فماذا يكون موقفه ؟

كما قال الله: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم)، والصوم هو عين الصبر.

الصَّابِرِينَ : عن معصية الله، وعلى قضاء الله، وعلى أداء طاعة الله، وكل ما يمكن أن تأتي به من أفعال الخير والقربات والمكرمات والمروءة والإنسانية، فإنه يدخل تحت عنوان: الصَّابِرِينَ وأقوال العلماء في وصف الزاهدين تدخل تحت هذه الصفات الآتية.

إذاً: أول صفات الزاهدين حقاً أو المؤمنين حقاً الذين لم تغرهم زينة الحياة الدنيا: الإيمان واللجوء إلى الله وطلب المغفرة: وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، ثم: الصَّابِرِينَ .

ثانياً: وَالصَّادِقِينَ [آل عمران:17]، الصادقين في كل شيء، وليس في الحديث فقط، فالله يقول: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب:23]، الصدق في التعامل مع الله، الصدق في التعامل مع الناس، الصدق في التعامل مع النفس، الصدق في التعامل مع كتاب الله وسنة رسوله، فالصادقين عنوان عام في كل ما أتوه.

ثالثاً: وَالْقَانِتِينَ [آل عمران:17]: سبحان الله! (صابرين) و(صادقين)! ولعل مجيء (صابرين) أولاً يوحي بأن الصدق يحتاج إلى صبر، فقد يحدث لإنسان موقف، والصدق قد يؤذيه أو يحمِّله مشقةً؛ لكن لم يضيع مبدأ الصبر، وانطلاقاً من الصبر تصدُق وتقول الحق وتتعامل بالصدق، فإذا كان صابراً صادقاً يأتي القنوت مع الله، والقنوت: الطاعة والخشية والخشوع والخضوع.

رابعاً: وَالْمُنْفِقِينَ [آل عمران:17]، هؤلاء الصابرون الصادقون القانتون لهم في الدنيا الأموال والقناطير المقنطرة التي زُينت لهم وامتلكوها، فماذا فعلوا بها؟

أنفقوها، وفي حديث أبي هريرة : (لو كان لي مثل جبل أحد، ولقلت به هكذا وهكذا، ولا يبقى عندي منه شيء)، ثم هو إنفاق إجمالي في كل أوجه الإنفاق، كما سيأتي في نظيرها في سورة الحديد وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [الحديد:18]، فينفقون في كل أوجه الإنفاق وسبل الخير، مساعدة ضعيف، إعطاء فقير، تجهيز غازٍ، علاج مريض، كل أنواع الإنفاق التي جاءت أيضاً في سورة البقرة: سِرّاً وَعَلانِيَةً [البقرة:274]، فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ [آل عمران:134]، في كل أوجه الخير، وعلى جميع الحالات.

خامساً: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17] وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم كان يقوم الليل يصلي ويستغفر في السحر.

وفي الحديث الصحيح: (إذا كان ثلث الليل الآخر، ينزل ربنا إلى سماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟).

إذاً: هذه هي صفات المؤمنين حقاً، وهي صفات الذين سلموا مما زُيِّن للناس من حب الشهوات، ولم يقفوا عندها.

ثم قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:18-19] فهم التزموا به، وأقاموا حدوده وتعاليمه، هذا هو الموطن الأول في هذه السورة.

كثر كلام العلماء في تعريف الزهد، فترك الكسب ليس بمناسب، ويقول بعض العلماء: الزهد في السلطة أشد على النفس من الزهد في الدينار والدرهم، أو أشد على النفس من الزهد في الذهب والفضة، وفي التاريخ أن بعض خلفاء بني أمية جاءه رأس بعض الناس فنكت بالقضيب في وجهه وهو يقول: والله! إنك كنت لي صديقاً حميماً؛ ولكن هذا الملك عقيم، كان صديقاً ولكن خرج عليه، فقتله حفاظاً على الرئاسة والملك!

وبعض الناس يتكلف ويقول: الزهد من ثلاثة حروف: زاي وهاء ودال، فالزاي: من الزينة، والهاء: من الهوى، والدال: من الدنيا، وكلها ترجع إلى مدلول واحد؛ لأن الزينة والدنيا شيء واحد.

وبعضهم يقول: حقيقة الزهد هو: القناعة بقضاء الله، والرضا بعطائه الذي أعطاكه.

ويقول أحمد بن حنبل : الزهد في الدنيا قصر الأمل فيها.

ويبحثون مسألة: أيهما أفضل: الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟

فيرجح كثير من العلماء أنه الغني الشاكر؛ لأن غناه مع شكره سينتفع به غيره.




استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر 3518 استماع
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] 3206 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] 3179 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون 3129 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] 3110 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر 3058 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] 3041 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] 2989 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2] 2886 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] 2871 استماع