شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والعشرون [5]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

فلا زلنا عند قوله عليه الصلاة والسلام لـمعاذ : .. رأس الإسلام... وذروة سنامه الجهاد...

وإذا تأملنا في هذا الحديث النبوي الشريف وجدنا أنواع التشبيهات والاستعارات، أولها: الإسلام كالرأس للإنسان، والثاني: الصلاة كالعمود للبيت الذي يقوم عليه، والثالث: الجهاد كسنام البعير وذروة سنامه الجهاد، وبتأمل هذه التشبيهات الثلاثة نجد كل مثال في موضعه يعطي حكم موضوعه.

روعة البلاغة في كلام النبي عليه الصلاة والسلام

رأس الأمر الإسلام لأن الجسم بلا رأس لا قيمة له، فهو جثة هامدة، وكذلك كل الأعمال بدون الإسلام وإعلان الشهادتين لا قيمة لها.

والبيت بعموده، فكذلك الصلاة هي عماد الدين، وقد جاء في الحديث أنه بني الإسلام على خمس، وذكر صلى الله عليه وسلم الصلاة، وبيّن في أحاديث أخرى بأن ذاك البناء لا يقوم إلا بالصلاة: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، واعتنى بها صلى الله عليه وسلم في تنشئة الصبيان والأطفال والناشئة فقال: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)، إلى آخر ما يتعلق بهذين المثالين.

وإذا جئنا إلى سنام البعير نجد أحوال المسلمين وموضوع الجهاد أشبه ما يكون بسنام البعير، لأن السنام هو ذروة البعير وأعلاه، وسِمَن السنام عنوان على صحة البعير وقوته وخصب مرعاه، وضعف السنام واضمحلاله يدل على ضعف البعير وقلة مرعاه.. وهكذا الأمة الإسلامية كلما قويت شوكتها سمنت ذروة سنامها، وكانت في أقوى ما تكون وأكمله. وإذا ما تضعضعت، ذاب السنام ولصق الجلد بالعظام، وهكذا ذروة السنام.

ومن ناحية أخرى نجد أن الأعمال بدون الإسلام لا قوام لها، وكذلك البيت بلا عمد لا ظل ولا إيواء، بل هو طنب مطوية أو لائطة بالأرض، أما السنام فقد يسمن ويكبر، وقد يهزل ويصغر والبعير قائم على حاله، كذلك الجهاد بالنسبة إلى الإسلام تارة فتارة، تارة يكون واجباً فرض عين، وتارة يكون مندوباً إليه، وتارة يكون فرض كفاية، فتتغير أحوال الجهاد في الأمة كما يتغير حال السنام في البعير.

والجهاد كما يقول العلماء: بذل الجهد، وهو أقصى ما يستطيعه الإنسان، تقول: فلان يجتهد في حمل الصخرة، ولا تقول يجتهد في حمل النواة، لأن النواة لا تحتاج إلى بذل جهد، تقول: أخذ الكتاب بيده، وتقول: حمل الكيس الكبير أو حمل الصخرة الثقيلة بعد جهد جهيد.

ومن هنا أخذ الاجتهاد في مسائل العلم، وهو: بذل الطاقة والجهد في البحث والتنقيب، فكذلك جهاد العدو، لأن المجاهد يبذل غاية جهده وطاقته ليتغلب على عدوه، وليس بعد الدفاع عن نفسه والظفر بعدوه من جهد، ومن هنا كان الجهاد شاقاً وثقيلاً على النفس؛ لأنه يكلفها أقصى جهدها وطاقتها.

ميادين الجهاد في سبيل الله

أما ميادين الجهاد فأعلاها وأقواها ميادين الكر والفر وقتال العدو الكافر، وبعضهم يقول: طلب العلم ومعرفة الحلال والحرام، ولذا يقولون: يوم القيامة يكون مداد العلماء ودماء الشهداء سواءً بسواء.

والواقع أن القضية نسبية، والقرآن سوى بين الأمرين، قال تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً [التوبة:122]، أي: لا يمكن أن ينفروا جميعاً لأنهم يتركون الذراري، ويتركون العجائز ويتركون الأعمال والزراعة والإنتاج، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]، فندب القرآن لطائفة أن تنفر في سبيل الله، وطائفة أن تنفر في طلب العلم.

واستدل القائلون بأن طلب العلم أهم من الجهاد بأنه -أصلاً- لن يجاهد إنسان إلا بعد العلم والمعرفة، ولن يرسم طريق الجهاد الصحيح إلا العلماء، وعليه طلب العلم أولاً ثم الجهاد، وليس كل واحد منهما يعطل الآخر.

ثم أيضاً الجهاد يكون بالسنان وباللسان وبالمال وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:10-11]، فقدم الأموال، والعادة أن التقديم له تأثير، فكيف يقدم المال على النفس، والجندي المجاهد هو الشهيد؟

والجواب: لأن الجهاد بالمال أعم وأشمل، وهو جهاد الصغير والكبير والمرأة والرجل، وكل من يملك المال يمكن أن يتبرع، وماذا يفعل الرجل بنفسه إذا لم يجد ذخيرة أو زاداً يتزود به؟ وخاصة في مثل أيامنا، حيث صارت الحرب حرب اقتصاد والغلبة غلبة إنتاج، وليست كثرة رجال وصليل سيوف، أصبحت الآن المعدات الحربية والتكتيك العسكري له تأثير عظيم، وقد كان الاعتماد سابقاً على قوة الرجال، أما اليوم فبقوة الآليات، والآليات تحتاج إلى مال لكي تشتريها.

وهكذا تقديم المال يعطي الصورة الحية لسعة مجال الجهاد الحقيقي، ثم يأتي الرجال بعد ذلك.

وميادين الجهاد عديدة، منها: قتال العدو، طلب العلم، حرب المنكرات، جهاد النفس، جهاد الهوى، كل ذلك من ميادين الجهاد، كما أن الجهاد يبحث أيضاً في آلته: الجهاد بالكلمة، الجهاد بالإنتاج، قائد القوات البريطانية في الحرب العالمية الأخيرة كان يأتي بشخصيات غير بريطانيين للجيش فعِيب عليه، فقال: الجندي الذي يعمل في الميدان يحتاج إلى سبعة جنود وراءه لتمويله، من يخبز له، ومن يطبخ له، ومن يخيط لباسه؟ ومن يقدم له عتاده؟ ومن يشغل المصانع التي تمونه بالذخيرة؟ ومن يمهد له الطريق؟ ومن يوصل له حاجاته؟ وكل أولئك جنود يعملون.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (إن الله عز وجل يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة)، السهم الواحد يُرمى في سبيل الله يدخل فيه ثلاثة الجنة (صانعه، والممد به، والرامي به في سبيل الله عز وجل).

فهذا الجندي في الميدان وراءه عدة جنود، إلا أن موضوع التموين كان في صدر الإسلام كل جندي يمون نفسه، وكل جندي مدرب قبل أن يأتي الإسلام، فقد كانوا كل يوم في غارة وكل يوم في قتال، فهم مدربون بفطرهم، لحماية أنفسهم أو للبغي والغارة على غيرهم، كما قال الشاعر:

وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا

رأس الأمر الإسلام لأن الجسم بلا رأس لا قيمة له، فهو جثة هامدة، وكذلك كل الأعمال بدون الإسلام وإعلان الشهادتين لا قيمة لها.

والبيت بعموده، فكذلك الصلاة هي عماد الدين، وقد جاء في الحديث أنه بني الإسلام على خمس، وذكر صلى الله عليه وسلم الصلاة، وبيّن في أحاديث أخرى بأن ذاك البناء لا يقوم إلا بالصلاة: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، واعتنى بها صلى الله عليه وسلم في تنشئة الصبيان والأطفال والناشئة فقال: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)، إلى آخر ما يتعلق بهذين المثالين.

وإذا جئنا إلى سنام البعير نجد أحوال المسلمين وموضوع الجهاد أشبه ما يكون بسنام البعير، لأن السنام هو ذروة البعير وأعلاه، وسِمَن السنام عنوان على صحة البعير وقوته وخصب مرعاه، وضعف السنام واضمحلاله يدل على ضعف البعير وقلة مرعاه.. وهكذا الأمة الإسلامية كلما قويت شوكتها سمنت ذروة سنامها، وكانت في أقوى ما تكون وأكمله. وإذا ما تضعضعت، ذاب السنام ولصق الجلد بالعظام، وهكذا ذروة السنام.

ومن ناحية أخرى نجد أن الأعمال بدون الإسلام لا قوام لها، وكذلك البيت بلا عمد لا ظل ولا إيواء، بل هو طنب مطوية أو لائطة بالأرض، أما السنام فقد يسمن ويكبر، وقد يهزل ويصغر والبعير قائم على حاله، كذلك الجهاد بالنسبة إلى الإسلام تارة فتارة، تارة يكون واجباً فرض عين، وتارة يكون مندوباً إليه، وتارة يكون فرض كفاية، فتتغير أحوال الجهاد في الأمة كما يتغير حال السنام في البعير.

والجهاد كما يقول العلماء: بذل الجهد، وهو أقصى ما يستطيعه الإنسان، تقول: فلان يجتهد في حمل الصخرة، ولا تقول يجتهد في حمل النواة، لأن النواة لا تحتاج إلى بذل جهد، تقول: أخذ الكتاب بيده، وتقول: حمل الكيس الكبير أو حمل الصخرة الثقيلة بعد جهد جهيد.

ومن هنا أخذ الاجتهاد في مسائل العلم، وهو: بذل الطاقة والجهد في البحث والتنقيب، فكذلك جهاد العدو، لأن المجاهد يبذل غاية جهده وطاقته ليتغلب على عدوه، وليس بعد الدفاع عن نفسه والظفر بعدوه من جهد، ومن هنا كان الجهاد شاقاً وثقيلاً على النفس؛ لأنه يكلفها أقصى جهدها وطاقتها.

أما ميادين الجهاد فأعلاها وأقواها ميادين الكر والفر وقتال العدو الكافر، وبعضهم يقول: طلب العلم ومعرفة الحلال والحرام، ولذا يقولون: يوم القيامة يكون مداد العلماء ودماء الشهداء سواءً بسواء.

والواقع أن القضية نسبية، والقرآن سوى بين الأمرين، قال تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً [التوبة:122]، أي: لا يمكن أن ينفروا جميعاً لأنهم يتركون الذراري، ويتركون العجائز ويتركون الأعمال والزراعة والإنتاج، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]، فندب القرآن لطائفة أن تنفر في سبيل الله، وطائفة أن تنفر في طلب العلم.

واستدل القائلون بأن طلب العلم أهم من الجهاد بأنه -أصلاً- لن يجاهد إنسان إلا بعد العلم والمعرفة، ولن يرسم طريق الجهاد الصحيح إلا العلماء، وعليه طلب العلم أولاً ثم الجهاد، وليس كل واحد منهما يعطل الآخر.

ثم أيضاً الجهاد يكون بالسنان وباللسان وبالمال وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:10-11]، فقدم الأموال، والعادة أن التقديم له تأثير، فكيف يقدم المال على النفس، والجندي المجاهد هو الشهيد؟

والجواب: لأن الجهاد بالمال أعم وأشمل، وهو جهاد الصغير والكبير والمرأة والرجل، وكل من يملك المال يمكن أن يتبرع، وماذا يفعل الرجل بنفسه إذا لم يجد ذخيرة أو زاداً يتزود به؟ وخاصة في مثل أيامنا، حيث صارت الحرب حرب اقتصاد والغلبة غلبة إنتاج، وليست كثرة رجال وصليل سيوف، أصبحت الآن المعدات الحربية والتكتيك العسكري له تأثير عظيم، وقد كان الاعتماد سابقاً على قوة الرجال، أما اليوم فبقوة الآليات، والآليات تحتاج إلى مال لكي تشتريها.

وهكذا تقديم المال يعطي الصورة الحية لسعة مجال الجهاد الحقيقي، ثم يأتي الرجال بعد ذلك.

وميادين الجهاد عديدة، منها: قتال العدو، طلب العلم، حرب المنكرات، جهاد النفس، جهاد الهوى، كل ذلك من ميادين الجهاد، كما أن الجهاد يبحث أيضاً في آلته: الجهاد بالكلمة، الجهاد بالإنتاج، قائد القوات البريطانية في الحرب العالمية الأخيرة كان يأتي بشخصيات غير بريطانيين للجيش فعِيب عليه، فقال: الجندي الذي يعمل في الميدان يحتاج إلى سبعة جنود وراءه لتمويله، من يخبز له، ومن يطبخ له، ومن يخيط لباسه؟ ومن يقدم له عتاده؟ ومن يشغل المصانع التي تمونه بالذخيرة؟ ومن يمهد له الطريق؟ ومن يوصل له حاجاته؟ وكل أولئك جنود يعملون.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (إن الله عز وجل يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة)، السهم الواحد يُرمى في سبيل الله يدخل فيه ثلاثة الجنة (صانعه، والممد به، والرامي به في سبيل الله عز وجل).

فهذا الجندي في الميدان وراءه عدة جنود، إلا أن موضوع التموين كان في صدر الإسلام كل جندي يمون نفسه، وكل جندي مدرب قبل أن يأتي الإسلام، فقد كانوا كل يوم في غارة وكل يوم في قتال، فهم مدربون بفطرهم، لحماية أنفسهم أو للبغي والغارة على غيرهم، كما قال الشاعر:

وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا

إذاً: أنواع الجهاد متعددة، وقد ظهر جهاد الكلمة في غزوة الأحزاب بمظهر عجيب، كلمة فعلت أكثر مما تفعل الجيوش، فإنه لما جاء الأحزاب -قريش وأحلافها مع غطفان- وعلم صلى الله عليه وسلم تحرك المشركين، وحفر الخندق بعد مشورة سلمان رضي الله تعالى عنه، وبهذه المناسبة كان يقول والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه: خطة الخندق خطة فارسية، حينما أخبر صلى الله عليه وسلم أصحابه بما عزمت عليه قريش وأحلافها ومجيئهم يستأصلون المدينة كلها، فقال: (أشيروا علي)، قال سلمان : كنا إذا حوربنا خندقنا، يعني اتخذنا الخندق حولنا، فأعجبته الفكرة وأخذ بها.

وحبذا لو دُرِست غزوة الخندق، من ناحية الأسباب والنتائج ومواقف الناس فيها، لتكون منهجاً في حالة السلم والحرب؛ لأن فيها من المبادئ العسكرية الشيء الكثير، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الجيش تحت لواءين، لواء للمهاجرين ولواء للأنصار، وقسم الجميع عشرات، في تسلسل هرمي ينم عن عقلية عسكرية فذة.

واختلفوا في سلمان هل يكون تحت لواء المهاجرين أم تحت لواء الأنصار، المهاجرون يقولون: هو منا لأنه جاء مهاجراً من بلاد فارس، والأنصار يقولون: بل هو منا لأنه كان موجوداً حين جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في قضية النزاع، ويقول: (سلمان منا أهل البيت)، فبأي صلة وبأي رابطة ارتفع نسب سلمان الفارسي ، وليس في دمه قطرة دم عربية حتى يصل إلى بيت النبوة!! إلى بني هاشم ذروة النسب والحسب في العرب.. بأي شيء وصل ذلك؟ هو عبَّر عن هذا فقال:

أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تمـيم

أبوك من يا سلمان؟ لم يقل فلان ابن فلان، مع أن أبوه كان من سدنة بيت النار، لكن كل ذلك أُلغي، فقال: أبي الإسلام.

فحفروا الخندق بإشارة سلمان، وحينما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واجه تيارات فكرية مختلفة، وأزمات اقتصادية، فالمدينة محصورة بين لابتين، والإنتاج لا يكفي كل من يأتيها، وليس هناك ميادين عمل، علي رضي الله تعالى عنه يؤاجر نفسه على أن ينزع كل دلو ماء بتمرة، لكن القضية ليست قضية إنتاج واقتصاد، فبدأ صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وبين المهاجرين أنفسهم، ووجد المهاجرون قوماً يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فآثروهم بأموالهم واتسعت صدورهم لهم وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الحشر:9]، والمهاجرون يتعففون عن أموالهم.

عبد الرحمن بن عوف يقول له أخوه من الأنصار: هلم أقاسمك مالي، ولي زوجتان، فانظر إلى من شئت منهما أطلقها وتعتد وأزوجك إياها. فيقول: بارك الله لك في مالك وفي زوجاتك، دلني على السوق.

لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8]، يقابلهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

يأتي القسم الثالث: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10].

ومن هنا يقول الإمام مالك رحمه الله لما سأله المهدي هل للخوارج حق في الفيء؟ قال: لا، كل من يبغض سلف الأمة وأصحاب رسول الله ليس له شيء من الفيء؛ لأن الله قال: مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:7-8]، يقابلهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا.. [الحشر:8-9].

فمن لم يقل في سلفه رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ولم يقل وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10]، فليس له في الفيء نصيب، وكل من كان في قلبه غل لصحابي واحد فليس له في الفيء نصيب.

كان هذا هو المجتمع الأول، ماذا يفعل مع اليهود وهم أصحاب وطن وأصحاب إقامة؟ كتب وثيقة عهد المسلمين وبين اليهود، واليهود ثلاث قبائل، وكل قبيلة لها حلف مع الأوس أو الخزرج.

فعالجها صلى الله عليه وسلم بتلك الوثيقة، وأصبح مرد النزاع في المدينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وجاء في تلك الوثيقة أن على اليهود ألا يعينوا عدواً على المسلمين، وأن يدافع الجميع عن المدينة إذا داهمها عدو من الخارج، لأنها بلد الجميع.

فلما جاء الأحزاب نقضوا العهد وعزموا على قتال المسلمين مع المشركين، وبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل رجلين فقال: اذهبا وتحسسا، فإن رأيتما حقاً فارمزا لي رمزاً، وإن كان غير ذلك فاجهرا وصرحا، والعلة في عدم تصريحهم بنقض اليهود حتى لا يقع الروع في قلوب المسلمين، فذهبا وجاءا فقالا: عظل والقارة. وفهِمها صلى الله عليه وسلم.

نعيم بن مسعود والأحزاب

في تلك الأثناء جاء نعيم بن مسعود ، قال: يا رسول الله إني أسلمت ولم يعلم بإسلامي قومي، فمرني بما تريد؟

قال صلى الله عليه وسلم: أنت رجل فرد، يعني لو حملت السلاح ماذا تفعل، كواحد من الجماعة، ولكن ثبط عنا -الحرب الباردة- فذهب إلى يهود وكان حليفاً لهم، قال: يا معشر يهود لقد تورطتم مع أبي سفيان ، ونقضتم العهد الذي بينكم وبين محمد، وأبو سفيان جاء بقريش، وجاء بالعرب من مكة ليس له هنا عشيرة ولا أموال ولا رباع، إن وجدها له استمر، وإن وجدها عليه رجع وترككم مع الرجل ولا طاقة لكم به.. قالوا: فماذا نفعل؟ وأنت صديقنا فماذا تنصحنا؟ قال: أنصحكم أن تتثبتوا من أبي سفيان ، قالوا: بأي شيء؟ قال: اطلبوا منهم أربعين رجلاً يكونون عندكم كرهائن حتى لا يفر ويرجع ويترككم. قالوا: صدقتنا.

وذهب إلى أبي سفيان فقال: يا أبا سفيان ! إن اليهود ندموا على نقض العهد مع محمد، ولن يقاتلوه معك، وقد فكروا في مكيدة.. وسيطلبون منك أربعين رجلاً رهائن، ليقدموهم لمحمد ليضرب أعناقهم تكفيراً عن خطئهم في نقض العهد، قال: وما الرأي؟ قال الرأي إذا طلبوا منكم فلا تعطوهم. قال: صدقتنا.

ومن الغد -وكان ذلك يوم جمعة- أرسل أبو سفيان لليهود.. طال الحصار، ونريد أن نناجز الرجل، فقالوا: لا يا أبا سفيان ، تعلم أن يوم السبت لا نعمل فيه شيئاً، وتعلم ما وقع لأسلافنا في يوم السبت.

معلوم أن الله سبحانه وتعالى مسخهم قردة وخنازير كما في قوله: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [البقرة:65].

فقالوا: يوم السبت لا عمل، ومع ذلك أيضاً لن نقاتل محمداً معك حتى تقدم لنا رهائن، لئلا تتركنا وتذهب عنا ونبقى مع الرجل وحدنا، فقال أبو سفيان : صدقنا نعيم .

فقال أبو سفيان : والله ما نعطيكم رجلاً واحداً، فقالوا: صدق نعيم .

ومن الغد وقع النزاع بين الفريقين، وحصلت الفرقة بينهما.

فكلمات قليلة عملت أعظم مما قد يعمله جيش بأكمله، وكانت النهاية أن الله سبحانه وتعالى رد المشركين بغيظهم لم ينالوا خيراً، وأرسل عليهم الرياح تطفئ نارهم وتكفأ قدورهم وتهدم خيامهم.. إلى آخره.

إذاً: (ذروة سنامه الجهاد)، الجهاد يكون بالمال، وبالنفس، وبالكلمة.

وقد يكون بأكثر من هذا، ولكن كل ما يمكن أن يخطر في بالك يدخل في باب المال، تقدم المستشفيات، تقدم العلاج، تقدم السلاح، تقدم اللباس، تقدم أي شيء للغزاة في سبيل الله، يقول صلى الله عليه وسلم: (من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا).


استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر 3524 استماع
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] 3212 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] 3186 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون 3135 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] 3117 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر 3068 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] 3045 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] 2995 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2] 2891 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] 2877 استماع