شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

[عن أبي العباس عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

وفي رواية غير الترمذي : احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع اليسر يسراً ].

إن هذا الحديث العظيم، يبين مكانة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد اختص بخصائص من بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطيل علماء الرجال والتراجم في ترجمة ابن عباس رضي الله عنهما، فقد حظي بدعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم: اللهم! فقه في الدين، وعلمه التأويل ، وها هو في هذا الحديث غلام دون البلوغ، ويلقي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحديث العظيم، وقالوا: إن سبب دعوة رسول الله له، أنه كان ذات ليلة عند خالته ميمونة ، ونام النبي صلى الله عليه وسلم على طرف الوسادة، وجاء ابن عباس وهو غلام ونام على طرفها الآخر، فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، قام ودخل الخلاء، ثم خرج صلى الله عليه وسلم فوجد أداوة من ماء عند باب الخلاء فقال: من وضع هذا؟ قالت له ميمونة: وضعها ابن عباس أي: أن ابن عباس فطن أن خروجه صلى الله عليه وسلم يقتضي ماء لوضوئه، وهذا من الفهم والفطنة والفقه، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم! فقهه في الدين، وعلمه التأويل، والتأويل هو: التفسير.

روى البخاري رحمه الله أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يدنيه، وكان يدخله في مجلسه، وفيه شيوخ المهاجرين والأنصار، فرأى في وجوههم استنكار ذلك، وقالوا لـعمر : كيف تدخل هذا الغلام، ولنا غلمان مثله لم نحضرهم؟ فجمعهم ذات يوم وسألهم، عن تفسير سورة النصر: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، فخاضوا في معانيها من ظواهر لفظها، فسأل عمر ابن عباس ، فقال: إنها نعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا، فوافقه عمر على ذلك، وظهر للناس فهمه لكتاب الله، وصاروا يرجعون إليه في ذلك.

طلبه للعلم في صغره

نشأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه نموذجاً حياً لطالب العلم في كل زمان ومكان، ولزاماً على كل شخص يسلك طريق طلب العلم أن يدرس ترجمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد ذكرنا في برنامج إذاعي أن تراجم الرجال مدارس الأجيال، وفي ترجمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما شب وصار يافعاً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذهب إلى أحد أصدقائه فقال له: هلم نجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أوترى -يا ابن عباس - أن الناس يحتاجون إلى ما تجمعه مع وجود كبار أصحاب رسول الله؟! فمضى ابن عباس في طريقه، قال ابن عباس : كنت أتبع الرجل الذي عنده حديث رسول الله من المسجد إلى بيته، وأستحي أن أوقفه في الطريق، فأتبعه وأقول: لعله يلتفت فيراني فأسأله، قال: مرة اتبعت فلاناً فلم يلتفت، ودخل بيته ولم يلتفت، ورد الباب دوني، وذلك بعد صلاة الظهر، قال: فجلست على باب بيته أنتظر خروجه، ووضعت ردائي على وجهي، والريح تسفي عليّ، فأخذني النوم، حتى خرج الرجل لصلاة العصر، فقال : ابن عباس على باب بيتي! قلت: نعم، جئت أسألك عن حديث كذا، قال: لو آذنتني فآتيك إلى بيتك ! قال: إن العلم يؤتى إليه.

وكان ابن عباس ، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأخذ بركاب زيد بن ثابت وهو راكب، وابن عباس يمشي، فيقول له: إما أن تركب، وإما أن أنزل، فيقول: لستَ بنازل، ولستُ براكب، هكذا أمرنا أن نعظم علماءنا.

هذا حال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في طلب العلم، ثم دارت الأيام، وصار صاحبه الذي قعد عن مرافقته في طلب العلم، يرجع إليه ويسأله عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان يفتي الناس بمكة، ثم إنه خرج من مكة وقال: لا أستطيع أن أسكن بلدة تتضاعف فيها السيئات كما تتضاعف فيها الحسنات، ولكني أتخذ من الطائف مسكناً، ثم أنزل إلى الناس يوم الحج، وبقي ساكناً في الطائف، وينزل مكة في وقت الحج.

ولقد ذكروا من مناقبه رضي الله تعالى عنه أنه رأى جبريل عليه السلام مرتين، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخبر بذلك فأخبر أنه سيفقد بصره، وقد ابتلي في آخر حياته بفقد البصر، قالوا: لأنه رأى جبريل مرتين، إحداهما لما جاء العباس يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهراً ، فاستأذنه ثلاث مرات، فلم يأذن له، فرجع مغاضباً، وكان في بني هاشم بعض الحدة، فقال ابن عباس لأبيه العباس : يا أبت! لا تغضب فهو مشغول عنك بالرجل الذي كان يجلس إليه يحدثه، فقال: أوعنده رجل؟! قال: نعم، قال: ما رأيته! وأخذ بيد ابنه ورجع مرة أخرى إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصل استأذن فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول مرة، ولم يكن هناك رجل، فقال العباس : (يا ابن أخي! ما بالك استأذنتك ثلاث مرات فلم تأذن لي؟ قال: ما علمت، قال: إن هذا الغلام يقول: إنك كنت مشغولاً برجل عندك، وما رأيت عندك أحداً، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله وقال: أرأيت الرجل يا غلام؟! قال: نعم، قال: ذاك جبريل عليه السلام).

سرعة حفظه

ومناقب ابن عباس وافرة، ويهمنا منهجه في العلم والتعليم، ولقد كانت له بمكة مدرسة نشأت عنه، وكذلك في البصرة، وانتشر علم ابن عباس بتلاميذه رضي الله تعالى عنهم، وجزاهم الله عنا أحسن الجزاء.

ها هو ابن عباس ينظر إليه رسول الله صلى الله وهو غلام، فيرى فيه الفراسة، ويرى فيه الأهلية، لكي يلقي عليه هذا الحديث، وكان ابن عباس يحفظ من أول مرة، فلقد ذكر علماء الأدب، مثل الرافعي في تاريخ الأدب أن ابن عباس كان جالساً عند الكعبة، وعنده بعض الخوارج من أهل الشدة والشوكة، فإذا بـعمر بن أبي ربيعة يمر عليه، فقال عبد الله : هيه هيه يا عمير ! هل من جديد؟ فقال: نعم، وأنشده قصيدة من تسعين بيتاً، فلما انتهى قال الخارجي: يا ابن عباس ! أما تخشى الله فينا؟ جئناك عند بيت الله نسألك عن الحلال والحرام، فتتركنا وتسمع لهذا الشاعر الماجن! أوأعجبك شعره؟! قال: نعم، وحفظته، قال: أحفظت ما قال؟! قال: نعم، وإن شئت أعدته عليك منكسّاً فعلت، قال: نعم -والله- شئت، فأعاد عليه القصيدة، وبدأ من آخر بيت فيها حتى جاء إلى أولها، وهذا يدل على عظم ذاكرة ابن عباس ، فالرسول صلى الله عليه وسلم خصه بهذا الحديث عندما رأى فيه أهلية التعليم، فألقى عليه هذا العلم.

ويذكر علماء الحديث مسألة: الغلام الذي دون البلوغ هل يعتمد على روايته؟

يقولون: إن العبرة في رواية الحديث بوقت الأداء؟ فلو أن غلاماً سمع ووعى، ثم أدى ما سمعه بعد البلوغ، كانت روايته حجة، ولو أن كافراً مشركاً سمع وقت الكفر والشرك ثم أدى بعد الإسلام كانت روايته معتمدة؛ لأنه عند الأداء مؤتمن على ما يؤديه، وهكذا ابن عباس رضي الله تعالى عنه حفظ هذا الحديث العظيم.

تحمله لهذا الحديث وهو غلام

وقوله: (يا غلام)، ما سن الغلام؟ يقولون: من أول ولادته إلى قبل الاحتلام، هذا لغة واصطلاحاً، وقد يطلق الغلام على اليافع الأشد إذا بلغ الأربعين سنة، كما قالت الخنساء :

غلام إذا هز القناة سقاها ...

ولا يستطيع أن يسقي القناة بدماء الأعداء إلا القوي الأشد.

إذاً: غلام هنا على بابها اللغوي الأصلي، وهو: ما كان دون البلوغ؛ لأن ابن عباس ولد قبل الهجرة بعدة سنوات، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة، وكان ممن قدّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الضعفة، ويقول عن نفسه: (وكنت معهم حينئذٍ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا فضرب على أفخاذنا، وقال: يا أغيلمة بني هاشم! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس)، فكان غلاماً أو أغيلماً حينما نزل مع الضعفة من الحجاج حين حج النبي صلى الله عليه وسلم، فكان في سنة عشر من الهجرة غلاماً مع الضعفة والنسوة، ووعى هذا الوعي وهو غلام، وأخذ عنه العلماء هذا الحديث، ورواه الترمذي وغيره بروايات مختلفة، فحديثه موضع قبول عند العامة والخاصة.

يقول رضي الله تعالى عنه: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم)، وهل كان راكباً أو ماشياً؟

جاء في بعض الروايات: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم) أي: راكباً خلف النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: كان راكباً على حمار، وقيل: على بغلة أهداها إليه المقوقس ، وأخذ من ذلك يستنتج العلماء جواز الإرداف على الراحلة إذا كانت تحتمل ذلك، وقد جاء في حديث معاذ قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم) بهذا التصريح، فقال: (أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟) إلى آخره.

نشأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه نموذجاً حياً لطالب العلم في كل زمان ومكان، ولزاماً على كل شخص يسلك طريق طلب العلم أن يدرس ترجمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد ذكرنا في برنامج إذاعي أن تراجم الرجال مدارس الأجيال، وفي ترجمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما شب وصار يافعاً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذهب إلى أحد أصدقائه فقال له: هلم نجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أوترى -يا ابن عباس - أن الناس يحتاجون إلى ما تجمعه مع وجود كبار أصحاب رسول الله؟! فمضى ابن عباس في طريقه، قال ابن عباس : كنت أتبع الرجل الذي عنده حديث رسول الله من المسجد إلى بيته، وأستحي أن أوقفه في الطريق، فأتبعه وأقول: لعله يلتفت فيراني فأسأله، قال: مرة اتبعت فلاناً فلم يلتفت، ودخل بيته ولم يلتفت، ورد الباب دوني، وذلك بعد صلاة الظهر، قال: فجلست على باب بيته أنتظر خروجه، ووضعت ردائي على وجهي، والريح تسفي عليّ، فأخذني النوم، حتى خرج الرجل لصلاة العصر، فقال : ابن عباس على باب بيتي! قلت: نعم، جئت أسألك عن حديث كذا، قال: لو آذنتني فآتيك إلى بيتك ! قال: إن العلم يؤتى إليه.

وكان ابن عباس ، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأخذ بركاب زيد بن ثابت وهو راكب، وابن عباس يمشي، فيقول له: إما أن تركب، وإما أن أنزل، فيقول: لستَ بنازل، ولستُ براكب، هكذا أمرنا أن نعظم علماءنا.

هذا حال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في طلب العلم، ثم دارت الأيام، وصار صاحبه الذي قعد عن مرافقته في طلب العلم، يرجع إليه ويسأله عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان يفتي الناس بمكة، ثم إنه خرج من مكة وقال: لا أستطيع أن أسكن بلدة تتضاعف فيها السيئات كما تتضاعف فيها الحسنات، ولكني أتخذ من الطائف مسكناً، ثم أنزل إلى الناس يوم الحج، وبقي ساكناً في الطائف، وينزل مكة في وقت الحج.

ولقد ذكروا من مناقبه رضي الله تعالى عنه أنه رأى جبريل عليه السلام مرتين، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخبر بذلك فأخبر أنه سيفقد بصره، وقد ابتلي في آخر حياته بفقد البصر، قالوا: لأنه رأى جبريل مرتين، إحداهما لما جاء العباس يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهراً ، فاستأذنه ثلاث مرات، فلم يأذن له، فرجع مغاضباً، وكان في بني هاشم بعض الحدة، فقال ابن عباس لأبيه العباس : يا أبت! لا تغضب فهو مشغول عنك بالرجل الذي كان يجلس إليه يحدثه، فقال: أوعنده رجل؟! قال: نعم، قال: ما رأيته! وأخذ بيد ابنه ورجع مرة أخرى إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصل استأذن فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أول مرة، ولم يكن هناك رجل، فقال العباس : (يا ابن أخي! ما بالك استأذنتك ثلاث مرات فلم تأذن لي؟ قال: ما علمت، قال: إن هذا الغلام يقول: إنك كنت مشغولاً برجل عندك، وما رأيت عندك أحداً، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله وقال: أرأيت الرجل يا غلام؟! قال: نعم، قال: ذاك جبريل عليه السلام).

ومناقب ابن عباس وافرة، ويهمنا منهجه في العلم والتعليم، ولقد كانت له بمكة مدرسة نشأت عنه، وكذلك في البصرة، وانتشر علم ابن عباس بتلاميذه رضي الله تعالى عنهم، وجزاهم الله عنا أحسن الجزاء.

ها هو ابن عباس ينظر إليه رسول الله صلى الله وهو غلام، فيرى فيه الفراسة، ويرى فيه الأهلية، لكي يلقي عليه هذا الحديث، وكان ابن عباس يحفظ من أول مرة، فلقد ذكر علماء الأدب، مثل الرافعي في تاريخ الأدب أن ابن عباس كان جالساً عند الكعبة، وعنده بعض الخوارج من أهل الشدة والشوكة، فإذا بـعمر بن أبي ربيعة يمر عليه، فقال عبد الله : هيه هيه يا عمير ! هل من جديد؟ فقال: نعم، وأنشده قصيدة من تسعين بيتاً، فلما انتهى قال الخارجي: يا ابن عباس ! أما تخشى الله فينا؟ جئناك عند بيت الله نسألك عن الحلال والحرام، فتتركنا وتسمع لهذا الشاعر الماجن! أوأعجبك شعره؟! قال: نعم، وحفظته، قال: أحفظت ما قال؟! قال: نعم، وإن شئت أعدته عليك منكسّاً فعلت، قال: نعم -والله- شئت، فأعاد عليه القصيدة، وبدأ من آخر بيت فيها حتى جاء إلى أولها، وهذا يدل على عظم ذاكرة ابن عباس ، فالرسول صلى الله عليه وسلم خصه بهذا الحديث عندما رأى فيه أهلية التعليم، فألقى عليه هذا العلم.

ويذكر علماء الحديث مسألة: الغلام الذي دون البلوغ هل يعتمد على روايته؟

يقولون: إن العبرة في رواية الحديث بوقت الأداء؟ فلو أن غلاماً سمع ووعى، ثم أدى ما سمعه بعد البلوغ، كانت روايته حجة، ولو أن كافراً مشركاً سمع وقت الكفر والشرك ثم أدى بعد الإسلام كانت روايته معتمدة؛ لأنه عند الأداء مؤتمن على ما يؤديه، وهكذا ابن عباس رضي الله تعالى عنه حفظ هذا الحديث العظيم.

وقوله: (يا غلام)، ما سن الغلام؟ يقولون: من أول ولادته إلى قبل الاحتلام، هذا لغة واصطلاحاً، وقد يطلق الغلام على اليافع الأشد إذا بلغ الأربعين سنة، كما قالت الخنساء :

غلام إذا هز القناة سقاها ...

ولا يستطيع أن يسقي القناة بدماء الأعداء إلا القوي الأشد.

إذاً: غلام هنا على بابها اللغوي الأصلي، وهو: ما كان دون البلوغ؛ لأن ابن عباس ولد قبل الهجرة بعدة سنوات، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة، وكان ممن قدّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الضعفة، ويقول عن نفسه: (وكنت معهم حينئذٍ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا فضرب على أفخاذنا، وقال: يا أغيلمة بني هاشم! لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس)، فكان غلاماً أو أغيلماً حينما نزل مع الضعفة من الحجاج حين حج النبي صلى الله عليه وسلم، فكان في سنة عشر من الهجرة غلاماً مع الضعفة والنسوة، ووعى هذا الوعي وهو غلام، وأخذ عنه العلماء هذا الحديث، ورواه الترمذي وغيره بروايات مختلفة، فحديثه موضع قبول عند العامة والخاصة.

يقول رضي الله تعالى عنه: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم)، وهل كان راكباً أو ماشياً؟

جاء في بعض الروايات: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم) أي: راكباً خلف النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: كان راكباً على حمار، وقيل: على بغلة أهداها إليه المقوقس ، وأخذ من ذلك يستنتج العلماء جواز الإرداف على الراحلة إذا كانت تحتمل ذلك، وقد جاء في حديث معاذ قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم) بهذا التصريح، فقال: (أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟) إلى آخره.

قال: يا غلام! ، فيه جواز نداء الغلام بوصفه، وإن كان يُعلم اسمه وعلمه، إني أعلمك كلمات أي: كلمات معدودات، موجزة، والتحفيظ والتعليم سواء، ثم بدأ صلى الله عليه وسلم يفصّل المجمل من الكلمات، والكلمات: جمع كلمة، والكلمة: تطلق على اللفظ، كما قال الناظم:

كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم

واحده كَلِمة والقول عم وكلمة بها كلام قد يؤم

فالكلمة تطلق على أحد أقسام الكلام، فإذا قلت: (قد) فهي كلمة، وإن كانت حرفاً، وإن قلت: (جاء) فهي كلمة، وإن كانت فعلاً، وإن قلت: (زيد) فهي كلمة وإن كان إسماً، فكل واحد من هذه يقال لها: كلمة، والموضوع الطويل الذي تخطب به في أمة يقال له أيضاً: كلمة، فيقال: ألقى فلان كلمة، ونشر فلان كلمة، فكلمة تطلق على اللفظ المفرد، وتطلق على مجموع الكلام، فكلمة الإخلاص هي: لا إله إلا الله، وهي عدة ألفاظ وسميت: كلمة، وهنا قال: أعلمك كلمات جمع: كلمة، فهي جُمل، وكل جملة من تلك الجمل، يقال لها: كلمة.


استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر 3522 استماع
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] 3210 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] 3184 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون 3133 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] 3114 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر 3065 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] 3043 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] 2993 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2] 2888 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] 2875 استماع