شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع عشر [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيد الأولين والآخرين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

[عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) متفق عليه].

ابن مسعود رضي الله عنه صحابي جليل، وكان يقول: أنا سابع سبعة في الإسلام، وتاريخه مجيد، وفضله بين الصحابة عظيم، حينما سمع بالنبي صلى الله عليه وسلم أرسل أخاه ليسمع خبره، ثم رجع إليه وقال: إنه يأمر بالمعروف، ويأمر بمكارم الأخلاق، وذكر أموراً مجملة، فقال: لم تغن عني شيئاً، فركب راحلته، وأخذ ماءه وزاده، ورحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وسمع منه، ثم رحل هو وأمه ونزل على خاله، ثم لازم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: (لا يحل) حلّ يحل تأتي في اللغة متعدية ولازمة، تقول: حل يحِل، وحل يحُل، فإذا كانت من الفعل اللازم فهي من باب ضرب يضرب، وإذا كانت من الفعل المتعدي فهي من باب بطر يبطُر، تقول: حل العقدة يُحلُها؛ لأنه متعد إلى مفعول به، وتقول: حل بالمكان يحَل، ومنه قوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:33] ؛ لأنه لازم، وكذلك حل الشيء يحِل، إذا كان حراماً.

ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)، الإسلام يعصم دم الإنسان، كما تقدم في الحديث الصحيح: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا: أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله).

الإسلام هو المذكور في حديث جبريل عليه السلام حينما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أخبرني عن الإسلام؟)، فبين له الأركان الخمسة، ثم سأل عن الإيمان؟ فبيّن له الأركان الستة، ثم سأله عن الإحسان، فبيّن له ذلك، وهو مسك الختام، وأهم شيء فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فهكذا بناء الإسلام، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم أن الإسلام بيت فسيح منيع يحمي أهله فقال: (بني الإسلام على خمس...)، وتلك الدعائم هي التي يقوم عليها الإسلام، وجاء الحديث الآخر يبين آثار تلك الدعائم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)، وهنا قال: (فقد عصموا مني أموالهم ودماءهم؛ إلا بحق الإسلام) ، فعصمة المال والدم تكون بالإسلام، وكل إنسان ينطق بالشهادتين فإنه قد عصم دمه وماله إلا بحق الإسلام، وما هو حق الإسلام؟

هذا الحديث يُبين ذلك: (لا يحل دم امرئ مسلم)، والمسلم هو الذي التزم بالشهادتين، ومدلولهما، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج إن استطاع، فهذا المسلم معصوم الدم والمال، لا يحل دمه أبداً، بأي حالة من الأحوال، إلا بنص جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وهنا ذكر هذه الثلاث الحالات، ويوجد أحاديث أخرى أباحت القتل بسبب صفات وأعمال أخرى، ولكنها تندرج تحت قتل النفس، أو تحت (التارك لدينه، المفارق للجماعة)، وجاءت أحاديث تجيز القتل بسبب شرب الخمر والسرقة، ولكنها -كما قيل- إما ضعيفة، وإما منسوخة، مثل حديث: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب في الرابعة فاقتلوه) ، ولكن ثبت أن رجلاً شرب الأولى وجلد، ثم الثانية، وجلد، ثم الثالثة وجلد، ثم الرابعة فجلد، فقال الصحابة رضي الله عنهم: فعلمنا أن الحد قد وقع، وأن القتل قد رفع.

الدماء والأموال والأعراض أعلن النبي صلى الله عليه وسلم تحريمها يوم الحج الأكبر، حينما خطب الناس بعرفات أو بمنى يوم العيد فقال: (أيها الناس! أي يوم هذا؟ قالوا: فسكتنا، حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس هو يوم الحج الأكبر؟ قالوا: بلى، قال: أي شهر هذا؟ قالوا: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس شهر ذي الحجة؟ قلنا: بلى، قال: أي بلد هذا؟ قالوا: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس البلد الحرام؟ قلنا: بلى، قال: ألا -وهي أداة تنبيه، بعد تلك التساؤلات كلها- إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) ، وهذا الأسلوب من النبي صلى الله عليه وسلم يُبين للمسلمين عظم حرمة الدماء، وعظم حرمة الأعراض، وعظم حرمة الأموال.

وقد بين سبحانه أن من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً؛ لأنه اعتداء على حق الله، الله يبني هذه البنية، ويرزقها، وينشئها في أحسن تقويم، ثم تأتي أنت وتهدمها، لو أنك بنيت خُصاً أو عشة، وجاء أكبر إنسان واعتدى عليها وهدمها؛ لاشتطت غضباً، ولو استطعت قتله فلربما قتلته؛ لأنه هدم عشة بنيتها أنت، فكيف بمن يقتل نفساً خلقها الله في أحسن تقويم؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم في بيان حرمة المسلم: (إن حرمة المسلم عند الله، أعظم من حرمة الكعبة)، والكعبة قد تنقض وتبنى على ما كانت عليه من قبل أو أحسن، ولكن هذه البنية إذا هدمت من الذي سيعيد بناءها؟ لا أحد غير الله، ولهذا كان من عدل الإسلام القصاص، فالعين بالعين، والسن بالسن، والجروح قصاص، ففي الإسلام مساواة الجميع في الدية، فلا يزيد إنسان على إنسان مثله بدرهم واحد؛ لأن الكل سواسية عند الله، قال الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فالمفاضلة دينية، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، وقد أعلنها صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في تلك الخطبة العظيمة التي جمعت أركان وأطراف الإسلام، وبينت الحقوق التي بين الفرد مع أخيه، والزوج مع زوجه، والولد مع أبيه، والحاكم مع المحكوم، وكل أطراف الإسلام جمعت في تلك الخطبة، ولو تأملنا تحريم هذه الثلاث في قوله: (ألا إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام...)؛ لوجدنا اتفاق العالم كله، والديانات كلها، والأمم بأكملها، على أن هذه محرمة عند بني الإنسان، وكما يقول الأصوليون: لا يستقيم نظام أمة في العالم، أياً كان دينها، إلا بحفظ هذه الثلاث، ومعها العقل والدين، وهي: الضرورات الخمس: حفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النفس، وحفظ المال، وحفظ العرض، ويدخل معه النسب، وكل أمة اتفقت على ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم حمل حجاج بيت الله أمانة التبليغ عنه فقال: (ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب) ، فكان على كل حاج في تلك الحجة سمع الخطبة أن يبلغ من وراءه، فيشمل الحديث كل مسلم يأتي في هذا العالم.

ولو أن كل إنسان وقف عند هذه الحدود؛ لما سفك دم ظلماً، ولا انتهك عرض غصباً، ولا اختلس مال، ولا وقع سرق، ولا نهب، ولحفظت الحقوق، وسلم العالم من الظلم والشرور.

كانوا في الجاهلية يستبيحون القتل والسلب، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك وحرمه، وعصمت دماء المسلمين بالإسلام، وهنا قال في هذا الحديث: (لا يحل)، أي: لأي إنسان -كان من كان- أن يستبيح قطرة دم مسلم، ولا أن يستبيح عرض مسلم، ولا أن يستبيح جزءاً من مال مسلم.

قال عليه الصلاة والسلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)، وذكر أول هذه الأسباب الثلاثة: الزنا بعد إحصان، والزنا هو: إتيان الرجل المرأة بغير وجهٍ حلال، وفرق الحلال من الحرام كلمة الله، كما قال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: (استوصوا بالنساء خيراً)، انظروا إلى الأسلوب النبوي الكريم، فمن حكمته وبلاغته يتمدد وينتشر انتشار الأثير في الهواء، قال: (استوصوا)، ولم يقل: أوصيكم بالنساء، فتكون الوصية مؤقتة منه فقط، ولكن قال: استوصوا، أي: ليوصي كل منكم الآخر، فتظل هذه الوصية تعمل، وتتفاعل، وتتكاثر، وتمتد إلى يوم القيامة، (استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عوان تحت أيديكم، استحللتموهن بكلمة الله) وليس بالصداق، إنما الصداق نحلة، كما قال الله: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4] أي: هبة، وهدية، وكرامة من الرجل للمرأة، ولكن إباحة البضع حقاً إنما هو بكلمة الله، فزوجتك قبلت ذلك على كتاب الله وسنة رسوله، فهذا هو الفرق؛ ولهذا يشرع في النكاح أن يعلن ويضرب عليه بالدف، وأمر صلى الله عليه وسلم بإقامة الوليمة؛ ليعلم الجميع بانضمام زوجين معاً، وإقامة لبنة وأسرة في بناء المجتمع الإسلامي، بخلاف الزنا -عياذاً بالله- فيختفي الزاني، ويستتر، ويتهرب.

حكم الزنا بعد الإحصان

ومعنى الزنا بعد إحصان أي: بعد وطء امرأة حرة بعقد نكاح، أما إذا وطء أمة بملك يمين فلا تحصنه، وهذا قول الجمهور، وإذا عقد على امرأة ولم يدخل بها فلا تحصنه، وإذا وقع في زناً قبل زواجه، فلا يحصنه هذا الزنا؛ لأنه باطل لا ينبني عليه حكم صحيح، فإذا تزوج ثم ارتكب تلك الرذيلة -عياذاً بالله- فحينئذٍ يكون عليه الرجم، ويحل دمه بعد أن كان معصوماً، وقد تكلم الفقهاء على جريمة الزنا، وعقوبتها، واتفق الجميع بلا نزاع على أن غير المحصن -وهو البكر- يجلد مائة جلدة، قال سبحانه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، ومن لطائف أسلوب القرآن -كما قال بعض العلماء- أنه في باب الزنا قدم المرأة فقال: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور:2]، وفي باب السرقة قدم السارق فقال: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، قالوا: إن للتقديم أثره كما بين صلى الله عليه وسلم ذلك في أمر الصفا، فالسعي بين الصفا والمروة شوط مكتمل، ولكن من أين نبدأ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ابدءوا بما بدأ الله به)، والله قد بدأ بالصفا، فقال: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ [البقرة:158]، قالوا: إن سبب الزنا أقوى من جانب المرأة؛ لأنها موضع الإغراء، ولو لم يجد الرجل منها ميولاً، أو ليونةً، أو إغراءً، لخاف وابتعد، أما في السرقة فالرجل أقوى؛ لأنه أجرؤ على اقتحام بيوت الناس، وانتهاك الحروز!

لا إشكال عند جميع الناس أن البكر يجلد مائة، وأشكل على بعض الناس الثيب الذي أحصن، والإحصان، هو: الزواج والدخول بالزوجة، وليس بشرط أن تظل معه زوجه، بل لو دخل على زوجه ليلة واحدة، وكان بينهما ما يوجب الصداق، ويوجب العدة، ويلحق الولد، فهذا إحصان بلا نزاع، وعلى هذا؛ لو طلق زوجته، أو ماتت، ثم بعد ذلك وقع في هذه الرذيلة، فإنه يستحق الرجم.

وهل ثبت حد الرجم بالسنة أو بالكتاب؟

بعض العلماء يقول: إنما ثبت بالسنة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية ، ورجم أيضاً غيرهم، وآخرون يقولون: الرجم ثابت بكتاب الله، فقد ثبت أن من القرآن الذي نسخت تلاوته آية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم)، وهذه الآية نسخت لفظاً، وقال ابن عباس : (إن الرجم ثابت في كتاب الله، واستنبطه من قصة اليهوديين اللذين زنيا، فسأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للحبرين منهما: (ماذا عندكم في التوراة؟) فقالا: أحبارنا الأولون غيروا الرجم، وارتضوا بالتفحيم، وتنكيس الزاني على دابة، وغير ذلك من التعزير، فقال: (وماذا في التوراة؟) قالا: فيها الرجم، فأمر صلى الله عليه وسلم برجمهما، وفي بعض الروايات أنه قال: (فأتوا بالتوراة فاتلوها)، فجاءوا بالتوراة، وغطى القارئ بيده على آية الرجم، فقال عبد الله بن سلام ، وكان حاضراً: (ارفع يدك، فلما رفع يده، إذا بآية الرجم تحت يده، فأمر صلى الله عليه وسلم برجمهما، قال ابن عباس : هذا يدل على أن الرجم ثابت في القرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليبين لهم ما كانوا يخفون من الكتاب، كما أخبر الله؛ فمما أخفوه آية الرجم.

وثبت عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه أنه خطب الجمعة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري رحمه الله- فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس! إن الرجم قد أنزل في آية من كتاب الله قرأناها، ثم نسخت، ولولا أن يقول الناس: زاد عمر في القرآن، لكتبتها بيدي، ولقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا معه، فأخشى إن طال الزمان أن يقول أحد: لا يوجد الرجم في كتاب الله.


استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر 3523 استماع
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] 3212 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] 3186 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون 3135 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] 3116 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر 3068 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] 3044 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] 2995 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2] 2891 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] 2877 استماع