شرح الأربعين النووية - الحديث الأول [2]


الحلقة مفرغة

(إنما الأعمال بالنيات أو بالنية) بالإفراد وبالجمع -روايتان- والأعمال تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: أعمال اللسان.

القسم الثاني: أعمال البدن.

القسم الثالث: أعمال القلب.

فأعمال اللسان: النطق من ذكر، وتلاوة، وكلام، وغير ذلك.

وأعمال البدن -الجوارح-: الصلاة من قيام وركوع، والصيام والحج، والجهاد، وغيرها من الأعمال البدنية.

وعمل القلب: ما ينعقد عليه القلب من عقائد كالإخلاص والخوف والرجاء... كما جاء عن بعض السلف، أظنه عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: (كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يخرج عليكم رجل من هذا الفج من أهل الجنة، فخرج رجل معلقاً نعليه في يده، فمضى، ومن الغد قال: يخرج عليكم رجل من هذا الفج من أهل الجنة، فخرج ذاك الرجل الذي خرج بالأمس، ثلاث مرات، قال: فتبعته فقلت: إنه قد وقع بيني وبين أبي ما يكون بين الولد ووالده، وقد أقسمت ألا آتيه ثلاثة أيام، فإن رأيت أن تؤويني هذه الأيام الثلاثة وجزاك الله خيراً، قال: تفضل، وبات عنده لكنه لم ير عنده شيئاً جديداً، فقال: لعله أن يكون اليوم تعب، وفي الليلة الثانية لم ير شيئاً، قال: لعله أن يكون مستحياً، وفي الليلة الثالثة قال له: يا عبد الله! والله لم يكن بيني وبين أبي شيء، ولكني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيك: إنك من أهل الجنة، فطمعت أن يكون عندك عمل خاص، فجئت لأرى ما تعمل، قال: والله يا عبد الله ما هو إلا ما رأيت، فذهب، ثم ناداه وقال: ما هو إلا ما رأيت؛ غير أني أبيت وليس في قلبي غل لأحد، قال: هي هذه، وهي التي لا نطيق) ، كان يبيت كل ليلة صافي القلب، ليس في قلبه غل لأحد، مهما كان من الناس إليه من إساءة، ومهما صدر من الناس نحوه من تقصير فإنه لا يحمل غلاً على أحد.

ولهذا قال العلماء في قوله سبحانه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] التطهير: التنقية، فإنها تطهر الغني والفقير معاً، تطهر الغني من أدران الشح والبخل، ومن أن يمسك ماله عن الفقراء، وتطهر الفقير من أن يحقد أو يحسد الغني على ما أعطاه الله؛ لأنه يأخذ حقه منه، فإذا كان الفقير يأخذ حقه من مال الغني، فلا يحقد عليه، بل يدعو له بالبركة، لكن إذا أمسك الغني ماله ولم يزكه وحرم الفقير، يتمنى أن يذهب الله مال الغني، لأنه ما أعطى حق الله فيه.

فالنية من أعمال القلب، ولهذا يأتي في بحث القصد: أن النية إنما هي القصد إلى العمل، وليس هناك حاجة للتلفظ بها، فيكفي حينما تتوجه إلى القبلة أن ترفع يديك وتقول: الله أكبر! وتستحضر في قلبك ماذا ستصلي من فريضة أو نافلة، وإن كانت فريضة فتستحضر هل هي صلاة العشاء أم المغرب غيرها، وكل هذا محله القلب.

فهذا الحديث كما أشرنا يعتبر أصلاً من أصول الدين، ويدخل في كل باب، وفي كل عمل لفرد من أفراد المسلمين، سواء كان ابتغاء وجه الله أم لغرض دنيوي.

وبحسب ما يقصده العبد بعمله يكون أجره وثوابه، أو نكاله وعقابه، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) إذاً نية القصد قد تكلمنا الكلام عنها.

دخول النية في العبادات وأثرها في صحتها وثوابها

قال الشافعي رحمه الله: هذا الحديث يدخل في سبعين باباً من أبواب الفقه، وقال غيره: لو ألف مائة كتاب لجعلت مقدمة كل باب هذا الحديث، ولو أردت تتبع ذلك لطال بك المقام.

نية التعيين التي يتكلم عنها الفقهاء، مثالها: إذا عممت بدنك بالماء فإن أردت النظافة فلك ما نويت، وإن أردت رفع حدث بأعضائك فلك ما نويت، وكذلك أيضاً إذا كان هناك أمران يقتضيان غسلاً أحدهما واجب والآخر مسنون، فإذا نويت المسنون لم يسقط الواجب، وإذا نويت الواجب سقط المسنون ودخل ضمناً، كمن أصبح يوم الجمعة جنباً فاغتسل ينوي غسل الجنابة، فإنه يدخل غسل الجمعة معه، أما إذا نوى غسل الجمعة فإنه لا ترتفع عنه الجنابة؛ لأنه لم ينوها؛ والأعمال بالنيات.

وفي باب الصلاة أشرنا إلى أن الصلاة نافلة وفريضة، فإذا أراد النافلة لم تندرج تحتها الفريضة بحال، وإذا نوى الفريضة فقد تندرج معها النافلة، فإذا جئت والإمام في الصلاة في صلاة الصبح ونويت الفريضة دخلت تحية المسجد معها، وكذلك إذا أردت سنة الفجر ونويت تحية المسجد معها، دخلت تحية المسجد مع سنة الفجر؛ لأنها أقوى في الطلب، وهكذا النية تحدد وتعين وتبين المطلوب.

وهكذا إذا جئت إلى الصيام، فقد يكون فريضة أو قضاءً أو كفارة، فحسب ما نويت يكون لك ما نويت في صيامك، وإذا جئنا إلى الحج أيضاً، فإذا أخرت طواف الإفاضة ونويت معه طواف الوداع أجزأك ذلك، بل إن الإمام مالكاً يقول عن الذي يأتي متأخراً: قد يحج حجه كله بطواف واحد بالبيت، يعني إذا ضاق عليه الوقت، فإن طاف طواف القدوم فاته الوقوف بعرفات، فيسرع ليدرك الموقف في عرفات ويترك طواف القدوم، فإذا جاء ونزل من عرفات إلى منى، وبقي هناك بعد رمي الجمار أيام التشريق، ثم نزل إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة ويسافر فإنه يطوف طواف الإفاضة فيسقط القدوم تبعاً لأنه بالنسبة إليه قدوم، وهو ركن في الحج وهو طواف الإفاضة، ويجزئه أيضاً عن طواف الوداع.

وهكذا نجد جميع الأعمال فيما يتعلق بالعبادات في تعيينها وفي تصحيحها.

أثر النية في المعاملات

وإذا جئنا إلى المعاملات، وأهم ما يكون في ذلك الأيمان: إذا حلف إنسان على شيء وكان اللفظ يحتمل معنيين فإن ما نواه هو الذي تنعقد عليه اليمين.

ويقولون في باب القضاء، يمينك على ما يصدقك فيه خصمك، فإذا حلفت وكان القسم يحتمل أمرين، فإذا نويت غير ما يريده خصمك، تريد أن تدلس على خصمك، فلا ينفعك هذا التأويل إذا كان الأمر بخلاف ذلك، بل تنعقد عليك اليمين على ما يصدقك الخصم فمثلاً: شخص مظلوم وطولب باليمين، فحلف على نية تخرجه من ظلم الظالم فإنه على نيته، كما ذكروا أن جماعة خرجوا إلى رسول الله فلقيهم خصومهم فأخذوا عدي بن فلان فجاءوا إليهم وقالوا: ليس هذا خصمكم، إنه أخونا. فامتنع القوم أن يحلفوا لهم، فتقدم رجل وحلف إنه أخي فتركه خصومه، فلما أتوا رسول الله وعرضوا عليه الأمر قال: (صدقت! إنه أخوك في الإسلام).

وهكذا كان صلى الله عليه وسلم حينما كان يمر على القبائل في الهجرة، فليقيهما هو وأبو بكر رجال، وخاف أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: من هذا الذي معك يا أبا بكر ؟ -لأنهم يعرفونه، حيث كان تاجراً وعالماً بأنسابهم- فلم يقل: هذا رسول الله؛ لأنه يخاف على النبي عليه الصلاة والسلام، فكان يرد عليهم بقوله: هذا هاد يهديني الطريق. يقصد: إلى الله سبحانه وتعالى.

وهكذا إذا كنت في معاملة مع آخر، وتكلمت بكلمة لها معنيان ويمثل العلماء بما إذا قال لامرأة أو قال عند امرأة: فلانة طالق، ويعني بفلانة ناقة تطلق من عقالها، أو من رباطها، وكان ينوي ذلك، وكان عنده ناقة حقيقة، وهي طالق من العقال، ولم يرد طلاق زوجته، فالرواية عن أحمد رحمه الله أن زوجته لا تطلق لأنه لم ينو طلاقها.

وكذلك يورد العلماء مثالاً: لو أن رجلاً رأى امرأة أجنبية وظنها زوجته وقال: أنتِ طالق يريد الزوجة، فإن هذه لا تطلق لأنها أجنبية، وفي طلاق الزوجة خلاف، والراجح عند أحمد أنها تطلق؛ لأنه نواها بطلاقه.

ويتفق العلماء على أنه لو كان عنده أربع نسوة فقال: إحداكن طالق ولم يعين ولم يسم، أنه يسأل: من أردت بإحداهن؟ فإن عيَّن واحدة طلقت، والنية هي التي خصصت وهي التي حددت.

فكما قال الشافعي عن هذا الحديث: إنه يدخل في أكثر من سبعين باباً من أبواب الفقه، ولو تتبعنا الكلام في هذا لوجدنا جميع ما يعقد من أبواب الفقه يدخل فيه هذا الحديث، وقال العلماء: إنه يدخل بين العادة والعبادة فيصير العادة عبادة.

وقالوا: لو أنه نام للقيلولة ينوي بها التقوي والاستعانة على قيام الليل لكان نومه عباده، وله في ذلك أجر، ولو أنه أكل وشرب ليتقوى على الجهاد في سبيل الله لكان أكله وشربه عبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حينما خرجوا في فتح مكة وكانوا يصومون قال: (إنكم دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم)، فمن أفطر في ذلك اليوم وأكل بنية التقوي بأكله على قتال أعداء الله، فله على هذه النية أجر.

وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أن الذي يرتبط الفرس في سبيل الله -ينوي إعدادها للجهاد في سبيل الله- فما أكلت ورعت ولا استنت شرفاً، ولا شربت من واد؛ إلا كان في ميزانه) .

ترغيب النبي عليه الصلاة والسلام في النية الحسنة والترهيب من ضدها

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (ألا إنما الدنيا لأربعة: رجل أعطاه الله مالاً وعلماً، فعرف حق الله فيه فهو في أعلى عليين، ورجل لم يعطه الله مالاً وأعطاه علماً فقال: لو أن لي من المال ما لفلان لعملت فيه كما يعمل، فهما في الأجر سواء، ورجل أعطاه الله مالاً ولم يعطه علماً، فلم يعرف حق الله فيه فهو في أسفل سافلين، ورجل لم يعطه الله مالاً ولا علماً فقال: لو أن لي مالاً لعملت فيه مثلما يعمل فلان، فهما في الوزر سواء)، فالذي بلغه ماله وعلمه أعلى عليين أدركه صاحب النية الحسنة، وذاك جاهل يعمل في ماله بما لا يرضي الله، وذاك نوى لو كان عنده مال لعمل فيه مثل عمل الذي قبله، فأدركه في أسفل سافلين؛ لا لشيء إلا بالنية، والأخبار في ذلك طويلة.

إذاً: هذا الحديث من أهم الأحاديث التي تدخل في العبادات وفي العادات وفي المعاملات وفي جميع أحوال الناس.

وفي الحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وليس هذا تكراراً للمعنى، بل تقرير لصحتها ومرادها وتوجيهها، أي: كل عمل فهو بنيته.

والجملة الثانية: (وإنما لكل امرئ) امرئ: مذكر، مؤنثها: امرأة، وإذا جاء بلفظ امرئ فإنه يشمل المرأة فتكون داخلة فيه، بخلاف ما إذا عيَّن كقول من قال: (امرؤ القيس) فإنه خاص بشخص معين.

(وإنما لكل امرئ ما نوى): (إنما) أيضاً للحصر، فلا يتعدى عمل العبد ما نواه، ثم فصل صلى الله عليه وسلم فقال: (فمن كانت هجرته).

ذكر الهجرة خاصة مع أن هناك الجهاد وغيره: فمن كان جهاده لله فجهاده لله، ومن كانت صلاته لله فصلاته لله، وكذلك الزكاة، بل كل عمل يندرج تحت الأعمال بالنيات، ولكن نص على الهجرة بخصوصها.

والهجرة أصلها مأخوذ من الهجر، والهجر البعد والافتراق، والهجر مأخوذ من الهجير، والهجير شدة الحر في الظهر، ومنه الهاجرة، وهي شدة الحر، وانتقلت حقيقة اللغة المحسوسة -شدة الحر- إلى الهجرة بمعنى الانتقال إلى الهجران وهو المقاطعة، لأن الناس في وقت الهجير والهاجرة يعتكفون في ظلهم ويتقاطعون عن التواصل مخافة شدة الحر.

قال الشافعي رحمه الله: هذا الحديث يدخل في سبعين باباً من أبواب الفقه، وقال غيره: لو ألف مائة كتاب لجعلت مقدمة كل باب هذا الحديث، ولو أردت تتبع ذلك لطال بك المقام.

نية التعيين التي يتكلم عنها الفقهاء، مثالها: إذا عممت بدنك بالماء فإن أردت النظافة فلك ما نويت، وإن أردت رفع حدث بأعضائك فلك ما نويت، وكذلك أيضاً إذا كان هناك أمران يقتضيان غسلاً أحدهما واجب والآخر مسنون، فإذا نويت المسنون لم يسقط الواجب، وإذا نويت الواجب سقط المسنون ودخل ضمناً، كمن أصبح يوم الجمعة جنباً فاغتسل ينوي غسل الجنابة، فإنه يدخل غسل الجمعة معه، أما إذا نوى غسل الجمعة فإنه لا ترتفع عنه الجنابة؛ لأنه لم ينوها؛ والأعمال بالنيات.

وفي باب الصلاة أشرنا إلى أن الصلاة نافلة وفريضة، فإذا أراد النافلة لم تندرج تحتها الفريضة بحال، وإذا نوى الفريضة فقد تندرج معها النافلة، فإذا جئت والإمام في الصلاة في صلاة الصبح ونويت الفريضة دخلت تحية المسجد معها، وكذلك إذا أردت سنة الفجر ونويت تحية المسجد معها، دخلت تحية المسجد مع سنة الفجر؛ لأنها أقوى في الطلب، وهكذا النية تحدد وتعين وتبين المطلوب.

وهكذا إذا جئت إلى الصيام، فقد يكون فريضة أو قضاءً أو كفارة، فحسب ما نويت يكون لك ما نويت في صيامك، وإذا جئنا إلى الحج أيضاً، فإذا أخرت طواف الإفاضة ونويت معه طواف الوداع أجزأك ذلك، بل إن الإمام مالكاً يقول عن الذي يأتي متأخراً: قد يحج حجه كله بطواف واحد بالبيت، يعني إذا ضاق عليه الوقت، فإن طاف طواف القدوم فاته الوقوف بعرفات، فيسرع ليدرك الموقف في عرفات ويترك طواف القدوم، فإذا جاء ونزل من عرفات إلى منى، وبقي هناك بعد رمي الجمار أيام التشريق، ثم نزل إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة ويسافر فإنه يطوف طواف الإفاضة فيسقط القدوم تبعاً لأنه بالنسبة إليه قدوم، وهو ركن في الحج وهو طواف الإفاضة، ويجزئه أيضاً عن طواف الوداع.

وهكذا نجد جميع الأعمال فيما يتعلق بالعبادات في تعيينها وفي تصحيحها.

وإذا جئنا إلى المعاملات، وأهم ما يكون في ذلك الأيمان: إذا حلف إنسان على شيء وكان اللفظ يحتمل معنيين فإن ما نواه هو الذي تنعقد عليه اليمين.

ويقولون في باب القضاء، يمينك على ما يصدقك فيه خصمك، فإذا حلفت وكان القسم يحتمل أمرين، فإذا نويت غير ما يريده خصمك، تريد أن تدلس على خصمك، فلا ينفعك هذا التأويل إذا كان الأمر بخلاف ذلك، بل تنعقد عليك اليمين على ما يصدقك الخصم فمثلاً: شخص مظلوم وطولب باليمين، فحلف على نية تخرجه من ظلم الظالم فإنه على نيته، كما ذكروا أن جماعة خرجوا إلى رسول الله فلقيهم خصومهم فأخذوا عدي بن فلان فجاءوا إليهم وقالوا: ليس هذا خصمكم، إنه أخونا. فامتنع القوم أن يحلفوا لهم، فتقدم رجل وحلف إنه أخي فتركه خصومه، فلما أتوا رسول الله وعرضوا عليه الأمر قال: (صدقت! إنه أخوك في الإسلام).

وهكذا كان صلى الله عليه وسلم حينما كان يمر على القبائل في الهجرة، فليقيهما هو وأبو بكر رجال، وخاف أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: من هذا الذي معك يا أبا بكر ؟ -لأنهم يعرفونه، حيث كان تاجراً وعالماً بأنسابهم- فلم يقل: هذا رسول الله؛ لأنه يخاف على النبي عليه الصلاة والسلام، فكان يرد عليهم بقوله: هذا هاد يهديني الطريق. يقصد: إلى الله سبحانه وتعالى.

وهكذا إذا كنت في معاملة مع آخر، وتكلمت بكلمة لها معنيان ويمثل العلماء بما إذا قال لامرأة أو قال عند امرأة: فلانة طالق، ويعني بفلانة ناقة تطلق من عقالها، أو من رباطها، وكان ينوي ذلك، وكان عنده ناقة حقيقة، وهي طالق من العقال، ولم يرد طلاق زوجته، فالرواية عن أحمد رحمه الله أن زوجته لا تطلق لأنه لم ينو طلاقها.

وكذلك يورد العلماء مثالاً: لو أن رجلاً رأى امرأة أجنبية وظنها زوجته وقال: أنتِ طالق يريد الزوجة، فإن هذه لا تطلق لأنها أجنبية، وفي طلاق الزوجة خلاف، والراجح عند أحمد أنها تطلق؛ لأنه نواها بطلاقه.

ويتفق العلماء على أنه لو كان عنده أربع نسوة فقال: إحداكن طالق ولم يعين ولم يسم، أنه يسأل: من أردت بإحداهن؟ فإن عيَّن واحدة طلقت، والنية هي التي خصصت وهي التي حددت.

فكما قال الشافعي عن هذا الحديث: إنه يدخل في أكثر من سبعين باباً من أبواب الفقه، ولو تتبعنا الكلام في هذا لوجدنا جميع ما يعقد من أبواب الفقه يدخل فيه هذا الحديث، وقال العلماء: إنه يدخل بين العادة والعبادة فيصير العادة عبادة.

وقالوا: لو أنه نام للقيلولة ينوي بها التقوي والاستعانة على قيام الليل لكان نومه عباده، وله في ذلك أجر، ولو أنه أكل وشرب ليتقوى على الجهاد في سبيل الله لكان أكله وشربه عبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حينما خرجوا في فتح مكة وكانوا يصومون قال: (إنكم دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم)، فمن أفطر في ذلك اليوم وأكل بنية التقوي بأكله على قتال أعداء الله، فله على هذه النية أجر.

وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أن الذي يرتبط الفرس في سبيل الله -ينوي إعدادها للجهاد في سبيل الله- فما أكلت ورعت ولا استنت شرفاً، ولا شربت من واد؛ إلا كان في ميزانه) .

وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (ألا إنما الدنيا لأربعة: رجل أعطاه الله مالاً وعلماً، فعرف حق الله فيه فهو في أعلى عليين، ورجل لم يعطه الله مالاً وأعطاه علماً فقال: لو أن لي من المال ما لفلان لعملت فيه كما يعمل، فهما في الأجر سواء، ورجل أعطاه الله مالاً ولم يعطه علماً، فلم يعرف حق الله فيه فهو في أسفل سافلين، ورجل لم يعطه الله مالاً ولا علماً فقال: لو أن لي مالاً لعملت فيه مثلما يعمل فلان، فهما في الوزر سواء)، فالذي بلغه ماله وعلمه أعلى عليين أدركه صاحب النية الحسنة، وذاك جاهل يعمل في ماله بما لا يرضي الله، وذاك نوى لو كان عنده مال لعمل فيه مثل عمل الذي قبله، فأدركه في أسفل سافلين؛ لا لشيء إلا بالنية، والأخبار في ذلك طويلة.

إذاً: هذا الحديث من أهم الأحاديث التي تدخل في العبادات وفي العادات وفي المعاملات وفي جميع أحوال الناس.

وفي الحديث: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وليس هذا تكراراً للمعنى، بل تقرير لصحتها ومرادها وتوجيهها، أي: كل عمل فهو بنيته.

والجملة الثانية: (وإنما لكل امرئ) امرئ: مذكر، مؤنثها: امرأة، وإذا جاء بلفظ امرئ فإنه يشمل المرأة فتكون داخلة فيه، بخلاف ما إذا عيَّن كقول من قال: (امرؤ القيس) فإنه خاص بشخص معين.

(وإنما لكل امرئ ما نوى): (إنما) أيضاً للحصر، فلا يتعدى عمل العبد ما نواه، ثم فصل صلى الله عليه وسلم فقال: (فمن كانت هجرته).

ذكر الهجرة خاصة مع أن هناك الجهاد وغيره: فمن كان جهاده لله فجهاده لله، ومن كانت صلاته لله فصلاته لله، وكذلك الزكاة، بل كل عمل يندرج تحت الأعمال بالنيات، ولكن نص على الهجرة بخصوصها.

والهجرة أصلها مأخوذ من الهجر، والهجر البعد والافتراق، والهجر مأخوذ من الهجير، والهجير شدة الحر في الظهر، ومنه الهاجرة، وهي شدة الحر، وانتقلت حقيقة اللغة المحسوسة -شدة الحر- إلى الهجرة بمعنى الانتقال إلى الهجران وهو المقاطعة، لأن الناس في وقت الهجير والهاجرة يعتكفون في ظلهم ويتقاطعون عن التواصل مخافة شدة الحر.

وكذلك الهجران: تهجر صديقك، أي: تقاطعه، وفي الحديث: (ولا يحل لامرئ أن يهجر أخاه فوق ثلاث)، والهجرة انتقال وانقطاع عما كان فيه، إلى ما ذهب إليه.

وفي الاصطلاح: انتقال من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، أو انتقال من بلد لا يستطيع المسلم أن يؤدي أحكام دينه فيها، ولا أن يعبد ربه على ما ينبغي إلى بلد آخر يستطيع فيه ذلك.

وقد سبقت الهجرة إلى الحبشة مرتين، وجاءت الهجرة الكبرى إلى المدينة المنورة، وكانت الهجرة إلى المدينة ركناً من أركان الإسلام حتى جاء الفتح، (فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية).

فالهجرة في بادئ الأمر كانت ركناً، حيث كان يجب أن ينتقل الأعراب وأهل القرى المدن من ديارهم إلى المدينة المنورة، ولماذا كانت ركناً؟

لأنها كانت بداية تكون النواة الأولى للدولة الإسلامية التي ستصبح عاصمتها المدينة، لذا كان لزاماً على كل فرد آمن بالله أن يهاجر إليها، لتتكون القاعدة الصلبة لهذه الدولة والتي منها ينطلقون إلى الأمصار، وفيما بعد رجعوا إلى مكة فاتحين، فكانت الهجرة في أول الإسلام واجبة ليتجمع المسلمون ويتحدوا ليفتحوا القرى والأمصار على ما تم ولله الحمد، وأكمل الله سبحانه الدين للأمة.

وبعد أن فتحت مكة طهرت الجزيرة من درن الأصنام، وقضي على دولة الشرك وبقيت البلاد إسلامية من أقصاها لأقصاها، ثم بدأ المسلمون ينطلقون منها إلى ما جاورها.

ثم انطلق خلفاؤه من بعده صلى الله عليه وسلم، فـأبو بكر رضي الله عنه في خلافته تصدى للمرتدين من الأعراب ممن سولت لهم نفوسهم أمراً، حتى استتب الأمر وثبت الناس على دينهم، وبدأت الفتوحات في زمن عمر رضي الله عنه فانطلقت الجيوش وفتحت الأمصار، وفتح الله للمسلمين البلاد شرقاً وغرباً.

فقد كانت الهجرة في أمر الأمر واجبة، ثم بعد ذلك صارت مندوبة، أو صارت بحسب حال الفرد، فمن استطاع أن يؤدي أمور دينه في بلده فليثبت، ومن لم يستطع فليهاجر إلى المكان الذي يستطيع فيه تأدية شعائر دينه.

وأحب أن أنبه أنه في بعض البلاد تحدث مضايقات للدعاة ولشباب الحركات الإسلامية،مما يحدو بالبعض إلى الهجرة، وترك البلاد لما فيها من فساد، أقول:

إذاً: لمن تترك تلك البلاد؟ ومن يقوم بأمر الدعوة فيها إذا تركها الدعاة والصالحون، بل الواجب الصبر، وأن يثبتوا في أماكنهم وأن يدعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، لعلهم أن يدرءوا الشر عن ضعاف المسلمين، أو أن يكونوا ردءاً لضعاف الإيمان فيعلموهم ويبينوا لهم ما ينبغي أن يفعلوه، وما يجب أن يتركوه، ولكن مع مصانعة الأعداء بالحكمة.

ويكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم مكث ثلاث عشرة سنة في مكة وهو يدعو إلى الله والأصنام مثبتة في بناء الكعبة، ويصلي إلى البيت وربما يقع الصنم على ظهره، وهو لم يغير شيئاً، حتى إذا أراد الله النصر وجاء الأوان، وفتحت مكة أخذ يشير إلى الأصنام بقضيب في يده ويقول: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ [الإسراء:81] فتتساقط تلك الأصنام مع أنها مثبتة بالحديد.

الهجرة والتاريخ بها

إذاً: فقد كانت الهجرة أمراً عظيما وهي أعظم حدث في الإسلام، كما بين عمر رضي الله تعالى عنه حينما أراد أن يضع تاريخاً للمسلمين، والأمم متعودة أن تؤرخ بأحداثها العظام، كما أرخ الروم بمولد المسيح، فتفكر عمر رضي الله عنه فما وجد في الإسلام حدثاً أعظم من الهجرة، لأن بها تمكن الإسلام وانتشر في العالم، فجعلها مبدأ تاريخ المسلمين.




استمع المزيد من الشيخ عطية محمد سالم - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأربعين النووية - الحديث الثاني عشر 3518 استماع
الأربعين النووية - الحديث الحادي عشر [2] 3206 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع والعشرون [3] 3179 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الأربعون 3129 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الرابع [1] 3110 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن عشر 3058 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث العاشر [1] 3041 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثامن [1] 2989 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع عشر [2] 2886 استماع
شرح الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون [1] 2871 استماع