معركة الإسلام والعلمانية


الحلقة مفرغة

تقديم الشيخ/ عائض القرني

الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

سلام الله عليكم ورحمته وبركاته

وأسعد الله مساءكم بالمسرات وقد فعل، يوم زارنا شيخ من شيوخ الصحوة، وعالم من علماء البلاد، فمرحباً وأهلاً وسهلا، مرحباً باسم رئيس محاكم منطقة عسير وباسم نائبه، مرحباً باسم العلماء والدعاة، مرحباً باسم القبائل التي أعلنت توحيدها وصمودها في وجه الزندقة، مرحباً باسم الجبال الشامخة شموخ أبنائها في هممهم، والراسية رسوَّ مبادئهم الخالدة، مرحباً يا أبا معاذ، ومرحباً يا مشايخ الرياض، ومرحباً يا مشايخ القصيم، حياك الله يا شيخ سلمان بن فهد العودة، الذي طالما سمعناك وأحببناك وعرفناك، وإذا لم يعبر شعري هذه الليلة مرحباً بشيخنا وأستاذنا، فمتى أدخره؟!

أتاني رسولك مستعجلاً     فلباه شعري الذي أذخرُ

ولو كان يوم وغىً قاتم     للباه سيفي والأشقرُ

أصرِّف نفسي كما أشتهي          وأملكها والقنا أحمرُ

هنا قصيدة بعنوان (وجئت صحبك يا أغلى الرجال):

هذا اللقاء الذي قد كنت أنتظرُ      وهذه ليلة في متنها عبر

وهذه أعين الأحباب قد نظرت     إليك يا من به يستمتع النظر

وجئت صحبك يا أغلى الرجال فيا      أبا معاذ رعاك السمع والبصر

نظمت فيك مُنَاي اليوم أجمعها     يزهو مع ذكرك الياقوت والدرر

بك الجنوب تباهت في مطارفها     والأقحوان على الأغصان يفتخر

والجيل حياك يا سلمان منتشياً     هم الشباب إلى رؤياك قد عبروا

يا أقرب الناس من قلبي مودته     مكتوبة في دمي تجري وتنتشر

محبة رسمت والله سطرها     في موكب أهله سلمان أو عمر

أكارم غرباء أنت تعرفهم     وأنت في ركبهم يا صاحبي قمر

هادي الحوار به الأرواح قد علقت     إذ كان في مقلتيه السحر والحور

أوردتها يا أبا العلياء هادئة      لكنها ثَمَّ لا تبقي ولا تذر

صَلَّت على شفتيك الضاد وارتسمت     على محياك آيُ الذكر والسور

ورافقتك براهين مسددة أمضى      من السيف في هام الأُلى كفروا

ماذا عن القوم يا سلمان ما فعلوا     أعني القصيم لهم في مجدنا خبر

أعني الأباة حماة الدين هل بقيت     أرواحهم في سبيل الله تبتدر

أعني الأشاوس كل الناس تعرفهم      تروي مكارمهم قحطان أو مُضَرُ

هم القوادم والأذناب غيرهم     هم الأبوة والتاريخ والظفر

يا شيخ هذي رجال الأزد قد سعدت     بكم وفي حبكم يا شيخ قد حضروا

الأوس والخزرج الأبطال سالفهم     وهؤلاء بنوهم للسلام سروا

يا شيخ بشر عيون المجد إن نظرت     بفتية في علاها ينسج الخطر

قامت على كعبة التوحيد قبلتها     وفي فم العلمنات الطين والحجر

يا شيخ أول ما نهدي جماجمنا     لا ذاقت العيش والإسلام يعتصر

قل للفروخ دعوا الميدان ويحكُمُ     من قبل أن تكسر العيدان والعشر

يوم يعز به الرحمن ملته     ويدحر الناكث المأفون والأشِرُ

هناك يا شيخ طعم الموت غايتنا     وما لنا عن حياض الموت مقتصر

أولى لمن حارب الإسلام إن عقلوا     من قبل أن تلتقي في رأسه السَّمُرُ

أيها الأحباب! أنا أعرف أن آذانكم تستأذن لتسمع من فضيلة الشيخ، فليتفضل على بركات الله وباسم الله، ليتبوأ مكانه الطبيعي، وليتحدث للقلوب، فأهلاً وسهلاً، واسمعوا لـأبي معاذ.

يقول الشيخ سلمان:

الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله، بعثه الله تعالى على حين فترةٍ من الرسل، وانطماس من السبل، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وجمع به من الفرقة، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، ما تعاقب الليل والنهار.

مشايخي وأساتذتي الكرام! إخواني! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إن المشاعر لتتداخل في نفسي وأنا أقف بين يديكم الآن، فما أدري عم أتحدث، هل أتحدث عن هذه المشاعر الفياضة التي غمرتمونا بها وهذا الكرم الكبير، وهذه الابتسامات الصادقة، وهذه البشاشة المعبرة، أم أتحدث عن هذا الحرص على المشاركة في مثل هذا المجلس الطيب المبارك، خاصة من آبائنا المشايخ والقضاة، الذين يعتبر وجودهم بين أظهرنا الآن إعلاناً عملياً على أن هذه الصحوة الإسلامية صحوة راشدة مباركة موفقة، إن صحوة يكون العلماء في مقدمتها وفي طليعة ركبها لصحوة مضمونة معصومة بإذن الله عز وجل أن تطيش بها السهام أو تتفرق بها السبل.

إخوتي الكرام! وأدع هذا الحديث جانباً، فإنه حديث يطول، وهو حديث ذو شجون، وأنتم أرباب صناعة الكلمة والحرف والشعر، ولذلك فإنني لا أستطيع أن أتقدم بين أيديكم بأكثر من أن أدعو لكم دعوة صادقة حاضرة، فأقول لكم: جزاكم الله خيراً، ثم دعوة أدخرها بظهر الغيب.

أما بعــد:

فإن موضوع حديثنا هذه الليلة معركة الإسلام والعلمانية.

إن المعركة بين الإسلام والعلمانية هي نفسها المعركة بين الإسلام والجاهلية، فإن الجاهلية تتزين بأزياء شتى، وتتصور بصور مختلفة، تتنوع في لافتاتها وأسمائها وعناوينها ورموزها، ولكنها تتفق في حقيقتها، وحقيقتها الشرك بالله عز وجل، فمعركة الإسلام مع العلمانية هي معركة الإسلام مع الشرك والمشركين، وأعداء الأنبياء والمرسلين، منذ بعث الله تعالى أول نبي على ظهر الأرض وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

إنها معركة الإسلام مع الجاهلية، تلك الجاهلية التي إن قاتلت فإنما تقاتل بعصبيتها وحميتها الجاهلية، لا تقاتل من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ [الفتح:26] فهي تدعو إلى حمية الجاهلية، وترفع دعوى الجاهلية، التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: {أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة}.

كل راية غير راية الإسلام راية جاهلية

إن كل راية ترفع غير راية الإسلام هي راية جاهلية، فراية الوطنية التي تقول: تموتون في سبيل التراب وفي سبيل الوطن فقط، هذه ليست راية إسلامية، لأنها ليست مما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال كما في حديث أبي موسى: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} ذلك أن الوطن أصبح في نفوس كثير من علمانيي هذا الزمان وثناً يعبد، حتى قال قائلهم:

وطني لو صوروه لي وثنا     لهممت ألثم ذلك الوثنا

وقال آخر:

ويا وطني لقيتك بعد يأس     كأني قد لقيت بك الشبابا

أُدير إليك قبل البيت وجهي     إذا فهت الشهادة والمتابا

فأي راية ترفع غير راية الإسلام فهي راية جاهلية، فراية الإقليمية، وراية العصبية، وراية القومية، التي تؤمن بالعروبة ديناً ماله ثاني، كلها رايات مرغت بالتراب منذ أن بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فجعله فرقاً بين الناس، والتقى على دعوته الأبيض والأسود، والعربي والعجمي، والقريب والبعيد، والوضيع والشريف، كلهم يقولون: لا إله إلا الله، فيصطفون إخوة لا يفرق بينهم مفرق، على حين نصب الرسول صلى الله عليه وسلم العداوة الصراح البواح لـأبي جهل، وأبي لهب، وأمثالهما من صناديد قريش وزعمائها، على أنهم في الذروة من النسب والمكانة.

العلمانية تريد حكم الجاهلية

هذه العلمانية التي إن حكمت فبحكم الجاهلية قال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] فهي تعتقد أن أمر الناس لا يجتمع ولا يصلح وينضبط إلا بحكم الجاهلية المستورد من شرق البلاد أو غربها، حيث أصبح دعاة العلمانية متسولين على موائد الشرق والغرب، لا يحسنون إلا التقليد، شأن إخوانهم من القرود، فينقلون لهذه الأمة تعاسة الغربيين أو الشرقيين، بحجة التقدم والتطور والمدنية، هذه الجاهلية التي إن دعت إلى التحديث والتطوير، فإنما تدعو إلى التغريب والتخريب والانحلال، باسم حرية الفرد، أو باسم حرية المرأة التي لو أنصفوا لسموها فوضى.

حرية زعموها واسمها لغة      فوضى وسيان جاءوا الحق أم جاروا

إن هذه الحرية لو سموا الأشياء بأسمائها الحقيقية لسموها تبرج الجاهلية الأولى وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33] ولو أنصفوا لسموها نعرة الجاهلية التي لم يكن يحكمها دين ولا خلق ولا نصح.

هذه الجاهلية التي إن درست الاقتصاد درسته على ضوء أنظمة ومفاهيم الجاهلية الأولى، التي أبطلها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته الشهيرة في حجة الوداع، حين كان يستمع إليه ما يربو على مائة وعشرة آلاف من المؤمنين، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: {إن ربا الجاهلية كله موضوع، وأول رباً أضعه ربا العباس بن عبد المطلب} فأصبحت هذه الجاهلية أو العلمانية تحيي ما اندرس من أمر الجاهلية الأولى، وتدرس شئون الاقتصاد على ضوء أنظمة الجاهلية العربية الأولى، وعلى ضوء أنظمة الجاهلية العالمية المعاصرة، فتجعل الربا أساساً لا بد منه في الاقتصاد، وكأن الاقتصاد لا يقوم إلا على الربا!

العلمانية تحلل الأحداث

هذه الجاهلية التي إن حللت الأحداث والأخبار فإنما تحللها وفق ظن الجاهلية وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154] كما أخبر الله تعالى عنهم: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52]، فظنوا أن الإسلام لا تقوم له قائمة، وظنوا أن شوكة الإسلام سوف تكسر، وأن راية التوحيد سوف تنكس، وأن كلمة التوحيد لن ترفع من المنابر والمنائر والمآذن، فإذا بالله عز وجل يخيب ظنهم، فكلما تقدم الزمن ازدادت رقعة الإسلام اتساعاً، ودخل فيه قوم آخرون، وارتفعت أصوات المؤذنين حتى في قلب أوروبا وأمريكا، تنادي في اليوم والليلة خمس مرات: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله!

ظنت أن لا مستقبل للإسلام، وتجاهلت هذا المد الإسلامي الذي يتسع، حتى إننا نجد اليوم تلك الجاهلية المعاصرة تتكلم عن كل القوى وكل الاحتمالات، ولكنها لا تضرب للإسلام حساباً، تحاول أن ترفع شرذمة قليلة من الذين خرجوا عن هذه الأمة، وانسلخوا عنها، وخالفوا حقيقتها وروحها، وخرجوا على دينها وأخلاقها، فتحاول أن تجعلهم في طليعة الركب، وأن تجعلهم أنموذجاً للجيل الجديد المثقف -كما تعبر- وتتجاهل هذه الجموع الهائلة الهادرة المائجة، التي تعلن صبحاً ومساءً أنها لا ترضى إلا الإسلام، ولا تعيش إلا للإسلام وبالإسلام.

إذاً: معركة الإسلام مع العلمانية هي معركة الإسلام مع الجاهلية بكافة صورها وألوانها.

إن كل راية ترفع غير راية الإسلام هي راية جاهلية، فراية الوطنية التي تقول: تموتون في سبيل التراب وفي سبيل الوطن فقط، هذه ليست راية إسلامية، لأنها ليست مما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال كما في حديث أبي موسى: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} ذلك أن الوطن أصبح في نفوس كثير من علمانيي هذا الزمان وثناً يعبد، حتى قال قائلهم:

وطني لو صوروه لي وثنا     لهممت ألثم ذلك الوثنا

وقال آخر:

ويا وطني لقيتك بعد يأس     كأني قد لقيت بك الشبابا

أُدير إليك قبل البيت وجهي     إذا فهت الشهادة والمتابا

فأي راية ترفع غير راية الإسلام فهي راية جاهلية، فراية الإقليمية، وراية العصبية، وراية القومية، التي تؤمن بالعروبة ديناً ماله ثاني، كلها رايات مرغت بالتراب منذ أن بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فجعله فرقاً بين الناس، والتقى على دعوته الأبيض والأسود، والعربي والعجمي، والقريب والبعيد، والوضيع والشريف، كلهم يقولون: لا إله إلا الله، فيصطفون إخوة لا يفرق بينهم مفرق، على حين نصب الرسول صلى الله عليه وسلم العداوة الصراح البواح لـأبي جهل، وأبي لهب، وأمثالهما من صناديد قريش وزعمائها، على أنهم في الذروة من النسب والمكانة.

هذه العلمانية التي إن حكمت فبحكم الجاهلية قال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50] فهي تعتقد أن أمر الناس لا يجتمع ولا يصلح وينضبط إلا بحكم الجاهلية المستورد من شرق البلاد أو غربها، حيث أصبح دعاة العلمانية متسولين على موائد الشرق والغرب، لا يحسنون إلا التقليد، شأن إخوانهم من القرود، فينقلون لهذه الأمة تعاسة الغربيين أو الشرقيين، بحجة التقدم والتطور والمدنية، هذه الجاهلية التي إن دعت إلى التحديث والتطوير، فإنما تدعو إلى التغريب والتخريب والانحلال، باسم حرية الفرد، أو باسم حرية المرأة التي لو أنصفوا لسموها فوضى.

حرية زعموها واسمها لغة      فوضى وسيان جاءوا الحق أم جاروا

إن هذه الحرية لو سموا الأشياء بأسمائها الحقيقية لسموها تبرج الجاهلية الأولى وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [الأحزاب:33] ولو أنصفوا لسموها نعرة الجاهلية التي لم يكن يحكمها دين ولا خلق ولا نصح.

هذه الجاهلية التي إن درست الاقتصاد درسته على ضوء أنظمة ومفاهيم الجاهلية الأولى، التي أبطلها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته الشهيرة في حجة الوداع، حين كان يستمع إليه ما يربو على مائة وعشرة آلاف من المؤمنين، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: {إن ربا الجاهلية كله موضوع، وأول رباً أضعه ربا العباس بن عبد المطلب} فأصبحت هذه الجاهلية أو العلمانية تحيي ما اندرس من أمر الجاهلية الأولى، وتدرس شئون الاقتصاد على ضوء أنظمة الجاهلية العربية الأولى، وعلى ضوء أنظمة الجاهلية العالمية المعاصرة، فتجعل الربا أساساً لا بد منه في الاقتصاد، وكأن الاقتصاد لا يقوم إلا على الربا!

هذه الجاهلية التي إن حللت الأحداث والأخبار فإنما تحللها وفق ظن الجاهلية وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ [آل عمران:154] كما أخبر الله تعالى عنهم: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52]، فظنوا أن الإسلام لا تقوم له قائمة، وظنوا أن شوكة الإسلام سوف تكسر، وأن راية التوحيد سوف تنكس، وأن كلمة التوحيد لن ترفع من المنابر والمنائر والمآذن، فإذا بالله عز وجل يخيب ظنهم، فكلما تقدم الزمن ازدادت رقعة الإسلام اتساعاً، ودخل فيه قوم آخرون، وارتفعت أصوات المؤذنين حتى في قلب أوروبا وأمريكا، تنادي في اليوم والليلة خمس مرات: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله!

ظنت أن لا مستقبل للإسلام، وتجاهلت هذا المد الإسلامي الذي يتسع، حتى إننا نجد اليوم تلك الجاهلية المعاصرة تتكلم عن كل القوى وكل الاحتمالات، ولكنها لا تضرب للإسلام حساباً، تحاول أن ترفع شرذمة قليلة من الذين خرجوا عن هذه الأمة، وانسلخوا عنها، وخالفوا حقيقتها وروحها، وخرجوا على دينها وأخلاقها، فتحاول أن تجعلهم في طليعة الركب، وأن تجعلهم أنموذجاً للجيل الجديد المثقف -كما تعبر- وتتجاهل هذه الجموع الهائلة الهادرة المائجة، التي تعلن صبحاً ومساءً أنها لا ترضى إلا الإسلام، ولا تعيش إلا للإسلام وبالإسلام.

إذاً: معركة الإسلام مع العلمانية هي معركة الإسلام مع الجاهلية بكافة صورها وألوانها.

إخوتي الكرام: الخلاف بين الإسلام وبين العلمانية خلاف جوهري، لأنه خلاف بين التوحيد والشرك كما ذكرت لكم، ولذلك فإن الكلمة التي رددها المشركون والنصارى وغيرهم حين كانوا يقولون: (ما لـقيصر لقيصر، وما لله لله) هي التي فعلها المشركون الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم حين كانوا يقولون كما أخبر الله تعالى عنهم: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا [الأنعام:136] وقال: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً [الزخرف:15] وقال: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ [النحل:62].

إن هذه الجاهلية المعاصرة هي نفسها الجاهلية الأولى، فهي تنادي أن يكون المسجد لله، والمحراب لله، وما عدا ذلك يكون لـقيصر، تنادي أن تكون المدرسة لـقيصر، وأن يكون المنبر الإعلامي لـقيصر، وأن يكون المصرف لـقيصر، وأن يكون السوق لقيصر، وأن تكون الراية، وكل شيء لغير الله عز وجل، فهي تنادي بحصر الإسلام في زاوية، أو مسجد، أو معبد، أما ما سوى ذلك، فهي تطالب أن يحكم ويدار بغير شريعة الله عز وجل وهذا هو الشرك بعينه.

إذاً: فالتناقض بين هذا المعنى وبين المعنى الحقيقي للإسلام، لكلمة التوحيد التي نرددها صباح مساء، هو تناقض صارخ وصريح.

كيف يمكن أن نوفق بين هذا المعنى الجاهلي الصريح، وبين قوله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163] كيف نوفق بين هذا وهذا؟!

كيف نوفق بينها وبين كلمة لا إله إلا الله، التي تعني أن العبادة بجميع صورها وأشكالها وأنواعها لا تصرف إلا لله عز وجل، وأن كل عبادة تصرف لغيره هي عبادة باطلة، مردودة على صاحبها!! وهي شرك بالله عز وجل.

العلمانية هي الشرك بالله

إذاً: العلمانية الحقيقية هي الشرك بالله تعالى، الشرك الذي يريد أن يكون المسجد لله، والمسجد للعبادة فقط، للصلاة فقط، أما ما سوى ذلك فهي تنادي أن يكون لغير الله، أن يكون للشيطان، أو كما تقول الكلمة النصرانية: أن يكون لـقيصر.

كيف يستطيع مسلم -يتردد على المسجد ويصلي في المسجد- أن يفهم ذلك؟!

والمسجد في حسه ليس كنيسة تقع فيها بعض الطقوس ثم يخرج منها، بل المسجد في حسه منبر إعلامي، يجلس المسلمون في كل جمعة، وفي أوقات أخرى، ليستمعوا من خطيب المسجد، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خلفاؤه من بعده يخطبون على هذا المنبر، فيستمع الناس إلى توجيهات الإسلام وحكمه، وما يتعلق به في جميع شئون الحياة.

كيف يستطيع المسلم الذي يتردد على المسجد أن يقبل بـالعلمانية وهو يعلم أن المسجد مؤسسة تعليمية تلقى فيها الدروس، ويسمع فيها كلام الله عز وجل وتلقى فيها السنة، ويتحدث فيها عن الحلال والحرام؟! كيف يستطيع أن يفهم ذلك وهو يدرك أن المسجد مجلس للشورى يلتقي فيه المسلمون، كما كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإلى يوم الناس هذا، فيتبادلون أطراف الحديث، ويتشاورون في كل ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم؟!

كيف يستطيع أن يفهم ذلك والمسجد في حسه ليس معبداً للطقوس فقط، بل هو مؤسسة أمنية، ومؤسسة اجتماعية، ومؤسسة صحية، ومنطلق للحياة كلها؟!

لا للعلمانية في بلاد الإسلام

أيها الإخوة: لا مكان للعلمانية في بلاد الإسلام، ولا مكان للعلمانية في هذه البلاد خاصة، وذلك لسببين:

أولهما: أن الإسلام دين شرعه الله عز وجل، وأنـزله مهيمناً على الحياة كلها، مهيمناً على الأديان السابقة، ومهيمناً على جميع شئون الحياة، فإن المسلم العادي البسيط المغفل يدرك أن الإسلام فيه تفصيل لكل شيء، وبيان لكل شيء، وأنه يستحيل في حس المسلم أن الدين الذي نظم العلاقة بين الرجل وزوجته، والذي نظم للإنسان كيف ينام، ونظم للإنسان كيف يكون في حال قضاء الحاجة، لا يمكن أن يترك إدارة الأمور الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، وغيرها لغير الله عز وجل مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] وَنـزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] فهذه القضية غير قابلة للمناقشة، أن الدين الخاتم هو الدين المهيمن على الأديان كلها وعلى الحياة كلها، ومن ثم ففي بلاد الإسلام وبين المسلمين لا مكان للعلمانية.

لم يعرف الإسلام تعاسة أوروبا

وثمة أمر آخر ناتج عن الأمر الأول وتبع له، وهو أن التاريخ الإسلامي كله لم يعرف تلك التعاسة التي عاشتها أوروبا، لقد عاشت أوروبا بسبب دينها المحرف المبدل، انفصاماً رهيباً بين العلم والدين، فكان الدين يحارب العلم، حتى إن كثيراً من علماء أوروبا قد أحرقوا بالأفران، وسملت أعينهم، وعلقوا على أعواد المشانق، بحجة أنهم خالفوا كلمة الله، وكذلك لم يعرف التاريخ الإسلامي مثل هذا، فإن الإسلام فتح للعلم أبوابه وذراعيه، حتى وجدنا العلماء يترددون على بلاط الخلفاء، ويحضرون مجالسهم، ويحظون بهباتهم وأعطياتهم.

لم يجد المسلمون في تاريخهم الطويل اضطهاداً للعلم ولا تضييقاً عليه بأي حال من الأحوال، لم يعرف المسلمون محاكم التفتيش التي عاشتها أوروبا، ولم يعرف المسلمون طغيان الكنيسة التي كانت تأخذ الأموال الهائلة الطائلة من الناس باسم الدين، ولم يعرفوا استبدادها وطغيانها المادي ولا السياسي ولا غيره، فالتاريخ الإسلامي هو تاريخ التلاحم بين الدين الذي كان أول ما نـزل منه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] وبين العلم الذي هو ثمرة من ثمرات التمسك بهذا الدين، واستجابة لأمر الله عز وجل بالعلم والتعلم والقراءة، لذلك فإن الذين يريدون نقل العلمانية إلى بلاد المسلمين يتجاهلون هذا الفرق الكبير بين تاريخ الإسلام ودين الإسلام وبين تاريخ أوروبا ودين أوروبا.

إذاً: العلمانية الحقيقية هي الشرك بالله تعالى، الشرك الذي يريد أن يكون المسجد لله، والمسجد للعبادة فقط، للصلاة فقط، أما ما سوى ذلك فهي تنادي أن يكون لغير الله، أن يكون للشيطان، أو كما تقول الكلمة النصرانية: أن يكون لـقيصر.

كيف يستطيع مسلم -يتردد على المسجد ويصلي في المسجد- أن يفهم ذلك؟!

والمسجد في حسه ليس كنيسة تقع فيها بعض الطقوس ثم يخرج منها، بل المسجد في حسه منبر إعلامي، يجلس المسلمون في كل جمعة، وفي أوقات أخرى، ليستمعوا من خطيب المسجد، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خلفاؤه من بعده يخطبون على هذا المنبر، فيستمع الناس إلى توجيهات الإسلام وحكمه، وما يتعلق به في جميع شئون الحياة.

كيف يستطيع المسلم الذي يتردد على المسجد أن يقبل بـالعلمانية وهو يعلم أن المسجد مؤسسة تعليمية تلقى فيها الدروس، ويسمع فيها كلام الله عز وجل وتلقى فيها السنة، ويتحدث فيها عن الحلال والحرام؟! كيف يستطيع أن يفهم ذلك وهو يدرك أن المسجد مجلس للشورى يلتقي فيه المسلمون، كما كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإلى يوم الناس هذا، فيتبادلون أطراف الحديث، ويتشاورون في كل ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم؟!

كيف يستطيع أن يفهم ذلك والمسجد في حسه ليس معبداً للطقوس فقط، بل هو مؤسسة أمنية، ومؤسسة اجتماعية، ومؤسسة صحية، ومنطلق للحياة كلها؟!

أيها الإخوة: لا مكان للعلمانية في بلاد الإسلام، ولا مكان للعلمانية في هذه البلاد خاصة، وذلك لسببين:

أولهما: أن الإسلام دين شرعه الله عز وجل، وأنـزله مهيمناً على الحياة كلها، مهيمناً على الأديان السابقة، ومهيمناً على جميع شئون الحياة، فإن المسلم العادي البسيط المغفل يدرك أن الإسلام فيه تفصيل لكل شيء، وبيان لكل شيء، وأنه يستحيل في حس المسلم أن الدين الذي نظم العلاقة بين الرجل وزوجته، والذي نظم للإنسان كيف ينام، ونظم للإنسان كيف يكون في حال قضاء الحاجة، لا يمكن أن يترك إدارة الأمور الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، وغيرها لغير الله عز وجل مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] وَنـزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] فهذه القضية غير قابلة للمناقشة، أن الدين الخاتم هو الدين المهيمن على الأديان كلها وعلى الحياة كلها، ومن ثم ففي بلاد الإسلام وبين المسلمين لا مكان للعلمانية.

وثمة أمر آخر ناتج عن الأمر الأول وتبع له، وهو أن التاريخ الإسلامي كله لم يعرف تلك التعاسة التي عاشتها أوروبا، لقد عاشت أوروبا بسبب دينها المحرف المبدل، انفصاماً رهيباً بين العلم والدين، فكان الدين يحارب العلم، حتى إن كثيراً من علماء أوروبا قد أحرقوا بالأفران، وسملت أعينهم، وعلقوا على أعواد المشانق، بحجة أنهم خالفوا كلمة الله، وكذلك لم يعرف التاريخ الإسلامي مثل هذا، فإن الإسلام فتح للعلم أبوابه وذراعيه، حتى وجدنا العلماء يترددون على بلاط الخلفاء، ويحضرون مجالسهم، ويحظون بهباتهم وأعطياتهم.

لم يجد المسلمون في تاريخهم الطويل اضطهاداً للعلم ولا تضييقاً عليه بأي حال من الأحوال، لم يعرف المسلمون محاكم التفتيش التي عاشتها أوروبا، ولم يعرف المسلمون طغيان الكنيسة التي كانت تأخذ الأموال الهائلة الطائلة من الناس باسم الدين، ولم يعرفوا استبدادها وطغيانها المادي ولا السياسي ولا غيره، فالتاريخ الإسلامي هو تاريخ التلاحم بين الدين الذي كان أول ما نـزل منه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] وبين العلم الذي هو ثمرة من ثمرات التمسك بهذا الدين، واستجابة لأمر الله عز وجل بالعلم والتعلم والقراءة، لذلك فإن الذين يريدون نقل العلمانية إلى بلاد المسلمين يتجاهلون هذا الفرق الكبير بين تاريخ الإسلام ودين الإسلام وبين تاريخ أوروبا ودين أوروبا.

سؤال يطرح نفسه: كيف تسللت العلمانية إلى بلاد المسلمين؟

وأتبع هذا السؤال بسؤال آخر: كم من بلد إسلامي سقط في أيدي الكفار؟

لقد سقطت ولا شك قلاع كبيرة من قلاع المسلمين بأيدي الكفرة من النصارى أو اليهود أو المشركين، سقطت الأندلس وقد كانت جنة للمسلمين، وسقطت فلسطين، وسقطت أفغانستان، سقطت بلاد كثيرة، وسقطت بلاد أخرى في أيدي الشيوعيين، لكن هذه البلاد تبقى محدودة معلومة، لكن حين نسأل: كم من بلد إسلامي سقط في أيدي المنافقين وفي أيدي العلمانيين؟

فإن هذا مما لا يأتي عليه الحصر، بل إن كثيراً من البلاد الإسلامية هي التي سقطت في أيدي المنافقين، وليس في أيدي الكفار، وذلك لأن المنافقين يعرفون كيف يحكمون القبضة، ويعرفون كيف يتسللون في الظلام، حيث يعمدون إلى مواقع التأثير حتى يؤثروا في البلاد الإسلامية، ويمسخوا تلك البلاد، وهذا يؤكد خطورة النفاق والمنافقين، حيث يجيدون السباحة في كل بحر، يجيدون العوم في كل بحر، ويلبسون أكثر من ثوب، ويتكلمون بأكثر من لغة، ويمثلون أكثر من دور، ويتقمصون أكثر من شخصية!

له ألف وجهٍ بعد ما ضاع وجهه     فلم تدر فيها أي وجه تصدِّقُ

هذا شأن العلماني، قلب متقلب، ومن ثم فإنه يجب كشفهم وتعريتهم، قال الله عز وجل: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].

تأثير الصراع بين الإسلام والنصارى

لعل من أوائل الدول التي سقطت في أيدي العلمانيين تركيا، التي كانت في يوم من الأيام مركزاً للحكم، وكان المسلمون يذعنون لحكمها في بلاد الأرض، فسقطت تركيا في أيدي العلمانيين، كيف سقطت؟

سقطت نتيجة الكفاح كما يقال أولاً بين الهلال والصليب، وهذا تعبير من النصارى يعبرون به عن الصراع بين الإسلام والنصرانية، يقول رئيس الإرساليات التنصيرية الألمانية: إن ثمار الكفاح بين الصليب والهلال لا تؤتي أكلها في البلاد البعيدة ولا في مستعمراتنا في آسيا وأفريقيا، بل ستكون في المراكز التي يستمد الإسلام منها قوته، وينتشر وينبثق منها، سواء كانت في أفريقيا أو في آسيا، وبما أن الشعوب الإسلامية التي نواجهها تولي وجهها نحو الأستانة وهي يومئذٍ عاصمة تركيا وعاصمة الخلافة- فإن المجهودات التي نأتي بها لا تأتي بفائدة إذا لم نتوصل إلى قضاء رغباتنا في مركز الخلافة وعاصمة المسلمين، هكذا يقول، ولذلك عمل النصارى بالتعاون مع إخوانهم اليهود على إسقاط الخلافة العثمانية، فاندس فيها أمثال مدحت باشا وهو يهودي، كان له دور كبير في الخلافة العثمانية، حتى إنه ساهم أحياناً في إسقاط خليفة ونصب خليفة آخر والمصادقية على الدستور، وكان ينادي بإتاحة الحريات وتبين فيما بعد كما قال السلطان عبد الحميد قال: تبين أنه كان ينادي بالحريات له ولقومه من اليهود ولحزبه وطائفته، ولا ينادي بالحريات الحقيقية للناس كلهم أجمعين، ولذلك كان اليهود يتربصون سقوط الخلافة حتى ينفذوا مخططاتهم في فلسطين، حتى أنهم أعلنوا الإسلام كما هو معروف في يهود الدونمة، وتغلغلوا في الخلافة بالطريقة التي سوف أتحدث عنها الآن.

مدحت باشا هذا هو يهودي، كان الغربيون يسمونه في أوروبا أبا الحرية، لماذا؟

لأنه كان ينادي بالحرية، ويطالب بالمصادقة على ما يسمونه بالدستور، الذي يضمن حقوق الأقليات، يضمن حقوق اليهود في التمتع بحرياتهم كما يشاءون، داخل ستار وراية الدولة العثمانية.

صناعة الأبطال وتلميعهم

لقد صنع اليهود الأبطال كما فعلوا بـكمال أتاتورك، الذي صنعوا بطلاً منه أجوف منفوخاً، وجعلوه يخوض معركة مع اليونان يخرج منها ظافراً منتصراً، حتى يلمعوه ليقوم بالدور المطلوب منه، في تقويض بناء الإسلام وإحلال العلمانية بدلاً منه.

ثم خطوا خطوة أخرى حين نصبوه، وأعلنوا إلغاء ما يسموه بالخلافة يومئذٍ، فأفلحوا بذلك في عزل تركيا عن العالم الإسلامي، وأصبح العالم الإسلامي من أقصاه إلى أدناه لا يبالي ماذا يجري في تركيا، بالأمس كان الحدث الذي يقع في اسطنبول يقلق كل مسلم في أقصى الأرض، لأنه يحس أنه حدث يتعلق بجزء من الأمة، وكان كثير من المسلمين مرتبطين مع هذه الخلافة، على رغم ما كان فيها من انحرافات عقدية، وسياسية، واقتصادية، وغير ذلك مما هذا ليس مجال بيانه، لكن المقصود أن جماهير غفيرة من المسلمين كانت حقيقة مرتبطة ارتباطاً عاطفياً بذلك الرمز، فلما أسقطوها انفض المسلمون من حولها، وأصبح الأمر الذي يجري في تلك البلاد، إنما يهم أهل تلك البلاد ولا يهم المسلمين في قليل ولا كثير، وهكذا يصنعون دائماً وأبداً، يحاولون أن يعزلوا بلاد الإسلام بعضها عن بعض، حتى إذا أصيب هذا البلد لم يحزن له أحد، ولم يتأثر لمصيبته أحد، ولم يقم له أحد لأنهم قد أفلحوا في إلهاء كل واحد بنفسه، وإشعار المسلمين بأنه ليس ثمة رابطة، ضاع من المسلمين ذلك المعنى الذي يقول:

ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً     الشام فيه ووادي النيل سيان

وحيثما ذكر اسم الله في بلد     عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني

بـالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا     بـالرقمتين وبـالفسطاط جيراني

ولي بـطيبة أوطار مجنحة     تسمو بروحي فوق العالم الفاني

دنيا بناها لنا الهادي فأحكمها     أكرم بأحمد من هادٍ ومن باني

ضاع هذا المعنى، وأصبح المسلم يبغض أخاه المسلم، ويحقد عليه، بل ويتمنى أن تنـزل به النوازل، كل بلد لا يعبأ ولا يأبه بما يصيب بلاد المسلمين الأخرى، بل أكثر من ذلك أنهم استغلوا هذا لتأجيج العداوات وتعميقها، وتوسيع هوتها بين المسلمين، فربما عملوا على نشر كل أمر من شأنه أن يجعل المسلم في تركيا يبغض المسلم في أي مكان، ويحس أنه عدو له، ويكيد له، وهكذا المسلم في هذه البلاد، قد يجد الشعور نفسه نحو المسلم في تلك البلاد، وما ذلك إلا تمهيداً لعزل المسلمين، لأن مواجهة المسلمين كأمة كاملة من الأمور الصعبة عليهم، ولكن كما قيل:

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً     وإذا افترقن تكسرت آحاداً

لقد كان من أعظم الأعمال التي قام بها مصطفى أتاتورك أنه اضطهد العلماء وقتلهم، وزج بهم في غياهب السجون، بل وعلق جثثهم على الأشجار في الشوارع، وطمس معالم الدين كلها، حتى منع الأذان، ومنع التعليم باللغة العربية، ومنع أي لباس يدل على الانتماء والانتساب للإسلام، وفرض على الناس اللباس الأوروبي الغربي، وفرض عليهم لغة مختلفة، وحاول أن يمسخ الناس، وأن يصبغهم بصبغة قومية جديدة.