خاتمة شرح زاد المستقنع وصايا لطلاب العلم


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذه أمور مهمة أحب أن أوصي بها طلبة العلم.

الشعور بالمسئولية أمام العلم

أحب أن أوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل، وهذه الوصية كثير قائلها قليل من يعمل بها، وهي التي جمعت خير الدين والدنيا والآخرة، ومن وصى غيره بتقوى الله فقد جمع له الإسلام كله، فأوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل.

ثم هناك أمر ينبغي التنبيه عليه بالنسبة لطلاب العلم الذين حضروا هذه الدروس وأتموا قراءة هذا الكتاب: كل طالب علم وفقه الله عز وجل لقراءة كتاب كامل على شيخه فينبغي عليه أن ينتبه للضوابط الشرعية التي يلزم بالتقيد بها، وكل من ابتلي بهذا العلم فعليه أن يدرك حقيقة لا شك فيها ولا مرية: أن هذا العلم سلاح ذو حدين، فوالله الذي لا إله غيره ولا رب سواه أن هذا العلم إما أن يرفع صاحبه إلى خير وبر ورحمة في الدين والدنيا والآخرة لم تخطر له على بال، وإما أن يمحق له بركة دينه ودنياه وآخرته، فيصبح من أشقى العباد -نسأل الله السلامة والعافية- فليس بين العلم تردد، فإما إلى العلا وإما إلى الحضيض، ومن تعلم العلم لغير الله مكر الله به، ومن تعلم العلم ولم يعرف ماذا يراد بهذا العلم، وماذا يراد منه؛ فقد ذبح بغير السكين، وسيورد نفسه الموارد، فكل طالب علم عليه أن يستشعر المسئولية تجاه ما تعلمه.

ومن حيث الأصل نحن ملزمون بقراءة هذا المتن، وبشرح الكلمة ومعرفة معناها، وذكر المثال والحكم المستنبط منه، ثم ذكر الأمثلة والدليل على الحكم، هذا هو الأصل الذي ينبغي في قراءة الجملة الفقهية، أما الخلافات والردود والمناقشات، فهذه ليس ملزماً بها طالب العلم، ولسنا ملزمين بالخوض فيها، ولكن لوجود الحاجة وكثرة الاعتراضات والأقوال المخالفة مما قد يشكل على طلاب العلم احتجنا إلى هذا البيان، ولوجود نوعية من طلاب العلم تريد التوسع، إذاً الأصل أنك ملزم بالرجوع لهذا الكتاب.

تلخيص ما فهم من كل كتاب

وأوصي طلاب العلم الذين قرءوا هذا الكتاب أن يرجعوا إلى أوله، ويكتبوا معنى كل عبارة وحكمها ودليلها، وذكر أمثلة قديمة أو حديثة حتى تلم به، وهذا ما يسمى: اختصار الشرح، وأما الخلافات والردود والمناقشات والتوسعات فتترك جانباً؛ لأن طالب العلم لا ينبغي له أن يتناول هذه الخلافات إلا بعد التأهل وضبط العلم، وبعد وجود الحاجة، فتبدأ -رحمك الله- بمراجعته بهذه الطريقة، فالذين أتموا حضور الكتاب أوصيهم إذا تيسر للإنسان أن يراجع في خاصة نفسه؛ فهذا من أقوى وأفضل ما يكون لطالب العلم، أن يعتمد على الله ثم على نفسه بعيداً عن الرياء والانشغال بالناس، ويكيف نفسه ووقته قدر ما يستطيع.

ففي هذه الحالة إذا كنت تريد أن تضبط بالمراجعة فهناك محاذير منها: كثرة السآمة والملل، وتسلط عدو الله إبليس الرجيم بالوسوسة والتثبيط عن هذا العلم؛ فوالله إنك في جنة الدنيا قبل جنة الآخرة، والله إن هذه الجنة قد حفت بالمكاره التي لم تخطر لك على بال، وليأتينك عدو الله من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك في كل صغير وكبير ما لم يتداركك الله برحمته، فتلجأ إلى الله سبحانه وتعالى إن استطعت أن تختار أفضل الأوقات لهذا العلم؛ لأنه أشرف شيء، وتستشعر عندما تقوم بك الهمة أنك مسئول أمام الله سبحانه وتعالى، فكل من حضر شرحاً أو بين له حكم؛ فإن العالم أو من شرح أو من علم قد أعذر إلى الله، ونقل الأمانة منه إلى غيره، وحينئذ لما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة أشهد الله عليهم، فكل من حضر وسمع المسألة بدليلها فقد برئت ذمة العالم وأعذر إلى ربه، والأمل في الله ثم فيكم، وكل طالب علم إذا استشعر أنه مسئول أمام هذه الأحكام شحذت همته، وقويت عزيمته، وأصبح يشعر أن كل مسألة أمانة في رقبته أمام أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأما أن يخيب ظن مشايخه وعلمائه ومن تعب وجد في تعليمه فلا، نسأل الله أن لا يخيب ظننا ولا ظنهم.

ففي هذه الحالة إذا استشعر أنه مسئول أمام الله عز وجل راجع العلم، وستجد نوعاً من السآمة والملل والتثبيط، ولكن والله ما إن تصبر إلا ويفتح الله عليك من واسع رحماته، وكلما عظمت المشاغل والضيق والسآمة والملل كلما عظم فتح الله عليك، فيا هذا! انتبه لنفسك واحرص على وقتك، إذا كنت تريد أن تراجع لوحدك فالأمر يحتاج إلى عزم، ومن أفضل الأشياء التي تعين على الصبر على العلم وقوة النفس على العلم: قيام الليل، فتستعين بالله عز وجل عند قيام الليل أن يعينك على مراجعة هذا العلم، وعلى ضبطه وإتقانه في الدعاء والصلاة.

شكر الله على نعمة العلم

ومما يحتاجه طالب العلم: استشعار عظيم ما يدخره الله فيكمل الفضل.. إن أنت أتقنت تذكر أن الله سبحانه وتعالى اختارك واصطفاك، وقد كنا والله في طلب العلم لا نزال نحس بنعمة الله عز وجل علينا في قلوبنا، ونقول: سبحان الله! كيف أن الله اختارني أجلس بين يدي الوالد رحمة الله عليه وبين يدي كل من يبث لي درراً من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقول: يا رب! لك الحمد أن اخترتني، وما مرت علي حلقة عالم ولا سمعت عالماً يذكر حديثاً أو حكماًمن كتاب الله أو سنة إلا قلت: الحمد لله أن شرفني الله أن أنقل هذا العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)، فإذا وفقك الله ويسر لك هذه الرحمة فاستشعر عظيم نعمة الله عز وجل عليك.

ومن استشعار المسئولية: ترتيب الوقت وتنظيمه، ومن العلم الذي سيعان صاحبه أن يكون في كل لحظة مستشعراً أنه مسئول عن هذا العلم، والله إن من طلاب العلم من كان ينشغل بحقوق أهله وإخوانه والناس وهو يفكر في مسائل علم وينقل ويفعل… حتى المصالح الدنيوية تكون عنده وهو يذاكر مسائل العلم في عقله؛ هذه هي الهمة العالية في الطلب، فكن ذلك رحمك الله، وهذا كله بتوفيق الله.

اختيار طالب علم لمراجعة الدروس

واجتهد ما تستطيع في اختيار طالب علم تذاكر معه في هذه الحالة، وأوصي بطلاب العلم الصادقين، وهنا وقفة:

ينبغي على اللاحق أن يعترف بفضل السابق، ووالله لا بركة لطالب العلم إلا أن يحفظ حق إخوانه، فإذا تتلمذ على شيخ يعرف أن هناك من سبقه، وأن السابق له حق وحرمة، فيحترمه ويقدره، ويرجع إليه إذا مرت عليه مسألة ما قرأها، ويعرف أن فلاناً ربما قرأها وهو أعلم بها، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم ينصحون بالتابعين، فيقول له: اذهب إلى فلان، وعائشة رضي الله عنها تقول: (سل عبد الله بن عمر)؛ لأنه كان أعلم، وكانوا يسألون أمهات المؤمنين. وهذا من النصيحة، والدين النصيحة.

وهنا ننبه: أن الأفضل أن يجتمع الإنسان بالأكثر، وهذا يختلف إذا ما كان عندك نوعية جدية ممتازة، ثلاثة أو أربعة أو خمسة، لكن في حدود الخمسة أحسن، إذا كانت منضبطة في نفس يوم الدرس، فبدلاً من أن تحضر الدرس يمكن أن تحدد الوقت الذي يناسب للمراجعة، ثم كل منكم يتقي الله في أخيه، إن وجده مجداً شحذ همته وثبته، وإن وجده متقاعساً قواه، وإذا وجد أنه لا يصلح لهذا تخلى عنه، لكن بعد أن يعذر منه، فإن هذا العلم لا ينبغي أن يؤتمن عليه الكسول ولا الخمول، بل ينبغي أن يختار له أفضل وأحسن الناس جداً واجتهاداً واستشعاراً بالمسئولية، فإذا رأيتم الخمول، والكسلان غداً سيتعلم العلم ثم يقعد في بيته إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5].

فهذا العلم لا ينال إلا بالجد والاجتهاد، من يريد أن يسابق ويتغرب.. من يحمل هذا العلم وليس عنده أي مانع أن يسافر إلى أقصى الشرق والغرب من أجل أن يبلغ رسالة الله عز وجل، إما همة صادقة ورجل علم صادق وإلا فلا، وتبحث عن رفيق صادق في طلبه للعلم وجده واجتهاده، فالأفضل أن الاثنين والثلاثة يأتون لمن هو أقدم منهم، ويقرءون عليه ويراجعون معه من البداية؛ لأن من درس ثلاثة أو أربعة كتب استبان له بعض الشيء في المنهج، فحينئذ إذا جلس مع طالب علم متمكن فيمكن أن يسد الثغرات الموجودة عنده، ويكمل نقصه فيما فيه النقص.

وهنا أمر ينبغي أن ينتبه له الطالب الذي يأتي إلى من هو أقدم، فينبغي أن يترفق به، وإذا اعتذر له فلا يحمله على المحمل السيئ، فإن المشكلة الآن في طلاب العلم أنهم يريدون من يعلمهم كما يريدون، وتجد طالباً يأتي ويقول: يا شيخ! أنا أريد أن تعطيني درساً في كتاب كذا وكذا، وهو الذي يختار الدرس، وهو الذي يختار الوقت، ولو قدر له أن يختار كيف أشرح لفعل، وأيضاً يقول: لا تتسرع إذا أتيت إلى شخص وقال لك: لا أستطيع. فيجب أن تحسن الظن به، ولا تحمله على أنه لا يريد أن يعلمك؛ بل تحسن به الظن، وتقول له: بارك الله فيك وأعانك الله، فإن تيسر له وقت احرص على هذا الوقت ولو كان قليلاً، فربما هذه الساعة التي تراها قليلة فيها خير كثير وفيها بركة.

ثم أوصي طالب العلم الجيد أن لا يرد أحداً قادراً عليه، ومن تعلم منا علماً فإننا نناشده الله أن لا يبخل به على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يتقي الله عز وجل، فليس لنا من هذا العلم إلا بقاؤه في الناس، أما وقد تحملنا ما تحملناه رجاء أن يبقى علمنا في الناس، فينصح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، خاصة في هذا الزمان، فكل يحتاج فيه إلى من يعلمه.

وصايا للمتميزين من طلبة العلم

ثم أوصي هؤلاء الطلبة المميزين، أولاً بتقوى الله عز وجل، وبأن يحمدوا الله سبحانه وتعالى أن اختارهم فحضروا الدروس كلها، والله إن الإنسان يقف بعد مرور سنوات فيقول: سبحان الله! الله قادر أن يبتلي عبده بالمرض أو بالنسيان، أو بالشواغل.. الله قادر على كل شيء، مَن الذي يسر وسهل لنا هذا؟ الفضل لله وحده لا شريك له.

وأوصي هؤلاء أن يستشعروا نعمة الله عليهم حتى يبارك لهم في النعمة التي أوتوها، فيحرص كل الحرص على التضحية والصبر والتحمل والتجمل، وتبليغ رسالة الله عز وجل ما أمكن، وأسأل الله أن يمدهم بعونه وتوفيقه وتيسيره، وأن يفتح لهم من أبواب فضله ما لم يخطر لهم على بال، وهذا رجاؤنا وأملنا في الله، ونرجو الله أن لا يخيب رجاءنا فيه.

ويحرص هؤلاء الطلاب الجيدون الممتازون على ما يلي:

أولاً: أن يوطنوا أنفسهم بضبط العلم، وأسألهم بالله عز وجل أن لا يقولوا علينا إلا ما قلناه، وأن يفرقوا بين العبارة التي نقول ونقلهم عنا بالمعنى، فلا يأتي شخص ويقول: قال الشيخ كذا وكذا، وهو قد نقل بالمعنى، ولكن يقول: الذي أفهم من كلام الشيخ كذا، والذي أفهم من فتواه كذا، أما أن يحفظ نص كلام الشيخ ويقول: قال الشيخ كذا وكذا، فهذه أمانة ستسأل عنها أمام الله عز وجل.

ثانياً: أوصي بالتقيد بالعبارات، وهو من أفضل ما وجدناه بركة للعلم، أنك لا تجلس عند عالم ولا تقرأ كتاباً إلا وتحرص أن تنقل نفس العبارة والكلمة، ولذلك قال الله: اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ [الأحقاف:4]، والإنسان يأتي بالأثر والشيء كما هو وكما حفظه وكما رآه، قال أبو شريح الوليد بن عمرو بن خزاعة رضي الله عنه: (أبصرته عيناي، وسمعته أذناي، ووعاه قلبي)، يقصد النبي صلوات الله وسلامه عليه، وذلك من شدة التحري والضبط.. أبصرته عيناي إذ يتكلم، وسمعته أذناي إذ نطق صلوات الله وسلامه عليه، ووعاه قلبي لما قال، وهذه هي الرحمة، يقول صلى الله عليه وسلم: (نضَّر الله امرأً -وفي رواية: رحم الله امرأً- سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها) والعلم ربما نقل بالمعنى فيحدث أموراً كثيرة، وكذلك أيضاً التقيد بما سمع، وأن لا يحمل العبارات ما لا تتحمل.

ثالثاً: الدقة في ضبط المسائل ونقلها، فالمسائل تحتاج إلى نوع من التركيز والدقة، خاصة مسائل الفقه والأحكام، وخاصة إذا كان الذي يفهم من العوام، فينتبه الإنسان في العبارات التي يقولها، فمن الناس من يقرأ الفقه فيتحدث بكلام العامة، فإذا جاء يشرح كتاباً كأنه يتكلم كلاماً عاماً، فيأتي بعبارات هزيلة، ولربما يأتي بأمثلة من الأسواق، وهذا لا ينبغي، بل ينبغي عليك أن تصون نفسك، وأن تحفظ قولك، وإذا جلس معك طلاب العلم فتتقي الله عز وجل وتشرف العلم، وتتكلم كلام العلماء، ولا تتشدد ولا تبالغ في العبارات، فإذا كان الذي يقرأ عليك عامياً يكون تركيزه وضبطه وسطاً بين الإفراط والتفريط، فلا تبالغ في تنميق العبارات، إنما تأتي بعبارة علمية صحيحة، تعلم أن هناك شيئاً وهو شرح الكتاب، وأن هناك فتاوى، وعلم الكتاب له طريقة، وعلم الفتاوى له طريقة، وليس كل من حضر كتاباً يستطيع أن يقرأه، وليس كل من استطاع أن يشرح كتاباً يستطيع أن يفتي في المسائل، وليس كل من استطاع أن يعلم ويفتي يستطيع أن يقضي. فهذه كلها تحتاج إلى أهلية وضبط وتمكن، لكن إذا كنت تريد أن تذاكر مع إخوانك وخاصتك فحينئذ تحرص على أن تتقيد بالعبارات ما أمكن، هذا الذي أفضل أن يكون عليه طالب العلم.

تحذير طالب العلم من العجب

ومما أحذر منه: العجب، فإذا فتح الله عز وجل عليك، وأصبح طلاب العلم يجلسون بين يديك، فخف على نفسك ولا تعجب، ولا تبالغ في الغرور، فإن الغرور هلاك للإنسان، والعبد قد يفتن في علمه، ثم إذا بلغ يمتحن حتى يبلغ مبلغ العلماء، ثم إذا بلغ مبلغ العلماء امتحن في التواضع لله عز وجل وعدم الغرور، فإياك أن تغتر، والله قد ذكر الذين تكبروا وسماهم فقال: فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [غافر:83]، فطالب العلم والعالم الموفق السعيد هو الذي يزيده علمه تواضعاً، ولا ينبل الرجل حتى يأخذ عمن فوقه، وعمن دونه، وعمن هو مثله، والحكمة ضالتك، وبغيتك، ومطلبك، ومقصدك، فابحث عن الحكمة، وإذا وجدتها تتواضع لها، ولا تغتر، فيجلس الإنسان ويقول: أنا من طلاب فلان، وقد حضرنا درس فلان، وقرأنا على فلان، وقال شيخنا، والبعض يحضر للشيخ درسين أو ثلاثة، ثم يقول: قال شيخنا! وهذا نوع من التدليس، وهذا لا يصح إلا إذا كان الإنسان قرأ عليه كتاباً كاملاً، فيقول: قال شيخنا في العبارة التي سمعتها، لكن أنك تأتي في باب لم تقرأه على الشيخ، ثم بعد ذلك تسمع أحداً يقول، ثم تقول: قال شيخنا، وتوهم من يسمعك أنك قرأت عليه، فهذا لا يجوز، وهو غش، فينبغي التقيد بالأمانة والإنصاف، حتى إن البعض يدّعي أنه من طلاب الشيخ فلان وعلان، وهو ما تتلمذ إلا على كتبه، وعلى هذا فيمكن أن يقول شخص: قال شيخنا شيخ الإسلام، وهذا تدليس للأمة، فلا ينبغي أن يقول شخص: قال شيخنا؛ لأن هذه العبارة إذا سمعها طلاب العلم، يتبادر إلى ذهنهم أنه قد قرأ على هذا الشيخ، فالناس لا تغني لك من الله شيئاً رحمك الله، مدح الناس وثناء الناس لا شيء، سواء تتلمذت على يد الشيخ فلان وعلان، فلن يقدم لك شيئاً أخّره الله عنك، ولن يؤخر عنك شيئاً قدمك الله إليك.

فعلى كل إنسان أن يوطن نفسه بتقوى الله عز وجل، والبعد عن الغرور والعجب، ومن حقك أن تقول: تتلمذت على الشيخ فلان، وقرأنا على الشيخ فلان؛ ليعرف الناس قدرك، وليعرف الناس قدر العلم الذي تعلمته، ومن حق طالب العلم أن يقول: أنا من طلاب الشيخ فلان، وقرأنا عليه كتاب كذا، وقرأنا عليه كتاب كذا، كما قال يوسف: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، وقد نص العلماء على جواز هذا إذا قصد به الثقة بما يقول، والعمل بعلمه، وإنزاله منزلة تليق به، فهذا منصوص عليه عند العلماء، ولا حرج ولا بأس، لكن الحرج هو الغرور.

الاعتراف بنعمة الله

وهنا أقول كلمة: والله ثم والله! ليس هناك أبرك من طالب العلم، ولا أعظم خيراً ولا أحسن عاقبة من معاملته لله عز وجل، فعليه أن يعلم أن عزته في الله وحده، وأن علمه من الله وفهمه، فإن الله هو الذي علمه ما لم يكن يعلم، وأن فضل الله عليه عظيم، فيعترف بفضل الله سبحانه وتعالى، ولا يبحث عن القشور التي عند الناس.

من حقك أن تعترف بفضل غيرك عليك تبعاً لفضل الله، والمخلوق ليس له فضل كفضل الخالق، إنما فضله تبع، ولذلك تشكر الناس، لكن شكرهم تبع لشكر الله سبحانه وتعالى، فهو الذي علمك وفهمك، ولذلك فلا يغتر الواحد بمشايخه وبعلمائه؛ لأن هذا الغرور سيدعوه أن يرد أقوال العلماء وانتقاص الآخرين، والحط من فتاوى العلماء.

ولهذا أوصي طلابي أن يتقوا الله عز وجل في أنفسهم، وعليهم أن يستندوا إلى الحق؛ لأن الحق يستمد قوته من ذاته، ويبينوا للناس ما ترجح عند شيخهم، أو عند من قرءوا عليه، ولكن لا يحطموا أهل العلم، ولا ينتقصوا قدر العلماء، وما وجدنا أهل العلم يؤلفون الكتب أو يفتون أو يعلمون من أجل الحط من أقدار العلماء الآخرين، وإنما زادهم العلم اعترافاً لأهل العلم بفضلهم، واعترافاً لكل ذي حق بحقه.

وأوصي طلابي أن يتقوا الله عز وجل، وأن لا يتخذوا من تعلمهم وسيلة للعجب إلى درجة نسيان حقوق العلماء الآخرين، وإذا جاءك أحد بقول مخالف لقولك الذي قرأته، فاعلم أنك إذا اعتقدت حكماً شرعياً، وعندك فيه دليل من كتاب وسنة، ممن يوثق بعلمه في فهم هذا الحديث؛ فقد أعذرت إلى الله.

التقيد في مرحلة الطلب بما درس على المشايخ

وبعد هذا تتقيد بهذا العالم، وهذا ما يسميه العلماء بمرحلة الاتباع، فتتقيد به حتى تدرس أصول الفقه، وتعرف الذي خالفه، وما دليله، وهل الحجة مع شيخك؟ أو مع من خالفه؟ فقبل أن تصل إلى هذه المرحلة تلزمك مرحلة التتبع، ويلزمك هذا الأصل؛ لأنك تسير على أصول وضوابط، ولو أنك انتقلت إلى غيرك فقد نفّقت، فقد يكون هذا الشيخ أعمل دلالة أسقطتها أنت في العبادة والمعاملة، وحينئذ تعمل بدليل الاضطراب، وهذا ما يعنيه العلماء بالاتباع، وإذا أخذت قول شيخ بدليل تقول: هذا الذي تعلمته، وهذا الذي أعرفه، وهذا الذي تذكره قول لبعض العلماء، لكن هذا الذي درسناه، وهذا تعلمناه، وانتهى الإشكال، قولكم خطأ، وقولنا صواب، وكذا، وإقامة الدنيا.

ومما أوصي به طالب العلم، وهذا من نعم الله عز وجل عليك: ترك الجدال والمناقشة، كثير من طلاب العلم الآن-إلا من رحم الله- محقت منه البركة، وضاع عليه وقت كبير من وقته وعمره بسبب المناظرة، كل شخص يبحث مسألة يريد الأقوال فيها، والردود، والمناقشات؛ لأنه مولع، ويريد من يناقشه حتى يرد عليه، وهذه هي آفة العلم، فعليك-رحمك الله- أن تقرأ، والحكم بدليله، وتتقيد بهذا الحكم والدليل، حتى تصل إلى مرتبة أهل العلم الذين يجتهدون، فإذا سرت على هذا الطريق جمع لك من العلم ما لا يحصى، ولذلك كان الإمام شيخ الإسلام محمد بن إبراهيم رحمه الله برحمته الواسعة معروفاً عنه أنه لا يمكن أن يجادل أحداً، وهو على درجة من التثبت والرسوخ في العلم، وكان معروفاً عنه أنه إذا جلس في مجلسه، وسأله أحد سؤالاً، ثم فتحوا باب المناقشات، لماذا؟ وكيف؟ هذا ليس من باب الاستفادة، باب الاستفادة -هذا نقله إلي الوالد رحمه الله- بمجرد أن يأتي ويقول: لماذا؟ ويقوم هذا ويقول: لا، قال فلان، قال علان، يتركه، ويقوم من المجلس، ولا يمكن أن يجلس مجلساً فيه هذا اللجاج والمناظرة؛ لأن القلوب تفسد، ويحدث نوع من الغرور للمتكلم أو للسامع أو للمعترض عليه، وقد تحط من قدر العالم، ولذلك فالسلامة غنيمة، من عنده علم عمل بالدليل:

ما علمت فقد كفاني وما جهلت فجنبوني

مادام أني أخذت هذا العلم عمن يوثق بعلمه ودينه، فيجب أن أضبط هذا العلم، وأعكف عليه، وستضبط كتب العبادة والمعاملة بهذه الطريقة التي لا تشويش فيها، وليس عندك أحد يدخل عليك الشبه حتى تضبط، وبعد ما تضبط يفتح الله عز وجل عليك، وتتوسع في أصول الفقه، وضوابط العلماء في الاستدلال، ووجه الدلالة، ثم تنكشف لك الأدلة، ثم تبحث، وهذا من أفضل ما يكون.

طريقة الشرح لكتب الفقه

وهناك تنبهيات، منها:

أننا في شرح الزاد ربما تركنا أبواباً ما أسهبنا فيها، وأسهبنا في أماكن أخرى، فمثلاً: في العبادات والمعاملات المالية في شرح بلوغ المرام إذا وجدت أني قلت قولاً ورجحته باختصار، ولم أسهب في المسألة، فتجدها في الشروح الأخرى مطولة، وهذا يعرفه الطلاب، والأفضل أنك تجمع الشروح كلها، وتحاول أن تعرف قسط هذه المسائل، فتضع عندك مثل الفهارس، تلخص به الشرح، ثم تجعل إحالات للتوسع في الأقوال والردود.

بالنسبة لهذه الرسالة فقد كان بالإمكان أن ننتهي منها في شهرين أو ثلاثة، ولكن قد لا يضبط إلا طالب العلم المتمكن، أما إذا طالت المدة فإنه يتضح المنهج لطالب العلم، ولذلك تجد طلاب العلم الذين يقرءون السنة والسنتين والثلاث يسيرون على منهج واضح، وطريقة واضحة، وترسخ عندهم الطريقة، وأما الاستعجال فلربما تأتي آفات لطالب العلم، وتبقى فيه كثير من الأدران، والتنبيهات، فيستعجل ويخرج دون نضوج، ثم يوجد من يستعجل من غير أولئك وله عذره، وجزاه الله خيراً عن أمة محمد، ولا نقلل من شأنه، لكن هذا الذي اخترته لأجل مصلحة العلم، وأسأل الله بعزته وجلاله أن يجعل العلم لنا فيما اخترناه، وهذا من ناحية إطالة المدة، المهم أن تعرف العبارة والحكم والمثال والدليل، هذه هي قراءة الفقه، فلا يقال: الأبواب الأخيرة ما شرحت؛ لأن هذا نوع من الفضل غير واجب لك، الأصل أننا نبين معنى العبارة ومثالها والدليل، هذا هو الأصل، وهذه طريقة قراءة الفقه.

فتعود إلى هذا الأصل، وتضبطه، وتحرر المسائل الناقصة من غيرها، أما الأبواب الأخيرة: الأطعمة، الذكاة، الصيد، الأيمان، النذور، كل هذه قد تكون فيها دورات مستقلة-إن شاء الله- نبين فيها ونفصل، سواء في المدينة، أو في جدة، أو في مكة، وطلاب العلم عليهم أن يكونوا على اتصال بالدروس العلمية، ويحاولوا أن يستدركوا بعض التفصيلات والتفريعات الموجودة فيها إذا احتاجوا إلى هذا التفصيل والتفريع.

أخلاق طالب العلم

كذلك هناك أمور ينبغي التنبيه عليها بالنسبة لطلاب العلم فيما بينهم، وهي: أخلاق الإسلام؛ أن يحرص طالب العلم على أن ينفع أخاه ما أمكنه، والتضحية والإيثار من خلق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أدب الله بذلك بنيه صلوات الله وسلامه عليه، فيحرص طالب العلم على أن يؤثر أخاه إلا فيما فيه الخير من استثنائه للعلم، ويحرص طلاب العلم مع بعضهم على المحبة، والصفاء، والنقاء، والمودة، وليعلم كل طالب منتسب إلى شيخه أن عليه حرمة أن يزين هذه النسبة، وألا يشينها، فيكون عفيفاً عن أهل العلم، وعن حدود الله عز وجل ومحارمه، وعن العلماء.

وأوصيه بتقوى الله في أهل العلم من السابقين والباقين -نفع الله بعلمهم- ممن قضوا ومضوا رحمة الله على الجميع، أوصي باحترامهم، وتوقيرهم، وحفظ حقوقهم، وأن لا يشين أحداً من طلابنا، وكل إنسان محسوب على نفسه، وعندما يقال: هو من طلاب فلان، فلا يؤذي شيخه بل لا يؤذي حتى طلابه ويشينهم.

وهذا أمر أحب أن أوصي به؛ لأن الزمان كثرت فيه الفتن، وإن شاء الله طلاب العلم هم أرفع من هذا كله، لكن كثرة الفتن والمحن توجب التنبيه على مثل هذه الأمور.

تعليم الناس العلم

وكذلك أيضاً مما أحب أن أوصي به: الحرص على اختيار الأوقات المناسبة في تعليم الناس، فطالب العلم الذي وفقه الله لضبط هذه المسائل، وقراءة هذا الكتاب، له أن يُقرئه ويدرسه في حدود ما علم، وهذه إجازة لمن اتقى الله عز وجل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وحفظ حق التعليم, وقرأ في منهج العلماء رحمهم الله، أو جالس أهل العلم، واستفاد من سمتهم ودلهم، أن ينفع أبناء المسلمين ما أمكنه، وأن يبذل ما يستطيع، إذا استطاع أن يفتح درساً في مسجد حيه ولو بعد الصلاة يتحدث فيه عن أحكام الطهارة، وإذا جاءته أسئلة يقول: أنا لست أهلاً للفتوى، أما إذا ضبط الأسئلة والإجابة عنها، وعلم أن السؤال والجواب موجود؛ لأنه قرأ على أيدي العلماء.

فعلى كل حال: الحرص على فتح درس، أو الجلوس مع الإخوة في الطلعات والنزه فيقول: هلموا نتذاكر صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.. هلموا نتذاكر أحكام الزكاة، والبيع، فيعمر وقته بذكر الله، وطاعة الله.

عمارة الوقت بالذكر والورع من الدنيا

ومن الأمور التي أوصي بها كل من يريد أن يبارك الله عز وجل له في علمه: أن يستغرق وقته في طاعة الله؛ لأن العالم وطالب العلم إذا حفظ وقته في طاعة الله يبارك له، ويفتح عليه، ويقال: إنه ما حُرص على أمرين إلا نال الإنسان فتحاً في هذا العلم، فسيفتح الله عليه، ويبارك له في الفهم:

الأمر الأول: استنفاد الوقت في ذكر الله وطاعته، فأولى الناس بالفهم والوعي عن الله ورسوله، وحسن التعليم للناس، والقبول؛ من رزقه الله عمارة وقته بذكر الله عز وجل، وهذه وصية علمائنا ومشايخنا، أن يحرص طالب العلم على عمارة وقته بذكر الله عز وجل.

الأمر الثاني: التورع، والتحفظ من الدنيا ما أمكنه، خاصة إذا قُصد بها المطامع، وأراد من تلك الدنيا أن يذلك، فالله أعزك، وأراد غيره أن يذلك، فارض بعزة الله، وكرامته لك، إن هذا العلم أمانة في رقبتك، ولذلك صن هذا العلم، فبمجرد أن تحس أن الشخص يريد أن يذلك بهذه العطية، أو بهذا المال، فابتعد، قال سفيان الثوري رحمه الله: (أوتيت فهم القرآن، ولما قبلت الصرة نزع مني)، فحينما يتورع الإنسان عن أموال الناس ومطامع الدنيا يرتفع.. قد تجد الإنسان من أهل الدنيا يأتي ويضعك في صدر مجلسه، أو في مكان أعلى مما أنت تستحقه، ويريد أن يستدرجك، فتربأ بنفسك، ولا ترضى لنفسك إلا بتقديم ربك، والله ليرفعنك الله ولو وضعك الناس، وليضعن الله من عصاه ولو رفعه الناس، لو أطبق من في الدنيا على أن يرفعوك على منزلتك شعرة وهم راضون ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

فعامل الله، واحذر من هذه الدنيا، والدنيا لا تختص بالمال، حتى ولو أتى ليشرفك، ويريد أن يضعك في مكان فيه نوع من المجاملة والمحاباة، وترى من هو أعلم منك وأفضل فتأخر، وقل: فلان أعلم مني؛ لأنك تعلم أن هذا يرضي ربك، وفلان أولى مني، وإذا سئلت عن علم، وهناك من هو أعلم منك، فقل: اذهبوا إلى فلان، فلان أكثر ملازمة للشيخ مني، فلان كذا، وهكذا، وإلا فلا.

فإذا حرصت على هذين الأمرين: عمارة الوقت، والتعفف عن الدنيا، فإن الله سيفتح عليك من فواتح رحمته، وما من عبد يترك شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه. وعليك أن تحرص في تعليمك لطلابك على غرس أخلاق ومبادئ الإسلام، فالأدب قبل الطلب، والعمل الذي يرضي الله عز وجل يزين العلم.. فتحرص على أن يتأدب طلابك بآداب الإسلام، وهذا يحتم على طالب العلم أو على من يريد أن يعلم الناس أن يعلمهم السكينة والوقار، والأدب في مجلس العلم؛ لأن هناك ملائكة تغشى حلق الذكر، فتجمل، ولا تري الله من نفسك إلا كل خير من السمت، والوقار، وحسن الصمت، وإياك واللغو، وأخلاق الجاهلية، فهذه مما تشين الإنسان.

الاعتزاز بالعلم ورفعه

عليك أن تربو بهذا العلم، وكذلك أيضاً من عزتك بالعلم أن لا تنزله في المواضع التي يمتهن فيها، فتأتي إلى الناس وهم جالسون في لهو، وتريد أن تفتح درساً، أو تتكلم في شيء يكون فيه امتهان للعلم، أو يأتي أحدهم ويتهكم بك، يقول: حدثنا عن كذا، على سبيل التهكم؛ بل ارفع هذا العلم، فإن رفعته رفعك الله عز وجل، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه لـعكرمة : (إياك أن تأتي الناس في مجالسهم تحدثهم)؛ لأن العلم إذا جاء بالقهر والقسر امتهن، ولذلك دعهم حتى يسألوا، ثم قال له من وصاياه أيضاً رضي الله عنه وأرضاه: (لا تفت الناس إلا فيما احتاجوا إليه، فإنك إن أفتيتهم فيما احتاجوا إليه طرحت عنك تبعة العلم)، فإن كثيراً من أسئلة الناس فيها فضول، فلا تجبهم إلا فيما يحتاجونه.. الناس يأتون يتكلمون في الفضول، والواحد منهم لا يعرف كيف يتوضأ، ولا يعرف ماذا يفعل لو سها في صلاته، فإذا جئت لمجلس وقالوا: حدثنا، بدل أن يحدثنا إنسان في بعض الأمور، يقولون: تحدث عن بعض الأمور التي مصلحتها قليلة، فتقول لهم: يا إخوة! أنتم الآن مسلمون، لو أن ميتاً مات، وأنتم في سفر، كيف ستغسلونه؟ وتبدأ تصف لهم غسل الميت، وأحكام السهو في الصلاة؛ فإن هذه أمور تحتاجها العامة، وهذا من النصيحة، وتختار لهم أفضل ما يختار، فتختار لهم أطيب الكلام، ولذلك قالوا: إن الحكيم والأديب هو الذي يكتب أحسن ما يقرأ، ويحفظ أحسن ما يكتب، ثم يملي بأحسن ما حفظ. يصفي الشيء تلو الشيء، ثم لا يتكلم إلا بأحسن أحسن الشيء، فليس منفلت الزمام، يحدث ويتكلم بكل شيء.

ثم إن جماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، وكل الأمر يعود إلى شيء واحد، وهو: المعاملة مع الله، مهما تكلم الإنسان أو سكت، فالقليل المبارك خير من الكثير المنزوع البركة، فعامل الله وأبشر بكل خير، فوالله ثم والله ما رأينا من ربنا بهذا العلم إلا كل خير، وجدناه سبحانه وتعالى عظيماً، حليماً، كريماً، براً، رحيماً، ما وجدنا أوفى من ربنا، ولا أكرم منه سبحانه وتعالى.. علَّمنا وكنا جاهلين، وهدانا وكنا تائهين حائرين، ورفعنا وكنا وضعاء، ولن نزل وضعاء فقراء حتى يرحمنا وهو رب العالمين، به استغنينا عمن سواه، واستكفينا عمن عداه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

فعامل الله وأبشر بكل خير، واعلم أن الله سبحانه وتعالى لن يضيع عبده، ولن يخذل من والاه، فكن لله يكن الله عز وجل لك، واعلم أن الله سبحانه وتعالى يحب الصادقين والمخلصين فكن منهم، واعلم أن الله سبحانه وتعالى يحسن الجزاء لعبده، ويجزي المحسن، فإذا عاملت الله فلتكن معاملتك في قولك وفعلك على أحسن وأجمل وأتم وأكمل ما تكون المعاملة لله، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً.. لا يقبل الله النفاق، ولا الرياء، ولا التصنع، ولا التكلف، ولكن ما وقر في القلب من إرادة وجهه، وصدقه العمل المبني على شرعه، فمن كان كذلك بورك له في قوله وعمله، وبينك وبين هذا العلم الذي تتعلمه الأيام، فإنه صدقت مع الله ليصدقن الله معك حياً وميتاً، وليطيبنك بهذا العلم حياً وميتاً، قائماً وقاعداً، نائماً ومستيقظاً، ولتجدن البركة والخير من الله عز وجل ما لم يخطر لك على بال، فاستغن بالله، واعلم أنه ليس هناك أسعد منك وأنت تقرأ، وليس هناك أحد أسعد منك وأنت تفهم كلام الله، وتتفقه في دين الله، وليس هناك أحد أسعد منك وأنت تعلم الناس، ولذلك عاش أئمة السلف مرقعة ثيابهم، حافية أقدامهم، ولكنهم أغنى الناس بهذا العلم؛ لأنهم شعروا بغنى الله عز وجل الذي أغناهم به، فاعرف قدر هذا العلم.

أحب أن أوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل، وهذه الوصية كثير قائلها قليل من يعمل بها، وهي التي جمعت خير الدين والدنيا والآخرة، ومن وصى غيره بتقوى الله فقد جمع له الإسلام كله، فأوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل.

ثم هناك أمر ينبغي التنبيه عليه بالنسبة لطلاب العلم الذين حضروا هذه الدروس وأتموا قراءة هذا الكتاب: كل طالب علم وفقه الله عز وجل لقراءة كتاب كامل على شيخه فينبغي عليه أن ينتبه للضوابط الشرعية التي يلزم بالتقيد بها، وكل من ابتلي بهذا العلم فعليه أن يدرك حقيقة لا شك فيها ولا مرية: أن هذا العلم سلاح ذو حدين، فوالله الذي لا إله غيره ولا رب سواه أن هذا العلم إما أن يرفع صاحبه إلى خير وبر ورحمة في الدين والدنيا والآخرة لم تخطر له على بال، وإما أن يمحق له بركة دينه ودنياه وآخرته، فيصبح من أشقى العباد -نسأل الله السلامة والعافية- فليس بين العلم تردد، فإما إلى العلا وإما إلى الحضيض، ومن تعلم العلم لغير الله مكر الله به، ومن تعلم العلم ولم يعرف ماذا يراد بهذا العلم، وماذا يراد منه؛ فقد ذبح بغير السكين، وسيورد نفسه الموارد، فكل طالب علم عليه أن يستشعر المسئولية تجاه ما تعلمه.

ومن حيث الأصل نحن ملزمون بقراءة هذا المتن، وبشرح الكلمة ومعرفة معناها، وذكر المثال والحكم المستنبط منه، ثم ذكر الأمثلة والدليل على الحكم، هذا هو الأصل الذي ينبغي في قراءة الجملة الفقهية، أما الخلافات والردود والمناقشات، فهذه ليس ملزماً بها طالب العلم، ولسنا ملزمين بالخوض فيها، ولكن لوجود الحاجة وكثرة الاعتراضات والأقوال المخالفة مما قد يشكل على طلاب العلم احتجنا إلى هذا البيان، ولوجود نوعية من طلاب العلم تريد التوسع، إذاً الأصل أنك ملزم بالرجوع لهذا الكتاب.