شرح زاد المستقنع باب طريق الحكم وصفته


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

عرض الدعوى

فيقول المصنف رحمه الله: [باب طريق الحكم وصفته: إذا حضر إليه خصمان قال: أيكما المدعي؟ فإن سكت حتى يبدأ جاز].

إذا حضر إليه الخصمان قال: أيكما المدعي، يسألهما من المدعي، هذا وجه، أو يسكت حتى يتكلما، فإذا سكت وتكلم أحدهما قبل الآخر قدمه:

وقدّم السابق في الخصام والمدعي للبدء بالكلام

فإذا سبق أحدهما وجاء وتكلم فله ذلك، فمن سبق إلى شيء فهو أحق به، والغالب أن السابق يكون هو المدعي.

ويجوز للقاضي أن يقول لهم: أيكم المدعي، ويجوز أن يسكت.

[فمن سبق بالدعوى قدمه].

من سبق بالدعوى وتكلم قدمه؛ كما قلنا:

وقدم السابق في الخصام والمدعي للبدء بالكلام

حكم إقرار المدعى عليه

مثلاً: قال أحدهما: لي عند فلان عشرة آلاف ريال بسبب قرض أو بيع دينٍ -وحرر الدعوى- ولم يقضني، قال له للآخر: ماذا تقول؟ قال: نعم، له عليّ في ذمتي عشرة آلاف ريال، قال: اقضه وأد إليه.

هو هذا الإقرار، فإذا أقر أخذ بإقراره؛ لأنه لا يوجد أقوى من شهادة الإنسان على نفسه، ولذلك يقولون: الإقرار: سيد الأدلة، لأنه ليس هناك عاقل يشهد على نفسه بالضرر كذباً، ولما شهد رجل عند شريح رحمه الله وأقر -فيما لا يحكم فيه إلا بالشهود- فأخذه شريح بإقراره قال: رحمك الله! من شهد عليّ؟ وكيف تحكم عليّ بدون شهود؟ قال: شهد عليك ابن أخت خالتك، يعني أنت شهدت على نفسك، فابن أخت الخالة هو نفس الرجل، فلا أصدق من شهادة الإنسان على نفسه، ولذلك قبلها الله في أعظم الأشياء وهو توحيده سبحانه وأقام الحجة بها على عباده.

وسيأتي في مسائل الإقرار.

طلب البينة من المدعي إن أنكر المدعى عليه

[وإن أنكر؛ قال للمدعي: إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت].

لو قال المدعى عليه: ليس له عندي شيء، قال القاضي للمدعي: ألك بينة؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: (ألك بينة؟ قال: يا رسول الله! هي بئري وأنا احتفرتها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألك بينة؟ قال: لا، قال: إذاً يحلف خصمك، قال: يا رسول الله! الرجل رجل سوء...)، كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن هلال بن أمية قذف امرأته بـشريك بن سحماء ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حدٌ في ظهرك).

البينة: مأخوذة من البيان وهي الوضوح، وتعريفها في الاصطلاح: ما يُظهر صدق الدعوى ويكشف وجه الحق، والبينة تشمل الإقرار، والكتاب، والأيمان، والحجج التي اعتبرتها الشريعة.

وقوله: (ألك بينة؟) هذه المقولة تقال: للبر والفاجر، أي: شخص يدعي نطالبه بالبينة إذا أنكر خصمه، ولو كان من أصدق الناس؛ لأن هذا هو الأصل الذي دلت عليه السنة.

والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيه بينة

(والمدعي مطالب بالبينة) يعني يقال له: ألك بينة؟ (وحالة العموم فيه بينة) أي: ولو كان من أصدق الناس، ولو كان من أصلح الناس وأعلم الناس فقل له: هل لك بينة؟ كما طُلبت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حكم القاضي إذا رفض المدعى عليه الإجابة إقراراً أو إنكاراً

فإن أبى المدعى عليه الإجابة على الدعوى إقراراً أو إنكاراً.

ومن أبى إقرار أو إنكارا لخصمه كلفه إجبارا

فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضي

فيلزمه القاضي بالجواب إن أبى، ويحاول أن يلزمه في ذلك، فإذا رفض الإقرار أو الإنكار كُلّف ولو بالقوة، فإذا أبى فإن القاضي يحكم عليه وهذا ما يسمى بالنكول.

وقد ثبتت به الآثار وعمل به الأئمة رحمهم الله، وهو أن السكوت يدل على اعتباره؛ لأنه أعطي المجال أن ينكر فلم ينكر، فدل هذا على أنه مقر بما اتهم به فيؤاخذ على ظاهره.

اعتبار البينة وشهادة الشهود لا علم القاضي

قال رحمه الله: [فإن أحضرها سمعها وحكم بها]

أي: البينة، كشهادة شهود، ويجب على القاضي أن يسمع منهم.

[ ولا يحكم بعلمه ].

ولا يحكم القاضي بعلمه، ولا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه إلا في مسائل، وهي تزكية الشهود وجرحهم، فلو كان يعلم أن هذا الشاهد لا تقبل شهادته، وجيء به في قضية، وقيل له: فلان يشهد فنظر فيه، فقال: هذا ما نقبل شهادته، فهذا من حقه؛ لأنه يعلم فيه جرحاً؛ ولذلك قال الله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282] ممن ترضون: يعني يكون مرضياً عنهم، ولذلك لما أتى شخص لدى القاضي إياس رحمه الله بشاهد ولم يقبله إياس ، قال له: لمَ ترد شاهدي رحمك الله؟ قال: يا هذا إن الله تعالى يقول: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ، وأنا لم أرضَ شاهدك، وفي بعض الروايات: وإن هذا ليس ممن أرضاه، فهذا يدل على أن من حق القاضي أن يقضي بعلمه:

وفي الشهود يحكم القاضي بما يعلم منهم باتفاق العلماء.

فإذا عرفهم بالتزكية قبلهم وزكاهم، وإذا علم أن فيهم حرجاً ردهم.

وفي سواهم مالك قد شددا في حكمه بغير الشهدا

وهو مذهب الجمهور، وليس خاصاً بـمالك ، فالشاهد من هذا: أن قضاء القاضي بعلمه لا يجوز، والدليل على عدم عمل القاضي بعلمه، قوله عليه الصلاة والسلام: (إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فإنما أقضي على نحوٍ مما أسمع). وفي الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنه لما حدث اللعان بين عويمر وامرأته، قال صلى الله عليه وسلم: (انظروا إليه فإن جاءت به على صفة كذا وكذا -كما ذكرنا في اللعان- قال: فقد كذب عليها والولد ولده، وإن جاءت به على صفة كذا وكذا فقد صدق عليها وهي زانية)، فأراد الله عز وجل أن تجيء به على صفة من اتهمت به -والعياذ بالله- فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجماً راجماً أحداً من غير بينة لرجمت هذه)، فدل على أنه علم واطلع على ذلك، وجاء بالقرينة واستقر عنده الدليل واتضح أنها زانية، ومع ذلك لمن يقضِ بعلمه، فدل على أن القاضي لا يجوز له أن يقضي بعلمه.

اليمين حال عدم وجود البينة وعدم الإقرار

[وإن قال المدعي: ما لي بينة، أعلمه الحاكم أن له اليمين على خصمه على صفة جوابه].

قال صلى الله عليه وسلم: (ليس لك إلا يمينه)، فأعلمه أنه ليس له من الخصم إلا اليمين، هكذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

[ فإن سأل أحلفه وخلى سبيله ].

فلا يحلفه القاضي مباشرة، بل يقول له: ليس لك إلا يمينه، فهل أحلّفه؟ فإن قال: حلّفه، حلفه.

[ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي].

ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي؛ لأن مجلس الحكم والقضاء ينبغي أن تكون خطوات الحكم فيه مرتبة على ما ذكرنا، من أنه يمكث ثم بعد ذلك يطلب من الخصم البينة فإذا تعذر وجود البينة، أو قال: لا بينة عندي، يقول له القاضي: ليس لك إلا يمينه، فإذا سبق وحلف قبل أن يطلب القاضي منه القسم فهذه يمين ريبة ترد ولا تقبل، وهي في غير موضعها؛ لأن موضعها أن يطلبها القاضي.

[ وإن نكل قضى عليه ]. كما ذكرنا.

[ فيقول: إن حلفت، وإلا قضيت عليك، فإن لم يحلف قضى عليه ].

ومن أبى إقرار أو إنكارا لخصمه كلفه إجبارا

فإن تمادى فلطالب قضي بلا يمين أو بها وذا ارتضي

حكم وجود البينة بعد يمين المنكر

قال رحمه الله: [وإن حلف المنكر ثم أحضر المدعي بينة، حكم بها، ولم تكن اليمين مزيلة للحق].

بيّن رحمه الله قوة اليمين واعتبارها في إسقاط الدعوى عن المدعى عليه، ولكن هذا الإسقاط لا يقتضي إسقاطها من كل وجه، بحيث لو وجد الشخص البينة ووجد من يشهد له، فإنه لو أقامها بعد ذلك، سمع منه، لكن ثمة إشكال عند العلماء، وهو إذا قيل له: ألك بينة؟ قال: ما عندي بينة، ثم حلف الخصم، ثم جاء المدعي بالبينة فهذا فيه شبهة معروفة عند العلماء رحمهم الله، وفيها تفصيل تكلم فيه العلماء، ولكن حاصل ما يقال: أنه إذا وجد العذر، كأن يكون ناسياً أن لديه بينة فتذكر، أو كان لا يعلم أن شاهداً حضر ثم تبين أنه حضر الموقف المختلف عليه، ونحو ذلك من الأدلة، أو قال شخص: إني أشهد بما أقر عندي فلان أنك أنت أعطيته.. ونحو ذلك، فهذه بينة يجهلها، فإذا كان نفيه له وجه فيه وله عذرٌ قبل وإلا فلا.

فيقول المصنف رحمه الله: [باب طريق الحكم وصفته: إذا حضر إليه خصمان قال: أيكما المدعي؟ فإن سكت حتى يبدأ جاز].

إذا حضر إليه الخصمان قال: أيكما المدعي، يسألهما من المدعي، هذا وجه، أو يسكت حتى يتكلما، فإذا سكت وتكلم أحدهما قبل الآخر قدمه:

وقدّم السابق في الخصام والمدعي للبدء بالكلام

فإذا سبق أحدهما وجاء وتكلم فله ذلك، فمن سبق إلى شيء فهو أحق به، والغالب أن السابق يكون هو المدعي.

ويجوز للقاضي أن يقول لهم: أيكم المدعي، ويجوز أن يسكت.

[فمن سبق بالدعوى قدمه].

من سبق بالدعوى وتكلم قدمه؛ كما قلنا:

وقدم السابق في الخصام والمدعي للبدء بالكلام

مثلاً: قال أحدهما: لي عند فلان عشرة آلاف ريال بسبب قرض أو بيع دينٍ -وحرر الدعوى- ولم يقضني، قال له للآخر: ماذا تقول؟ قال: نعم، له عليّ في ذمتي عشرة آلاف ريال، قال: اقضه وأد إليه.

هو هذا الإقرار، فإذا أقر أخذ بإقراره؛ لأنه لا يوجد أقوى من شهادة الإنسان على نفسه، ولذلك يقولون: الإقرار: سيد الأدلة، لأنه ليس هناك عاقل يشهد على نفسه بالضرر كذباً، ولما شهد رجل عند شريح رحمه الله وأقر -فيما لا يحكم فيه إلا بالشهود- فأخذه شريح بإقراره قال: رحمك الله! من شهد عليّ؟ وكيف تحكم عليّ بدون شهود؟ قال: شهد عليك ابن أخت خالتك، يعني أنت شهدت على نفسك، فابن أخت الخالة هو نفس الرجل، فلا أصدق من شهادة الإنسان على نفسه، ولذلك قبلها الله في أعظم الأشياء وهو توحيده سبحانه وأقام الحجة بها على عباده.

وسيأتي في مسائل الإقرار.

[وإن أنكر؛ قال للمدعي: إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت].

لو قال المدعى عليه: ليس له عندي شيء، قال القاضي للمدعي: ألك بينة؟ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: (ألك بينة؟ قال: يا رسول الله! هي بئري وأنا احتفرتها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألك بينة؟ قال: لا، قال: إذاً يحلف خصمك، قال: يا رسول الله! الرجل رجل سوء...)، كما في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن هلال بن أمية قذف امرأته بـشريك بن سحماء ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (البينة أو حدٌ في ظهرك).

البينة: مأخوذة من البيان وهي الوضوح، وتعريفها في الاصطلاح: ما يُظهر صدق الدعوى ويكشف وجه الحق، والبينة تشمل الإقرار، والكتاب، والأيمان، والحجج التي اعتبرتها الشريعة.

وقوله: (ألك بينة؟) هذه المقولة تقال: للبر والفاجر، أي: شخص يدعي نطالبه بالبينة إذا أنكر خصمه، ولو كان من أصدق الناس؛ لأن هذا هو الأصل الذي دلت عليه السنة.

والمدعي مطالب بالبينة وحالة العموم فيه بينة

(والمدعي مطالب بالبينة) يعني يقال له: ألك بينة؟ (وحالة العموم فيه بينة) أي: ولو كان من أصدق الناس، ولو كان من أصلح الناس وأعلم الناس فقل له: هل لك بينة؟ كما طُلبت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3615 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3437 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3335 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3316 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3266 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3221 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3182 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع