خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
شرح زاد المستقنع باب التعزير [2]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:
يقول المصنف رحمه الله: [ ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات ]:
ذكر رحمه الله هذه الجملة، والتي هي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متضمن النهي عن الزيادة على عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله عز وجل، وهو حديث أبي بردة رضي الله عنه وأرضاه في الصحيح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن هنا اختلف العلماء رحمهم الله في التعزير، بعد أن اتفقوا على أنه لا حد لأقله، فاتفق العلماء رحمهم الله على أنه ليس في التعزير حد أقلي لا يجوز للإمام أن ينقص عنه إذا عزر، خلافاً لبعض أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله الذين قالوا: أقل الجلد ثلاثة أسواط، فلا يعزر بأقل من ثلاثة أسواط، والصحيح: أنه لم يثبت دليل في الكتاب والسنة يدل على أن التعزير له حد لا يجوز النقصان منه.
ومن هنا فالأمر راجع إلى القاضي أو الحاكم أو السلطان، فإذا رأى أن يعزر بالقليل عزر، وإذا رأى أن يعزر بالكثير عزر؛ لأن المقصود زجر الناس، وحملهم على تعظيم حدود الله عز وجل وحرماته، وكذلك كف بعضهم عن بعض، وهذا يختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة.
وظاهر الحديث يدل على أنه لا يجلد فوق عشرة أسواط، وقد اختلف في هذا الحديث من ناحية السند، ففيه أخذ وعطاء بين العلماء رحمهم الله، وقد استقر العمل على ثبوته عند الأئمة، وأجابوا عن بعض ما ورد عليه، ونظراً لوجود بعض الكلام في السند كان معارضاً بالأصل.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في تأويل هذا الحديث:
فمنهم من يقول: لا يجوز أن يعزر أحد بضربه فوق عشرة أسواط، فيضرب العشرة ويضرب التسعة وما دون ذلك، أما ما زاد على العشرة فلا يجوز، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد، وقال به إسحاق بن راهويه من أهل الحديث، وأشار المصنف رحمه الله إلى هذا القول.
وذهب الجمهور إلى أن المراد بالحديث ألا يبلغ الحد في عقوبة وتعزير من وقع فيما دون الحد، فكل حدٍ من حدود الله نظر في تعزير الجرائم التي هي من جنسه إلى قدره، فمثلاً: لو أنه تعاطى أمراً دون الحد، كأن يستمتع بامرأة بما لا يحصل به الزنا، قالوا: إنه يعزر ولا يبلغ في التعزير حد الزنا، وهو مائة جلدة إذا كان غير محصن، واستدلوا بآثار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها الأثر عن النعمان بن بشير رضي الله عنه وعن أبيه: أنه جلد الرجل الذي أذنت له زوجته أن يطأ جاريتها مائة جلدة. وقد كان الأصل يقتضي أنه لو كان زانياً أن يرجم.
وقالوا أيضاً: إنه إذا تعاطى أمراً من الشراب وفيه إخلال، ولا يبلغ حد المسكر؛ فإنه يعزر إذا كان من العبيد بتسع عشرة جلدة فما دون، وإذا كان من الأحرار وقلنا: إن الحد هو أربعون، فإنه يعزر بتسعٍ وثلاثين فما دون، فينظرون في كل جريمة إلى جنسها، فإن كانت من الزنا لم يوصل في ضربه إلى مائة جلدة إذا كان من الأحرار، ولا يوصل إلى خمسين إذا كان من العبيد، وهذا القول للجمهور رحمهم الله، وهناك تفصيل داخل المذاهب؛ لكن الأصل على هذا.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام : (لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حدٍ من حدود الله) فقد أجابوا عن هذا الحديث، واختلفت أجوبتهم:
فمنهم من يقول: إن هذا الحديث منسوخ، وأشكل على هذا أن النسخ لا يثبت بالاحتمال.
ومنهم من قال: إن هذا الحديث المراد به التأديب في غير الحدود، ومرادهم بذلك تأديب الرجل لزوجته، وتأديب الرجل لولده، فلا يضرب فوق عشرة أسواط، وقالوا: قوله: (إلا في حدٍ من حدود الله) المراد به: المعاصي التي تكون عند السلطان وعند القضاة، فخرجوا الحديث على هذا، وهو من أقوى الأوجه عندهم، فأخرجوا الحديث عن كونه متعلقاً بالقضاة وبالإمام إذا عزر، وأن المراد به التأديب الذي هو دون التعزير، ويكون قوله: (إلا في حدٍ من حدود الله) كل معصية فهي حدٌ من حدود الله، ولذلك نهى الله عز وجل عن معصيته وقال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229] وبيّن أن الطلاق في الطهر حد من حدود الله عز وجل، وأن الطلاق في الحيض اعتداء على حد من حدود الله عز وجل، ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن المعاصي التي تكون عند السلطان من حدود الله عز وجل، سواء كانت متعلقة بالمصلحة العامة، أو كانت متعلقة بمصالح خاصة، كمن يسب الناس، أو يشتم الناس، أو يؤذيهم في مصالحهم ومرافقهم العامة، فيعطلها؛ فإنه قد وقع في حد من حدود الله، وحينئذ فيشرع للسلطان أن يعزره بما يراه رادعاً له ولغيره أن يفعل كفعله.
وهذا من أقوى الوجوه والأجوبة؛ أن المراد بالحد مطلق المعصية، وأن المراد به التأديب فيما دون العقوبات التي عند القضاة؛ لأنها -أي: المعاصي- عند القضاة من حدود الله عز وجل.
التعزير بغير الجلد
ذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى جواز التعزير بغير الجلد، وأن التعزير أمرٌ مرده إلى القاضي، وهو يختلف بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والجرائم، فإذا نظر القاضي إلى أن هذه الجرائم لا يردع فيها إلا بعقوبة غليظة؛ غلظ العقوبة، حتى ذهب الإمام مالك رحمه الله وأصحابه إلى جواز التعزير بالقتل، وأن من وقع في حدود الله عز وجل وتكرر منه ذلك، ورأى الإمام والقاضي والسلطان أن المصلحة في قتله حتى ينقطع شره وفساده، ويكون ذلك أبلغ في ردع غيره؛ فإن له ذلك، وقد اختار هذا القول بعض المحققين والأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة.
وقالوا: إن الأمر مرده إلى القضاة وإلى الولاة أن ينظروا الأصلح للناس، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحل القتل تعزيراً في الخروج عن الجماعة؛ فقال كما في الصحيح: (من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق كلمتكم وجماعتكم فاقتلوه كائناً من كان)، وهذا يدل على مشروعية التعزير بالقتل، وهو أصل عند من يقول بجوازها، واحتج به شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة، وقالوا: إنه إذا وجد الشر والبلاء العام ولا ينقطع إلا باستئصال شأفة من فعل ذلك، فإنه يلجأ إلى مثل هذه العقوبات علاجاً للفساد وقطعاً لدابر أهله، وقد أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم عزروا، وبالغوا في التعزير أيضاً عند حصول الموجب.
ومن هنا قالوا: من تكررت منه جريمة الشرب فيعزر بالقتل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل شارب الخمر في الرابعة، قالوا: فهي من هذا الباب، فتكون عقوبة تعزيرية عند تكرر الجرائم، فإن من تكررت منه الجريمة وليس للجريمة عقوبة أو لها عقوبة وتكررت منه الجريمة على وجه فيه الاستخفاف والاحتقار للعقوبة، والتهتك في محارم الله عز وجل بعد أن عوقب فيرجع إليها المرة تلو المرة، ويتكرر منه ذلك؛ قالوا: إنه يشرع للإمام أن يقتله، وهذا المذهب هو من أقوى المذاهب في مسائل التعزير، ونظراً إلى المقصود العام، وهو أن المراد بالتعزير كف الناس وزجرهم عن حدود الله، وكف الناس وزجرهم عن بغي بعضهم على بعض، وأذية بعضهم لبعض.
ولذلك في بعض أنواع القتل مثل القتل غيلة، وهي أن يستدرج الرجل البريء المعصوم الدم، أو تفعل الجرائم المستبشعة، مثل أن يستدرج المرأة بطريقة خبيثة ويخدعها، أو يكون له ولاية، أو يكون له مكان يؤتمن فيه على مصالح المسلمين، فيستدرج لذلك على سبيل الأذية والإضرار بالمصالح العامة، قالوا: فيشرع فيه التعزير، فإذا استدرج المقتول من المدينة وأخرجه عنها ثم قتله؛ شرع للسلطان أن يقتله لهذا، ويكون الحق للعام لا للخاص، ذلك: كونه يستدرج في الجريمة بحيث يأمن المقتول، أو يؤخذ على طريقة فيها استهتار بدماء المسلمين، أو فيها بشاعة وشناعة، ورأى السلطان أن مثل هذا لا بد أن يعاقب بعقوبة تردع غيره عن فعله؛ فإنه يشرع له أن يقتله.
وما هي فائدة قولنا: إنه يقتله تعزيراً؟
إذا قلنا: للسلطان أن يقتله تعزيراً؛ فإنه لو عفا أولياء الدم فلن يسقط القتل؛ لأنه لحقٍ عام، وهذا هو الذي جعل العلماء يشددون في بعض الحقوق، حتى قال الإصطخري من أصحاب الشافعية رحمهم الله: إن من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، وتكرر منه احتقارهم وأذيتهم أمام أهل السنة، انتقاصاً وازدراءً بهم؛ شرع قتله، وأنه لو عفا السلطان فلا يقبل عفوه، وكل هذا تعظيماً لحرمات الدين؛ لأنه إذا طعن في الصحابة فمعناه أنهم طعنوا في الدين، وقالوا: لأننا لا نعلم عفو الصحابي عن ذلك؛ لأنه ميت.
وكل هذه الأحكام التعزيرية المغلظة قصد بها ردع الناس وزجرهم، وتحقيق ما شرع القضاة من أجله، وهو تعظيم حرمات الله عز وجل وكف الناس عنها.
وأياً ما كان فإن ظاهر الحديث يدل على المنع من الزيادة على عشرة أسواط، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد ، ولا شك أن الأحوط أن يقتصر عليه، وعلى هذا فإنه يرد السؤال عن التعزير بالعقوبات الغليظة، فقالوا في الجلد: لا يزاد على هذا الحد -على الخلاف الذي ذكرناه- لكن هل يشرع التعزير بالعقوبات المالية؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات البدنية غير الجلد مثل الصفع؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات المغلظة كالقتل؟
ذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى جواز التعزير بغير الجلد، وأن التعزير أمرٌ مرده إلى القاضي، وهو يختلف بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والجرائم، فإذا نظر القاضي إلى أن هذه الجرائم لا يردع فيها إلا بعقوبة غليظة؛ غلظ العقوبة، حتى ذهب الإمام مالك رحمه الله وأصحابه إلى جواز التعزير بالقتل، وأن من وقع في حدود الله عز وجل وتكرر منه ذلك، ورأى الإمام والقاضي والسلطان أن المصلحة في قتله حتى ينقطع شره وفساده، ويكون ذلك أبلغ في ردع غيره؛ فإن له ذلك، وقد اختار هذا القول بعض المحققين والأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة.
وقالوا: إن الأمر مرده إلى القضاة وإلى الولاة أن ينظروا الأصلح للناس، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحل القتل تعزيراً في الخروج عن الجماعة؛ فقال كما في الصحيح: (من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق كلمتكم وجماعتكم فاقتلوه كائناً من كان)، وهذا يدل على مشروعية التعزير بالقتل، وهو أصل عند من يقول بجوازها، واحتج به شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة، وقالوا: إنه إذا وجد الشر والبلاء العام ولا ينقطع إلا باستئصال شأفة من فعل ذلك، فإنه يلجأ إلى مثل هذه العقوبات علاجاً للفساد وقطعاً لدابر أهله، وقد أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم عزروا، وبالغوا في التعزير أيضاً عند حصول الموجب.
ومن هنا قالوا: من تكررت منه جريمة الشرب فيعزر بالقتل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل شارب الخمر في الرابعة، قالوا: فهي من هذا الباب، فتكون عقوبة تعزيرية عند تكرر الجرائم، فإن من تكررت منه الجريمة وليس للجريمة عقوبة أو لها عقوبة وتكررت منه الجريمة على وجه فيه الاستخفاف والاحتقار للعقوبة، والتهتك في محارم الله عز وجل بعد أن عوقب فيرجع إليها المرة تلو المرة، ويتكرر منه ذلك؛ قالوا: إنه يشرع للإمام أن يقتله، وهذا المذهب هو من أقوى المذاهب في مسائل التعزير، ونظراً إلى المقصود العام، وهو أن المراد بالتعزير كف الناس وزجرهم عن حدود الله، وكف الناس وزجرهم عن بغي بعضهم على بعض، وأذية بعضهم لبعض.
ولذلك في بعض أنواع القتل مثل القتل غيلة، وهي أن يستدرج الرجل البريء المعصوم الدم، أو تفعل الجرائم المستبشعة، مثل أن يستدرج المرأة بطريقة خبيثة ويخدعها، أو يكون له ولاية، أو يكون له مكان يؤتمن فيه على مصالح المسلمين، فيستدرج لذلك على سبيل الأذية والإضرار بالمصالح العامة، قالوا: فيشرع فيه التعزير، فإذا استدرج المقتول من المدينة وأخرجه عنها ثم قتله؛ شرع للسلطان أن يقتله لهذا، ويكون الحق للعام لا للخاص، ذلك: كونه يستدرج في الجريمة بحيث يأمن المقتول، أو يؤخذ على طريقة فيها استهتار بدماء المسلمين، أو فيها بشاعة وشناعة، ورأى السلطان أن مثل هذا لا بد أن يعاقب بعقوبة تردع غيره عن فعله؛ فإنه يشرع له أن يقتله.
وما هي فائدة قولنا: إنه يقتله تعزيراً؟
إذا قلنا: للسلطان أن يقتله تعزيراً؛ فإنه لو عفا أولياء الدم فلن يسقط القتل؛ لأنه لحقٍ عام، وهذا هو الذي جعل العلماء يشددون في بعض الحقوق، حتى قال الإصطخري من أصحاب الشافعية رحمهم الله: إن من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، وتكرر منه احتقارهم وأذيتهم أمام أهل السنة، انتقاصاً وازدراءً بهم؛ شرع قتله، وأنه لو عفا السلطان فلا يقبل عفوه، وكل هذا تعظيماً لحرمات الدين؛ لأنه إذا طعن في الصحابة فمعناه أنهم طعنوا في الدين، وقالوا: لأننا لا نعلم عفو الصحابي عن ذلك؛ لأنه ميت.
وكل هذه الأحكام التعزيرية المغلظة قصد بها ردع الناس وزجرهم، وتحقيق ما شرع القضاة من أجله، وهو تعظيم حرمات الله عز وجل وكف الناس عنها.
وأياً ما كان فإن ظاهر الحديث يدل على المنع من الزيادة على عشرة أسواط، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد ، ولا شك أن الأحوط أن يقتصر عليه، وعلى هذا فإنه يرد السؤال عن التعزير بالعقوبات الغليظة، فقالوا في الجلد: لا يزاد على هذا الحد -على الخلاف الذي ذكرناه- لكن هل يشرع التعزير بالعقوبات المالية؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات البدنية غير الجلد مثل الصفع؟ وهل يشرع التعزير بالعقوبات المغلظة كالقتل؟
ذهب طائفة من العلماء رحمهم الله إلى جواز التعزير بغير الجلد، وأن التعزير أمرٌ مرده إلى القاضي، وهو يختلف بحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والجرائم، فإذا نظر القاضي إلى أن هذه الجرائم لا يردع فيها إلا بعقوبة غليظة؛ غلظ العقوبة، حتى ذهب الإمام مالك رحمه الله وأصحابه إلى جواز التعزير بالقتل، وأن من وقع في حدود الله عز وجل وتكرر منه ذلك، ورأى الإمام والقاضي والسلطان أن المصلحة في قتله حتى ينقطع شره وفساده، ويكون ذلك أبلغ في ردع غيره؛ فإن له ذلك، وقد اختار هذا القول بعض المحققين والأئمة كشيخ الإسلام ابن تيمية وطائفة.
وقالوا: إن الأمر مرده إلى القضاة وإلى الولاة أن ينظروا الأصلح للناس، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أحل القتل تعزيراً في الخروج عن الجماعة؛ فقال كما في الصحيح: (من أتاكم وأمركم جميع يريد أن يفرق كلمتكم وجماعتكم فاقتلوه كائناً من كان)، وهذا يدل على مشروعية التعزير بالقتل، وهو أصل عند من يقول بجوازها، واحتج به شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة، وقالوا: إنه إذا وجد الشر والبلاء العام ولا ينقطع إلا باستئصال شأفة من فعل ذلك، فإنه يلجأ إلى مثل هذه العقوبات علاجاً للفساد وقطعاً لدابر أهله، وقد أثر عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم عزروا، وبالغوا في التعزير أيضاً عند حصول الموجب.
ومن هنا قالوا: من تكررت منه جريمة الشرب فيعزر بالقتل، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل شارب الخمر في الرابعة، قالوا: فهي من هذا الباب، فتكون عقوبة تعزيرية عند تكرر الجرائم، فإن من تكررت منه الجريمة وليس للجريمة عقوبة أو لها عقوبة وتكررت منه الجريمة على وجه فيه الاستخفاف والاحتقار للعقوبة، والتهتك في محارم الله عز وجل بعد أن عوقب فيرجع إليها المرة تلو المرة، ويتكرر منه ذلك؛ قالوا: إنه يشرع للإمام أن يقتله، وهذا المذهب هو من أقوى المذاهب في مسائل التعزير، ونظراً إلى المقصود العام، وهو أن المراد بالتعزير كف الناس وزجرهم عن حدود الله، وكف الناس وزجرهم عن بغي بعضهم على بعض، وأذية بعضهم لبعض.
ولذلك في بعض أنواع القتل مثل القتل غيلة، وهي أن يستدرج الرجل البريء المعصوم الدم، أو تفعل الجرائم المستبشعة، مثل أن يستدرج المرأة بطريقة خبيثة ويخدعها، أو يكون له ولاية، أو يكون له مكان يؤتمن فيه على مصالح المسلمين، فيستدرج لذلك على سبيل الأذية والإضرار بالمصالح العامة، قالوا: فيشرع فيه التعزير، فإذا استدرج المقتول من المدينة وأخرجه عنها ثم قتله؛ شرع للسلطان أن يقتله لهذا، ويكون الحق للعام لا للخاص، ذلك: كونه يستدرج في الجريمة بحيث يأمن المقتول، أو يؤخذ على طريقة فيها استهتار بدماء المسلمين، أو فيها بشاعة وشناعة، ورأى السلطان أن مثل هذا لا بد أن يعاقب بعقوبة تردع غيره عن فعله؛ فإنه يشرع له أن يقتله.
وما هي فائدة قولنا: إنه يقتله تعزيراً؟
إذا قلنا: للسلطان أن يقتله تعزيراً؛ فإنه لو عفا أولياء الدم فلن يسقط القتل؛ لأنه لحقٍ عام، وهذا هو الذي جعل العلماء يشددون في بعض الحقوق، حتى قال الإصطخري من أصحاب الشافعية رحمهم الله: إن من سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، وتكرر منه احتقارهم وأذيتهم أمام أهل السنة، انتقاصاً وازدراءً بهم؛ شرع قتله، وأنه لو عفا السلطان فلا يقبل عفوه، وكل هذا تعظيماً لحرمات الدين؛ لأنه إذا طعن في الصحابة فمعناه أنهم طعنوا في الدين، وقالوا: لأننا لا نعلم عفو الصحابي عن ذلك؛ لأنه ميت.
وكل هذه الأحكام التعزيرية المغلظة قصد بها ردع الناس وزجرهم، وتحقيق ما شرع القضاة من أجله، وهو تعظيم حرمات الله عز وجل وكف الناس عنها.
قال رحمه الله: [ ومن استمنى بيده من غير حاجة عزر ]:
الاستمناء: استدعاء المني بالدلك باليد، أو بالغشي على الأرض، ونحو ذلك من الوسائل التي يستخرج بها المني، وهي -أي: الاستمناء- عادة مذمومة، وقد نص الأئمة رحمهم الله على تحريمها في الأصل، واستدل الإمام مالك رحمه الله وبعض أئمة السلف على تحريمها بقوله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:5-7]، فوصفهم بأنهم عادون، ولا شك أن الاستمناء وراء ذلك، فليس استدعاءً للمني بالشهوة بطريقها المعتاد عن طريق الزوجة أو ملك اليمين، ومن هنا تدخل في الاعتداء، فكانت حراماً.
أضرار الاستمناء الصحية
خلاف العلماء في جواز الاستمناء عند الحاجة
فالجمهور على أنها لا تجوز حتى عند الحاجة، وقالوا: إنه لو خاف الزنا واستمنى فهو آثم، لكنه مرتكبٌ لأخف الضررين، وهو لا يخلو من الإثم، واستدلوا بعموم الآية الكريمة، ومن الأدلة القوية على مذهبهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، ولم يذكر الاستمناء، وقد كان بالإمكان أن يذكره، خاصة وأنه يطفئ الشهوة ويسكن الغريزة، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكره، ومن هنا قال العلماء: إن الأصل تحريمه، ولا وجه لاستثنائه عند الحاجة.
واستثنى المصنف رحمه الله وجود الحاجة، ووجود الحاجة: أن يخاف على نفسه الزنا، أو يخاف الضرر فنصحه الأطباء أن يستمني، كما لو انتفخ شيء من أعضائه التناسلية جراء احتباس المني، وخشي الضرر على مسالك المني والأنثيين، فإن بعض الأطباء قد يضطر إلى نصيحة المريض أن يستمني، وقد حكوا عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم فعلوا ذلك، فيحتمل أن يكون اجتهاداً منهم، ولكن الأمر يحتاج إلى إثبات صحة ذلك عنهم رضي الله عنه وأرضاهم.
وأياً ما كان فإن الأصل يقتضي تحريم الاستمناء، وأنه لا يجوز، ولكن لو خاف على نفسه الزنا ثم استمنى، فهو مرتكب لأخف الضررين، ويبقى الحكم على الأصل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص، ومن صبر صبره الله.
الاستمناء بواسطة الاستمتاع بالزوجة
طرق الوقاية من هذه العادة السيئة
أولاً -وهو أعظمها وأجلها-: الدعاء:
فيدعو الإنسان ربه أن يحصن فرجه، وأن يكفيه بحلاله عن حرامه.
ثانياً: الغفلة عن الشهوة:
هذا من أقوى أسباب انطفاء الشهوة والبعد عن المحرمات، فإن الإنسان إذا ألهى نفسه بما أحل الله انكفت عما حرم الله، ولذلك وصف الله عز وجل أهل العفة بالغفلة، فالتفكر في أمور الزواج وأمور النساء، وأمور المردان، وأمور الفساد، وسماع مثل هذه الأشياء، أو تتبع هذه الأشياء، أو الاسترسال في هذه الأشياء، يفتح على الإنسان باب شرٍ هو في عافية منه، ومن استغفل نفسه فحاول أن يلهيها بما أحل الله عز وجل، وأوجد في نفسه شعوراً بالقوة أن الله سيعينه؛ سرعان ما يضعف سلطان الشيطان عنه، ولذلك يحاول قدر استطاعته أن لا يفكر في الأمور التي تثير الشهوة إن كان عزباً.
ثالثاً: الاشتغال بطاعة الله:
فإذا كان عزباً اشتغل بطاعة الله، فإنها تقوي النفوس على ترك الحدود والمحارم، وتضعف سلطان الشيطان على الإنسان، فمثلاً: لو اشتغل بطلب العلم وبمسائل العلم والتهى بذلك، فكلما حدثته نفسه عن فتنة ألهى نفسه بذلك الخير، وأحس أنه في جنة من رحمة الله عز وجل، وأنه يتخوض في رحمات الله، واستحيا من الله واستعف؛ أعفه الله سبحانه وتعالى، ومن استغنى بالله أغناه الله، ولذلك لن تجد أحداً يقع في المحرمات إلا إذا شغل نفسه بها، أو فتح على نفسه باباً من أبوابها.
رابعاً: أن يجتنب الإثارة:
ومن الأبواب التي تفتح أبواب الشهوة على الإنسان جلوسه مع المردان، وصحبته لأهل التهتك والفجور والعياذ بالله، أو نظره في الصور المحرمة والخليعة، أو مشيه في الأماكن التي يرتادها من لا عفة له، كل هذا يحرك كوامن النفس، ويفتح على الإنسان باب الفتنة، فقد يكون في عافية ولا شك أنه في عافية منه.
فمن هنا إذا أخذ بهذا السبب القوي، وهو الالتهاء والاشتغال بطاعة الله وبما ينفع عن معصية الله؛ كان أبعد وأبعد عن الوقوع فيها.
خامساً: البعد عن الخلوة:
قال بعض الحكماء: إن هذه العادة لا تكون إلا عند الخلوة، فمن ابتلي بها فإنه يحرص على أن لا يأتي لخلوته إلا وهو منهك متعب، حتى إذا جاء وألهى نفسه وأضعفها عن فعل هذه العادة المذمومة والوقوع فيها هان عليه أمرها، فيكون أبعد عنها.
نصيحة وتوجيه لمن ابتلي بالاستمناء
فمن هنا يأخذ بالأسباب التي تبعده عن مشاهدة الأمور التي تثير الغريزة، ولذلك على المسلم أن يجرب غض البصر إذا مرت به فتنة، وإذا غض بصره غضه بقوة ويقين بالله عز وجل؛ لأن هناك من الناس من يغض بصره وقد بقيت أثر الشهوة في عينه وقلبه -نسأل الله السلامة والعافية- فهو يغض شكلاً لكنه يغض قالباً لا قلباً وجوهراً، والمنبغي أنه إذا رأى الفتن وكان هجوم الفتن عليه فإنه يستغفر، أما من تقصد رؤية الفتن، وذهب إلى أماكنها، وارتادها وطلبها، فلا يلومن إلا نفسه، ولذلك من عوفي فليحمد الله، ومن وقع في مثل هذه الفتن التي تدمر الأخلاق، خاصة بمشاهدة الصور الخليعة، والأفلام الماجنة الساقطة، وغير ذلك من الصور التي تدمر الفضائل، وتحيي في النفوس الرذائل؛ فعليه أن يستغفر الله عز وجل استغفار الصادقين.
وعليه أيضاً أن لا ييأس، فإن الشيطان قعد للإنسان بكل مرصد، فبعض الناس ينهزم أمام هذه الشهوة، وأمام كل شهوة، فمن ابتلي بشهوة من الشهوات فإن الشيطان يحرص على أن يقتل في نفسه البعد عنها، ولذلك يوجد في نفسه شعوراً أنه قد استحكمت فيه العادة السرية أو الاستمناء، وأنه لا يستطيع تركها، وهذا الشعور النفسي من أخطر ما يكون على الإنسان؛ لأنه يضعف فيه العزيمة عن الرشد، ويضعفه عن التوبة الصادقة، ويحطم فيه معاني الخير.
ومن خبث الشيطان أنه يوقع الإنسان في الجريمة المرة والمرتين والثلاث والأربع، فإذا تحكم عدو الله منه ربما غلبه بهذا الشعور بطريقة ملتوية عجيبة، كما يلاحظ من أسئلة الناس وفتاويهم.
فمنهم من يأتيه الشيطان ويتركه فيتوب ويندم، فيعيش الأسبوع والأسبوعين لا يفعل هذه المعصية، فيجد حلاوة الإيمان، فإذا وجد حلاوة الإيمان أوجد عنده شعوراً أنه لن يعود إلى العادة السرية أو غيرها من الذنوب، فإذا ظن أنه لن يعود جاءه عدو الله وقال له: احلف العهود والمواثيق، فيحلف المسكين العهود والمواثيق على نفسه؛ لأن الخبيث يعلم أنه قد استحكم منه بالتكرار، وأن النفس متعلقة بهذه الشهوة، فيأخذ منه العهود والمواثيق، ثم يرجع به مرة ثانية إلى محارم الله، فإذا رجع به مرة ثانية إلى محارم الله استولى عدو الله على قلبه فقال له: أنت ناقضٌ للعهد، ناكثٌ للعهد، أنت كذا وكذا، حتى يدمر نفسيته، ويقطع ما بينه وبين الله.
فمن الناس من أيقظ الله قلبه وأحيا روحه، فقام إلى عدو الله فكبته بذكر الله وقال له: اخسأ عدو الله، فوالله لو أني عدت إليها ملايين المرات فلا أزال أؤمل أن ربي غفورٌ رحيم، فإذا وقع رجع إلى ربه وأغاظ الشيطان، وقال: والله لو عدت المرات والكرات، ما دام أني أندم ندماً صادقاً بعد فعلها؛ فإني أرجو رحمة ربي، ولن يستطيع أحدٌ كائناً من كان أن يدخل بين العبد وربه، فإن الله ألطف بعباده وأرحم بخلقه، فإذا وجد الإنسان أنه قد استحكمت العادة بطول الاستمراء وبطول العهد سواء في العادة السرية، أو في المحرمات من النظر إلى النساء أو المردان أو غير ذلك من الشهوات والمحرمات -إذا وجد أنها قد استحكمت من قلبه، فليعلم أن المعاصي بالتكرار يكون سلطانها أقوى، كما أن الطاعات بالتكرار تكون هينة أمام الإنسان سهلة عليه، فمن اعتاد قيام الليل وكرره المرة بعد المرة، أصبح عنده ألذ من النوم والكرى ساعة التعب، وألذ من الطعام والشراب في شدة الظمأ وشدة الجوع، وهذا من رحمة الله عز وجل، فإذا علم أن المعصية بتكرارها يتسلط الشيطان على شعبة من شعب القلب في نفسية الإنسان، فالعلاج في هذا أن يفرق بين كونه مدمناً على هذا الشيء وبين كونه يقع المرة والمرتين.
فالعلاج لا يكون ولن يكون إلا بتوفيق الله، فأولاً -وقبل كل شيء- يوجد في نفسه الشعور أن قدرة الله فوق كل شيء، وأنه لو عاد إلى الزنا، أو عاد إلى المحرمات، أو عاد إلى العادة السرية ملايين المرات؛ فإن يشأ الله في طرفة عين أن يقلبه كأن لم يفعل شيئاً فعل سبحانه، فإذا أحس بعظمة الله لم يستكثر على الله أن ينجيه، وهنا تكون الثقة بالله؛ لأنه ما أحسن عبدٌ ظنه بربه إلا كان الله عند حسن ظنه، قال تعالى في الحديث القدسي: (أنا عند حسن ظن عبدي بي)، ولذلك يحرص الشيطان في المعاصي دائماً على قتل هذه الروح، ومن هنا فرقوا بين العلماء والجهلاء في مسألة المعاصي، وليس المراد بالعلماء العلماء الراسخون في العلم، وإنما العالم هنا هو الذي يعلم من هو ربه بأسمائه وصفاته، فمن عرف الله في رحمته وحلمه وبره وإحسانه إلى خلقه؛ قتل عدو الله إبليس وأهانه وأذله، حتى إنه يعود إلى ربه ولو بعد السنوات الطويلة من المعاصي؛ لأنه ما خاب ظنه أن الله سيخلف عليه بخير يرده عليه.
ومن هنا نقول: إن هذه العادة لما كثر سؤال الناس عنها واشتد البلاء بها، خاصة في هذه الأزمنة التي كثرت فيها الفتن والمحن، وغيرها من المعاصي، حينما اشتد بلاء المعاصي والفتن والشهوات في هذا الزمان الذي عظمت غربته، والذي لا يشتكى فيه إلا إلى الله وحده لا شريك له، فهو وحده الذي يرحم الغرباء، ويلطف بعباده الضعفاء أمام الفتن، وهذا البلاء الذي لا يكشفه أحدٌ سواه جل جلاله وتقدست أسماؤه، فيغاض عدو الله بهذا.
وعلى المسلم أن يعلم أن إدمان المعاصي وتكرارها يفتح عليه باباً، ومن هنا من وقع في الشهوة مرة ليس كمن وقع فيها مرتين، ومن وقع فيها مستخفاً مستهتراً ليس كمن يقع فيها معظماً، وإذا ثبت هذا فعليه أن يعلم أن العودة والتوبة تحتاج إلى قوة، وليس هناك أقوى من العزيمة، فمن صدقت عزيمته في الله سبحانه وتعالى قوي لطف الله عز وجل به، ولذلك قص الله قصص الأنبياء فجعل تفريج الكرب عنهم، وحسن اللطف بهم من قوة الثقة بالله سبحانه وتعالى، ومن هنا قال يعقوب: إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [يوسف:96]، فلما علم من الله ما لا يعلمون رد الله عليه بصره، ورد عليه ابنه في أحسن الأحوال وأتمها وأكملها.
فمن سلب شيئاً من دينه ووقع في الفتنة فاشتكى إلى الله جل جلاله، ويا ليت العبد تصور أو شعر حينما يبتلى بالفتنة أنه لن ينجيه إلا الله، وأنه لا يمكن أن يطهر منها إلا بتوفيق الله، فوثق بهذا الأساس، فالتفت يميناً وشمالاً وعلم أنه لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إلى الله، ففر إلى الله، وبحث عن أقرب الطرق إلى الله سبحانه وتعالى؛ لكي يشتكي إلى الله ولا يشتكي إلى أحدٍ سواه، فنظر فوجد أن ربه ينزل في كل ليلة في الثلث الآخر، ويسأل: هل من داعٍ فأستجيب دعوته؟ فاختار أحب الأوقات وأفضلها وأقربها وأرجاها إجابة، فتجرد لله مخلصاً من قلبه، ونادى الله في ظلمة الليل لا يسمعه إلا ربه، واشتكى إلى الله. ويا ليت أن العبد يعلم ما معنى الشكوى، فإنه ما من عبدٍ ولا أمة يقف بباب الله عز وجل ويقول: يا رب! إني أشكو إليك، إلا كانت شكواه عند الله جل جلاله.
فقد سمع الله الشكوى من فوق سبع سماوات من خولة بنت ثعلبة التي جاءت تجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجها أوس بن الصامت، تقول عائشة : (والله! إني وراء الستر يخفى علي بعض كلامها وهي تقول: يا رسول الله! أكل شبابي، ونثرت له ما في بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي؛ ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك)، فسمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، وأعلم خلقه -كل من تلا الآيات البينات- أنه يسمع الشكوى، وأنه يجيب من اشتكى إليه، فإذا اشتكى العبد إلى ربه في ظلمة الليل، وقال: يا رب! إني أشكو إليك نفساً أمارة بالسوء، وضعفاً أمام معاصيك، اللهم أمدني بحول منك وقوة، اللهم أصلح لي ما ظهر وما بطن من أمري، فإن الله لن يخيب عبداً سأله جل جلاله.
فإذا اختار الإنسان مثل هذه المواقف الصادقة لربما ابتلاه الله عز وجل، فمنهم من يعطيه الله الإجابة أسرع من لمح البصر حتى يقوم من مقامه كأن لم تكن به فتنة، ومنهم من يؤخر الله عنه الإجابة، فإذا تأخرت عنه الإجابة اتهم نفسه أنه مقصر اتهام عبدٍ لا يسيء الظن بالله، فإذا اتهم نفسه أنه مقصر لم يستشعر أن أبواباً غلقت دونه، ولكنه يستشعر أن الله يريد منه صدق اللجأ، وأن الله يحب منه أن يناجيه المرة بعد المرة، فكما أن البلايا تكون في الأجساد بالأمراض والأسقام والعلل فكذلك بلايا الدين، فمن قرع باب الله مرة بعد مرة، فإن الله يلطف به.
وهنا وقفة عجيبة: من الناس من يقع في ذنب الزنا، ومنهم من يقع في ذنب النظر، ومنهم من يقع في فتنة الخمر، ومنهم من يقع في غير ذلك؛ فإذا اشتكى إلى الله صادقاً من قلبه لربما قفل الله عليه باباً في هذه الفتنة هو باب عقوبة، لو لم يشتكِ إلى الله لوقع في أشد مما هو فيه. إذاً: كل من أحس أن دعوته لم تستجب مباشرة فعليه أن يحسن الظن أن هناك مثوبة، وأن الله عز وجل سيعطيه، وقد يصرف عنه من السوء مثلما سأل، وقد يدخر له يوم القيامة لدرجة لا يبلغها بكثرة صلاة ولا صيام.
فإذا فرج عنه في المرة الأولى فالحمد لله، وقد لا يستجاب له من أول الأمر، كما حصل لأحد الأخيار، فقد اشتكى أنه كان على صلاح واستقامة فابتلي بفتنة؛ صعد ذات يومٍ فوق بيته فرأى زوجة جاره، وكانت متهتكة، ثم لم يزل به إبليس حتى أغواه -والعياذ بالله- فوقع في الحرام معها، ثم فتح عليه باب بلاء ما كان يخطر له على بال، فبلغ به الأمر إلى شدة عظيمة حتى كاد أن ييأس من رحمة الله والعياذ بالله، وكان حافظاً للقرآن، ومن خيار الصالحين، فاشتكى إلى أحد طلبة العلم، فدله على الثقة بالله، والدعاء الصادق لله عز وجل، وأن يكرر ذلك، فالتمس أمراً يدعو به فهيأ نفسه لقيام الثلث الأخير، واستمر على ذلك ما يقرب من الشهر وهو يدعو المرة بعد المرة، ولم يكتب الله عز وجل له شيئاً من تفريج كربه؛ ابتلاءً من الله سبحانه وتعالى، ووجد من تعلق قلبه بهذه المرأة وفتنته بها ما لم يستطع أن يشكو أمره إلا إلى الله عز وجل، فلما انتهى الشهر رجع، واشتكى إلى ذلك الطالب أمره، فقال له: يا أخي! أوصيك أن تقدم بين يدي دعائك وسيلة إلى الله، من صدقة، أو بر والدين، أو صلة رحم؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35].
فيحكي عن نفسه أنه في شدة حر الظهر في يومٍ صائف، وقد كان يقول: والله لقد كنت متعلقاً بها بفتنة لا يمكن أن توصف، والمشكلة أنها جارته، يقول: إنه خرج في ذلك اليوم في شدة الصيف، فوجد أرملة بحالة يرثى لها، فحملها إلى بيتها، وقد كانت تشتكي كالمغشي عليها، فتعاون معه بعض الناس فحملها إلى بيتها، وأصلح لها ما تحتاجه في بيتها، ووضع لها بعض الأغراض، واشترى مكيفاً، وأصلح لها حالها، وما انتهى ذلك الانشغال إلا قريب العشاء، فلما رجع إلى بيته صلى ركعتين؛ قال: فتذكرت الوسيلة إلى الله عز وجل، وأن العمل الصالح طريق إلى كل خير، وأن الله لا يترك عبده إذا أحسن فيما بينه وبينه، قال: فصليت ركعتين، فوجدت انشراحاً في صدري عجيباً -ويذكر العلماء أن من بشائر قبول الدعاء استبشار وانشراح يأتي قلب العبد، كما أثر عن عمر رضي الله عنه أنه قيل له: متى يكون الدعاء مستجاباً؟ قال: إذا ألهم الدعاء، وصحبه فرح؛ لأنه يصحبه قوة ثقة بالله عز وجل، ومن دعا الله عز وجل موقناً فإن الله عز وجل لن يخيب ظنه قال: فصليت، ومن أغرب ما وقع أنني لما سجدت السجود الأخير سألت الله من قلبي، وقلت: اللهم إني أسألك كما أطفأت حر هذه الأرملة أن تطفئ حر الشهوة في قلبي، قال: فوجدت حرارة شديدة في صدري، ثم وجدت برودة في أطرافي، فرفعت رأسي، ووالله كأني ما شعرت أنها جارة لي، وكأنما بها نزعت من قلبي بالكلية، يقول: فأكملت التشهد وسلمت، وصرف الله عني الفتنة، يقول: ومن العجيب أنه بعد أسبوع نقلت وظيفة جاري من البلد الذي أنا فيه إلى بلدٍ آخر، قال: فعجبت من لطف الله، وعجبت من اختبار الله للصبر، أنه لم يستجب لي مباشرة، وإنما أخرني هذا الشهر كاملاً، فدلني على باب من أبواب الفرج، وهو الإحسان للضعفاء والأرامل والبائسين، دلني عليه سبحانه وتعالى بالإكثار من الدعاء.
ولذلك كان بعض العلماء يقول: من نعم الله عز وجل على العبد تأخير الإجابة، والضعيف الإيمان على العكس، فإنه إذا أخرت الإجابة ساءت ظنونه بالله عز وجل.
وكم من أناسٍ من الأخيار والصالحين وجدوا في تأخير الإجابة من الخير ما الله به عليم، ومن أعظم النعم في تأخير الإجابة سلب العبد الغرور؛ لأنه لو استجيب له مباشرة لربما اغتر، ولربما استدرج والعياذ بالله.
فالمقصود: أن هذه الفتن والشهوات أردنا أن ننبه عليها لعظيم بلاء الناس بها، وخاصة في هذه الأزمنة، ولكن العلاج هو الذي ذكرناه من الأخذ بالسبب وهو نسيان الشهوة، وأن الإنسان لا يلتفت إلى شهوته، وإنما يقبل على شيء ينفعه، وعلى شيء يشغله، وعلى رفقة صالحة تعينه على طاعة الله ومرضاته؛ فإذا فعل ذلك عصم بتوفيق الله عز وجل.
نسأل الله بعزته وجلاله وعظمته وكماله أن يصرف عنا وعنكم الخواطر الرديئة، والوساوس المردية، ونسأله تعالى أن يكمل إيماننا، وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يرحم غربتنا، وأن يجبر كسرنا، إنه ولي ذلك، وهو ربنا. والله تعالى أعلم.