شرح زاد المستقنع باب حد المسكر [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [باب حد المسكر]، تقدم معنا تعريف الحدود، وبينا أنها العقوبات المقدرة شرعاً، وعلى هذا فإن حد المسكر هي: العقوبة التي نص عليها الشرع، إما مقدرة محددة كما اختاره جمهور العلماء رحمهم الله، وإما أن تترك لنظر الإمام فيما هو أولى في ردع الناس وزجرهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى توضيحه وبيانه.

أما من حيث الأصل فالجماهير على أن للسكر والخمر حداً في شريعة الله عز وجل، وعقوبة شرعية.

وقوله [المسكر] يقال: أسكر الشيء يسكر فهو مسكر، اسم فاعل، والمراد به ما خامر العقل وغطاه، سواء كان ذلك بالشراب أو بغيره، وسواء كان قليلاً أو كثيراً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وضع هذا الضابط فيما صح عنه من الأحاديث، فقال عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، هذا عام وشامل للقليل والكثير؛ ولذلك قال: (ما أسكر كثيره فملء الكف منه حرام)، وفي لفظ: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) ، وكل هذا يدل على أن العبرة بوجود الإسكار، وأنه لا فرق في هذا الذي يتعاطاه الناس بين أن يكون قليلاً أو كثيراً ما دام أنه يخامر العقل.

وفرّق بعض العلماء رحمهم الله بين السكر والجنون: فجعلوا الجنون ما يذهب العقل، وجعلوا السكر ما يغطي العقل، فهم يرون أن هناك فرقاً بين السكر والجنون من هذا الوجه؛ ولذلك وصف المسكر بكونه خمراً لأنه يخامر يعني: يغطي، وعلى هذا فالعقل في الأصل يكون موجوداً، وتجد السكران تارة يفهم الأشياء وتارة لا يفهمها.

واختلفت ضوابط العلماء رحمهم الله في السكر، ومن هو السكران:

فقال بعض العلماء رحمهم الله: هو الذي لا يفهم الخطاب، ولا يحسن الجواب، لا يفهم ما تخاطبه به، ولا يحسن أن يجيبك، ويختلّ ذلك الكلام المعهود منه، ولذلك لما أرادوا أن يختبروا بعض العلماء -وهو علي بن داود - عندما تصدر للفتوى والعلم، سألوه: متى يكون الإنسان سكراناً؟

فقال رحمه الله: إذا اختلّ كلامه المنظوم، وأباح بسره المكتوم.

فهذه من دلائل السكر أن يختل نظام كلامه، فربما تكلم بأشياء لا تفهم، وربما تكلم بأشياء تفهم، ولكنه يقدم أو يؤخر أو يدخل فيها غير المفهوم.

ومن هنا قال: إذا اختلّ كلامه المنظوم، وأيضاً أباح بسره المكتوم، وهذا من عظيم رحمة الله عز وجل بالعبد أنه رزقه العقل، وما سمي العقل عقلاً إلا لأنه يعقل، فهو يحمل الإنسان على الحياء والخجل، ويحمل الإنسان على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، ويجعله ينتقي أفاضل الكلام كما ينتقى أفاضل الطعام، كل هذا بفضل الله ثم بالعقل، فإذا ذهبت هذه النعمة أو غطيت أو سترت أو حُجِّمت أو أصابها الضرر اختلت كلها، فأباح بسره المكتوم؛ لأن العقل يمنعه أن يبيح بسره، فليس هناك إنسان عاقل يبيح بأسراره أو يكشف ستر الله عز وجل عليه، أو على خلقه، أو على من يحب وعلى من يود؛ ولكن السكران ليس له عقل، ولذلك يبيح بأسراره، ويتكلم ويهذي بما يعرف وما ينكر.

وقوله رحمه الله: [باب حد المسكر] أي: بيان العقوبة الشرعية لمن شرب الخمر، أو تعاطى ما يسكر العقل سواء كان بالخمر أو كان بالمخدر الموجود في زماننا.

وذكر المصنف رحمه الله باب حد المسكر بعد باب القذف، وقد بيّنا أن العلماء رحمهم الله لهم نظرة في العقوبات، فقدّموا حد الزنا لقوة عقوبته، ولأنه أشد جلداً، ثم يليه حد القذف؛ لأنه من جنسه؛ فالأول اعتداء على العرض بالفعل، والثاني اعتداء على العرض بالقول، وعقوبته أخف؛ فكان بعده مباشرة، ثم بعده الخمر، والمناسبة واضحة في العقوبة؛ فإن عقوبة الثلاث كلها بالجلد، فاتفق العلماء رحمهم الله على أن عقوبة الزنا الجلد بإضافة التغريب والرجم على التفصيل إذا كان محصناً كما تقدم معنا، لكن في الأصل عقوبته الجلد، ولذلك قال الله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور:2]، ومن هنا قال بعض العلماء: يجلد الزاني سواء كان محصناً أو ثيباً، حيث يجمع للثيب بين الجلد والرجم -كما تقدم معنا- على ظاهر حديث عبادة .

إذاً: الجلد في الزنا وفي القذف، ثم اتفق حد الخمر مع هاتين العقوبتين -أعني الزنا والقذف- في كونه يحد السكران بالجلد، ولذلك ناسب أن يذكره بعد هذين النوعين، بعد حد الزنا وحد القذف.

يقول رحمه الله: [باب حد المسكر] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بعقوبة شارب الخمر، أو من تعاطى المخدرات، وما في حكمها، سنبينه من كلامه رحمه الله.

بعض العلماء يقول: (باب حد المسكر) وبعضهم يقول: (باب حد الشراب) وبعضهم يقول: (باب حد الخمر)، وكلها متقاربة، وبعضهم يقول: (كتاب الأشربة) كما فعل الخرقي رحمه الله، فإنه قال: كتاب الأشربة، فيتكلم عن الخمر ثم تكلم عن أحكام الأشربة، وعادة العلماء أنهم يذكرون الأحكام في مظانها؛ فمظان أحكام الأشربة أن تذكر في باب الخمر، ولذلك يذكرون الخمر وتحريمها، ثم يفرعون على ذلك شرب السموم أو شرب الأمور المحرمة، وهذا كله من بيان الأشياء في مظانها.

قال رحمه الله تعالى: [كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام]

وهذا أصل مستنبط من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قاعدة انبنت عليها فروع، وأصل انبنى عليه غيره، ومنتزع من قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، و(كل) من ألفاظ العموم والشمول عند العلماء رحمهم الله؛ ولذلك عندما تقول: (كل) حكم على المجموع، وليس حكماً على فرد، ولا أفراد معينين:

الكل حكمنا على المجموع ككل ذاك ليس ذا وقوع

فإذا قيل: (كل)، فهذا من ألفاظ العموم كما نص على ذلك أئمة الأصول رحمهم الله، فهنا نص المصنف رحمه الله على هذا فقال: (كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام).

قوله: (كل شراب) سواء كان من التمر، أو كان من الرطب، أو كان من البسر وهو البلح، أو كان من الزبيب، أو كان من العنب، أو كان من العسل، أو كان من التين، أو كان من الحنطة، أو كان من الشعير، أو كان من الذرة، فهذا عموم، وكانت الخمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً ما تتخذ من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير، كما ذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنها كانت من خمس: فذكر هذه الخمس رضي الله عنه في خطبته المشهورة.

والذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم هو العموم والشمول، فكانوا في ذلك الزمان يتخذون الخمر من هذه الأشياء، فيأخذون التمر؛ فينقع وينتبذ في الماء حتى يشتد ويقذف بالزبد، ثم بعد ذلك إذا شرب أثر في العقل، وخامر العقل والإدراك.

وكذلك أيضاً بقيت الأشياء التي ذكرت، ثم توسع الناس في هذا، وما زالت الأشربة تختلف، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عنه: (كنت قد نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا)، والنبيذ: من النبذ، وأصل النبذ في لغة العرب الطرح، وسمي هذا الشراب نبيذاً لأنهم كانوا يطرحون التمر والبسر -البلح- والرطب والتين والعسل حتى يشتدّ ويقذف بالزبد، فقال عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام) ، فبين عليه الصلاة والسلام أنه لا حرج في هذا الانتباذ إلا أن يكون مسكراً.

قال رحمه الله: (كل شراب أسكر) العلة هي الإسكار، فإذا أثر في العقل فغطى العقل والإدراك فإنه محرم أياً كان هذه الأنواع.

وقال: (كل شراب) لأن الأصل في الخمر أنها شراب، وهذا الذي كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والنص جاء في الشراب؛ لأنه كان هو الموجود، لكن النص نبه على العلة، وبيّن السبب الذي من أجله حرم هذا الشراب؛ لأن الله لا يحرم على عباده إلا لسبب ولأمر، فلما بين عليه الصلاة والسلام أن العلة هي الإسكار: (كنت قد نهيتكم عن الانتباذ، فانتبذوا، وكل مسكر حرام) ، وقال : (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، دل على أن العلة هي مخامرة العقل وإزالة الشعور، فأي شراب أذهب الشعور أو أزال الإدراك فإنه يدخل تحت هذا التحريم؛ لأن العبرة بالمعنى، وليست العبرة أن نجمد عند الألفاظ، إنما العبرة أن ننظر إلى العلة التي من أجلها حرم الله ورسوله هذا الشراب، فتتطور الأمر حتى وجدت أشياء ليست بشراب، وتؤثر في العقل، فتارة تكون من المأكولات، وتارة تكون من المشمومات كالسموم الطيارة التي تشم فتذهب الشعور، وتارة يتعاطاها الإنسان عن طريق الحقن والعياذ بالله! يحقنها في دمه حتى تؤثر على عقله وإدراكه.

إذاً: نحن ننظر إلى العلة، فقال المصنف رحمه الله: (كل شراب أسكر)، وهذا نص منه رحمه الله على تحريم الخمر، وأنها في الأصل كانت من الشراب، وهذا التحريم له دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأيضاً دليل العقل:

أما دليل الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى حرم الخمر في قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91]، وهذه الآية الكريمة لما نزلت صاح عمر رضي الله عنه -كما في الصحيح-: (انتهينا! انتهينا! انتهينا!).

دلالة آية المائدة على تحريم الخمر من عدة وجوه

وهذه الآية دلالتها على تحريم الخمر من وجوه، فليست دالة على تحريم الخمر من وجه واحد، ولا من وجهين؛ بل من وجوه عديدة، وهذا من أجمل وأبدع ما يكون من الأساليب، وكل أساليب القرآن جميلة بديعة؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، قال الله: يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57]، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115]، وهذه الوجوه هي: أولا: أن الله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ [المائدة:90]، فجمع الله عز وجل بين الخمر وبين الشرك؛ وذلك في قوله: (وَالأَنصَابُ) وهي جمع نصب، قيل: هي الأوثان القائمة الشاخصة وقيل: التي كانت تذبح عليها القرابين، فتنصب لذبح القرابين.

فلما قرن الله الخمر بالشرك دل على عظم أمرها؛ وهذا أبلغ في التنفير أن يذكر أعظم الحدود، وأعظم الذنوب الذي لا يغفره الله لصاحبه ويقرن به شرب الخمر، فهذا يدل على عظم تحريم الخمر.

ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى وصفها بكونها رجساً: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90]، والرجس: النجس الخبيث.

ولذلك ذكر العلماء رحمهم الله أن في الخمر وصف النجاسة، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف، قال شيخ الإسلام رحمه الله: الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة، ولم يذكر القول المخالف -الذي هو قول ربيعة وداود الظاهري ومن وافقهما- تعظيماً لأمر حرمة الخمر ونجاستها وخبثها، فقال الله عز وجل: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ [المائدة:90]، هي رجس، والله يقول: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ [الحج:30]، وهذا الوصف المستبشع -وهو الرجس- تنفر منه النفوس السليمة، فضلاً عن النفوس المؤمنة المستقيمة على طاعة الله عز وجل، وهذا يقتضي التنفير من الخمر.

ثالثاً: أن الله سبحانه وتعالى جعلها من عمل الشيطان الذي لا يأتي المسلم بالخير، ولا يأتي الإنسان بخير: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53]، فجعلها من عمل الشيطان، وهذا من أبلغ ما يكون من التنفير؛ لأن المؤمن لا يرتاح لشيء يكون من الشيطان، ولا يحب شيئاً من الشيطان، ومن أساليب القرآن للتنفير من المعاصي أن تصفها بأنها من عمل الشيطان: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:27]، وهذا من أساليب الكتاب والسنة في التنفير من المعاصي.

رابعاً: أن الله عز وجل أمر باجتناب الخمر في الآية الكريمة فقال سبحانه: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]، فيه أمران:

الأول: كونه جاء بصيغة (افْعَلْ)، وهذا يدل على الوجوب، فإن صيغة (افْعَلْ) تدل على وجوب فعل المأمور به، فالأصل عند العلماء أن صيغة (افْعَلْ) تقتضي الوجوب حتى يدل الدليل على الندب.

الثاني: أن الله عبر بالاجتناب، والاجتناب من صيغ التحريم، (اجتنب)، و(دع)، و(اترك)، و(ذر)، هذه كلها من صيغ التحريم عند علماء الأصول، ويرونها من الصيغ القوية التي تدل على الحرمة، قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ [الحج:30].

خامساً: أن الله سبحانه وتعالى بين أن الخمر طريق للعداوة والبغضاء، والوسائل تأخذ حكم مقاصدها، وما كان طريقاً إلى حرام أو سبيلاً إلى حرام فهو حرام، ثم ما كان سبيلاً إلى حرام عظيم فهو سبيل أعظم حرمة؛ ولذلك قالوا: وسائل الشرك أعظم من وسائل الذنوب الأخرى، ووسائل الكبائر ليست كوسائل الصغائر، فتفاضلت الوسائل بحسب ما تنتهي إليه، وانظر! كون القرآن يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ [المائدة:90] فبدأ بها، وقال: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ [المائدة:91] فبدأ بها؛ لأنها أساس الشر وأساس كل خبث؛ ولذلك توصف بكونها أم الخبائث كما ورد مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي تجر إلى كل شر، وإلى كل بلاء، قال الله:إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة:91]، هذا الوجه الخامس.

الوجه السادس: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المائدة:91]، وجمع الله في التنفير بين الأمرين العام والخاص، فقال: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة:91]، فجمع بين كونها صادة عن ذكر الله عز وجل عموما،ً فشارب الخمر لا يذكر ربه، فهو غافل عن الله سبحانه وتعالى، وكذلك أيضاً تكون الخمر طريقاً إلى ترك الصلاة.

كان تحريمها تدريجياً، فنفر الله منها في قوله: : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، فانتهى قوم من الصحابة عند هذا الحد، ثم حرمها عند قربان وقت الصلاة، فكان الناس لا يشربونها من بعد صلاة الظهر، وبعضهم ينتهي منها من بعد الفجر؛ لأنه يذهب إلى معاشه إلى أن يصلي العشاء، فيأتي منهكاً متعباً فلا يستطيع أن يشربها، وهذا من التدريج في التحريم كما سنبينه، فعندما حرمها الله سبحانه وتعالى عند قرب وقت الصلاة؛ فمن يشربها ستضيع عليه الصلاة، لأنه منهي عن شربها عند قرب وقت الصلاة فعبر بالصلاة والمراد وقت الصلاة.

الوجه السابع في الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، قال بعض العلماء: إن ختم الآية الكريمة بهذه الأسلوب البلاغي الجميل البديع أبلغ في زجر النفوس من قوله: (فانتهوا)، فإنه لما قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] فيه ما يدل على الحث والحض على الانتهاء والابتعاد؛ لأنه سبق أمرهم بالاجتناب، فلم يكرر سبحانه ذلك، وإنما جاء بهذا الأسلوب الذي هو أبلغ في تنفير النفوس من شرب هذا الأمر المحرم.

هذا هو دليل الكتاب؛ وهذه الآية الكريمة من سورة المائدة تعتبر أصلاً عند العلماء رحمهم الله في تحريم الخمر.

وفي هذا التحريم الوارد في هذه الآية وقفة يحتاج كل مسلم أن يقف عندها سواء كان من طلاب العلم أو من العلماء أو من العامة؛ وذلك أن الله يقول: (فَاجْتَنِبُوهُ)، والأمر بالاجتناب أمر بالابتعاد، ما قال: فلا تشربوا الخمر ولا تفعلوا الأنصاب والأزلام، ولكن قال: (فَاجْتَنِبُوهُ)، فلما قال: (فَاجْتَنِبُوهُ) دل على أنه لا يجوز لمسلم ولا لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشرب الخمر، ولا أن يحملها، ولا أن يبيعها، ولا أن يشتريها، ولا أن يعتصرها، ولا يطلب عصيرها فتعصر له، ولا أن يعصرها، ولا أن يتطيب بها في ثيابه.

وللأسف! بعض الجهلة يظن أن التحريم للشرب فقط، ثم يأتي بعض طلبة العلم ويقول: الخمر طاهرة في أصح قولي العلماء، وهذا قول لبعض العلماء، ولكنه قولاً مرجوحاً، وجماهير السلف والخلف على أنها نجسة، لظاهر الآية الكريمة، ولحديث أبي ثعلبة الخشني في الصحيحين.

لكن الإشكال أنه يقول: هي طاهرة لا تؤثر في الصلاة، فيتطيب بما فيه كحول، وبما فيه مادة (اسبيرتو) التي فيها كحول، ثم يقول: هي طاهرة! فينظر إلى قضية كونها طاهرة أو نجسة، ولا ينظر إلى أن الله أمره باجتنابها؛ فالله أمر باجتناب القليل والكثير، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم شرب القليل منها والكثير، فنقول: حرم الله وأمر باجتنابها قليلة كانت أو كثيرة، ولو كانت نسبة (2%) ما دام أنها موجودة في هذا الطيب أو في هذا العطر، ولذلك أنت مأمور شرعاً باجتنابها، وهذا أمر يخلط فيه بعض طلبة العلم، ولذلك ينبغي على كل مسلم أن يضع هذه الآية الكريمة في دلالتها وبيانها نصب عينيه، فالأمر بالاجتناب عام شامل للشرب وشامل للتطيب، وهي ليست طيباً بل تضر ولا تنفع.

الأدلة من السنة على تحريم الخمر

ودل دليل السنة على تحريم الخمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) فهذا نص في تحريم الخمر، فكلمة (حرام) تدل على عدم جواز شرب الخمر، وعدم جواز تعاطيها.

كذلك أيضاً صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لعن في الخمر عاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها، وآكل ثمنها، وشاربها، وساقيها، ومستقيها، وهذا من أبلغ ما يدل على تحريم الخمر؛ حتى قال بعض العلماء: ليست العبرة بقوله: (حاملها والمحمولة إليه، وشاربها وساقيها ومستقيها، وبائعها وآكل ثمنها، وعاصرها ومعتصرها)؛ إنما العبرة بكل من ساعد على الخمر، والأمر لا يتوقف عند هذه الأوصاف التي كانت موجودة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من أعان على الخمر فهو ملعون، ومن هنا قالوا: من قال كلاماً يزينها أو يدعو إليها أو مجَّدها أو دفع أبناء المسلمين وشبابهم وأهل الفطرة من صغار السن والأحداث إليها؛ فإنه ملعون؛ لأن فعله هذا قد يكون أبلغ من فعل الذي يحمل أو يبيع أو يشتري.

فهذا كله تعظيم لحرمة الخمر؛ لأنها أم الخبائث، فقفلت السنة جميع الأبواب المفضية إليها تعظيماً لأمرها.

ولو ورد اللعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر جعلها العلماء من كبائر الذنوب، بل قال بعض العلماء: إنها من أكبر الكبائر، ولما روجع في هذا وقيل له: لماذا جعلتها من أكبر الكبائر؟ قال: لأنه إذا شرب الخمر لم يتورع عن أمر ولو كان من أعظم الأمور، وقد اتفق لبعضهم أنه ترك الصلاة، فدخلت عليه أمه ذات يوم وهو شارب للخمر والعياذ بالله! فأمرته بالصلاة، فما كان منه إلا أن حملها إلى تنور مسجّرٍ في البيت ورماها فيه، وهي تستنجد به وتناشده الله حتى هلكت، ثم إنه بعد شربه للخمر أغشي عليه، فلما أفاق وجد أمه -نسأل الله السلامة والعافية- في التنور فمات من ساعته، ومات والعياذ بالله! مدمناً على الخمر وشارباً لها، ومات وهو عاق لوالديه تارك للصلاة.

ومن شرب الخمر استدرج إلى كل قبيحة ورذيلة، ولا يزال يهوي في الرذائل حتى يمسي أو يصبح وليس في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان والعياذ بالله! فهي باب الشر والبلاء، وما فتحت المسكرات والمخدرات على أمة إلا دمرت تماماً، فذهبت فيها الغيرة والحمية، وقتلت الفطرة، وذهبت العقول التي هي نور الله ينير بها لعباده كما قال تعالى: نُورٌ عَلَى نُورٍ [النور:35]، فالنور الأول نور الوحي (عَلَى نُورٍ) وهو نور العقل؛ ولذلك لا يمكن للإنسان أن يصيب الهدى والرشاد إلا بهذين النورين: نور العقل، ونور الوحي نسأل الله عز وجل أن يرزقنا منهما، وأن يجعلنا من أهلهما.

فالخمر أساس كل شر وبلاء، قالوا: إنها من أكبر الكبائر لأنها تقود إلى كل شر، وإلى كل بلاء والعياذ بالله.

واتفق لبعضهم أنه دعته امرأة إلى الزنا والعياذ بالله! فامتنع، فاستدرجته حتى دخل البيت، فقالت له: إن لم تفعل الزنا فإنني أصيح في الناس، فخاف وامتنع، فقالت له: إذاً اشرب من هذا الكأس قليلاً وأدعك تذهب، فلا أدعك تخرج حتى تشرب من هذا الكأس، فشرب من الكأس والعياذ بالله! فلما شربها زنى بها والعياذ بالله! فوقع في الخمر ووقع في الزنا، فهي تقود إلى كل شر، قالوا: الخمر من أكبر الكبائر؛ لأنه لا يتورع صاحبها، وممكن أن يشرك بالله عز وجل، وممكن والعياذ بالله! أن يدعى إلى أخبث وأشنع ما يكون من معاصي الله وحدوده ولا يرعوي، ثم إنها تخلف في الإنسان ضعف العقل والدين، وضعف الغيرة وقلة الحياء، وضعف الخجل، إلى غير ذلك مما تورثه من الأضرار الدينية والدنيوية، ومن هنا قالوا: إنها من أكبر الكبائر، والصحيح أنها من كبائر الذنوب، وأكبر الكبائر ما نص الشرع على كونه من أكبر الكبائر، كما صح عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه.

الإجماع على تحريم الخمر

أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الخمر، وكلهم متفقون على أن الخمر محرمة، وأن من قال: إن الخمر حلال، فقد كفر بالله عز وجل؛ لأنه كذب النص القطعي في القرآن؛ لأن الله عز وجل حرم الخمر، وتحريم الخمر ثابت بدليل قطعي إلا إذا كان جاهلاً فيعلم، أما لو قال: الخمر ما فيها شيء، ولماذا تحرم الخمر؟! الخمر تبهج النفس! وهي حلال، أو قال: ليس في الشرع دليل على تحريم الخمر، وهو يعلم بنص القرآن ونص السنة؛ فهذا -كما ذكر العلماء- كافر مستحل للخمر؛ لأنه يعتقد أنها حلال.

دليل العقل على ضرر الخمر على البدن والعقل والمال

وكما دل دليل النقل دل دليل العقل على تحريم الخمر، قال العلماء: إنها تورث الأضرار الدينية والدنيوية، وقد جاءت الشريعة بحفظ: الدين، والعقل، والعرض، والمال، والنفس، وهي الضرورات الخمس، فمنها: العقل، ولذلك قالوا: إن النصوص كلها دالة على أن الشريعة تراعي جلب المصالح ودرء المفاسد، والخمر فيها أعظم المفاسد، ففيها مفاسد الدين، فهي تؤثر في دين الإنسان واستقامته وطاعته لله عز وجل، وقد بيّن الله عز وجل هذه المفسدة الدينية بقوله : رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90]، وقال: يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة:91]، فنص على أن فيها أضراراً دينية، وليست الأضرار على الفرد فقط، بل حتى على المجتمع يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ، إذاً: الضرر الديني موجود فيها.

وأما الضرر الدنيوي فقد تكلم الأطباء في هذا بما يشفي ويكفي، وعلى كل عاقل عنده من الوقت والسعة أن يقرأ بعض البحوث المفيدة التي تكلمت عن أضرار المسكرات والمخدرات، حتى يحصن بذلك نفسه فيزداد يقيناًً بحكم الله عز وجل بالتحريم، وأيضاً ينفع بها غيره؛ إذا وعظه وذكره وزجره عن هذا الداء الخبيث.

ومما يدل على أضراره الدنيوية عظيم أثرها على الجسد، ومن هنا نص عليه الصلاة والسلام على ذلك: (فلما دخل على أم سلمة رضي الله عنها وقد نقعت النبيذ حتى قذف بالزبد، فقال: ما هذا؟ قالت رضي الله عنها: إن فلانة تشتكي بطنها، فدفعه عليه الصلاة والسلام برجله حتى انكسر الإناء وسال النبيذ على الأرض وقال: إنها داء) ، أي: ليست بدواء، وجاء هذا أيضاً في حديث طارق بن سويد الجعفي رضي الله عنه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم وغيره- أن ينقع الخمر دواء للناس، فقال عليه الصلاة والسلام: (إنها ليست بدواء ولكنها داء)، فهي داء على البدن، وأثبت الطب هذا الأمر، وإن كان ثابتاً من قبل عند المسلمين، ولا يحتاجون إلى أحد يثبته بعد كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءت التقارير الطبية أنها تؤثر -والعياذ بالله- على القلب، وأنها من أسباب الجلطات والسكتات القلبية والعياذ بالله، وأنها تؤثر على الدماغ، وتحدث أمراضاً مستعصية -والعياذ بالله- في التفكير والتركيز والذهن، وكذلك تؤثر على الكبد والبنكرياس وغيرها من أجهزة الإنسان، حتى إنها تؤثر على نسله وذريته والعياذ بالله فهي تؤثر في النسل، وبعضهم يظن أن الخمر تقوي الرغبة الجنسية وكذّب الأطباء ذلك، وقالوا: السبب في هذا أن الإنسان في فطرته عنده حياء وخجل، وأمور الشهوة محل الخجل والحياء، فإذا شرب الخمر انقطعت هذه الحواجز وأصبح كالبهيمة، فهو يحس أن هذا قوة في الشهوة، وأنه أصبح فحلاً، والأمر بالعكس، فإن هذا تدمير -والعياذ بالله- للحواجز التي تكبح جماح الشهوة، وتخرج عن حدودها، وكل شيء في الجسد إذا خرج عن حدوده فعواقبه وخيمة، ونهايته أليمة، فالخمر تؤثر في كل شيء حتى في النسل والتركيز، وغير ذلك مما ذكره الأطباء والحكماء.

وبالمناسبة؛ في المؤتمر المشهور العالمي الأول للمسكرات والمخدرات بحوث قيمة ذكرها بعض أطباء المسلمين، وتكلموا كلاماً جيداً في الدراسات، ففيه بحوث موثقة طبياً عن الأضرار الموجودة في الخمر، والعواقب التي ينتهي إليها شارب الخمر والعياذ بالله.

إضافة إلى الأضرار المادية، ولذلك تجد الدول التي ينتشر فيها شرب الخمر تكثر فيها حوادث السيارات، وتكثر فيها حوادث الجرائم والعنف والقتل والاعتداء، إلى غير ذلك من المصائب التي جعلها الله عز وجل لكل من عصاه، والمعيشة الضنكة التي وعدها الله عز وجل لكل من تنكب عن سبيله، وخرج عن شرعه ودينه، نسأل الله بعزته وجلاله أن يعصمنا بعصمته، وأن يحفظنا بحفظه.

كان الناس في الجاهلية يشربون الخمر، ويتفاخرون بشربها، وكان بعضهم يظن أنها ترفعه، فإذا شربها ظن أنه أصبح في أعلى المجد، وأصاب من الحظ أوفره وأعظمه، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في قصيدة له قبل الإسلام:

عفت ذات الأصابع فالدلاء إلى عذراء منزلها خلاء

ديار من بني الحسحاس قفر تعفيها الروامس والدلاء

إلى أن قال:

فنشربها فتتركنا ملوكاً وأسداً ما ينهنهنا اللقاء

فقال: فنشربها فتتركنا ملوكاً، فيحس أنه أصبح كأن الدنيا كلها تحته، وقال شاعر:

فإذا سكرت فإنني رب الخورنق والسدير

وإذا صحوت فإنني رب الشويهة والبعير

يعني: هو إذا شربها ظن أنه أصبح كسرى (رب الخورنق والسدير) وإذا صحا وجد أنه عند البعير والغنم التي يملكها، فهذا من بلاء الخمر، فكانوا في الجاهلية يشربونها، وكان عقلاء الناس لا يشربونها حتى في الجاهلية، وأثر عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم أنهم لم يشربوا الخمر لا في جاهلية ولا في إسلام، وهذه من عظيم نعم الله عز وجل، أن يصون الإنسان نفسه عن هذا الداء والبلاء، فكان أبو بكر رضي الله عنه يعافها في الجاهلية، كيف وهو في صحبة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وكان عثمان رضي الله عنه من أشد الناس حياء، ورأى أن الخمر تنزع الحياء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)، فالخمر تتدمر الحياء، وتجعل الإنسان صفيق الوجه والعياذ بالله! بعيداً عن المكارم والأمور المحمودة، وتغنى عقلاء الجاهلية بتركها؛ لما فيها من السوء والأذى، ولذلك عاصم بن قيس الشاعر المشهور شرب الخمر، ودخلت عليه إحدى بناته في أمر من الأمور فغمز عكنتها وهو شارب للخمر، لا يعي، فلما أفاق ندم ندماً شديداً وأقسم على نفسه -وهو في الجاهلية- ألا يشرب الخمر أبداً، لا في صحة ولا في مرض، يعني: لا للتداوي ولا غيرها، مع أنهم كان يقال لهم: إنها دواء.

وهذه الآية دلالتها على تحريم الخمر من وجوه، فليست دالة على تحريم الخمر من وجه واحد، ولا من وجهين؛ بل من وجوه عديدة، وهذا من أجمل وأبدع ما يكون من الأساليب، وكل أساليب القرآن جميلة بديعة؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد، قال الله: يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57]، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115]، وهذه الوجوه هي: أولا: أن الله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ [المائدة:90]، فجمع الله عز وجل بين الخمر وبين الشرك؛ وذلك في قوله: (وَالأَنصَابُ) وهي جمع نصب، قيل: هي الأوثان القائمة الشاخصة وقيل: التي كانت تذبح عليها القرابين، فتنصب لذبح القرابين.

فلما قرن الله الخمر بالشرك دل على عظم أمرها؛ وهذا أبلغ في التنفير أن يذكر أعظم الحدود، وأعظم الذنوب الذي لا يغفره الله لصاحبه ويقرن به شرب الخمر، فهذا يدل على عظم تحريم الخمر.

ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى وصفها بكونها رجساً: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90]، والرجس: النجس الخبيث.

ولذلك ذكر العلماء رحمهم الله أن في الخمر وصف النجاسة، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف، قال شيخ الإسلام رحمه الله: الخمر نجسة باتفاق الأئمة الأربعة، ولم يذكر القول المخالف -الذي هو قول ربيعة وداود الظاهري ومن وافقهما- تعظيماً لأمر حرمة الخمر ونجاستها وخبثها، فقال الله عز وجل: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ [المائدة:90]، هي رجس، والله يقول: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ [الحج:30]، وهذا الوصف المستبشع -وهو الرجس- تنفر منه النفوس السليمة، فضلاً عن النفوس المؤمنة المستقيمة على طاعة الله عز وجل، وهذا يقتضي التنفير من الخمر.

ثالثاً: أن الله سبحانه وتعالى جعلها من عمل الشيطان الذي لا يأتي المسلم بالخير، ولا يأتي الإنسان بخير: إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53]، فجعلها من عمل الشيطان، وهذا من أبلغ ما يكون من التنفير؛ لأن المؤمن لا يرتاح لشيء يكون من الشيطان، ولا يحب شيئاً من الشيطان، ومن أساليب القرآن للتنفير من المعاصي أن تصفها بأنها من عمل الشيطان: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:27]، وهذا من أساليب الكتاب والسنة في التنفير من المعاصي.

رابعاً: أن الله عز وجل أمر باجتناب الخمر في الآية الكريمة فقال سبحانه: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]، فيه أمران:

الأول: كونه جاء بصيغة (افْعَلْ)، وهذا يدل على الوجوب، فإن صيغة (افْعَلْ) تدل على وجوب فعل المأمور به، فالأصل عند العلماء أن صيغة (افْعَلْ) تقتضي الوجوب حتى يدل الدليل على الندب.

الثاني: أن الله عبر بالاجتناب، والاجتناب من صيغ التحريم، (اجتنب)، و(دع)، و(اترك)، و(ذر)، هذه كلها من صيغ التحريم عند علماء الأصول، ويرونها من الصيغ القوية التي تدل على الحرمة، قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ [الحج:30].

خامساً: أن الله سبحانه وتعالى بين أن الخمر طريق للعداوة والبغضاء، والوسائل تأخذ حكم مقاصدها، وما كان طريقاً إلى حرام أو سبيلاً إلى حرام فهو حرام، ثم ما كان سبيلاً إلى حرام عظيم فهو سبيل أعظم حرمة؛ ولذلك قالوا: وسائل الشرك أعظم من وسائل الذنوب الأخرى، ووسائل الكبائر ليست كوسائل الصغائر، فتفاضلت الوسائل بحسب ما تنتهي إليه، وانظر! كون القرآن يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ [المائدة:90] فبدأ بها، وقال: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ [المائدة:91] فبدأ بها؛ لأنها أساس الشر وأساس كل خبث؛ ولذلك توصف بكونها أم الخبائث كما ورد مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي تجر إلى كل شر، وإلى كل بلاء، قال الله:إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [المائدة:91]، هذا الوجه الخامس.

الوجه السادس: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [المائدة:91]، وجمع الله في التنفير بين الأمرين العام والخاص، فقال: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ [المائدة:91]، فجمع بين كونها صادة عن ذكر الله عز وجل عموما،ً فشارب الخمر لا يذكر ربه، فهو غافل عن الله سبحانه وتعالى، وكذلك أيضاً تكون الخمر طريقاً إلى ترك الصلاة.

كان تحريمها تدريجياً، فنفر الله منها في قوله: : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة:219]، فانتهى قوم من الصحابة عند هذا الحد، ثم حرمها عند قربان وقت الصلاة، فكان الناس لا يشربونها من بعد صلاة الظهر، وبعضهم ينتهي منها من بعد الفجر؛ لأنه يذهب إلى معاشه إلى أن يصلي العشاء، فيأتي منهكاً متعباً فلا يستطيع أن يشربها، وهذا من التدريج في التحريم كما سنبينه، فعندما حرمها الله سبحانه وتعالى عند قرب وقت الصلاة؛ فمن يشربها ستضيع عليه الصلاة، لأنه منهي عن شربها عند قرب وقت الصلاة فعبر بالصلاة والمراد وقت الصلاة.

الوجه السابع في الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، قال بعض العلماء: إن ختم الآية الكريمة بهذه الأسلوب البلاغي الجميل البديع أبلغ في زجر النفوس من قوله: (فانتهوا)، فإنه لما قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] فيه ما يدل على الحث والحض على الانتهاء والابتعاد؛ لأنه سبق أمرهم بالاجتناب، فلم يكرر سبحانه ذلك، وإنما جاء بهذا الأسلوب الذي هو أبلغ في تنفير النفوس من شرب هذا الأمر المحرم.

هذا هو دليل الكتاب؛ وهذه الآية الكريمة من سورة المائدة تعتبر أصلاً عند العلماء رحمهم الله في تحريم الخمر.

وفي هذا التحريم الوارد في هذه الآية وقفة يحتاج كل مسلم أن يقف عندها سواء كان من طلاب العلم أو من العلماء أو من العامة؛ وذلك أن الله يقول: (فَاجْتَنِبُوهُ)، والأمر بالاجتناب أمر بالابتعاد، ما قال: فلا تشربوا الخمر ولا تفعلوا الأنصاب والأزلام، ولكن قال: (فَاجْتَنِبُوهُ)، فلما قال: (فَاجْتَنِبُوهُ) دل على أنه لا يجوز لمسلم ولا لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشرب الخمر، ولا أن يحملها، ولا أن يبيعها، ولا أن يشتريها، ولا أن يعتصرها، ولا يطلب عصيرها فتعصر له، ولا أن يعصرها، ولا أن يتطيب بها في ثيابه.

وللأسف! بعض الجهلة يظن أن التحريم للشرب فقط، ثم يأتي بعض طلبة العلم ويقول: الخمر طاهرة في أصح قولي العلماء، وهذا قول لبعض العلماء، ولكنه قولاً مرجوحاً، وجماهير السلف والخلف على أنها نجسة، لظاهر الآية الكريمة، ولحديث أبي ثعلبة الخشني في الصحيحين.

لكن الإشكال أنه يقول: هي طاهرة لا تؤثر في الصلاة، فيتطيب بما فيه كحول، وبما فيه مادة (اسبيرتو) التي فيها كحول، ثم يقول: هي طاهرة! فينظر إلى قضية كونها طاهرة أو نجسة، ولا ينظر إلى أن الله أمره باجتنابها؛ فالله أمر باجتناب القليل والكثير، وحرم النبي صلى الله عليه وسلم شرب القليل منها والكثير، فنقول: حرم الله وأمر باجتنابها قليلة كانت أو كثيرة، ولو كانت نسبة (2%) ما دام أنها موجودة في هذا الطيب أو في هذا العطر، ولذلك أنت مأمور شرعاً باجتنابها، وهذا أمر يخلط فيه بعض طلبة العلم، ولذلك ينبغي على كل مسلم أن يضع هذه الآية الكريمة في دلالتها وبيانها نصب عينيه، فالأمر بالاجتناب عام شامل للشرب وشامل للتطيب، وهي ليست طيباً بل تضر ولا تنفع.

ودل دليل السنة على تحريم الخمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيح-: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) فهذا نص في تحريم الخمر، فكلمة (حرام) تدل على عدم جواز شرب الخمر، وعدم جواز تعاطيها.

كذلك أيضاً صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه لعن في الخمر عاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها، وآكل ثمنها، وشاربها، وساقيها، ومستقيها، وهذا من أبلغ ما يدل على تحريم الخمر؛ حتى قال بعض العلماء: ليست العبرة بقوله: (حاملها والمحمولة إليه، وشاربها وساقيها ومستقيها، وبائعها وآكل ثمنها، وعاصرها ومعتصرها)؛ إنما العبرة بكل من ساعد على الخمر، والأمر لا يتوقف عند هذه الأوصاف التي كانت موجودة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من أعان على الخمر فهو ملعون، ومن هنا قالوا: من قال كلاماً يزينها أو يدعو إليها أو مجَّدها أو دفع أبناء المسلمين وشبابهم وأهل الفطرة من صغار السن والأحداث إليها؛ فإنه ملعون؛ لأن فعله هذا قد يكون أبلغ من فعل الذي يحمل أو يبيع أو يشتري.

فهذا كله تعظيم لحرمة الخمر؛ لأنها أم الخبائث، فقفلت السنة جميع الأبواب المفضية إليها تعظيماً لأمرها.

ولو ورد اللعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر جعلها العلماء من كبائر الذنوب، بل قال بعض العلماء: إنها من أكبر الكبائر، ولما روجع في هذا وقيل له: لماذا جعلتها من أكبر الكبائر؟ قال: لأنه إذا شرب الخمر لم يتورع عن أمر ولو كان من أعظم الأمور، وقد اتفق لبعضهم أنه ترك الصلاة، فدخلت عليه أمه ذات يوم وهو شارب للخمر والعياذ بالله! فأمرته بالصلاة، فما كان منه إلا أن حملها إلى تنور مسجّرٍ في البيت ورماها فيه، وهي تستنجد به وتناشده الله حتى هلكت، ثم إنه بعد شربه للخمر أغشي عليه، فلما أفاق وجد أمه -نسأل الله السلامة والعافية- في التنور فمات من ساعته، ومات والعياذ بالله! مدمناً على الخمر وشارباً لها، ومات وهو عاق لوالديه تارك للصلاة.

ومن شرب الخمر استدرج إلى كل قبيحة ورذيلة، ولا يزال يهوي في الرذائل حتى يمسي أو يصبح وليس في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان والعياذ بالله! فهي باب الشر والبلاء، وما فتحت المسكرات والمخدرات على أمة إلا دمرت تماماً، فذهبت فيها الغيرة والحمية، وقتلت الفطرة، وذهبت العقول التي هي نور الله ينير بها لعباده كما قال تعالى: نُورٌ عَلَى نُورٍ [النور:35]، فالنور الأول نور الوحي (عَلَى نُورٍ) وهو نور العقل؛ ولذلك لا يمكن للإنسان أن يصيب الهدى والرشاد إلا بهذين النورين: نور العقل، ونور الوحي نسأل الله عز وجل أن يرزقنا منهما، وأن يجعلنا من أهلهما.

فالخمر أساس كل شر وبلاء، قالوا: إنها من أكبر الكبائر لأنها تقود إلى كل شر، وإلى كل بلاء والعياذ بالله.

واتفق لبعضهم أنه دعته امرأة إلى الزنا والعياذ بالله! فامتنع، فاستدرجته حتى دخل البيت، فقالت له: إن لم تفعل الزنا فإنني أصيح في الناس، فخاف وامتنع، فقالت له: إذاً اشرب من هذا الكأس قليلاً وأدعك تذهب، فلا أدعك تخرج حتى تشرب من هذا الكأس، فشرب من الكأس والعياذ بالله! فلما شربها زنى بها والعياذ بالله! فوقع في الخمر ووقع في الزنا، فهي تقود إلى كل شر، قالوا: الخمر من أكبر الكبائر؛ لأنه لا يتورع صاحبها، وممكن أن يشرك بالله عز وجل، وممكن والعياذ بالله! أن يدعى إلى أخبث وأشنع ما يكون من معاصي الله وحدوده ولا يرعوي، ثم إنها تخلف في الإنسان ضعف العقل والدين، وضعف الغيرة وقلة الحياء، وضعف الخجل، إلى غير ذلك مما تورثه من الأضرار الدينية والدنيوية، ومن هنا قالوا: إنها من أكبر الكبائر، والصحيح أنها من كبائر الذنوب، وأكبر الكبائر ما نص الشرع على كونه من أكبر الكبائر، كما صح عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيح من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه وأرضاه.

أجمع العلماء رحمهم الله على تحريم الخمر، وكلهم متفقون على أن الخمر محرمة، وأن من قال: إن الخمر حلال، فقد كفر بالله عز وجل؛ لأنه كذب النص القطعي في القرآن؛ لأن الله عز وجل حرم الخمر، وتحريم الخمر ثابت بدليل قطعي إلا إذا كان جاهلاً فيعلم، أما لو قال: الخمر ما فيها شيء، ولماذا تحرم الخمر؟! الخمر تبهج النفس! وهي حلال، أو قال: ليس في الشرع دليل على تحريم الخمر، وهو يعلم بنص القرآن ونص السنة؛ فهذا -كما ذكر العلماء- كافر مستحل للخمر؛ لأنه يعتقد أنها حلال.