شرح زاد المستقنع باب حد الزنا [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ باب حد الزنا ]

معنى الزنا في اللغة لا يختلف عن معناه في الشرع، وقال الشارح رحمه الله: الفاحشة في قبلٍ أو دبر، وعرفه بعض العلماء فقال: هو الوطء في الفرج في غير نكاحٍ ولا شبهة، وبعضهم يضيف: (الفرج المعتبر) خروجاً من وطء البهيمة، ومن وطء المرأة الميتة؛ على القول بأنه لو وطئ امرأة ميتة أجنبية فليس بزنا، فيقول: الوطء في الفرج المعتبر في غير نكاح: فخرج وطء النكاح.

وبعضهم يقول: الوطء في قبل في غير نكاح ولا شبهة، فأخرج اللواط، فإن الوطء في الدبر ليس بزنا من حيث الأصل، ولا يوصف شرعاً بأنه زنا، وإن كان يأخذ حكمه على الصحيح كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى.

وقوله: (ولا شبهة)، وذلك لو أن شخصاً حديث عهد بإسلام، وكان الزنا في بلده مباحاً، أو كان بين الكفار ويظن أن الزنا مباح، فلما أسلم زنى، وظن أنه مباح؛ فهذا عنده شبهة، وهي الجهل بالحكم، وقد تكون الشبهة في المكان والمحل في الموطوءة، أو في الواطئ، فلو أن رجلاً جاء إلى موضع نوم زوجته، وفيه امرأة أجنبية نائمة؛ فظنها زوجته فوطئها، فلا يقام عليه الحد؛ لأن عنده شبهة، والعكس أيضاً لو أن امرأة وطئها رجلٌ، وكانت تظنه زوجاً لها، وتبين أنه ليس بزوجها، فهذه شبهة أيضاً، وكذلك شبهة الإكراه، وهي: شبهة التكليف، على القول بأن المكره ليس مكلفاً، فلو أنها أكرهت على الزنا أو أكره الرجل على الزنا؛ فلا يقام الحد على تفصيل عند العلماء في المكره على الزنا.

أدلة تحريم الزنا

حرم الله الزنا في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، وعند العلماء أن النهي عن القربان من صيغ التحريم، كقوله: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151]، فالنهي عن القربان من صيغ التحريم، بل هو من أبلغ الصيغ في التحريم؛ لأن الله لم يقل: ولا تزنوا، وإنما قال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]، فنهانا عن القرب من الزنا فضلاً عن فعل الزنا، قال العلماء: وهذا من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، ومن القرب من الزنا: مجالسة النساء الأجانب، ومضاحكتهن، ومغازلتهن، ولمس الأجنبية، وإغراؤها بالفاحشة، فهذا كله من قربان الزنا، وهو يوصل إلى الزنا، وأشار إلى هذا المعنى ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليد تزني وزناها اللمس، والرجل تزني وزناها المشي، والعين تزني وزناها النظر، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، فبين عليه الصلاة والسلام أن هذه كلها وسائل للزنا، ومن هنا جعل العلماء في الزنا مقصداً وغاية، ووسيلة إلى المقصد والغاية، فالزنا هو المقصد المحرم، وهو وطء المرأة الأجنبية، والوسيلة إلى الزنا مثل أن يحادثها وهي أجنبية عنه، أو يغازلها، أو يلمسها، أو ينظر إليها وإلى مفاتنها، أو تبرز مفاتنها، وكل هذا إغراء بالفاحشة ووسيلة للحرام، وقالوا: الوسائل إلى الحرام تأخذ حكم الحرام، والوسائل إلى الكبائر كالكبائر نفسها، فالوسائل تتفاضل بتفاضل مقاصدها، فوسيلة الشرك أعظم الوسائل قبحاً وجرماً عند الله عز وجل، وما دونه من وسائل الذنوب آخذة حكمه على حسب درجات ذلك الذنب.

ومن أدلة تحريم الزنا في القرآن قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ الفرقان:68]، فبين سبحانه وتعالى أن من صفات أهل الجنة أنهم لا يزنون، وهذا يدل على حرمة الزنا؛ ولذلك قرنه الله بالشرك وقتل النفس.

ومن أدلة التحريم أن الله عز وجل رتب العقوبة عليه، فقال سبحانه وتعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، فرتب العقوبة على فعله، وعند العلماء قاعدة وهي: ترتيب العقوبة على الفعل أو الترك دالٌ على حرمة ذلك الفعل أو الترك، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله، فلا تترتب العقوبة إلا على ترك واجبٍ أو فعل محرم.

ومن أدلة التحريم قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، قيل في قوله: وَحُرِّمَ ذَلِكَ [النور:3]: إن الضمير عائد على فعل الزنا، ولكن النفس تميل إلى أن الضمير عائد على نكاح الزانية؛ لأن سبب النزول يقوي هذا كما في حديث مرثد بن أبي مرثد الغنوي حينما أراد أن ينكح عناقاً ، وكانت امرأة بغياً بمكة، وكان فقيراً، فأراد أن ينكحها، ليصيب من مالها، فحرم الله ذلك وأنزل الآية، وقد تقدم معنا أن الزنا من موانع النكاح، وهذا مذهب الإمام أحمد ، ونظراً لترجيحنا لهذا التفسير؛ لم نذكر هذه الآية الكريمة في بداية استشهادنا بآيات القرآن على تحريم الزنا.

الحكمة من تحريم الزنا

الزنا حرمه الله عز وجل لعظيم ما فيه من المفاسد والشرور، فهو اعتداء على أعراض المسلمين، حيث أنه يفسد نساء المسلمين ورجالاتهم، فهو من أعظم الذنوب التي تفسد المجتمعات، وتدمر الأخلاق، وتدمر القيم، وما فشا في أمة إلا ذهب حياؤها، وسقطت مروءتها، وأصبحت كالبهائم -والعياذ بالله- لا ترعى حرمة، ولا تحفظ ذمة.

والزنا يؤدي إلى اختلاط الأنساب -والعياذ بالله-، فالمرأة تدخل على الرجل من ليس من ولده، والرجل يدخل على الرجل من ليس من ولده، والأمة المسبية أحل الله لسيدها وطأها، ولكن لا يطؤها حتى يستبرئها ويتأكد أنها لم تحمل من زوجها الأول الكافر، وفي سبي أوطاس أراد رجل أن يهم بأمة أحبها وتعلق بها وهي حامل، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (أيريد أن يلم بها! - يعني وهي حامل- لقد هممت أن ألعنة لعنة تدخل معه في قبره)، هذا والمرأة حامل وانعقد الجنين في بطنها، فكيف -والعياذ بالله- بامرأة خانت زوجها أو رجل خان أخاه المسلم في إسلامه وأخوة الإسلام، فاعتدى على عرضه، فأفسده عليه!

قال العلماء: الزنا مراتب بعضها أشد جرماً وأعظم ذنباً من بعض، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا، فالزنا بذات المحرم -والعياذ بالله- أعظم، وذلك كأن يزني بأخته مثلاً، ومذهب بعض السلف أنه يقتل مطلقاً، وأثر ذلك عن بعض الصحابة أنه قتل من فعل ذلك، وفيه حديث مرفوع، وقيل: إنه قُتِل تعزيراً.

والزنا بامرأة الجار أعظم من الزنا بغيرها، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك -وليس هناك أعظم من الشرك- قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك)، فالجار له حق على جاره، فإذا زنى بحليلته، وأفسد عليه زوجته أو بناته أو أخواته؛ فقد ظلمه، ووقع منه الاعتداء في حق جاره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) والغالب أن الجار يأمن جاره، ويطمئن إليه، ويرضى بقيامه على عرضه، خاصة إذا فوض إليه أن يقوم ببعض مصالحه.

والزنا يتفاوت في العقوبة، ويتفاوت السخط والغضب من الله عز وجل على فاعله، وفيه عقوبات شديدة؛ لأن الاعتداء به متعدد؛ لأن المرأة ستحمل وتنجب، ويدخل هذا الولد الأجنبي على فراش الرجل، فيأكل من ماله، ويستبيح النظر إلى عرضه، ثم بعد ذلك يرث من ماله، ثم يأتي هذا الولد بالذرية تلو الذرية، وهذا من أعظم الجرائم، وأشدها بلاءً، وأعظمها فساداً على الناس، ومن هنا اتفقت الشرائع السماوية كلها على تحريم الزنا، وليس هناك شريعة تبيح الزنا، وهذا من مرجحات أن حد الزنا أقوى من حد المسكر؛ لأن الزنا لم تبحه الشريعة قط، وكان السكر حلالاً، وأبيح لأهل الكتاب، وهذا يدل على عظم الزنا، وتتعاظم العقوبة بعظم الذنب، ولخطورة الزنا وعظيم ضرره؛ جعلت الشريعة للزنا عقوبات دنيوية، وعقوبات أخروية، فإذا لم يتب الزاني إلى الله عز وجل، ويبرأ إلى الله من فعله؛ عاجله الله بعقوبته في الدنيا والآخرة، وقد فتح الله أبواب التوبة، ورغب عباده فيها، ويسر لهم ذلك، وبين لهم سبحانه وتعالى أنه يقبل توبة من تاب ويمحو إساءة من أساء إذا تاب صادقاً من قلبه.

قال رحمه الله: [باب حد الزنا] أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بحد الزنا، وقدمه المصنف مثل غيره من أهل العلم لأنهم يرون أن تذكر أحكام الزنا قبل القذف والسكر والتعزير.

حرم الله الزنا في كتابه، فقال سبحانه وتعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، وعند العلماء أن النهي عن القربان من صيغ التحريم، كقوله: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151]، فالنهي عن القربان من صيغ التحريم، بل هو من أبلغ الصيغ في التحريم؛ لأن الله لم يقل: ولا تزنوا، وإنما قال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]، فنهانا عن القرب من الزنا فضلاً عن فعل الزنا، قال العلماء: وهذا من باب التنبيه بالأدنى على ما هو أعلى منه، ومن القرب من الزنا: مجالسة النساء الأجانب، ومضاحكتهن، ومغازلتهن، ولمس الأجنبية، وإغراؤها بالفاحشة، فهذا كله من قربان الزنا، وهو يوصل إلى الزنا، وأشار إلى هذا المعنى ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليد تزني وزناها اللمس، والرجل تزني وزناها المشي، والعين تزني وزناها النظر، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، فبين عليه الصلاة والسلام أن هذه كلها وسائل للزنا، ومن هنا جعل العلماء في الزنا مقصداً وغاية، ووسيلة إلى المقصد والغاية، فالزنا هو المقصد المحرم، وهو وطء المرأة الأجنبية، والوسيلة إلى الزنا مثل أن يحادثها وهي أجنبية عنه، أو يغازلها، أو يلمسها، أو ينظر إليها وإلى مفاتنها، أو تبرز مفاتنها، وكل هذا إغراء بالفاحشة ووسيلة للحرام، وقالوا: الوسائل إلى الحرام تأخذ حكم الحرام، والوسائل إلى الكبائر كالكبائر نفسها، فالوسائل تتفاضل بتفاضل مقاصدها، فوسيلة الشرك أعظم الوسائل قبحاً وجرماً عند الله عز وجل، وما دونه من وسائل الذنوب آخذة حكمه على حسب درجات ذلك الذنب.

ومن أدلة تحريم الزنا في القرآن قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ الفرقان:68]، فبين سبحانه وتعالى أن من صفات أهل الجنة أنهم لا يزنون، وهذا يدل على حرمة الزنا؛ ولذلك قرنه الله بالشرك وقتل النفس.

ومن أدلة التحريم أن الله عز وجل رتب العقوبة عليه، فقال سبحانه وتعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، فرتب العقوبة على فعله، وعند العلماء قاعدة وهي: ترتيب العقوبة على الفعل أو الترك دالٌ على حرمة ذلك الفعل أو الترك، وهذا أصل عند العلماء رحمهم الله، فلا تترتب العقوبة إلا على ترك واجبٍ أو فعل محرم.

ومن أدلة التحريم قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، قيل في قوله: وَحُرِّمَ ذَلِكَ [النور:3]: إن الضمير عائد على فعل الزنا، ولكن النفس تميل إلى أن الضمير عائد على نكاح الزانية؛ لأن سبب النزول يقوي هذا كما في حديث مرثد بن أبي مرثد الغنوي حينما أراد أن ينكح عناقاً ، وكانت امرأة بغياً بمكة، وكان فقيراً، فأراد أن ينكحها، ليصيب من مالها، فحرم الله ذلك وأنزل الآية، وقد تقدم معنا أن الزنا من موانع النكاح، وهذا مذهب الإمام أحمد ، ونظراً لترجيحنا لهذا التفسير؛ لم نذكر هذه الآية الكريمة في بداية استشهادنا بآيات القرآن على تحريم الزنا.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3615 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3437 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3335 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3316 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3266 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3221 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3182 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع