شرح زاد المستقنع باب ما يوجب القصاص فيما دون النفس [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

سراية الجناية مضمونة فيما انتهت إليه

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وسراية الجناية مضمونة في النفس فما دونها]:

السراية: مأخوذة من (سرى) إذا مشى ليلاً، وسرى الشيء إذا مشى، وكأنهم صوروا سريان الضرر من العضو إلى البدن، أو سريان الضرر من جزء العضو إلى العضو كاملاً، ووصفوه بهذه الصفة؛ لأنه يسري ويدب ويمشي داخل العضو.

وهناك نوعان من السرايات: سراية قود، وسراية جناية، فسراية الجناية: كأن يجني الجاني على طرف الأصبع، فتسري الجناية من هذا الطرف فيسقط الأصبع -والعياذ بالله- أو يُشل ويتلف، وقد تسري إلى الكف كاملة، وقد تسري إلى الساعد، وقد تسري إلى الكتف، وقد تسري إلى البدن كله فتقتله، فهذه أحوال وصور لسراية الجناية، ومثلها سراية القود.

وقد تقع السراية بالأسلحة والآلات المسمومة، كما لو ضربه بسكين مسمومة، أو ضربه بسكين كالة وحصل تلوث بسببها، وقد سبق الكلام على القصاص فيما إذا حصلت الجناية على موضع بقطعه.

والأصل في الشريعة أنه لا يقتص من الجاني حتى يبرأ الجرح، خوفاً من السرايات، ولذلك امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من القصاص، وأمر المجني عليه أن يصبر حتى يبرأ.

فالأصل أننا لا نقتص حتى يبرأ الجرح، فإذا برئ الجرح وعرفنا نهاية الضرر، فإننا نقتص من الجاني بمثل جنايته، أما إذا لم يبرأ الجرح وسرى، فإما أن يسري إلى العضو كاملاً، أو يكون أكثر من ذلك، ولربما أتى على النفس فقتل المجني عليه.

فإذا سرت الجناية من طرف الأصبع إلى الأصبع كاملاً، فإننا نحكم بثبوت القصاص في الأصبع كاملاً، ولا نحكم به في الموضع الذي قطع منه؛ لأن هذا مستتبع، وهو تبع للجناية، والقاعدة أن التابع تابع، فهذا الضرر جاء تبعاً للجناية، ومن هنا يقتص منه قصاصاً كاملاً، فإذا أسقط العضو، أو شل اليد-والعياذ بالله-، أو شل الرجل اقتص من العضو كاملاً، او اعتدى على رأسه، ثم سرت الجناية حتى أخذت العين كاملة، فإننا نقتص من عينه كاملة، أو قطع منه طرف الأذن، فسرت الجناية حتى أتلفت الأذن كاملة، قطعت أذنه كاملة، وهكذا في بقية الأعضاء.

فإذا تعدى الضرر من الموضع المجني عليه إلى موضع آخر، فإنه يجب القود كاملاً تاماً، أما إذا سرى الضرر إلى نفس المجني عليه فمات، وقال الأطباء: إن سبب الموت هو هذا الجرح، أو هذه الجناية، كما لو ضرب شيخاً كبيراً وعاجزاً، فطعنه طعنة جائفة، فسرت الجائفة حتى أتت عليه فأهلكته، فإننا نوجب القصاص من الجاني، فيكون القصاص في نفسه بقتله؛ لأن سراية الجناية أتت على النفس، وكتاب الله القصاص في النفس كاملة، ولا نقول: إنه يتقيد بفعله الذي فعله؛ لأن هذا مستتبع بالجناية، فيُفعل به مثل ما فعل بمن جنى عليه.

وعلى هذا فإن سراية الجناية معتبرة، وبهذا قضى الأئمة والسلف الصالح رحمهم الله، وعليه اتفاق الأئمة رحمهم الله من حيث الجملة.

سراية القود وحكمها

قال رحمه الله تعالى: [وسراية القود مهجورة].

أي: إذا حصلت السراية في القصاص، كما لو قطعت يده كما قطع يد المجني عليه، وشاء الله تعالى أن لا تبرأ يد الجاني، فنزف منها الدم حتى مات، فإنه لا يجب الضمان، وهذا هو قضاء أبي بكر ، وعمر ، وعلي رضي الله عنهم، وكلهم قضوا بأن سراية القود والقصاص والحدود لا ضمان فيها، وأُثر عن علي رضي الله عنه حينما أقام الحد على رجل فمات، فقال رضي الله عنه: (الحق قتله)، أي: لسنا الذين قتلناه، وإنما قتله الحق؛ لأن الله أمرنا أن نقتص، فإذا مات بالقصاص، فهذا حكم الله عز وجل وليس بحكمنا، وهذا هو القول الصحيح، وهو مذهب الجمهور رحمة الله عليهم، فسراية القود غير مضمونة.

وقال بعض العلماء كما هو مذهب الحنفية وطائفة رحمة الله على الجميع: إنها مضمونة، والصحيح أنها غير مضمونة.

ومن هنا فلو أن امرأة زنت-والعياذ بالله- وهي بكر، فجلدناها مائة جلدة، وبعد الجلد ماتت، وكان موتها بفعل حر الجلد وألمه، فإنه لا يقتص من الجلاد، ولا نوجب عليه الضمان في ماله، ولا في بيت مال المسلمين؛ لأن الله عز وجل أوجب علينا أن نفعل هذا الفعل، وهذا حكم الله تعالى في خلقه، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا ضمان في قصاص أو حد)، فلو أننا اقتصصنا منه فمات بفعل هذا القصاص، فإنه قد قتله الحق، ولم نقتله نحن، وحينئذ لا ضمان على المقتص، سواءٌ أكان أمره السلطان، أم القاضي، فلا ضمان عليه في ماله، ولا في مال بيت المسلمين، خلافاًً لمن قال: إنه يضمن، ثم اختلفوا: هل يضمن من بيت مال المسلمين إذا كان أمره القاضي؟ أو يضمن من ماله على عاقلته؟ على وجهين مشهورين عندهم، والصحيح أنه لا ضمان في هذا كله.

الاستعجال في القصاص أو الدية وحكم السراية بعدها

قال رحمه الله تعالى: [ولا يُقتص من عضو وجرح قبل برئه، كما لا تطلب له دية]:

أي: لو أن رجلاً قطع يد رجل، فقال المجني عليه: أريد أن أقتص، فيقال له: انتظر حتى تبرأ مخافة سراية الجناية، وحينئذٍ فننتظر إلى أن يبرأ، ونعرف حدود الجناية، فلا يقتص من عضو ولا طرف، ولا من جرح إلا بعد برئه، فإذا برأ قلنا له: اقتص منه، وهذا كما حديث جابر رضي الله عنه عند الدارقطني رحمه الله، وكذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم، والعمل على هذا عند أهل العلم رحمهم الله، فالجمهور على أنه لا يُقتص حتى يبرأ الجرح، فنعرف حدود الجناية، وهذا صحيح ولا إشكال فيه.

لكن إن اعتدي عليه فقطعت يده، فقال للقاضي: أريد أن أقطع يد الجاني، فقال له القاضي: انتظر حتى تبرأ، فأصر على حقه ليقتص فوراً، فبعض أهل العلم يقول: يُمكن من حقه، فإذا مُكن من حقه، ثم سرت الجناية بعد اقتصاصه، كما لو قُطع أصبعه، فقال: أريد القصاص وأريد أن آخذ بحقي، فمكنه القاضي، فقطع أصبع الجاني، ثم بعد القطع سرت الجناية حتى سقطت كفه، فسريان الجناية هدر، وفي هذا قصة مشهورة: (أن رجلاً ضرب رجلاً بقرن في ركبته، فقال: يا رسول الله! أقدني، فأمره صلى الله عليه وسلم أن ينتظر، فأصر الرجل على القصاص، فقال: أقدني يا رسول الله! فأمره أن ينتظر، حتى ألح عليه فأمره أن يقتص، فلما اقتص سرت الجناية حتى أخذت رجله فعرج، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب حقه، فقال صلى الله عليه وسلم له: بطل جرحك)، أي: ليس لك حق، مادام أنك طلبت القصاص فوراً؛ إذ لو اقتص من الجاني بعدها لكنا قد أوقعنا به الضرر مرتين، وفعلنا به فعلين، وكانت جنايتين في مقابل جناية واحدة، والقصاص يقتضي التماثل، ومن هنا إذا استعجل في مطالبة حقه فقد أسقط حقه بعد ذلك، وقال بعض العلماء: له القصاص، والصحيح ما ذكرناه.

وقوله رحمه الله تعالى: (كما لا تُطلب له دية):

لاحتمال أن تقطع أصبعه فتتلف يده كاملة، فيكون له نصف الدية، ومن هنا قالوا: إنه لا يعطى عشر الدية في أصبعه، وإنما ينتظر إلى برئه، فربما سرت الجناية، فكان حقه نصف الدية، فبدل أن يعطى عشر الدية يعطى حقه كاملاً.

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وسراية الجناية مضمونة في النفس فما دونها]:

السراية: مأخوذة من (سرى) إذا مشى ليلاً، وسرى الشيء إذا مشى، وكأنهم صوروا سريان الضرر من العضو إلى البدن، أو سريان الضرر من جزء العضو إلى العضو كاملاً، ووصفوه بهذه الصفة؛ لأنه يسري ويدب ويمشي داخل العضو.

وهناك نوعان من السرايات: سراية قود، وسراية جناية، فسراية الجناية: كأن يجني الجاني على طرف الأصبع، فتسري الجناية من هذا الطرف فيسقط الأصبع -والعياذ بالله- أو يُشل ويتلف، وقد تسري إلى الكف كاملة، وقد تسري إلى الساعد، وقد تسري إلى الكتف، وقد تسري إلى البدن كله فتقتله، فهذه أحوال وصور لسراية الجناية، ومثلها سراية القود.

وقد تقع السراية بالأسلحة والآلات المسمومة، كما لو ضربه بسكين مسمومة، أو ضربه بسكين كالة وحصل تلوث بسببها، وقد سبق الكلام على القصاص فيما إذا حصلت الجناية على موضع بقطعه.

والأصل في الشريعة أنه لا يقتص من الجاني حتى يبرأ الجرح، خوفاً من السرايات، ولذلك امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من القصاص، وأمر المجني عليه أن يصبر حتى يبرأ.

فالأصل أننا لا نقتص حتى يبرأ الجرح، فإذا برئ الجرح وعرفنا نهاية الضرر، فإننا نقتص من الجاني بمثل جنايته، أما إذا لم يبرأ الجرح وسرى، فإما أن يسري إلى العضو كاملاً، أو يكون أكثر من ذلك، ولربما أتى على النفس فقتل المجني عليه.

فإذا سرت الجناية من طرف الأصبع إلى الأصبع كاملاً، فإننا نحكم بثبوت القصاص في الأصبع كاملاً، ولا نحكم به في الموضع الذي قطع منه؛ لأن هذا مستتبع، وهو تبع للجناية، والقاعدة أن التابع تابع، فهذا الضرر جاء تبعاً للجناية، ومن هنا يقتص منه قصاصاً كاملاً، فإذا أسقط العضو، أو شل اليد-والعياذ بالله-، أو شل الرجل اقتص من العضو كاملاً، او اعتدى على رأسه، ثم سرت الجناية حتى أخذت العين كاملة، فإننا نقتص من عينه كاملة، أو قطع منه طرف الأذن، فسرت الجناية حتى أتلفت الأذن كاملة، قطعت أذنه كاملة، وهكذا في بقية الأعضاء.

فإذا تعدى الضرر من الموضع المجني عليه إلى موضع آخر، فإنه يجب القود كاملاً تاماً، أما إذا سرى الضرر إلى نفس المجني عليه فمات، وقال الأطباء: إن سبب الموت هو هذا الجرح، أو هذه الجناية، كما لو ضرب شيخاً كبيراً وعاجزاً، فطعنه طعنة جائفة، فسرت الجائفة حتى أتت عليه فأهلكته، فإننا نوجب القصاص من الجاني، فيكون القصاص في نفسه بقتله؛ لأن سراية الجناية أتت على النفس، وكتاب الله القصاص في النفس كاملة، ولا نقول: إنه يتقيد بفعله الذي فعله؛ لأن هذا مستتبع بالجناية، فيُفعل به مثل ما فعل بمن جنى عليه.

وعلى هذا فإن سراية الجناية معتبرة، وبهذا قضى الأئمة والسلف الصالح رحمهم الله، وعليه اتفاق الأئمة رحمهم الله من حيث الجملة.