شرح زاد المستقنع كتاب الظهار [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وكفارته عتق رقبة، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً].

شرع المصنف رحمه الله في بيان الأثر المترتب على وجود الظهار من وجوب الكفارة على الزوج إذا أراد أن يعود، وقد بينا أنه لا يحل للزوج أن يطأ زوجته حتى يُكفِّر، وذلك بنص كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل العلم.

ونظراً لذلك يرِد السؤال: ما هي الكفارة المترتبة على الظهار؟

فبيَّن الله تبارك وتعالى هذه الكفارة في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وشرع المصنف رحمه الله في بيان هذه الكفارة وبعض مسائلها.

قال رحمه الله: [وكفارته عتق رقبة].

الضمير في: [وكفارته] عائد إلى الظهار، والكفارة: مأخوذة من الكفْر، وأصل الكَفْر في لغة العرب: الستر والتغطية، يقال: كَفَر الشيء: إذا ستره وغطاه عن الأنظار، ومنه سُمِّي المزارع كافراً؛ لأنه يكفُر البذر، بمعنى أنه إذا أراد الزراعة فإنه ينثر البذر ثم يغطيه عن الطير، فسمي كافراً من هذا الوجه.

قال الشاعر:

في ليلةٍ كَفَرَ النجومَ غمامُها ..... ..... ..... ..... .....

أي: سَتَرَ النجومَ الغمامُ.

وسُمِّي الكافر كافراً؛ لأنه كفر نعمة الله عليه فجحدها، فكأنه غطى ما أنعم الله به عليه، وادعى أنه ليس لله عليه نعمة، نسأل الله السلامة والعافية.

كفارة الظهار من الكفارات المغلظة

والكفارات: هي العقوبات التي أمر الشارع بها، وتأتي على أنواع وأحوال مختلفة، فتختلف بحسب اختلاف موجباتها، ولذلك تنقسم الكفارات إلى كفارات مغلظة وكفارات مخففة.

وكفارة الظهار تعتبر عند العلماء رحمهم الله من الكفارات المغلظة، وهي الكفارات العظيمة التي أوجب الشرع فيها ما لا يوجبه في غيرها تعظيماً للذنب أو للخطيئة أو التقصير الذي ارتكبه المكلف، وهذا النوع -وهو الكفارة المغلظة- منه ما يتعلق بالقتل، وهو -كما سيأتينا إن شاء الله- قتل الخطأ إجماعاً، واختُلف في قتل العمد، وكذلك أيضاً كفارة الجماع في نهار رمضان، وكذلك كفارة الظهار.

والكفارة المخففة من أمثلتها: كفارة اليمين، والنذر، وكفارة الفدية في الحج ونحوها، والكفارة تارة ينص عليها الكتاب وتبينها السنة وتُفصلها، وتارة تأتي في السنة ولا ينص عليها الكتاب.

فالكفارة التي نص عليها الكتاب وفصلتها السنة وبينتها منها: كفارة الظهار، وكفارة الفدية في الحج؛ فإن الشارع سبحانه نص عليها في كتابه، وجاءت السنة ببيانها، قال تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، فهذا أصل للكفارة، فمن اكتسب محظوراً بحلق الشعر أو نتفه، أو غطى رأسه، أو لبس المخيط فعليه الكفارة، ثم فصلتها السنة، فالله عز وجل قال: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)، لكن لم يفصل كم يوماً يصومه المفتدي، وكذلك أيضاً النُسك الذي يذبحه لم يبين أنه من الإبل أو البقر أو الغنم، وكذلك الإطعام لم يبين قدره، فجاءت السنة بالبيان، فهذا نوع من الكفارات.

النوع الثاني: ما بينته السنة ولم يرد في القرآن نص عليه، وإنما ورد في القرآن بيان حرمة الفعل الذي يوجب الكفارة، كالجماع في نهار رمضان، فقد نهى عنه القرآن ثم جاءت السنة وبينت ما هو الواجب، وبينت الكفارة اللازمة على المجامع في نهار رمضان، فليس في القرآن نص على إيجاب الكفارة على المجامع في نهار رمضان.

فهذا نوع من الكفارات المغلظة وبينته السنة ولم يبينه القرآن، وهذا مما يدل على أن السنة تأتي بأمر زائد عما في القرآن، خلافاً لمن يقول: إن السنة -فقط- بيان لمجمل القرآن وتخصيص لعمومه، وتقييد لمطلقه، ونحو ذلك مما ذكروه، وعلى كل حال فكفارة الظهار بينها الله تبارك وتعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في قصة المظاهر من امرأة.

عتق الرقبة عن الظهار

قال المصنف رحمه الله: [كفارته عتق رقبة].

سيأتي -إن شاء الله- أن هذه الرقبة التي تجب على المظاهر ينبغي أن تتوفر فيها الشروط المعتبرة للحكم بصحتها أو بإجزائها في العتق، والأصل في إيجاب العتق على المظاهر قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المجادلة:3]،فقوله تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي: عتق رقبة فالتحرير للرقبة المراد به أنه يفكها من قيد العبودية فيعتقها لله عز وجل.

وكفارة الظهار ترتيبية، والكفارات منها ما هو مرتب ومنها ما هو مخير فيه، فتارة يأمرك الشرع بكفارة ويجعلك مُخيراً تختار فيها إحدى ثلاث خصال، أو إحدى خصلتين أو أكثر، وتارة يُلزمك ويقول لك: كفر بكذا، فإن عجزت فبكذا، وإن عجزت فبكذا. وتارة يجمع بين الأمرين.

فالكفارة التخييرية مثل كفارة الفدية، كقوله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196].

والكفارة المرتبة مثل كفارة الظهار، فهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فهي مرتبة لا يُجزئ فيها الثاني مع القدرة على الأول، ولا يجزئ الثالث مع القدرة على الثاني.

وأما الذي جمع التخيير والترتيب فكفارة اليمين، فإن الله تعالى أوجب فيها عتق الرقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فهذا تخيير، فإن شاء أعتق رقبة، وإن شاء أن أطعم عشرة مساكين، وإن شاء كساهم، ثم بعد ذلك قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ [المائدة:89]، فجاء بالترتيب عقب التخيير، فالتخيير في الثلاث الخصال الأُوَل، ثم جاء الترتيب عقب ذلك.

فهنا الكفارة -كفارة الظهار- مرتبة، فهي من النوع الذي أوجبه الشرع على وجه الترتيب، وبناء على ذلك لابد من تحصيل هذا الشرط، أعني أنه لا ينتقل إلى خصلة ما دام أن الشرع قد اشترط غيرها، حتى يتحقق شرط جواز الانتقال إلى غيرها.

والرقبة في الكفارة يشترط ملكيتها، ثم السلامة من العيوب، وسيأتي تفصيل هذين الشرطين المعتبرين للحكم بصحة العتق.

ولما قال [عتق رقبة] فهم منه أنه لا يصح عتق ما لا يوصف بكونه رقبة، والذي لا يوصف لا يُستحق عتقه، كما لو أعتق جنين أمة، لأن الجنين في بطن الأمة صحيح أنه ملك للسيد، ولكن لا يوصف بكونه رقبة إلا إذا خرج حياً، فحينئذ يصح، وأما قبل ذلك فلو أعتقه لم يصح.

وللعلماء قول آخر، فقالوا: إنه لو كان جنيناً في بطن أمه فإنه قد يكون معيباً عيباً يوجب بطلان عتقه. كما سيأتي إن شاء الله في العيوب المؤثرة.

صيام شهرين متتابعين عن الظهار

قال رحمه الله: [فإن لم يجد صام شهرين متتابعين].

أي: فإن لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين وهذا الترتيب هو الذي ذكرناه، فإذا كان قادراً على عتق الرقبة، فإنه لا يصح أن يصوم أو ينتقل إلى البدل وهو صيام شهرين متتابعين، وعتق الرقبة يستقر بالملكية والمالك إما أن يكون مالكاً للرقبة، أو يكون في حكم المالك، وفي حكم المالك من عنده قدرة أن يشتري الرقبة ويعتقها، فإن كان عاجزاً أو كانت الرقبة غير موجودة -كما سيأتي إن شاء الله- فإنه ينتقل إلى الخصلة الثانية وهي صيام شهرين متتابعين؛ لقوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:4]، فجعل الله عز وجل شرط الانتقال إلى الخصلة الثانية في كفارة الظهار -وهي الصيام- إذا كان المظاهر غير قادر على الرقبة -أي: غير واجد لها-، وهذا يدل على أن صيام الشهرين المتتابعين يجب في حق المظاهر إذا كان عاجزاً عن الرقبة -كما ذكرنا-، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وظاهر السنة يدل عليه، كما في قصة المظاهر في حديث خولة رضي الله عنها وأرضاها، وقد سبق بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يُعتق الرقبة، فلما أخبره أنه لا يجدها أمره بصيام شهرين متتابعين.

وصيامه الشهرين المتتابعين إما أن يبدأ فيه من أول الشهر، فحينئذ يعتد بالشهر القمري ناقصاً أو كاملاً، فلو أنه ابتدأ في أول شهر محرم وكان شهر محرم ناقصاً أجزأه، فممكن -بناءً على هذا- أن يصوم تسعة وخمسين يوماً ويجزئه، ويمكن أن يصوم ثمانية وخمسين يوماً إذا صام من أول الشهر، وهذا إنما يكون إذا ثبت بالرؤية أن الشهر ناقص، وهي السنة، وهذا يدل على أن ترائي الهلال أمر مطلوب من المسلمين، وأنه ينبغي عليهم أن يحيوا هذه السنة؛ لأنها تترتب عليها أحكام شرعية كثيرة، وأما العمل بالحساب الفلكي فإنه لا يجزئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا)، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف والأئمة الأربعة رحمهم الله جميعاً، فمذهبهم أنه لا يعتد بالحساب الفلكي في إثبات الشهر وخروجه، وأن العبرة بالرؤية إن رؤي الهلال، وإلا حكم بتمام الشهر، كما سبق بيان هذه المسألة وتفصيل القول فيها في مسائل رؤية هلال رمضان.

فإذا ابتدأ من أول الشهر اعتد به ناقصاً أو كاملاً، وإذا ابتدأ أثناء الشهر فإنه يصوم ستين يوماً متتابعة، فينتقل إلى حساب الشهرين المتتابعين بالعدد على أصح أقوال العلماء رحمهم الله، وهو مذهب جمهور أهل العلم، أي: يجوز أن يبدأ بمنتصف الشهر، ويجوز أن يبدأ من أثناء الشهر، وأنه لا يشترط أن يبدأ من أول الشهر.

إطعام ستين مسكيناً عن الظهار

قوله رحمه الله: [فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً].

أي: فإن لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين فإنه يجب عليه أن يُطعم ستين مسكيناً؛ لقوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ [المجادلة:4]، فبين سبحانه وتعالى أنه يجب على المظاهر إن عجز، أو لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين أن يُطعم ستين مسكيناً، وتقدم معنا بيان إطعام ستين مسكيناً، ووصف المسكين وضابطه في كتاب الزكاة، وصفة الإطعام، وستأتي الإشارة إلى بعض المسائل المتعلقة بالإطعام، فهنا المصنف يذكر الكفارة إجمالاً، وسيأتي إن شاء الله بتفصيل أحكامها، كما هي عادة العلماء رحمهم الله، حيث يجملون ثم بعد ذلك يفصلون.

والكفارات: هي العقوبات التي أمر الشارع بها، وتأتي على أنواع وأحوال مختلفة، فتختلف بحسب اختلاف موجباتها، ولذلك تنقسم الكفارات إلى كفارات مغلظة وكفارات مخففة.

وكفارة الظهار تعتبر عند العلماء رحمهم الله من الكفارات المغلظة، وهي الكفارات العظيمة التي أوجب الشرع فيها ما لا يوجبه في غيرها تعظيماً للذنب أو للخطيئة أو التقصير الذي ارتكبه المكلف، وهذا النوع -وهو الكفارة المغلظة- منه ما يتعلق بالقتل، وهو -كما سيأتينا إن شاء الله- قتل الخطأ إجماعاً، واختُلف في قتل العمد، وكذلك أيضاً كفارة الجماع في نهار رمضان، وكذلك كفارة الظهار.

والكفارة المخففة من أمثلتها: كفارة اليمين، والنذر، وكفارة الفدية في الحج ونحوها، والكفارة تارة ينص عليها الكتاب وتبينها السنة وتُفصلها، وتارة تأتي في السنة ولا ينص عليها الكتاب.

فالكفارة التي نص عليها الكتاب وفصلتها السنة وبينتها منها: كفارة الظهار، وكفارة الفدية في الحج؛ فإن الشارع سبحانه نص عليها في كتابه، وجاءت السنة ببيانها، قال تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، فهذا أصل للكفارة، فمن اكتسب محظوراً بحلق الشعر أو نتفه، أو غطى رأسه، أو لبس المخيط فعليه الكفارة، ثم فصلتها السنة، فالله عز وجل قال: (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)، لكن لم يفصل كم يوماً يصومه المفتدي، وكذلك أيضاً النُسك الذي يذبحه لم يبين أنه من الإبل أو البقر أو الغنم، وكذلك الإطعام لم يبين قدره، فجاءت السنة بالبيان، فهذا نوع من الكفارات.

النوع الثاني: ما بينته السنة ولم يرد في القرآن نص عليه، وإنما ورد في القرآن بيان حرمة الفعل الذي يوجب الكفارة، كالجماع في نهار رمضان، فقد نهى عنه القرآن ثم جاءت السنة وبينت ما هو الواجب، وبينت الكفارة اللازمة على المجامع في نهار رمضان، فليس في القرآن نص على إيجاب الكفارة على المجامع في نهار رمضان.

فهذا نوع من الكفارات المغلظة وبينته السنة ولم يبينه القرآن، وهذا مما يدل على أن السنة تأتي بأمر زائد عما في القرآن، خلافاً لمن يقول: إن السنة -فقط- بيان لمجمل القرآن وتخصيص لعمومه، وتقييد لمطلقه، ونحو ذلك مما ذكروه، وعلى كل حال فكفارة الظهار بينها الله تبارك وتعالى في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في قصة المظاهر من امرأة.

قال المصنف رحمه الله: [كفارته عتق رقبة].

سيأتي -إن شاء الله- أن هذه الرقبة التي تجب على المظاهر ينبغي أن تتوفر فيها الشروط المعتبرة للحكم بصحتها أو بإجزائها في العتق، والأصل في إيجاب العتق على المظاهر قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المجادلة:3]،فقوله تعالى: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي: عتق رقبة فالتحرير للرقبة المراد به أنه يفكها من قيد العبودية فيعتقها لله عز وجل.

وكفارة الظهار ترتيبية، والكفارات منها ما هو مرتب ومنها ما هو مخير فيه، فتارة يأمرك الشرع بكفارة ويجعلك مُخيراً تختار فيها إحدى ثلاث خصال، أو إحدى خصلتين أو أكثر، وتارة يُلزمك ويقول لك: كفر بكذا، فإن عجزت فبكذا، وإن عجزت فبكذا. وتارة يجمع بين الأمرين.

فالكفارة التخييرية مثل كفارة الفدية، كقوله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196].

والكفارة المرتبة مثل كفارة الظهار، فهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، فهي مرتبة لا يُجزئ فيها الثاني مع القدرة على الأول، ولا يجزئ الثالث مع القدرة على الثاني.

وأما الذي جمع التخيير والترتيب فكفارة اليمين، فإن الله تعالى أوجب فيها عتق الرقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فهذا تخيير، فإن شاء أعتق رقبة، وإن شاء أن أطعم عشرة مساكين، وإن شاء كساهم، ثم بعد ذلك قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ [المائدة:89]، فجاء بالترتيب عقب التخيير، فالتخيير في الثلاث الخصال الأُوَل، ثم جاء الترتيب عقب ذلك.

فهنا الكفارة -كفارة الظهار- مرتبة، فهي من النوع الذي أوجبه الشرع على وجه الترتيب، وبناء على ذلك لابد من تحصيل هذا الشرط، أعني أنه لا ينتقل إلى خصلة ما دام أن الشرع قد اشترط غيرها، حتى يتحقق شرط جواز الانتقال إلى غيرها.

والرقبة في الكفارة يشترط ملكيتها، ثم السلامة من العيوب، وسيأتي تفصيل هذين الشرطين المعتبرين للحكم بصحة العتق.

ولما قال [عتق رقبة] فهم منه أنه لا يصح عتق ما لا يوصف بكونه رقبة، والذي لا يوصف لا يُستحق عتقه، كما لو أعتق جنين أمة، لأن الجنين في بطن الأمة صحيح أنه ملك للسيد، ولكن لا يوصف بكونه رقبة إلا إذا خرج حياً، فحينئذ يصح، وأما قبل ذلك فلو أعتقه لم يصح.

وللعلماء قول آخر، فقالوا: إنه لو كان جنيناً في بطن أمه فإنه قد يكون معيباً عيباً يوجب بطلان عتقه. كما سيأتي إن شاء الله في العيوب المؤثرة.

قال رحمه الله: [فإن لم يجد صام شهرين متتابعين].

أي: فإن لم يجد الرقبة صام شهرين متتابعين وهذا الترتيب هو الذي ذكرناه، فإذا كان قادراً على عتق الرقبة، فإنه لا يصح أن يصوم أو ينتقل إلى البدل وهو صيام شهرين متتابعين، وعتق الرقبة يستقر بالملكية والمالك إما أن يكون مالكاً للرقبة، أو يكون في حكم المالك، وفي حكم المالك من عنده قدرة أن يشتري الرقبة ويعتقها، فإن كان عاجزاً أو كانت الرقبة غير موجودة -كما سيأتي إن شاء الله- فإنه ينتقل إلى الخصلة الثانية وهي صيام شهرين متتابعين؛ لقوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:4]، فجعل الله عز وجل شرط الانتقال إلى الخصلة الثانية في كفارة الظهار -وهي الصيام- إذا كان المظاهر غير قادر على الرقبة -أي: غير واجد لها-، وهذا يدل على أن صيام الشهرين المتتابعين يجب في حق المظاهر إذا كان عاجزاً عن الرقبة -كما ذكرنا-، وهذا محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، وظاهر السنة يدل عليه، كما في قصة المظاهر في حديث خولة رضي الله عنها وأرضاها، وقد سبق بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يُعتق الرقبة، فلما أخبره أنه لا يجدها أمره بصيام شهرين متتابعين.

وصيامه الشهرين المتتابعين إما أن يبدأ فيه من أول الشهر، فحينئذ يعتد بالشهر القمري ناقصاً أو كاملاً، فلو أنه ابتدأ في أول شهر محرم وكان شهر محرم ناقصاً أجزأه، فممكن -بناءً على هذا- أن يصوم تسعة وخمسين يوماً ويجزئه، ويمكن أن يصوم ثمانية وخمسين يوماً إذا صام من أول الشهر، وهذا إنما يكون إذا ثبت بالرؤية أن الشهر ناقص، وهي السنة، وهذا يدل على أن ترائي الهلال أمر مطلوب من المسلمين، وأنه ينبغي عليهم أن يحيوا هذه السنة؛ لأنها تترتب عليها أحكام شرعية كثيرة، وأما العمل بالحساب الفلكي فإنه لا يجزئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا)، وهذا مذهب جماهير السلف والخلف والأئمة الأربعة رحمهم الله جميعاً، فمذهبهم أنه لا يعتد بالحساب الفلكي في إثبات الشهر وخروجه، وأن العبرة بالرؤية إن رؤي الهلال، وإلا حكم بتمام الشهر، كما سبق بيان هذه المسألة وتفصيل القول فيها في مسائل رؤية هلال رمضان.

فإذا ابتدأ من أول الشهر اعتد به ناقصاً أو كاملاً، وإذا ابتدأ أثناء الشهر فإنه يصوم ستين يوماً متتابعة، فينتقل إلى حساب الشهرين المتتابعين بالعدد على أصح أقوال العلماء رحمهم الله، وهو مذهب جمهور أهل العلم، أي: يجوز أن يبدأ بمنتصف الشهر، ويجوز أن يبدأ من أثناء الشهر، وأنه لا يشترط أن يبدأ من أول الشهر.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع