شرح زاد المستقنع الشك في الطلاق [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [باب الشك في الطلاق].

الشك: استواء احتمالين. فكل شيء تردد عندك وأصبحت ظنونه في نفسك بمنزلة واحدة، فإنه شكٌ.

مثلاً: إذا رأى الإنسان شخصاً فظنه فلاناً، فإما أن يراه على صفاته الحقيقة بحيث يقطع أنه لا يمكن أن يكون غيره، يقطع بأنه فلان، رآه بشخصه، وسمعه بأذنه، فيقول: هو فلان، فهذا يقين، واليقين كما يقول العلماء: هو درجة من العلم القطعي الذي هو 100%.

وإما أن يشك هل هو فلان أم فلان، بحيث يرى فيه الصفات المتعلقة بشخصٍ يعرفه، لكن هناك احتمال أن يكون شخصاً آخر يشبهه، وغالب ظنه أنه فلان، فيقول: أغلب ظني أنه فلان، فهذا غلبة ظن.

فإن كان الذي رأيته قد استوى فيه الاحتمالان حيث احتمل أنه فلان واحتمل أنه فلان ولا مرجح لأحد الاحتمالين فهذا يسمى بالشك، وهو كما قال العلماء: بدرجة 50% لا تزيد ولا تنقص، ليس لأحد الظنين مزية على الآخر فهذا يسمى بالشك، فإن نقص الظن إلى الدرجة الضعيفة وهي التي تقابل الظن الراجح سمي وهماً.

فهناك وهمٌ، وهناك شكٌ، ثم ظنٌ، ثم يقين، فهذه أربع مراتب للعلم، وقد تقدمت معنا في كتاب الطهارة، وفصلنا في أحكامها، وفصلنا قواعد الشريعة التي تدل على اعتبار اليقين والظنون الراجحة، والتي تدل على الرجوع إلى الأصل عند استواء الاحتمالين، والتي تدل على إسقاط الظن الفاسد.

ومراتب العلم هي: الظن الفاسد: وهو الضعيف، وليس له مكان في الشريعة؛ بمعنى أنه لا يعمل به ولا يعول عليه، وللإمام العز بن عبد السلام في كتابه النفيس قواعد الأحكام في مصالح الأنام، كلام نفس في الظنون الضعيفة، ويسميها العلماء الظنون الفاسدة، والظنون الفاسدة لا تحتاج الشريعة لها إذ لو اعتبرت الشريعة بالظنون الفاسدة لما استقامت أمور الناس ولما استقامت أحكامها؛ لأن كثيراً من الأشياء بنيت على غلبة الظن، فالدماء والأموال والفروج تستباح كلها بالظنون الراجحة، فلو شهد شاهدان عدلان أن فلاناً قتل فلاناً قتل بشهادتهما، مع أنه يحتمل أنهما أخطآ، لكن الاحتمال ضعيف ما دامت شهادتهما مقبولة، وما داما عدلين فإن شهادتهما مرضية، فيحكم بها.

كذلك تستباح الأموال فإن الإنسان إذا خاصم شخصاً في القضاء وقال: إن لي عنده مائة ألف، وشهد شاهدان عدلان أنه أعطاه مائة ألف ولم يثبت ردها؛ فإنه يحكم بثبوت المائة الألف في ذمته قال تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282] فحكمت الشريعة بالظن الراجح، وأسقطت الظن المرجوح، وهو احتمال أن الشاهدين أخطآ، واحتمال أنهما يخطئان في قدر المال، واحتمال أنهما نسيا أداءه، إلى غير ذلك من الظنون المحتملة، لكنها ضعيفة، فعملت الشريعة بالظنون الراجحة وأسقطت الظنون المرجوحة.

والمرأة يعقد عليها الإنسان ويستحل فرجها بكلمة الله عز وجل ويأخذها بأمانة الله، وأحكام النكاح مبنية في كثير من المسائل على غلبة الظن، كذلك أيضاً بالنسبة لأحكام الطلاق، فإنها لا تُبنى على الظنون الفاسدة، ولا يعول فيها على الظن الفاسد، فلو أنه دخل عنده وسواس وشكٌ بسيط أنه طلق زوجته فإنه لا يُلتفت إلى هذا الظن ولا يلتفت إلى هذا الوسواس ولا يعول عليه، ولو دخل له هذا الوسواس والظن المرجوح أنه حصل منه ظهار فإنه لا يلتفت إليه ما لم يتحقق ويستيقن أو يغلب على ظنه.

إذاً: الظن الفاسد لا يعمل به.

النوع الثاني: الظن الراجح: وهو عكس الفاسد، وذكرنا أن الشريعة تعمل به وتحكم به، وذكرنا أمثلته.

النوع الثالث: العلم القطعي، فإذا كان الظن الراجح يعمل به فمن باب أولى المقطوع به.

النوع الرابع الذي سنتحدث عنه اليوم: وهو الظن المتردد المحتمل، الذي لا مزية لأحد طرفيه على الآخر، بحيث يشك شكاً مستوي الطرفين.

فمثلاً: يشك هل طلق زوجته أو لم يطلقها، شكاً مستوي الطرفين، ولا يستطيع أن يرجح أنه ما تلفظ بالطلاق ولا يستطيع أن يرجح أنه تلفظ بالطلاق؛ فهل تطلق عليه زوجته؟

كذلك أيضاً لو حصل هذا الشك في عدد الطلقات، أو حصل الشك في إثبات ما ينبغي عليه وقوع الطلاق، أو نفي ما نفيه وقوع للطلاق، فكل ذلك يكون فيه الظن متردداً حتى نقول: إنه شك، فلا نقول بوجود الشك إلا عند استواء الاحتمالين استواء تاماً كاملاً لا مزية لأحدهما على الآخر.

وقد بين المصنف رحمه الله أنه سيذكر جملة من المسائل المتعلقة بالشكوك في الطلاق، وباب الشكوك في الطلاق يأتي على صورتين:

الصورة الأولى: أن يكون بسبب مرضٍ يعتري الإنسان وهو الذي يعرف بالوسواس، سواء كان وسواساً قهرياً أو وسواساً معتاداً معه، فهذا النوع الأمر فيه أوسع، والله عز وجل ألغى أحكام الوسوسة وأمر المكلف ألَّا يشتغل بها.

والمنبغي على من ابتلي بالوسوسة أن يلزم أمرين هامين، فيجعل الله بهما فرجاً ومخرجاً:

ذكر الله عز وجل

أولهما وأعظمهما: ذكر الله عز وجل وكثرة الدعاء، والاستعاذة بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم.

فذكر الله سواء بالاستعاذة أو بالدعاء، أو بأذكار الصباح والمساء، لا شك أنه أعظم وأنجح وأفضل ما يكون للموسوس، حتى إنه لو وجد الوسوسة مع هذه الأذكار فليعلم أنه لا يقول الأذكار بحضور قلبٍ وقوة يقين، فيؤتَى من نفسه، فيرجع إلى نفسه ويقوي يقينه بالله؛ لأن الإنسان إذا ابتلي بالوسوسة يحرص كل الحرص على أن يجعل الوسوسة أكبر من الله عز وجل والعياذ بالله، ويعتقد أنها ليس لها حل ولا علاج؛ ولذلك تجد من تسلطت عليه الوسوسة في مثل هذه الحالة قد بلغ إلى درجة اليأس، وقد تسلط الشيطان على قلبه والعياذ بالله؛ لكن إذا ظن في قرارة قلبه أن الله أكبر من هذا، وأن الله أعظم من هذا، وأن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، فإن الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً.

ولقد ابتلي بعض الصالحين بهذا البلاء حتى كان بلاءً شديداً عليه في نفسه وفي عبادته، وحتى مع زوجه وأهله، واشتكى إلى بعض أهل العلم فأمروه أن يكون قوي اليقين بالله عز وجل، وأن يشكو أمره إلى الله عز وجل، فصلى ودعا الله عز وجل، قال: فما شعرت إلا وأنا في التشهد، فسألت الله بصدق، وإذا بشيء شديد الحرارة في أسفل بدني يؤذيني قال: فلما سلمت كان آخر عهدي بالوسوسة، فما بقي منها شيء ألبتة.

وقد كان بحالة لا يحسد عليها، فقد بلغ به أنه يدخل للغسل من الجنابة قبل صلاة الفجر بساعتين ولا يخرج من دورة المياه إلا بعد طلوع الشمس بثلاث ساعات أو بساعتين على الأقل، وهذا من شدة ما كان يجد، نسأل الله السلامة والعافية؛ فاشتكى إلى بعض أهل العلم، فقال له: اشتكِ إلى ربك، واسأل الله بصدق فإن الله لا يخيبك، وإذا سألت الله بيقين فإن الله لا يضيعك، وصلِّ وأنت تستشعر أنك أمام الله واعبده كأنك تراه، فأنت لما جئت تشتكي وجلست أمامي تسرد لي حوادثك وأنا مخلوق ضعيف لا أغني لك من الله شيئاً، فكيف وأنت تقف أمام ربك تشتكي عدوك الشيطان بقوة يقين وصدق التجاء إلى الله عز وجل، وأبشر بكل خير.

قال: فتوضأت وصليت، وهذه وقعت منذ سافر إلى العمرة، ولما طاف الطواف اشتكى إلى ربه ثم صلى ركعتي الطواف، ففي ركعتي الطواف سأل الله عز وجل وهو أمام بيته مستشعراً وقوفه أمام الله، معتقداً أن الله أكبر من هذه الوسوسة، فعافاه الله.

وكان يقول: كان الشيطان يقول لي: مستحيل، حتى أني أظن أنني سأصبح مجنوناً من شدة ما أجد من الوسوسة، وهو من أفاضل أهل العلم، قال: فلما سألت الله سبحانه وتعالى بصدق وأنا في التشهد شعرت بهذا الأمر الغريب في قدمي، فلما سلمت كان آخر عهدي بما كنت أجد: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [الجمعة:4].

فمن ابتلاه الله عز وجل بهذا فعليه أن يحسن الظن، فربما أن هذه الوسوسة تبلغه درجة في الجنة لا ينالها بكثير صلاة ولا صيام، فيحتفي، ولذلك يأتي الشيطان للإنسان ويقول له: أنت لا تؤجر على هذه الوسوسة.

وهنا أنبه إلى أن بعض طلاب العلم وبعض من يفتي أصلحهم الله يسيء التعامل في مثل هذه الأمور، فيقول للإنسان: لماذا تفعل هذا، ويخاصمه، ولربما يغلظ له القول، فإذا كان مريضاً فلا يغلظ عليه، بل يؤخذ بالتي هي أحسن؛ لأن مثل هذا كالغريق يحاول معه بالرفق وباللين علَّ الله سبحانه وتعالى أن يجعل له فرجاً ومخرجاً، فإذا داوم على الأذكار، والدعاء ووجد أن الوسوسة موجودة، فمن الأمور الطيبة المستحبة التي ينبغي أن ينبه عليها من ابتلي بهذا أن يقال له: لولا الله ثم الدعاء لكنت في حال أسوأ من الحال الذي أنت فيه.

فهذا يزيد يقينه في الذكر لله عز وجل، ويقال له: لو لم تدع لكان الأمر أسوأ، فيتشبث ويحس أن الذكر له سلطانٌ على قلبه، وهو كذلك؛ لأن الله تعالى لا يخلف الميعاد، وهو أصدق حديثاً، وقد قال تقدست أسماؤه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، وقال سبحانه وتعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45] فإنه يوصى بالذكر، فإن لم يجد في نفسه أثراً فليتهم نفسه بضعف اليقين، فإن وجد أنه صدق وسأل فلربما أراد الله له خيراً لا يعلمه، وفضلاً ينتظره بهذا البلاء فيحتسب الأجر والثواب من الله.

الأخذ بالأسباب

أما الأمر الثاني الذي يوصى به من ابتلي بالوسوسة: فأن يأخذ بالأسباب، وهذا الأمر فيه جانبان هامان:

الجانب الأول: الارتباط بالعلماء: أن يرتبط الموسوس بطالب علم أو بشيخ، ولا يفتي نفسه، فإذا أفتاه ذلك العالم، أو من عنده علم وبصيرة فليعمل بفتواه ولا يلتفت إلى أي شيء سواه. مثلاً: يشك أنه طلق زوجته أو لم يطلقها، فجاء يسأل الشيخ عن مسألته في الوسوسة التي وجدها، فإن قال له: ما وقع الطلاق، فعليه أن يتقبل الفتوى بصدرٍ منشرح؛ لأنه بين الشيطان وبين العالم، فإما أن يصدق الشيطان وإما أن يصدق العالم، فإن صدق الشيطان استهوته الشياطين والعياذ بالله، فأصبح حيران في الأرض؛ ولذلك تجد من يبتلى بالوسوسة ويرتبط بالعلماء يكون أمره أرحم وأخف من الذي لا يرتبط بأهل العلم.

ويستحسن للعلماء والأئمة والمشايخ وأهل الفتوى إذا جاءهم إنسان وعرفوا أن فيه وسوسة، وكانت أوقاتهم وظروفهم لا تسمح لهم بالإجابة على أسئلته أن يحيلوه على من عنده صبر وتحمل وجلد أكثر؛ لأنه سيصل العالم إلى درجة صعبة جداً؛ لأن الموسوس لا يملك نفسه، حتى إن بعضهم من الحوادث التي كانت تمر بنا يمكن أن يجلس مع العالم ويسأله عشرين مسألة مما يمر به -نسأل الله السلامة والعافية- ويخرج من الباب ثم يرجع بعد دقائق يسيرة ويقول: زوجتي حلال لي؟! وذلك من شدة ما يجد من الوسوسة.

فيحتاج إلى إنسان عنده صبر وتحمل، ومع ذلك نقول لأهل العلم وطلابه: ما أعظم جزاءهم عند الله عز وجل! وما أعظم ثوابهم إذا استشعروا أنهم يفرجون كربة المكروب بإذن الله عز وجل، وأنهم يوسعون على إخوانهم! وأنهم مع المبتلى في بلائه: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).

فانظر رحمك الله: إذا كان العون في أحب الأشياء إلى الله وهو العلم النافع، فلا شك أن أمره أعظم، وما ارتفعت درجات العلماء، ولا نالوا الدرجات العلا في الجنة إلا بفضل الله وبمثل هذه الابتلاءات، فالعلم كما أنه يرفع الإنسان لا بد أن يدفع ثمنه، وأن يضحي.

وينبغي على من ابتلي بشيء من الوسواس أن يشفق على العلماء الذين عندهم مسئوليات أعظم، وأن يعلم أنهم ارتبطوا بأكثر من أمر فيرتبط بمن دونهم وممن هو أكثر فراغاً، خاصة في هذه الأزمنة التي قل أن تجد فيها من يضبط العلم ومن يحسن الفتوى، فإذا سأل العلماء المفتين الجهابذة كان الأمر أصعب، وربما إذا ارتبط بعالم من هؤلاء العلماء أحرجه، وقال له كلمة، أو تصرف معه تصرفاً نابياً، وعليه أن يسكت، فوالله لو يعلم الناس ما يجده أهل العلم من تحمل المشاق والمتاعب لأشفقوا عليهم، فينبغي للمبتلى بالوسوسة أن يتسع صدره، ويختار عالماً عنده من الفراغ والوقت ما يعينه على إجابته.

الجانب الثاني: من الأسباب المهمة أنه إذا سأل عالماً وارتبط به فهناك أمر مهم جداً، وهو أنه بمجرد ما يسأل العالم يشككه الشيطان في الفتوى، فتارة يقول له: لم تبين للشيخ حقيقة الأمر. يعني: يوسوس له في جانبٍ غير الجانب الذي كان فيه، فيقول له: أنت ما وضحت للشيخ، فيرجع المسكين مرة ثانية ليعيد السؤال مرة ثانية عليه؛ لأنه يحس أنه لم يفهم الشيخ السؤال كما ينبغي؛ ولذلك كان بعض العلماء من مشايخنا رحمة الله عليهم إذا سأله موسوس يعيد السؤال عليه مرة ومرتين مع أن الموسوس ما سأله أن يعيد، ويقول له: أنت تقصد كذا؟ يقول له: نعم، فيعيده مرة ثانية ويقول له: أنت تقصد كذا؟ فيقول له: نعم، قال: حتى تعلم أني فهمتك؛ فيخرج بصدر منشرح وبنفس واثقة أنه قد بلغت رسالته للعالم، وهذا من فطنة العالم وحكمته وذكائه، وهذا فتح من الله عز وجل له.

وإنما يقولون: طلب العلم على علماء لهم قدر راسخ في العلم أبرك وأكثر فائدة؛ لمثل هذه الفوائد مع الخبرة ومع أخذهم للعلم عمن هو أعلم، فيركز العالم في نوعية السائل، ولذلك كانوا يقولون: الفتوى لها فقه، وهذا الفقه هو معرفة السائل والمستفتي.

الموسوس يدخل عليه الشيطان بأمور كثيرة فالذي يريد أن يقف مع الموسوس في الفتاوى عليه دائماً أن ينزل نفسه منزلة الموسوس، فبذلك يتسع صدره لضيقه، ويتحمل كثيراً مما يكون من هذا الموسوس، ولا شك أن من أفضل وأصلح ما تكون من الدعوات دعوات أمثال هؤلاء؛ لأنه يدخل عليه بكرب لا يعلمه إلا الله، ويخرج من عنده بنفس غير النفس التي دخل بها، فربما دعا له من أعماق قلبه دعوة تكون سبباً في سعادته في الدنيا والآخرة، فيحتسب في مثل هؤلاء، فيحرص على أن يشعره أنه فهم قوله.

وينبغي للعالم إذا سأله الموسوس أن يسأله: هل بقي في السؤال شيء؟ هل هناك جوانب أخرى؟ وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم، كان يقول للموسوس إذا سأل المسألة: اسمع! أنت سألت عن كذا وكذا، فيعيد له السؤال مرتين، ثم يقول له: اعلم أن الذي يهم في الفتوى هو الذي ذكرته، يعني: ليس هناك شيء آخر أحتاج أن أسألك عنه، ولو كان هناك شيء احتجت أن أسألك عنه لسألتك، وذلك حتى إذا خرج الموسوس من عند العالم وجاءه الشيطان وقال له: هناك جانب آخر لم تذكره، فتحتاج أن ترجع مرة ثانية، ثم يصدق الشيطان، لأنه عندما يقول له العالم: إن المهم في السؤال هو كذا كذا ، وحالك على كذا وكذا، وأي شيء آخر زائد عن هذا فاعلم أنه لا يؤثر في الفتوى، فيعلم أنه ملزم بهذه الفتوى، وأن الذي أجابه به العالم هو الذي عليه العمل.

العمل بالفتوى

النقطة الثالثة: أن يكون عند الموسوس شعور أن ما أفتاه به العالم هو الذي عليه العمل ولو كان الأمر على خلافه.

أي: لو أنه سأل وما تذكر عند السؤال إلا هذا الأمر وسأل العالم عن هذا الأمر وأفتاه وقال له: زوجتك حلال؛ فهي حلال؛ لأنه ما تذكر الموسوس شيئاً آخر فليس بملزم، ويكون العمل على هذه الفتوى حتى يتبين ما يناقضها ويخالفها.

ولذلك يقولون: هذا من ناحية الحكم القضائي، وفيما بينه وبين الله عز وجل إذا جاءه الشيطان وقال له: كيف تستحل هذه المرأة وقد طلقتها؟ يقول: سألت عالماً وقال لي: زوجتي حلال، فأنا استحلها بما أفتى به أهل العلم، فإذا أصبح يرتبط بأهل العلم ارتاح.

ولذلك إذا صلى وجاءه الشيطان وقال له: كيف تصلي ووضوؤك مشكوكٌ فيه؟ يقول: سألت من يوثق بعلمه فأفتاني أن صلاتي صحيحة، ألا ترى أن المستحاضة تصلي ودمها يجري معها، وهي صلاة صحيحة شرعاً، فدل على أن الابتلاءات مقرونة بتقوى الله، ولذلك قال الله تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37].

وما دام أن الموسوس اتقى ربه وسأل العالم، وأنزل المسألة بأهل العلم فأجيب بالجواب المعتبر شرعاً؛ فإنه يتعبد لله عز وجل بما أُجيب به، في مسائل العبادات والمعاملات، ويجري الموسوس كل أموره على هذا الأصل.

البعد عن المظالم

أما الجوانب الأخرى التي ينبه عليها من الأسباب التي تدفع الوسوسة فأعظمها البعد عن المظالم، فربما أصيب الإنسان بالوسوسة بسبب عقوقٍ للوالدين، أو قطيعة للرحم، أو أكل مالٍ لمظلوم، أو يتيم، أو محروم، فعليه أن يتفقد نفسه في المظالم: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] فيراقب نفسه هل آذى أحداً؟ هل شتم أحداً؟ هل تكلم في عالم من العلماء فسلط الله عليه نفسه فأشغله عن أهل العلم؟

فربما جلس يتفكه بلحوم العلماء فابتلاه الله بلية نفسه حتى أصبح لا يعرف كيف يصلي والعياذ بالله، وكذلك ربما آذى مسلماً، أو قذف محصناً، أو تكلم في عرض مؤمن، أو نقل شائعة، أو ذم ولياً من أولياء الله، أو انتقصه حقا، أو ظلمه، أو غمطه؛ فغضب الله عز وجل عليه، وسلط عليه هذا البلاء فأشغله في نفسه.

وغالباً ما يكون البلاء من جنس العمل، فالذي يبتلى بالوسوسة في دينه عليه أن يراقب ما يكون في أمور الدين، ومن أعظمها ما يتصل بحقوق من له حق في الدين، كالأنبياء والعلماء وصالحي عباد الله الأخيار، فهؤلاء يتقي مظالمهم؛ فإنه من المجرب والمعروف أنه ما آذى أحدٌ أهل العلم أو أولياء الله إلا سلط الله عليه في نفسه، فأشغلهم عنهم بما يشاء، كما قال الله لنبيه: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137].

فالوساوس كثيراً ما تأتي بسبب المظالم، وقد وجدنا بعض الناس يبتلى بالوسوسة، فلما تفقد حاله وجد أنه عاقٌ لأمه، ومنهم من ابتلي بالوسوسة بعد أن قطع الإحسان إلى أبيه، ومنهم من ابتلي بالوسوسة بسبب موقف بينه وبين أبيه في خصومة والعياذ بالله فأساء إلى أبيه أمام إخوانه، أو أمام أولاده، فنزلت عليه هذه العقوبة والعياذ بالله.

ويعلم الله أني أعرف حوادث في الوسوسة لأناس عقوا والديهم فغيروا ما بينهم وبين والديهم فرجعت أمورهم على أحسن ما يكون، فعقوق الوالدين من أعظم أسباب الوساوس؛ لأن الوسوسة شغلٌ للإنسان في نفسه والعياذ بالله، والعقوق من الذنوب العظيمة، وقطيعة الرحم كذلك، وربما جاء الرحم بحاجة إلى مال أو مساعدة أو معونة؛ جاء مكروباً منكوباً مفجوعاً، فوقف على ذي الرحم منه وسأله وناشده بالله والرحم، فصرفه عن بابه مكسور الخاطر فدعا عليه، وعلى هذا ينبغي للإنسان أن يحذر من المظالم؛ لأنها من أسباب الابتلاء بمثل هذه الأمور.

إحسان الظن بالله عز وجل والتقرب إليه بالصالحات

كذلك: عليه أن يحسن الظن بالله عز وجل، والله سيجعل له فرجاً ومخرجاً بالصدقات، والتقرب إليه بالطاعات، ويتخذ له وسيلة بينه وبين الله عز وجل من الحسنات الطيبة؛ لأن الله تعالى يتقبل الأعمال والدعاء، ويتقبل الدعاء بالوسيلة الصالحة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] فأمرنا أن نبتغي إليه سبحانه الوسيلة.

وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل من أسباب رفع البلاء الوسيلة الصالحة، فقال في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام: (إذا رأيتم خسوف القمر وانكساف الشمس فصلوا وادعوا -وفي رواية- تصدقوا -استغفروا- حتى ينجلي ما بكم) فجعل الأعمال الصالحة وسيلة لدفع البلاء، فهذا إذا كان البلاء عاماً فكيف إذا كان البلاء خاصاً؟! فإن الله لا يعجزه شيء.

وانظر رحمك الله إلى قول رسول الأمة صلوات الله وسلامه عليه: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار) وانظر إلى عبدٍ مخلوقٍ إذا غضب كيف يكون حاله، فما بالك إذا غضب الرب سبحانه وتعالى، فالمخلوق الضعيف كالوالد إذا غضب ومن له قوة وصولة وسلطة، إذا رأيته غضب ارتعدت الفرائص من هيبته، فما بالك بجبار السماوات والأرض الذي لا يعجزه شيء إذا غضب سبحانه؟ ومع ذلك يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الصدقة تطفئ غضب الرب، وإطفاء الشيء ذهابه بالكلية.

فهذا يدل على فضل الصدقات، وأنها من أعظم الوسائل والقربات التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه، فمن ابتلي بالوسوسة فليتقرب إلى الله عز وجل بالصدقة.

أولهما وأعظمهما: ذكر الله عز وجل وكثرة الدعاء، والاستعاذة بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم.

فذكر الله سواء بالاستعاذة أو بالدعاء، أو بأذكار الصباح والمساء، لا شك أنه أعظم وأنجح وأفضل ما يكون للموسوس، حتى إنه لو وجد الوسوسة مع هذه الأذكار فليعلم أنه لا يقول الأذكار بحضور قلبٍ وقوة يقين، فيؤتَى من نفسه، فيرجع إلى نفسه ويقوي يقينه بالله؛ لأن الإنسان إذا ابتلي بالوسوسة يحرص كل الحرص على أن يجعل الوسوسة أكبر من الله عز وجل والعياذ بالله، ويعتقد أنها ليس لها حل ولا علاج؛ ولذلك تجد من تسلطت عليه الوسوسة في مثل هذه الحالة قد بلغ إلى درجة اليأس، وقد تسلط الشيطان على قلبه والعياذ بالله؛ لكن إذا ظن في قرارة قلبه أن الله أكبر من هذا، وأن الله أعظم من هذا، وأن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، فإن الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً.

ولقد ابتلي بعض الصالحين بهذا البلاء حتى كان بلاءً شديداً عليه في نفسه وفي عبادته، وحتى مع زوجه وأهله، واشتكى إلى بعض أهل العلم فأمروه أن يكون قوي اليقين بالله عز وجل، وأن يشكو أمره إلى الله عز وجل، فصلى ودعا الله عز وجل، قال: فما شعرت إلا وأنا في التشهد، فسألت الله بصدق، وإذا بشيء شديد الحرارة في أسفل بدني يؤذيني قال: فلما سلمت كان آخر عهدي بالوسوسة، فما بقي منها شيء ألبتة.

وقد كان بحالة لا يحسد عليها، فقد بلغ به أنه يدخل للغسل من الجنابة قبل صلاة الفجر بساعتين ولا يخرج من دورة المياه إلا بعد طلوع الشمس بثلاث ساعات أو بساعتين على الأقل، وهذا من شدة ما كان يجد، نسأل الله السلامة والعافية؛ فاشتكى إلى بعض أهل العلم، فقال له: اشتكِ إلى ربك، واسأل الله بصدق فإن الله لا يخيبك، وإذا سألت الله بيقين فإن الله لا يضيعك، وصلِّ وأنت تستشعر أنك أمام الله واعبده كأنك تراه، فأنت لما جئت تشتكي وجلست أمامي تسرد لي حوادثك وأنا مخلوق ضعيف لا أغني لك من الله شيئاً، فكيف وأنت تقف أمام ربك تشتكي عدوك الشيطان بقوة يقين وصدق التجاء إلى الله عز وجل، وأبشر بكل خير.

قال: فتوضأت وصليت، وهذه وقعت منذ سافر إلى العمرة، ولما طاف الطواف اشتكى إلى ربه ثم صلى ركعتي الطواف، ففي ركعتي الطواف سأل الله عز وجل وهو أمام بيته مستشعراً وقوفه أمام الله، معتقداً أن الله أكبر من هذه الوسوسة، فعافاه الله.

وكان يقول: كان الشيطان يقول لي: مستحيل، حتى أني أظن أنني سأصبح مجنوناً من شدة ما أجد من الوسوسة، وهو من أفاضل أهل العلم، قال: فلما سألت الله سبحانه وتعالى بصدق وأنا في التشهد شعرت بهذا الأمر الغريب في قدمي، فلما سلمت كان آخر عهدي بما كنت أجد: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [الجمعة:4].

فمن ابتلاه الله عز وجل بهذا فعليه أن يحسن الظن، فربما أن هذه الوسوسة تبلغه درجة في الجنة لا ينالها بكثير صلاة ولا صيام، فيحتفي، ولذلك يأتي الشيطان للإنسان ويقول له: أنت لا تؤجر على هذه الوسوسة.

وهنا أنبه إلى أن بعض طلاب العلم وبعض من يفتي أصلحهم الله يسيء التعامل في مثل هذه الأمور، فيقول للإنسان: لماذا تفعل هذا، ويخاصمه، ولربما يغلظ له القول، فإذا كان مريضاً فلا يغلظ عليه، بل يؤخذ بالتي هي أحسن؛ لأن مثل هذا كالغريق يحاول معه بالرفق وباللين علَّ الله سبحانه وتعالى أن يجعل له فرجاً ومخرجاً، فإذا داوم على الأذكار، والدعاء ووجد أن الوسوسة موجودة، فمن الأمور الطيبة المستحبة التي ينبغي أن ينبه عليها من ابتلي بهذا أن يقال له: لولا الله ثم الدعاء لكنت في حال أسوأ من الحال الذي أنت فيه.

فهذا يزيد يقينه في الذكر لله عز وجل، ويقال له: لو لم تدع لكان الأمر أسوأ، فيتشبث ويحس أن الذكر له سلطانٌ على قلبه، وهو كذلك؛ لأن الله تعالى لا يخلف الميعاد، وهو أصدق حديثاً، وقد قال تقدست أسماؤه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، وقال سبحانه وتعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45] فإنه يوصى بالذكر، فإن لم يجد في نفسه أثراً فليتهم نفسه بضعف اليقين، فإن وجد أنه صدق وسأل فلربما أراد الله له خيراً لا يعلمه، وفضلاً ينتظره بهذا البلاء فيحتسب الأجر والثواب من الله.

أما الأمر الثاني الذي يوصى به من ابتلي بالوسوسة: فأن يأخذ بالأسباب، وهذا الأمر فيه جانبان هامان:

الجانب الأول: الارتباط بالعلماء: أن يرتبط الموسوس بطالب علم أو بشيخ، ولا يفتي نفسه، فإذا أفتاه ذلك العالم، أو من عنده علم وبصيرة فليعمل بفتواه ولا يلتفت إلى أي شيء سواه. مثلاً: يشك أنه طلق زوجته أو لم يطلقها، فجاء يسأل الشيخ عن مسألته في الوسوسة التي وجدها، فإن قال له: ما وقع الطلاق، فعليه أن يتقبل الفتوى بصدرٍ منشرح؛ لأنه بين الشيطان وبين العالم، فإما أن يصدق الشيطان وإما أن يصدق العالم، فإن صدق الشيطان استهوته الشياطين والعياذ بالله، فأصبح حيران في الأرض؛ ولذلك تجد من يبتلى بالوسوسة ويرتبط بالعلماء يكون أمره أرحم وأخف من الذي لا يرتبط بأهل العلم.

ويستحسن للعلماء والأئمة والمشايخ وأهل الفتوى إذا جاءهم إنسان وعرفوا أن فيه وسوسة، وكانت أوقاتهم وظروفهم لا تسمح لهم بالإجابة على أسئلته أن يحيلوه على من عنده صبر وتحمل وجلد أكثر؛ لأنه سيصل العالم إلى درجة صعبة جداً؛ لأن الموسوس لا يملك نفسه، حتى إن بعضهم من الحوادث التي كانت تمر بنا يمكن أن يجلس مع العالم ويسأله عشرين مسألة مما يمر به -نسأل الله السلامة والعافية- ويخرج من الباب ثم يرجع بعد دقائق يسيرة ويقول: زوجتي حلال لي؟! وذلك من شدة ما يجد من الوسوسة.

فيحتاج إلى إنسان عنده صبر وتحمل، ومع ذلك نقول لأهل العلم وطلابه: ما أعظم جزاءهم عند الله عز وجل! وما أعظم ثوابهم إذا استشعروا أنهم يفرجون كربة المكروب بإذن الله عز وجل، وأنهم يوسعون على إخوانهم! وأنهم مع المبتلى في بلائه: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).

فانظر رحمك الله: إذا كان العون في أحب الأشياء إلى الله وهو العلم النافع، فلا شك أن أمره أعظم، وما ارتفعت درجات العلماء، ولا نالوا الدرجات العلا في الجنة إلا بفضل الله وبمثل هذه الابتلاءات، فالعلم كما أنه يرفع الإنسان لا بد أن يدفع ثمنه، وأن يضحي.

وينبغي على من ابتلي بشيء من الوسواس أن يشفق على العلماء الذين عندهم مسئوليات أعظم، وأن يعلم أنهم ارتبطوا بأكثر من أمر فيرتبط بمن دونهم وممن هو أكثر فراغاً، خاصة في هذه الأزمنة التي قل أن تجد فيها من يضبط العلم ومن يحسن الفتوى، فإذا سأل العلماء المفتين الجهابذة كان الأمر أصعب، وربما إذا ارتبط بعالم من هؤلاء العلماء أحرجه، وقال له كلمة، أو تصرف معه تصرفاً نابياً، وعليه أن يسكت، فوالله لو يعلم الناس ما يجده أهل العلم من تحمل المشاق والمتاعب لأشفقوا عليهم، فينبغي للمبتلى بالوسوسة أن يتسع صدره، ويختار عالماً عنده من الفراغ والوقت ما يعينه على إجابته.

الجانب الثاني: من الأسباب المهمة أنه إذا سأل عالماً وارتبط به فهناك أمر مهم جداً، وهو أنه بمجرد ما يسأل العالم يشككه الشيطان في الفتوى، فتارة يقول له: لم تبين للشيخ حقيقة الأمر. يعني: يوسوس له في جانبٍ غير الجانب الذي كان فيه، فيقول له: أنت ما وضحت للشيخ، فيرجع المسكين مرة ثانية ليعيد السؤال مرة ثانية عليه؛ لأنه يحس أنه لم يفهم الشيخ السؤال كما ينبغي؛ ولذلك كان بعض العلماء من مشايخنا رحمة الله عليهم إذا سأله موسوس يعيد السؤال عليه مرة ومرتين مع أن الموسوس ما سأله أن يعيد، ويقول له: أنت تقصد كذا؟ يقول له: نعم، فيعيده مرة ثانية ويقول له: أنت تقصد كذا؟ فيقول له: نعم، قال: حتى تعلم أني فهمتك؛ فيخرج بصدر منشرح وبنفس واثقة أنه قد بلغت رسالته للعالم، وهذا من فطنة العالم وحكمته وذكائه، وهذا فتح من الله عز وجل له.

وإنما يقولون: طلب العلم على علماء لهم قدر راسخ في العلم أبرك وأكثر فائدة؛ لمثل هذه الفوائد مع الخبرة ومع أخذهم للعلم عمن هو أعلم، فيركز العالم في نوعية السائل، ولذلك كانوا يقولون: الفتوى لها فقه، وهذا الفقه هو معرفة السائل والمستفتي.

الموسوس يدخل عليه الشيطان بأمور كثيرة فالذي يريد أن يقف مع الموسوس في الفتاوى عليه دائماً أن ينزل نفسه منزلة الموسوس، فبذلك يتسع صدره لضيقه، ويتحمل كثيراً مما يكون من هذا الموسوس، ولا شك أن من أفضل وأصلح ما تكون من الدعوات دعوات أمثال هؤلاء؛ لأنه يدخل عليه بكرب لا يعلمه إلا الله، ويخرج من عنده بنفس غير النفس التي دخل بها، فربما دعا له من أعماق قلبه دعوة تكون سبباً في سعادته في الدنيا والآخرة، فيحتسب في مثل هؤلاء، فيحرص على أن يشعره أنه فهم قوله.

وينبغي للعالم إذا سأله الموسوس أن يسأله: هل بقي في السؤال شيء؟ هل هناك جوانب أخرى؟ وبعض مشايخنا رحمة الله عليهم، كان يقول للموسوس إذا سأل المسألة: اسمع! أنت سألت عن كذا وكذا، فيعيد له السؤال مرتين، ثم يقول له: اعلم أن الذي يهم في الفتوى هو الذي ذكرته، يعني: ليس هناك شيء آخر أحتاج أن أسألك عنه، ولو كان هناك شيء احتجت أن أسألك عنه لسألتك، وذلك حتى إذا خرج الموسوس من عند العالم وجاءه الشيطان وقال له: هناك جانب آخر لم تذكره، فتحتاج أن ترجع مرة ثانية، ثم يصدق الشيطان، لأنه عندما يقول له العالم: إن المهم في السؤال هو كذا كذا ، وحالك على كذا وكذا، وأي شيء آخر زائد عن هذا فاعلم أنه لا يؤثر في الفتوى، فيعلم أنه ملزم بهذه الفتوى، وأن الذي أجابه به العالم هو الذي عليه العمل.