شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الطلاق [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين؛ أما بعد..

فيقول المصنف رحمه الله: [وصريحه].

ذكرنا أن الطلاق له أقسام من حيث حكم الشرع: طلاق سنة وطلاق بدعة، ومن حيث لفظ المطلق: لفظ صريح ولفظ غير صريح، فالآن يشرع المصنف رحمه الله في الجملة الثانية وهي: بيان أحكام الطلاق من حيث لفظ المطلق، ولتوضيح المسائل المتعلقة بهذه الجملة ينبغي أن ننبه على مسألةٍ مهمة، وهي: أن ما يصدر من المكلف يقسمه العلماء إلى قسمين: ظاهر وباطن، فعندنا ظاهر الإنسان وعندنا باطنه، والظاهر يشمل شيئين: القول والفعل، فالفعل كاليد تأخذ أو تضرب، سلباً وإيجاباً، أو الرجل تمشي وتُرفع وتُوضع، هذه أفعال، فعندنا في الظاهر القول والفعل، وفي الباطن النية فقط، فالذي يطلِّق لا بد أن يبحث العلماء فيه اللفظ؛ لأن الطلاق راجع إلى الألفاظ، فكأن باب الطلاق من حيث الأصل مركب على ظاهر المكلف، ومن حيث الاعتداد وعدمه فإن هناك مسائل أجمع عليها العلماء يعتد فيها بالنية، ففي الطلاق ظاهر وباطن، ولذلك يقسم العلماء الطلاق إلى ثلاثة أنواع: طلاق الديانة وطلاق الحكم، وطلاق جامع بين الديانة والحكم.

طلاق الديانة: كرجل تلفظ بكلمة تحتمل الطلاق وغير الطلاق، فسُئِل فقال للناس: ما قصدت الطلاق، وهو في باطنه قد قصد الطلاق، فبينه وبين الله المرأة عليه حرام، ولو كانت الطلقة الأخيرة فإنه يعيش معها بالزنا -والعياذ بالله- وهذا ديانة فيما بينه وبين الله، وكرجل قال لامرأته: هي طالق، وكانت الطلقة الأخيرة، ولم يخبر أحداً حتى امرأته، فالمرأة فيما بينه وبين الله طالق، فلو عاشرها وهي لا تعلم بتطليقه؛ فإنها طالقة ديانة فيما بينه وبين الله، وإن لم يصدر حكمٌ بطلاقها في الظاهر.

أما بالنسبة للفظ المكلف: فتارةً يقول لها: أنت طالق أو طلقتك أو سرحتك أو فارقتك أو أنت خلية، برية، بتة، بتلة، الحرج، أو الحقي بأهلك، أو اغربي عن وجهي، أو اخرجي من بيتي، أو لست لي بامرأة، أو لستِ بامرأتي، كل هذه ألفاظ فيها احتمال أن يقصد الطلاق واحتمال أن لا يقصد الطلاق، وأيضاً هذه الألفاظ إذا تلفظ بها وثبت عند القاضي أنه تلفظ بها؛ فإن القاضي قد يحكم بظاهر بعضها، ويقول: حكمت بأن زوجتك طالق.

أما إن كان في الحقيقة لم يقصد الطلاق كرجل أراد أن يقول لامرأته: طلبتك، فقال: طلقتك، والله يعلم أنه لم ينو الطلاق وأنه قصد طلبتك، وكرجل اشتدت الخصومة بينه وبين امرأته فغضبت المرأة وغضب الرجل، فجرت العادة أن الرجل يطلب من خصمه ومن أساء إليه أن يسامحه، فأراد أن يقول لها: طلبتك أن تعفي عنها، فقال: طلقتك. ففي هذه الصورة: بساط المجلس بساط غضب، وصعبٌ أن يقول عند القاضي: لم أقصد الطلاق؛ لأن الخصومة قرينة تدل على أنه يريد الطلاق، فجاء بصريح الطلاق، في موقفٍ لا يحتمل غير الخصومة، فصعب أن يقول: ما نويت، فبينه وبين الله لا تزال امرأته زوجة له، مع حكم القضاء أنها طلقة، لكن القضاء لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً؛ لكن في الظاهر يحكم، مثل الشاهد إذا شهد أنه رأى الزاني -والعياذ بالله- وليس هناك معه شاهدٌ آخر، فشهد شهادة الحق أنه رأى فلاناً يزني ولم يكتمل النصاب، فإنه يجلد حد القذف، والله يقول: فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور:13]، أي: في حكمه سبحانه أنهم كاذبون، لكن من ناحية الديانة ومن ناحية الحكم فهو صادق، والرجل مقذوف، لكن يجب عليه الحد.

الشاهد: أن هناك في الطلاق ما هو ديانة وهناك ما هو حكم، والعلماء في كتاب الطلاق تجدهم يقولون: تطلق ديانةً وتطلق حكماً، وتارةً يقولون: ينفعه ديانةً ولا ينفعه قضاءً، فإذا قالوا: قضاءً وحكماً، فالمراد الظاهر، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم تختصمون إليّ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فإنما أقضي بينكم على نحوٍ مما أسمع).

فأخذ العلماء من هذا أصلاً: أن الحكم في القضاء على ما يسمع، أما الحقيقة فأمرها إلى الله، فإن خالف الحكم الحقيقة تنتقل الخصومة من خصومة الدنيا إلى خصومة الآخرة.

أحوال الطلاق من جهة اجتماع اللفظ والنية واختلافهما

من طلق فلا يخلو من ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: أن تجتمع نيته ولفظه على الطلاق.

الحالة الثانية: أن يطلق بالنية ولا يتلفظ.

الحالة الثالثة: أن يطلق باللفظ دون النية.

والقسمة العقلية في الأصل تكون أربعاً، لكن في العمل ثلاثاً، فإن يطلق في النية وحدها، أي: أن ينوي في قلبه ويعزم على أنه يريد أن يطلق زوجته؛ فهذا طلاقٌ بالنية، وإما أن يتلفظ بلفظ الطلاق وليس في النية أن يطلق، فهذا طلاق اللفظ، وإما أن يجمع بين ظاهره وباطنه، فيطلق بنيته وقوله، والرابع الذي ألغيناه: ألا يطلق لا باللفظ ولا بالنية، فهذا ليس بطلاق؛ فإنه وإن كان التقسيم العقلي يحتمله، لكنه ليس له تأثير في الحكم.

فأما إن طلق بنيته فمثاله: رجلٌ آذته زوجته أو سمع منها أمراً أزعجه، فنوى في قرارة قلبه، وأقدم بكل ارتياث وبكل طمأنينة على أن يطلق، ولم يبق إلا أن يتلفظ، ولكن ما حدث منه اللفظ، فوصل إلى درجة عزم فيها تماماً على الطلاق، وقد تقع هذه الصورة في حال الخصومة بين الزوجين، فتقول الزوجة لزوجها: انتظر حتى يأتي والدي ويتفاهم معك، فعزم في قرارة قلبه على طلاقها عند مجيء والدها، فلما حضر والدها وواجهه؛ استحيا أو ذكره بالله، أو جاء مع والدها رجل فذكره بالله، فانصرفت نيته من الطلاق إلى عدم الطلاق، فهذا عزم في نيته ولم يتلفظ بلسانه، فوجد فيه طلاق الباطن دون طلاق الظاهر.

ومن أمثلة ذلك: أن تعزم المرأة أن تشتكي بزوجها في القضاء، فعزم على طلاقها إذا حضرا عند القاضي، فلما حضرا عند القاضي صرف الله قلبه، والله يقلب القلوب ويحول بين المرء وقلبه، فرأى أن المصلحة تقتضي ألا يطلق، ورأى أنه قد أعطى الأمر أكثر مما يستحق، وأن جلوسه بين يدي القاضي من أجل الإنصاف، أو وجد كلاماً صرفه، أو وجد قاضياً موفقاً، ذكره بالله ووعظه، فجمع الشمل وألف بين القلوب، فانصرفت نيته عن الطلاق، فالسؤال: إذا نوى الرجل أن يطلق زوجته ولم يتلفظ فهل نؤاخذه بهذه النية أو لا؟

حكم نية الطلاق دون التلفظ به

القول الأول: أن نية الطلاق ليست بطلاق، وأن الرجل لو عقد في نيته وعزم عزيمةً صادقة على الطلاق ولم يتلفظ؛ فلا طلاق، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمهم الله ومنهم الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث، وطائفة من أصحاب الإمام مالك رحمةُ الله عليه.

القول الثاني يقول: من عزم الطلاق وقويت عزيمته واطمأن قلبه على أن يطلق امرأته، فهي طالق بتلك العزيمة، وهذا القول قال به أئمة من السلف كالإمام محمد بن سيرين رحمه الله، ولما سُئِل عن فتواه في ذلك قال: قد علم الله أنه يريد طلاق زوجته، فجعل الإرادة والقصد كاللفظ، وقال: أليس الله قد علم واطلع، وما دام أنه عزم فيستوي أن يظهره أو أن يكنه، فالله عز وجل علم منه أنه يطلق فهو مطلق، وكونه يتلفظ أو لا يتلفظ هذا لا يؤثر، وهذا رواية عن الإمام مالك رحمه الله، وبعض العلماء يقول: مذهب مالك في المشهور عدم التطليق بالنية، وهذا أقوى الأقوال، وبعضهم يقول: مشهور مذهب مالك اعتبار النية، وإن كان الأقوى الأول، إذا ثبت هذا فالسؤال: ما هو الدليل على عدم وقوع الطلاق بالنية أو على وقوعه؟

الجمهور الذين يقولون: من نوى لا نطلق زوجته، استدلوا بدليلين:

أولهما: أن الله سبحانه وتعالى نص على التطليق فقال سبحانه: فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230]، ونحن لا نطلع على النيات، وحكم الشرع في الأصل قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أَكِلَ سرائرهم إلى الله)، فأصبح الأمر في مرده من حيث الأصل إلى الظاهر لا إلى الباطن في حكم الله عز وجل، وعليه قالوا: إن الله تعالى قال: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [البقرة:231]، وهذا لا يكون إلا بأمرٍ بيّن وهو لفظ المكلف، فمن حيث الأصل الطلاق يحتاج إلى إظهار، والنية ليس فيها ما يظهر بل ما تستكن، وهذا الدليل من أضعف الأدلة التي استدلوا بها.

ثانيهما: أقوى دليل لهم حديث أبي هريرة الثابت الصحيح: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، ولذلك أئمة الحديث رحمةُ الله عليهم ذكروا هذا الحديث في باب الاستشهاد على أن من طلق بنيته لا يقع طلاقه، فقوله: (إن الله تجاوز لأمتي)، فالمجاوزة تدل على عدم المؤاخذة، وقوله: (ما لم تتكلم أو تعمل)، دل على أنه لا يؤاخذ على النية ما دام أنه لم يتلفظ، وهذا الحديث هو حجة الباب وفيصل المسألة، والعمل على هذا الحديث.

دليل القول الثاني: حديث عمر بن الخطاب في الصحيحين: (إنما الأعمال بالنيات)، قالوا: دل الحديث على أن العبرة بالنية، وهذا قد نوى وعزم فتطلق عليه امرأته، وقاسوا هذا على أمور الاعتقاد، وقالوا: إنه لو كان معتقداً للكفر لكفر، فيحكم بالطلاق بالنية كما يحكم بالردة بتغير القلب، أي وجود عمل القلب، قالوا: لجامع كون كل منهما مؤاخذاً به، فالطلاق مؤاخذ به، والردة مؤاخذ بها.

والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لقوة حجة السنة على مذهبهم: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، وأما استدلالهم بحديث: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فالرد عليه من عدة وجوه، وأنسب هذه الوجوه وأقواها: أن حديث: (إنما الأعمال بالنيات) عام، وحديث: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها) خاص.

ثم أيضاً هناك وجهٌ ثانٍ: أن تقول: (إنما الأعمال بالنيات)، من حيث الأصل يعني: هو في السلب والإيجاب، الإحسان والإساءة، فمن نوى الخير اعتبرت نيته للخير، ومن نوى الشر اعتبرت نيته للشر، وأما في الطلاق وفي المؤاخذة فيأتي حديث: (إن الله تجاوز لأمتي)، فاستثنيت المؤاخذات وحدها؛ لأنه لا يؤاخذ إلا إذا وجد اللفظ، فدل على أنه لا يدخل في عموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه لوجود ما يخصصه.

وبعبارة مختصرة تقول: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به نفسها)، دال دلالة واضحة على أن من حدّث نفسه بشيء لا يؤاخذ به كما لو حدّث نفسه أن يقتل أو يسرق أو يفعل أمراً حراماً؛ فإن الله لا يؤاخذه ما لم يتكلم أو يعمل، وعلى هذا فالصحيح: أن من عقد نيته في قلبه على أن يطلق زوجته أنها لا تطلق ما لم يتلفظ.

أقسام اللفظ المعتبر في الطلاق

عرفنا أن الطلاق يحتاج إلى لفظ وأن العمل في الطلاق على اللفظ، فحينئذٍ يرد الإشكال: هل كل لفظٍ نحكم بكونه طلاقاً أم أن هناك ألفاظاً إذا وجدت حكمنا فيها بالطلاق وهناك ألفاظاً بعكس ذلك؟

أصل اللفظ: الطرح، ولَفَظَ الطعام إذا طرحه، ولا تصف الشخص بكونه متلفظاً إلا إذا خرجت الحروف سواءً سراً أو جهراً، أي: تحرك بها اللسان ونطقت بها الشفة سراً أو جهراً، وفي مسألة طلاق الموسوس يأتي الموسوس ويقول: طلقت زوجتي ويقول: في قلبي أحس أني طلقتها وأحس أن اللسان تحرك بذلك، فينبغي أن يتنبه إذا كان الرجل مطمئناً لزوجته؛ لأن الوسواس فيه شيء قهري -نسأل الله السلامة والعافية- فالشيطان إذا أراد أن يستخف بإنسان في أمر؛ حدثه به؛ لأنه عدو ويريد أن يحزن المؤمن، ومن هذا أن الموسوس يريد زوجته ويأتيه الشيطان يحدثه بالطلاق، فمثل هذا إذا تحرك لسانه ونبتت شفته في الوسواس القهري فإنه لا يؤثر ما لم توجد دلائل قوية على أنه فعلاً يريد الطلاق، فالمقصود: أن اللفظ لا بد فيه من صوت مشتمل على بعض الحروف الهجائية.

واللفظ تعريفه عند العلماء: هو الصوت المشتمل على بعض الحروف الهجائية كالقول، سواءً أفاد أو لم يفد، إذاً لا بد أن تكون هذه الحروف قد ظهرت من لسانه ونبتت بها شفتاه، فإذا حصل ذلك فقد وقع اللفظ إذا تلفظ، وبالطلاق فلفظ الطلاق ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: اللفظ الصريح.

والقسم الثاني: اللفظ غير الصريح، وبعضهم يسميه: الكناية. فعندنا صريح الطلاق وعندنا كناية الطلاق؛ فأما صريح الطلاق فهو الذي لا يحتمل معنىً غير الطلاق، واللفظ الصريح حكمه: أننا نطلِّق به على الظاهر بينه وبين الله عز وجل، كرجل أراد أن يقول لزوجته: طلبتك فقال: طلقتك، ففي الظاهر لا يملك الفقيه إلا أن يفتي بالطلاق سواءً كان مفتياً أو قاضياً.

أقوال العلماء في ألفاظ الطلاق الصريح

بعد أن عرفنا حكم الصريح من حيث الأصل، يأتي السؤال: ما هي ألفاظ الطلاق الصريحة؟

للعلماء قولان:

القول الأول: قال بعض العلماء: صريح الطلاق هو مادة طلق وما اشتق منها على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله، فصريح الطلاق ثلاثة: الطلاق، الفراق، السراح، فإن قال لزوجته: طلقتك أو فارقتك أو سرحتك؛ فهذه كلها ألفاظ صريحة، نطلِّق بها المرأة على الظاهر، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة في المشهور، ومذهب طائفة من أهل الظاهر، ويقولون: ليس هناك طلاق إلا بهذه الثلاثة الألفاظ وغيرها ليس بطلاق، واستشكل على قولهم حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دلّ على اعتبار الكناية في قوله لابنة الجون : (إلحقي بأهلك)، فهل اعتده طلاقٌ أو لم يعتده طلاق؟!

فالظاهرية عندهم ألفاظ الطلاق ثلاثة ألفاظ: الطلاق، السراح، الفراق؛ لكن الفرق بين الظاهرية وبين الحنابلة والشافعية: الظاهرية قالوا: لا طلاق بغير هذه الألفاظ، فلو قال لرجل لامرأته: أنت بتلة، أو أنت الحرج أو أنت خلية أو أنت برية أو الحقي بأهلك أو لست لي بامرأة، أو اعتدي، أو استبرئي رحمك إلى غير ذلك فليس بطلاق.

وأما القول الثاني في المسألة فقالوا: صريح الطلاق لفظٌ واحد، وهو الطلاق وما اشتق من مادة طلَّق على تفصيلٍ سيأتي، وهذا مذهب الحنفية والمالكية من حيث الجملة -رحمةُ الله على الجميع- وقال به بعض أصحاب الإمام أحمد رحمةُ الله على الجميع.

ودليل الذين قالوا: إن حيث لفظ الطلاق ثلاثٌ: (الطلاق والفراق والسراح) أن القرآن نص عليها، فقال تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ... [البقرة:229]، فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230]، وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [البقرة:231]، هذه كلها صريحة على أن لفظ الطلاق هو الذي يحصل به الفراق، فمادة طَلَّقَ محل إجماع، ومحل الخلاف في لفظي السراح والفراق: هل هما من صريح الطلاق أو من الكنايات المحتملة؟ فقالوا: إن الله تعالى عبر بالسراح عن الطلاق، فقال: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] وأيضاً في الفراق: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ [النساء:130]، وقال سبحانه وتعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق:2]، وقال: فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:28]، أي: أطلقكن، فلفظ السراح من ألفاظ الطلاق الصريحة بلفظ القرآن، ولفظ الفراق ولفظ الطلاق أيضاً بدلالة القرآن، قالوا: فجاء في القرآن ثلاثة ألفاظ: الطلاق والفراق والسراح، فكل من تلفظ بهذه الثلاث نؤاخذه، قصد أو ما قصد، ونعتبرها من الصريح، وهذا المذهب هو أولى المذاهب بالصواب إن شاء الله تعالى؛ فإن الأدلة دالة على أن هذه الثلاثة الألفاظ تستعمل، ويستدل بها على حل العصمة ورفع قيد النكاح.

وأما بالنسبة لقول من قال: يحصر لفظ الطلاق في (طلق) وما اشتق منها، فدليله واضح: أنه يحتج بالآيات التي وردت في الطلاق، ولكن نقول: كما أن ألفاظ آيات الطلاق دلّت على الطلاق؛ ينبغي أن تكون ألفاظ السراح والفراق والطلاق دالةً على الطلاق أيضاً.

قال رحمه الله: [وصريحه لفظ الطلاق].

كما ذكرنا: طلقتك، أنتِ مطلقتي، أنت طالق، وما اشتق منه، فهذا كله باسم الفاعل أو باسم المفعول، أنت طالقٌ، أنت مطلقةٌ مني، أو طلقتك، هذا كله يدل على الفراق صراحةً، ويؤاخذ به بإجماع العلماء رحمهم الله، لكن لو جاء بالصريح في مكانٍ محتمل أو سبق لسان كما سيأتي إن شاء الله، فإن هذا له حكم خاص، لكن من حيث الأصل فإن القاعدة أن باب الطلاق يقوم على لفظٍ صريح، وهذا اللفظ الصريح مادة (طلق) وما اشتق منها بإجماع العلماء.

قال رحمه الله: [وما تصرف منه غير أمر ومضارع]

قوله: (غير أمرٍ) كقوله: طلقي نفسك، فإن أمرها أن تطلق نفسها، فلا يقع الطلاق بتوكيله لها أو بتفويض الطلاق لها إلا إذا طلقت نفسها؛ لأنه وجه الطلاق بصيغة الأمر (طلقي نفسك) فهذا أشبه بأنه فوض إليها أن تطلق نفسها، أو جعل الطلاق إليها، كما لو قال: أمرك بيدك، فلا يقع الطلاق بمجرد قوله: طلقي، أما تعليق الطلاق بالمستقبل كما في الأفعال المضارعة سواء أدخل عليها الأدوات أو الحروف التي تدل على المستقبل أَوْلاً، فإنه لا يقع الطلاق في وقته، إلا إذا كان معلقاً على المستقبل، ويقع بوقوع ما علق عليه، لكن من حيث الأصل: لو قال لها: سوف أطلقك أو تطلقين، فهذا وعد بالطلاق، وهذا كله لا يقع به الطلاق، فالمضارع والمضاف إلى المستقبل لا يقع به الطلاق إلا إذا كان مقيداً بشرط، وستأتي مسألة تعليق الطلاق وإضافة الطلاق إلى المستقبل، لكنه من حيث الأصل لا يوجب وقوع الطلاق في حينه.

قال رحمه الله: [ومطلقة اسم فاعل]

هذا تابع للذي قبله من المستثنيات، كما لو قال بلفظ الأمر: طلقي، والمضارع: سوف أطلقك، فهذا وعد وله أن يخلفه، فلو جاء رجل وسألك: قلت لامرأتي: سأطلقك أو سوف أطلقك، فهذا وعد، إن أراد أن يمضي وعده أمضاه، وإذا رأى أن المصلحة ألا يطلقها فلم يطلقها فلا طلاق، هذا في المضارع، أما أنت مطلقة، فإنها مشتقة من مادة الطلاق، لكن لا توجب الطلاق، لكن لو قال لها: أنت مطلقةٌ مني، وقع الطلاق، وفرقٌ بين قوله: أنت مطلقة، اسم فاعل، وبين قوله: أنت مطلقةٌ مني، فحينئذٍ قد أوقع الطلاق.

قوله: [فيقع به].

أي: بالصريح، ففائدة الصريح أنه يحكم قضاءً بوقوعه وإن لم ينوه، فالفرق بين الصريح والكناية: أن الصريح لا يحتاج إلى نية، يعني: يطلق القاضي على الظاهر، ما لم يكن هناك بساط المجلس وأمور مستثناة -سنشير إليها- تدل على أنه لم يرد الطلاق.

وهناك فرق بين الكناية الظاهرة والكناية الخفية، لكن باب الكناية من حيث الأصل يقوم على النية، ولكن الكناية الظاهرة كقوله: أنت بتة، أنت بتلة، أنت خلية، أنت الحرج، فهذه استثنيت في مذهب طائفة من العلماء، لوجود قضاء من الصحابة رضوان الله عليهم فيها، فاعتبروها من الكنايات الظاهرة، وسنتكلم عليها في الكنايات الظاهرة والخفية، لكن الكناية من حيث الأصل يرجع فيها إلى النية، وأما الصريح فإننا نطلق به على ظاهر النص.

وقوله: (ومطلقة اسم فاعل فيقع به).

أي: يقع الطلاق بما تقدم من مادة (طلق) غير ما استثني من المضارع، ومن الأمر، ومن اسم الفاعل، ولفظ الطلاق الصريح سواءً نواه أو لم ينوه فإن الطلاق يقع به، أي: في حكم القضاء، لكن في حكم الديانة يكون ذلك بينه وبين الله، فإن قال: أنت طالق، وقصد: من حبله، أو من وثاقه، فإنه يقع قضاءً ولا يقع ديانةً.

أقوال العلماء في الفرق ما بين طلاق الهازل وطلاق من سبقه لسانه

قال رحمه الله: [وإن لم ينوه جاد أو هازل].

قال المصنف رحمه الله: من تلفظ بلفظ الطلاق، فإنه ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: من تلفظ بالطلاق مع النية، فهذا جاد، يعني: يريد أن يطلق المرأة فعلاً، وجمع بين الظاهر والباطن، فهذا طلق جاداً.

القسم الثاني: من طلق باللفظ دون النية، وهذا له صور:

الصورة الأولى: أن يقصد اللفظ دون نية الطلاق، فهذا يسمى بالهازل، يعني: تلفظ بلفظ الطلاق قاصداً له، مستشعراً أنه لفظ الطلاق، لكن نيته لا تريد الطلاق، فمن تلفظ بالطلاق قاصداً اللفظ غير ناوٍ له، يسمى بالهازل، فتجده يمزح مع امرأته ويظن أن هذا ينفعه، فيقول لها: أنت طالق، فيكون جاء بمادة (طلق) عالماً أنها تفيد الطلاق من حيث الأصل، لكنه لا يريد أثرها ولا يريد أنها طالق، فيقولون: قصد اللفظ ولم ينوه.

ومن هنا: يفرق بين الهازل ومسبوق اللسان بالطلاق: أن الهازل قصد اللفظ، ومسبوق اللسان لم يقصد اللفظ، فمسبوق اللسان أرحم ممن يهزل؛ لأن مسبوق اللسان لم ينو بقلبه ولم يقصد أن يتلفظ بلسانه، فالفرق بين الهازل وبين مسبوق اللسان من جهة قصد اللفظ، فلو أراد رجلٌ أن يقول لامرأته: طلبتك، فقال: طلقتك، فهو لم ينو بقلبه ولم يقصد بلفظه، لكن إذا مزح معها وظن أن أمور الطلاق فيها مزاح، فقال لها: طلقتك، فكلمة الطلاق مقصودة، ومادة (طلق) مقصودة، فاللفظ مقصود، فالشريعة والعلماء يفرقون بين من يقصد اللفظ وبين من لم يقصد.

وبعض العلماء يرى بالنسبة لمسبوق اللسان أنه إن وجدت قرائن قوية على أنه لا يريد الطلاق أن طلاقه لا يقع، كرجل جلس مع امرأته وهو في غاية الانبساط والسرور، وهناك اثنان يشهدان على أنه كان مع زوجته على أحسن ما يكون، ثم طلعت على السلم، فأراد أن يقول لها: أنت طالعة، فسبق لسانه وقال: أنت طالقة، فبساط المجلس يدل على أنه لا يريد الطلاق، ومثل هذا ينفعه، فلو قال للقاضي وثبت بشهادة البينة أو بحلف اليمين على أنه ما قصد؛ فلا تطلق عليه امرأته لا قضاءً ولا ديانةً.

فلما قال بعض العلماء بهذا القول استشكل عليهم الهازل، فالهازل لم يقصد الطلاق، ومسبوق اللسان لم يقصد الطلاق، والشرع يقول: ما دام وجدت كلمة الطلاق فيؤاخذ بها، فردوا عليهم بأن الهازل قصد اللفظ، ومسبوق اللسان لم يقصد اللفظ، فالفرق بينهما واضح.

وبناءً على ذلك: قال رحمه الله: (جاداً)، يعني: تطلق المرأة إن تلفظ بالطلاق وهو جادٌ، أو تلفظ به هازلاً، والهزل: المزح والمرح، فالطلاق جده جد وهزله جد، والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثٌ جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق والعتاق) ، وفي رواية: (والنذر)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يعظ الناس ويبين لهم الأحكام: ( أربع جائزات إذا تكلم بهن: النكاح والطلاق، والعتاق والنذر).

فإذا جاء رجل وقال لك: زوجتك ابنتي، وهو يمزح معك، فقلت: قبلت، فحينئذٍ يلزم، وأيضاً لو قال رجل لزوجته: طلقتك، وهو يمزح معها فإنه يلزم بذلك، ولو قال لعبده: أنت حر، على سبيل المزاح، فإنه يعتق عليه، ولو لم يقصد عتقه، وهكذا لو نذرت، والأصل في السنة الثلاث التي سبق التنبيه إليها.

وعلى هذا قال العلماء: إن الهازل تطلق عليه امرأته، وهذا بإجماع العلماء؛ لثبوت السنة بذلك.

وقال بعض العلماء: هنا إشكال، كيف نطلق عليه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فهو لم ينوِ الطلاق، فكيف نؤاخذه بالطلاق، قالوا: هذا من باب حكم الوضع وليس من باب حكم التكليف، وحكم الوضع: ما جعله ونصبه الشرع من أسباب وعلامات وموانع تدل على الصحة وتدل على الفساد، فكأن الشرع يقول: من تلفظ بلفظ الطلاق، فإننا نؤاخذه به قصد أو لم يقصد، نوى أو لم ينو، فكأنه إذا وجد لفظ الطلاق وجد الطلاق، بغض النظر عن القصد والنية وجدت أو لم توجد.

من طلق فلا يخلو من ثلاثة أحوال:

الحالة الأولى: أن تجتمع نيته ولفظه على الطلاق.

الحالة الثانية: أن يطلق بالنية ولا يتلفظ.

الحالة الثالثة: أن يطلق باللفظ دون النية.

والقسمة العقلية في الأصل تكون أربعاً، لكن في العمل ثلاثاً، فإن يطلق في النية وحدها، أي: أن ينوي في قلبه ويعزم على أنه يريد أن يطلق زوجته؛ فهذا طلاقٌ بالنية، وإما أن يتلفظ بلفظ الطلاق وليس في النية أن يطلق، فهذا طلاق اللفظ، وإما أن يجمع بين ظاهره وباطنه، فيطلق بنيته وقوله، والرابع الذي ألغيناه: ألا يطلق لا باللفظ ولا بالنية، فهذا ليس بطلاق؛ فإنه وإن كان التقسيم العقلي يحتمله، لكنه ليس له تأثير في الحكم.

فأما إن طلق بنيته فمثاله: رجلٌ آذته زوجته أو سمع منها أمراً أزعجه، فنوى في قرارة قلبه، وأقدم بكل ارتياث وبكل طمأنينة على أن يطلق، ولم يبق إلا أن يتلفظ، ولكن ما حدث منه اللفظ، فوصل إلى درجة عزم فيها تماماً على الطلاق، وقد تقع هذه الصورة في حال الخصومة بين الزوجين، فتقول الزوجة لزوجها: انتظر حتى يأتي والدي ويتفاهم معك، فعزم في قرارة قلبه على طلاقها عند مجيء والدها، فلما حضر والدها وواجهه؛ استحيا أو ذكره بالله، أو جاء مع والدها رجل فذكره بالله، فانصرفت نيته من الطلاق إلى عدم الطلاق، فهذا عزم في نيته ولم يتلفظ بلسانه، فوجد فيه طلاق الباطن دون طلاق الظاهر.

ومن أمثلة ذلك: أن تعزم المرأة أن تشتكي بزوجها في القضاء، فعزم على طلاقها إذا حضرا عند القاضي، فلما حضرا عند القاضي صرف الله قلبه، والله يقلب القلوب ويحول بين المرء وقلبه، فرأى أن المصلحة تقتضي ألا يطلق، ورأى أنه قد أعطى الأمر أكثر مما يستحق، وأن جلوسه بين يدي القاضي من أجل الإنصاف، أو وجد كلاماً صرفه، أو وجد قاضياً موفقاً، ذكره بالله ووعظه، فجمع الشمل وألف بين القلوب، فانصرفت نيته عن الطلاق، فالسؤال: إذا نوى الرجل أن يطلق زوجته ولم يتلفظ فهل نؤاخذه بهذه النية أو لا؟

القول الأول: أن نية الطلاق ليست بطلاق، وأن الرجل لو عقد في نيته وعزم عزيمةً صادقة على الطلاق ولم يتلفظ؛ فلا طلاق، وهذا مذهب جمهور العلماء رحمهم الله ومنهم الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث، وطائفة من أصحاب الإمام مالك رحمةُ الله عليه.

القول الثاني يقول: من عزم الطلاق وقويت عزيمته واطمأن قلبه على أن يطلق امرأته، فهي طالق بتلك العزيمة، وهذا القول قال به أئمة من السلف كالإمام محمد بن سيرين رحمه الله، ولما سُئِل عن فتواه في ذلك قال: قد علم الله أنه يريد طلاق زوجته، فجعل الإرادة والقصد كاللفظ، وقال: أليس الله قد علم واطلع، وما دام أنه عزم فيستوي أن يظهره أو أن يكنه، فالله عز وجل علم منه أنه يطلق فهو مطلق، وكونه يتلفظ أو لا يتلفظ هذا لا يؤثر، وهذا رواية عن الإمام مالك رحمه الله، وبعض العلماء يقول: مذهب مالك في المشهور عدم التطليق بالنية، وهذا أقوى الأقوال، وبعضهم يقول: مشهور مذهب مالك اعتبار النية، وإن كان الأقوى الأول، إذا ثبت هذا فالسؤال: ما هو الدليل على عدم وقوع الطلاق بالنية أو على وقوعه؟

الجمهور الذين يقولون: من نوى لا نطلق زوجته، استدلوا بدليلين:

أولهما: أن الله سبحانه وتعالى نص على التطليق فقال سبحانه: فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230]، ونحن لا نطلع على النيات، وحكم الشرع في الأصل قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أمرت أن آخذ بظواهر الناس، وأن أَكِلَ سرائرهم إلى الله)، فأصبح الأمر في مرده من حيث الأصل إلى الظاهر لا إلى الباطن في حكم الله عز وجل، وعليه قالوا: إن الله تعالى قال: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [البقرة:231]، وهذا لا يكون إلا بأمرٍ بيّن وهو لفظ المكلف، فمن حيث الأصل الطلاق يحتاج إلى إظهار، والنية ليس فيها ما يظهر بل ما تستكن، وهذا الدليل من أضعف الأدلة التي استدلوا بها.

ثانيهما: أقوى دليل لهم حديث أبي هريرة الثابت الصحيح: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، ولذلك أئمة الحديث رحمةُ الله عليهم ذكروا هذا الحديث في باب الاستشهاد على أن من طلق بنيته لا يقع طلاقه، فقوله: (إن الله تجاوز لأمتي)، فالمجاوزة تدل على عدم المؤاخذة، وقوله: (ما لم تتكلم أو تعمل)، دل على أنه لا يؤاخذ على النية ما دام أنه لم يتلفظ، وهذا الحديث هو حجة الباب وفيصل المسألة، والعمل على هذا الحديث.

دليل القول الثاني: حديث عمر بن الخطاب في الصحيحين: (إنما الأعمال بالنيات)، قالوا: دل الحديث على أن العبرة بالنية، وهذا قد نوى وعزم فتطلق عليه امرأته، وقاسوا هذا على أمور الاعتقاد، وقالوا: إنه لو كان معتقداً للكفر لكفر، فيحكم بالطلاق بالنية كما يحكم بالردة بتغير القلب، أي وجود عمل القلب، قالوا: لجامع كون كل منهما مؤاخذاً به، فالطلاق مؤاخذ به، والردة مؤاخذ بها.

والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لقوة حجة السنة على مذهبهم: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، وأما استدلالهم بحديث: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى)، فالرد عليه من عدة وجوه، وأنسب هذه الوجوه وأقواها: أن حديث: (إنما الأعمال بالنيات) عام، وحديث: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها) خاص.

ثم أيضاً هناك وجهٌ ثانٍ: أن تقول: (إنما الأعمال بالنيات)، من حيث الأصل يعني: هو في السلب والإيجاب، الإحسان والإساءة، فمن نوى الخير اعتبرت نيته للخير، ومن نوى الشر اعتبرت نيته للشر، وأما في الطلاق وفي المؤاخذة فيأتي حديث: (إن الله تجاوز لأمتي)، فاستثنيت المؤاخذات وحدها؛ لأنه لا يؤاخذ إلا إذا وجد اللفظ، فدل على أنه لا يدخل في عموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه لوجود ما يخصصه.

وبعبارة مختصرة تقول: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدّثت به نفسها)، دال دلالة واضحة على أن من حدّث نفسه بشيء لا يؤاخذ به كما لو حدّث نفسه أن يقتل أو يسرق أو يفعل أمراً حراماً؛ فإن الله لا يؤاخذه ما لم يتكلم أو يعمل، وعلى هذا فالصحيح: أن من عقد نيته في قلبه على أن يطلق زوجته أنها لا تطلق ما لم يتلفظ.

عرفنا أن الطلاق يحتاج إلى لفظ وأن العمل في الطلاق على اللفظ، فحينئذٍ يرد الإشكال: هل كل لفظٍ نحكم بكونه طلاقاً أم أن هناك ألفاظاً إذا وجدت حكمنا فيها بالطلاق وهناك ألفاظاً بعكس ذلك؟

أصل اللفظ: الطرح، ولَفَظَ الطعام إذا طرحه، ولا تصف الشخص بكونه متلفظاً إلا إذا خرجت الحروف سواءً سراً أو جهراً، أي: تحرك بها اللسان ونطقت بها الشفة سراً أو جهراً، وفي مسألة طلاق الموسوس يأتي الموسوس ويقول: طلقت زوجتي ويقول: في قلبي أحس أني طلقتها وأحس أن اللسان تحرك بذلك، فينبغي أن يتنبه إذا كان الرجل مطمئناً لزوجته؛ لأن الوسواس فيه شيء قهري -نسأل الله السلامة والعافية- فالشيطان إذا أراد أن يستخف بإنسان في أمر؛ حدثه به؛ لأنه عدو ويريد أن يحزن المؤمن، ومن هذا أن الموسوس يريد زوجته ويأتيه الشيطان يحدثه بالطلاق، فمثل هذا إذا تحرك لسانه ونبتت شفته في الوسواس القهري فإنه لا يؤثر ما لم توجد دلائل قوية على أنه فعلاً يريد الطلاق، فالمقصود: أن اللفظ لا بد فيه من صوت مشتمل على بعض الحروف الهجائية.

واللفظ تعريفه عند العلماء: هو الصوت المشتمل على بعض الحروف الهجائية كالقول، سواءً أفاد أو لم يفد، إذاً لا بد أن تكون هذه الحروف قد ظهرت من لسانه ونبتت بها شفتاه، فإذا حصل ذلك فقد وقع اللفظ إذا تلفظ، وبالطلاق فلفظ الطلاق ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: اللفظ الصريح.

والقسم الثاني: اللفظ غير الصريح، وبعضهم يسميه: الكناية. فعندنا صريح الطلاق وعندنا كناية الطلاق؛ فأما صريح الطلاق فهو الذي لا يحتمل معنىً غير الطلاق، واللفظ الصريح حكمه: أننا نطلِّق به على الظاهر بينه وبين الله عز وجل، كرجل أراد أن يقول لزوجته: طلبتك فقال: طلقتك، ففي الظاهر لا يملك الفقيه إلا أن يفتي بالطلاق سواءً كان مفتياً أو قاضياً.

بعد أن عرفنا حكم الصريح من حيث الأصل، يأتي السؤال: ما هي ألفاظ الطلاق الصريحة؟

للعلماء قولان:

القول الأول: قال بعض العلماء: صريح الطلاق هو مادة طلق وما اشتق منها على التفصيل الذي سنذكره إن شاء الله، فصريح الطلاق ثلاثة: الطلاق، الفراق، السراح، فإن قال لزوجته: طلقتك أو فارقتك أو سرحتك؛ فهذه كلها ألفاظ صريحة، نطلِّق بها المرأة على الظاهر، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة في المشهور، ومذهب طائفة من أهل الظاهر، ويقولون: ليس هناك طلاق إلا بهذه الثلاثة الألفاظ وغيرها ليس بطلاق، واستشكل على قولهم حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دلّ على اعتبار الكناية في قوله لابنة الجون : (إلحقي بأهلك)، فهل اعتده طلاقٌ أو لم يعتده طلاق؟!

فالظاهرية عندهم ألفاظ الطلاق ثلاثة ألفاظ: الطلاق، السراح، الفراق؛ لكن الفرق بين الظاهرية وبين الحنابلة والشافعية: الظاهرية قالوا: لا طلاق بغير هذه الألفاظ، فلو قال لرجل لامرأته: أنت بتلة، أو أنت الحرج أو أنت خلية أو أنت برية أو الحقي بأهلك أو لست لي بامرأة، أو اعتدي، أو استبرئي رحمك إلى غير ذلك فليس بطلاق.

وأما القول الثاني في المسألة فقالوا: صريح الطلاق لفظٌ واحد، وهو الطلاق وما اشتق من مادة طلَّق على تفصيلٍ سيأتي، وهذا مذهب الحنفية والمالكية من حيث الجملة -رحمةُ الله على الجميع- وقال به بعض أصحاب الإمام أحمد رحمةُ الله على الجميع.

ودليل الذين قالوا: إن حيث لفظ الطلاق ثلاثٌ: (الطلاق والفراق والسراح) أن القرآن نص عليها، فقال تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ... [البقرة:229]، فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230]، وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [البقرة:231]، هذه كلها صريحة على أن لفظ الطلاق هو الذي يحصل به الفراق، فمادة طَلَّقَ محل إجماع، ومحل الخلاف في لفظي السراح والفراق: هل هما من صريح الطلاق أو من الكنايات المحتملة؟ فقالوا: إن الله تعالى عبر بالسراح عن الطلاق، فقال: فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229] وأيضاً في الفراق: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ [النساء:130]، وقال سبحانه وتعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق:2]، وقال: فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:28]، أي: أطلقكن، فلفظ السراح من ألفاظ الطلاق الصريحة بلفظ القرآن، ولفظ الفراق ولفظ الطلاق أيضاً بدلالة القرآن، قالوا: فجاء في القرآن ثلاثة ألفاظ: الطلاق والفراق والسراح، فكل من تلفظ بهذه الثلاث نؤاخذه، قصد أو ما قصد، ونعتبرها من الصريح، وهذا المذهب هو أولى المذاهب بالصواب إن شاء الله تعالى؛ فإن الأدلة دالة على أن هذه الثلاثة الألفاظ تستعمل، ويستدل بها على حل العصمة ورفع قيد النكاح.

وأما بالنسبة لقول من قال: يحصر لفظ الطلاق في (طلق) وما اشتق منها، فدليله واضح: أنه يحتج بالآيات التي وردت في الطلاق، ولكن نقول: كما أن ألفاظ آيات الطلاق دلّت على الطلاق؛ ينبغي أن تكون ألفاظ السراح والفراق والطلاق دالةً على الطلاق أيضاً.

قال رحمه الله: [وصريحه لفظ الطلاق].

كما ذكرنا: طلقتك، أنتِ مطلقتي، أنت طالق، وما اشتق منه، فهذا كله باسم الفاعل أو باسم المفعول، أنت طالقٌ، أنت مطلقةٌ مني، أو طلقتك، هذا كله يدل على الفراق صراحةً، ويؤاخذ به بإجماع العلماء رحمهم الله، لكن لو جاء بالصريح في مكانٍ محتمل أو سبق لسان كما سيأتي إن شاء الله، فإن هذا له حكم خاص، لكن من حيث الأصل فإن القاعدة أن باب الطلاق يقوم على لفظٍ صريح، وهذا اللفظ الصريح مادة (طلق) وما اشتق منها بإجماع العلماء.

قال رحمه الله: [وما تصرف منه غير أمر ومضارع]

قوله: (غير أمرٍ) كقوله: طلقي نفسك، فإن أمرها أن تطلق نفسها، فلا يقع الطلاق بتوكيله لها أو بتفويض الطلاق لها إلا إذا طلقت نفسها؛ لأنه وجه الطلاق بصيغة الأمر (طلقي نفسك) فهذا أشبه بأنه فوض إليها أن تطلق نفسها، أو جعل الطلاق إليها، كما لو قال: أمرك بيدك، فلا يقع الطلاق بمجرد قوله: طلقي، أما تعليق الطلاق بالمستقبل كما في الأفعال المضارعة سواء أدخل عليها الأدوات أو الحروف التي تدل على المستقبل أَوْلاً، فإنه لا يقع الطلاق في وقته، إلا إذا كان معلقاً على المستقبل، ويقع بوقوع ما علق عليه، لكن من حيث الأصل: لو قال لها: سوف أطلقك أو تطلقين، فهذا وعد بالطلاق، وهذا كله لا يقع به الطلاق، فالمضارع والمضاف إلى المستقبل لا يقع به الطلاق إلا إذا كان مقيداً بشرط، وستأتي مسألة تعليق الطلاق وإضافة الطلاق إلى المستقبل، لكنه من حيث الأصل لا يوجب وقوع الطلاق في حينه.

قال رحمه الله: [ومطلقة اسم فاعل]

هذا تابع للذي قبله من المستثنيات، كما لو قال بلفظ الأمر: طلقي، والمضارع: سوف أطلقك، فهذا وعد وله أن يخلفه، فلو جاء رجل وسألك: قلت لامرأتي: سأطلقك أو سوف أطلقك، فهذا وعد، إن أراد أن يمضي وعده أمضاه، وإذا رأى أن المصلحة ألا يطلقها فلم يطلقها فلا طلاق، هذا في المضارع، أما أنت مطلقة، فإنها مشتقة من مادة الطلاق، لكن لا توجب الطلاق، لكن لو قال لها: أنت مطلقةٌ مني، وقع الطلاق، وفرقٌ بين قوله: أنت مطلقة، اسم فاعل، وبين قوله: أنت مطلقةٌ مني، فحينئذٍ قد أوقع الطلاق.

قوله: [فيقع به].

أي: بالصريح، ففائدة الصريح أنه يحكم قضاءً بوقوعه وإن لم ينوه، فالفرق بين الصريح والكناية: أن الصريح لا يحتاج إلى نية، يعني: يطلق القاضي على الظاهر، ما لم يكن هناك بساط المجلس وأمور مستثناة -سنشير إليها- تدل على أنه لم يرد الطلاق.

وهناك فرق بين الكناية الظاهرة والكناية الخفية، لكن باب الكناية من حيث الأصل يقوم على النية، ولكن الكناية الظاهرة كقوله: أنت بتة، أنت بتلة، أنت خلية، أنت الحرج، فهذه استثنيت في مذهب طائفة من العلماء، لوجود قضاء من الصحابة رضوان الله عليهم فيها، فاعتبروها من الكنايات الظاهرة، وسنتكلم عليها في الكنايات الظاهرة والخفية، لكن الكناية من حيث الأصل يرجع فيها إلى النية، وأما الصريح فإننا نطلق به على ظاهر النص.

وقوله: (ومطلقة اسم فاعل فيقع به).

أي: يقع الطلاق بما تقدم من مادة (طلق) غير ما استثني من المضارع، ومن الأمر، ومن اسم الفاعل، ولفظ الطلاق الصريح سواءً نواه أو لم ينوه فإن الطلاق يقع به، أي: في حكم القضاء، لكن في حكم الديانة يكون ذلك بينه وبين الله، فإن قال: أنت طالق، وقصد: من حبله، أو من وثاقه، فإنه يقع قضاءً ولا يقع ديانةً.