شرح زاد المستقنع العيوب في النكاح


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فصل: ومن وجدت زوجها مجبوباً أو بقي له ما لا يطأ به فلها الفسخ ]

هذا فصل في بيان العيوب، وعيوب الزوجين في النكاح تنقسم إلى قسمين: عيوب عامة، وعيوب خاصة، فالعيوب العامة هي التي تكون في الرجل وتكون في المرأة، أي: ما تختص بالرجال ولا تختص بالنساء، ومن أشهرها مما يوجب الفسخ ثلاثة عيوب -أعاذنا الله وإياكم منها ومن غيرها مما فيه ضرر-: الجنون والجذام والبرص، هذه الثلاثة العيوب مؤثرة وتوجب الخيار، وهي تكون في الرجال وتكون في النساء، فالجنون لا يختص بالرجال دون النساء ولا العكس وكذلك الجذام وكذلك البرص، وسيأتي بيانها إن شاء الله.

وهناك عيوب خاصة بالرجال كالمجبوب -مقطوع الذكر- والعنين -الذي لا ينتشر عضوه- فهذه خاصة بالرجال، والخصي ونحو ذلك، والخاصة بالنساء القرن، والعتل، والرتق، والفتق فهذه كلها خاصة بالنساء، ثم ما يختص بالرجال وما يختص بالنساء ينقسم إلى قسمين: منها ما هو مؤثر ويوجب الخيار، ومنها ما ليس بمؤثر ولا يوجب الخيار، وسيأتي بيان كل هذا إن شاء الله.

تخيير المرأة في الرجل المجبوب

قال رحمه الله: [ ومن وجدت زوجها مجبوباً ]

يعني: مقطوع الذكر، فإن هذا عيب لا يمكن معه حصول المقصود من النكاح من إعفاف المرأة وإحصانها، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله -كما نقل الأئمة- على أنه عيب يوجب الخيار للمرأة في أن تفسخ، وإذا رضيت المرأة بالبقاء فإنها تبقى، وإذا لم ترضَ فإن لها الفسخ؛ لأن هذا ضرر عظيم، وقد تتعرض للحرام، فيكون من حقها أن تفسخ، إذا كان الرجل مجبوباً مقطوع العضو بالكلية، أو لم يبقَ منه ما يمكنه به إعفافها، فإن كان في الحالة الثانية بقي منه ما يمكنه به إعفافها فلا خيار.

قال: [أو بقي له ما لا يطأ به فلها الفسخ ]

كما ذكرنا؛ لأن هذا يفوت مقصود الشرع من الإعفاف، لكن لو أن المرأة رضيت فلها ذلك، كما لو تزوجت كبير سن لا يجامع، والنساء تختلف رغباتهن في الزواج، فقد تتزوج المرأة وليس مرادها قضية الفراش وليست هي كل شيء عندها، وقد تتزوج لمعانٍ أسمى وأعلى من هذا كله، لكن حكم الشريعة اعتبر الجبلة والفطرة، واعتبر مقصود الشرع من حصول الإعفاف، خاصة وأن المرأة من حقها ذلك.

حكم العنين

قال رحمه الله: [ وإن ثبتت عنته بإقراره أو بينة على إقراره أُجل سنة منذ تحاكمه ]

العيب الأول: الجب، والعيب الثاني: العنة، وكلاهما متعلق بالرجال، فالعنة أن لا ينتشر العضو، فما يستطيع الرجل أن يجامع المرأة، فإذا اشتكت المرأة وقالت: إن زوجها عنين، فسأله القاضي فقال: نعم إنه عنين ولا ينتشر عضوه، فحينئذٍ يؤجله القاضي سنة، وهذا قضاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، ومذهب جماهير السلف رحمهم الله أنه يؤجل العنين سنة، وحكى بعض العلماء الإجماع ومضى قضاء المسلمين على أن العنين يؤجل سنة ويترك سنة؛ لأنه ربما كانت العنة في فصل دون فصل، وربما كانت بأسباب من خوف أو رهبة أو طروء النكاح عليه أو نحو ذلك من الأمور فيؤجل سنة؛ لأن السنة فيها اختلاف الفصول الأربعة، فإذا مرت عليه الفصول الأربعة وثبت أنه لا يستطيع الجماع كان من حقها الفسخ، ويكون ابتداء ذلك من حين إقراره، والإقرار أقوى الحجج.

قوله: (أو بينة على إقراره)

البينة على إقراره كأن يجلس في مجلس وفيه شهود عدول فيسمعونه يقول: إنه عنين، فحينئذٍ لو اشتكته المرأة فأنكر وقال: لست بعنين، فجاءت بهذين الشاهدين على عنته ثبتت، وهذه شهادة على دليل وهي مقبولة؛ لأن العنة من الأمور الخفية التي لا يمكن أن تعرف إلا من الشخص نفسه أو من زوجه، ولو فتح الباب لكل زوجة أن تدعي أن زوجها عنين لادعت النساء وكذبن في ذلك؛ لأن النساء لسن على حد سواء، ففيهن من تكون جريئة على حدود الله فتكذب، وقد ترغب في الطلاق، وقد ترغب في إضرار زوجها، وقد تريد أن تنتقم من زوجها فتدعي أنه عنين، فإذا ادعت عليه فإننا لا نستطيع الحكم؛ لأن عندنا زوجاً يثبت أنه رجل وأنه ليس فيه هذا العيب، وعندنا امرأة تدعي هذا العيب، فهل نصدق الرجل أو نصدق المرأة؟

فحينئذٍ غالباً ما يثبت هذا بالإقرار، فإذا أقر الرجل أو شهد عدلان على أنه أقر أنه عنين فيؤاخذ بإقراره.

قوله: (أُجل سنة منذ تحاكمه)

(أُجل) أي ضرب له أجل، وهو سنة هلالية كاملة (منذ تحاكمه) يعني: منذ أن حاكمته المرأة ورفعته إلى القاضي لا من ابتداء النكاح؛ لأنه في حينها لم تكن ثبتت عنته بعد، فالعبرة بمجلس القاضي، والتأجيل يتعلق بحكم الحاكم، فلما كان التأجيل متعلقاً بحكم الحاكم وبمجلس القضاء كانت العبرة بالترافع، فإذا تأخرت المرأة في رفع قضيتها فهي التي أدخلت الضرر على نفسها، فحينئذٍ يكون تأجيله سنة من حين أن رفعته إلى القاضي، وهذا معنى: (منذ تحاكمه) يعني: إذا حاكمته ورفعته إلى القاضي، وإذا تأخرت فإنها تتحمل مسئولية تأخيرها من قبل، كالرضا بالعيب.

قال رحمه الله: [فإن وطئ فيها وإلا فلها الفسخ]

يعني: وطئ خلال السنة فحينئذٍ تكذب المرأة في قولها: إنه عنين؛ لأنه ثبت أنه قادر، ويتبين بهذا أنه مرض عارض، أو أن هذا بسبب النفرة من الزوجة، وإذا وطئ خلال السنة فحينئذٍ يبطل الاعتداد بهذا العيب.

قال: [ وإن اعترفت أنه وطئها فليس بعنين ]

وإن اعترفت هذه المرأة أنه وطئها من قبل فليس بعنين، أو اعترفت بأنه وطئها خلال السنة فليس بعنين.

قال: [ ولو قالت في وقت: رضيت به عنيناً سقط خيارها أبداً ]

من دقة المصنف رحمه الله أن ذكر لك العيب وهو العنة، ثم ذكر لك دليل إثبات العيب وهو الإقرار والشهادة على الإقرار، ثم ذكر لك الحكم وهو التأجيل سنة، ثم ذكر متى يبتدأ بالتأجيل ومتى يحسب وهو من حين الترافع، وشرع بعد ذلك رحمه الله في مسألة الرضا بالعيب؛ لأن الرضا يكون بعد وجود العيب، فإذا ثبت عند القاضي أنها رضيت بعد أن علمت بعنته سقط حقها، مثلاً: رجل أراد أن ينكح امرأة فجاء إلى وليها وقال: إنه عنين، فعلمت المرأة أنه عنين وعقد النكاح فلا خيار لها إجماعاً؛ لأنها رضيت بالعيب، وإذا رضيت بالعيب حال العقد، أو بعد العقد؛ فرضيت وسكتت فحينئذٍ سقط حقها، أما لو علمت بعد العقد ورفعت مباشرة فإنه لا يسقط حقها.

عيوب النساء التي يكون للرجل الخيار بسببها

قال رحمه الله تعالى: [ فصل: والرتق والقرن والعفل والفتق واستطلاق بول ونجو وقروح سيالة في فرج وباسور وناسور وخصي وسل ووجاء وكون أحدهما خنثى واضحاً، وجنون ولو ساعة وبرص وجذام يثبت لكل واحد منهما الفسخ ].

يقول رحمه الله: (والرتق) هنا شرع المصنف في ذكر العيوب التي تتعلق بالنساء، وإذا تأملت العيوب السابقة في الرجل تجدها عيوباً تمنع حصول الوطء، وكما أن هذا يقع في الرجل كذلك أيضاً يقع في المرأة، فتكون فيها عيوب خلقية تؤثر في الوطء مثل: الرتق وهو انسداد الفرج، والقرن: وهو العظم في موضع الجماع يعيق الجماع، والعفل: وهو الورم من اللحم يكون في موضع الجماع ويعيق الجماع ولا يمكن من المتعة، كذلك الفتق وهو اختلاط المسلكين عند المرأة كل ذلك مما يؤثر في المتعة وفي الجماع فيمنعه كلية أو يمنعه لحد مؤثر، فهذه العيوب كلها مختصة بالنساء لكنها تؤثر وتوجب الخيار للرجل، لكن بنفس الضابط السابق، فإن علم بالعيب أثناء العقد سقط خياره، وإن علم بعد العقد ورضي وسكت سقط كذلك، وإن علم به بعد العقد وطالب مباشرة فالحكم أن له الخيار، فنقول له إذا طالب: إن شئت رضيت هذا العيب في المرأة، وإلا إن شئت فافسخ النكاح.

عيوب الخيار المشتركة بين الرجال والنساء

قال رحمه الله: [واستطلاق بول]

لأنه يؤذي في الجماع، فعندنا ما يمنع الجماع مثل: الرتق، وكذلك أيضاً القرن، وعندنا ما يؤذي ولكنه لا يمنع من الجماع كاستطلاق البول، وكذلك استطلاق النجو، وعندما يقرأ طالب العلم المتون الفقهية يجد أن العلماء رحمهم الله يقررون هذه المسائل للوصول للضوابط وهذه المسائل ما هي إلا أمثلة؛ لأن الضابط يدور حول المنع من الوطء، ومتى يكون للزوج الحق في فسخ النكاح؟ ومتى يكون هذا العيب مؤثراً؟

قال: [واستطلاق بول ونجو] استطلاق البول والغائط يكون مرضاً مزمناً، لكن إذا كان في حال دون حال فهذا لا يؤثر، إنما المراد أن يكون عيباً ثابتاً ويشهد أهل الخبرة أو قرينات المرأة أو أهلها بأن يقولوا: نعم، نعرف فلانة أن معها استطلاق البول، أو نعرف أن معها استطلاق الغائط الذي هو استطلاق النجو، فهذا كله من العيوب المؤثرة التي توجب الخيار للرجل والفسخ.

قال: [وقروح سيالة في فرج]

القروح السيالة مثل السيلان وهي نوع من أنواع أمراض الزهري -أعاذنا الله وإياكم منها- ونحو ذلك من الأمراض المعدية الخطيرة، فإذا ثبت أن المرأة بها هذا المرض وموجود فيها فإنه حينئذٍ من حق الرجل أن يطالب بالفسخ؛ لأنه يستضر إذا جامعها، فهناك ضرر بجماعها أثناء الجماع وضرر إذا انتهى من جماعها؛ لأنه تنتقل إليه العدوى، وعلى هذا فإنه يعتبر من العيوب المؤثرة.

قال: [وباسور وناسور]

الباسور: يكون في المقعدة، والباسور والناسور واستطلاق البول واستطلاق النجو والقروح السيالة تكون في الرجل والمرأة وليس خاصاً بالنساء، فمن الممكن أن يكون السيلان في الرجل وممكن أن يكون -أعاذنا الله وإياكم- في المرأة، وممكن أن يكون الباسور والناسور في الرجل وممكن أن يكون في المرأة، فهذه من العيوب المشتركة التي لا تختص لا بالرجال ولا بالنساء.

قال: [وخصي]

فإن هذا يضر الرجل في حال جماعه وكذلك في ذريته.

قال: [وسل]

قطع الخصية وسل الخصية: إخراجها مع وجود اللحم، ورض الخصية: الوجاء، وضرب العروق، هذا كله من العيوب المؤثرة؛ لأن هذا يؤثر في جماع الرجل ويؤثر في رغبته في المرأة، ولذلك تتضرر المرأة بهذا فإنها تكون منكوحة لبعض الرجل لا لكل الرجل وهذا يضرها، ويضر حتى ذريتها.

قال: [وكون أحدهما خنثى واضحاً]

فإنه حينئذٍ لا يجوز؛ لأن الخنثى لا يجوز نكاحها، فلو أنه تزوج امرأة على أنها امرأة فتبين أنها خنثى فإنه حينئذٍ يكون من حقه الفسخ، فلو كانت امرأة أصلها خنثى، يعني: كانت خنثى ثم تبين أنها امرأة، بمثل: ظهور الثدي وظهور علامات النساء فيه، وظهر أنه امرأة وثبت كلياً أنه امرأة فلما جاء الرجل يتزوج تزوجه على أنه امرأة ثم تبين أنه خنثى، فحينئذٍ من حقه الفسخ؛ لأن هذا عيب ونقص في الخلقة ولو أنه كمال في الصورة، يعني: زيادة في الصورة لكنه نقص في الخلقة، وعيب مؤثر في الخلقة وعلى هذا يكون له حق الفسخ.

وهكذا لو تزوجت المرأة رجلاً على أنه رجل ثم ظهر أنه خنثى فإن هذا يعتبر موجباً للفسخ؛ لأن جماع الرجل الخنثى ليس كجماع الرجل المحض، وكذلك جماع المرأة الخنثى ليس كجماع المرأة المحض، وهذا من العيوب المؤثرة.

قال: [وجنون ولو ساعة]

الجنون: من جن الشيء إذا استتر، وسمي البستان جنة؛ لأنه يستر من بداخله، والجنون استتار العقل وذهابه كلية إما لكل الوقت أو لبعضه، فإن كان لكله فهو جنون مطبق، وإن كان لبعضه فهو جنون متقطع، فالجنون -أعاذنا الله وإياكم- في الرجل أو المرأة إذا ثبت أنه مجنون سواءً كان جنونه متقطعاً أو كان جنونه مستديماً مطبقاً فإن من حق المرأة أن تطلب الفسخ، وكذلك الرجل من حقه أن يطلب الفسخ إذا تبين أن زوجته مجنونة، سواءً كان جنون أحدهما متقطعاً أو مستديماً فكله عيب.

قال: [وبرص]

الله سبحانه وتعالى إذا ابتلى الإنسان بالبرص قد يكون في هذا علو درجة له، ولا شك أنه إذا كان مؤمناً فهو علو درجة له في الدنيا والآخرة، والله يعلي قدره بهذا البلاء ويعظم أجره، فلا شك أنه بلاء في ظاهره ولكنه رحمة في باطنه، وإذا نقصت خلقة الإنسان فكل نقصٍ في خِلقته يعوضه الله عز وجل عنه من الأجر والمثوبة، وقد تكون له درجة في الجنة لا ينالها بكثير صلاة ولا صيام فيجعل الله له هذا البلاء سبيلاً إليها، وأما كون البرص عيباً في النكاح فهو من وجهين:

الوجه الأول: أن البرص في الجبلة والفطرة يؤثر على المرأة في جماعها وعلى الرجل في جماعه، فهو مؤثر في الجماع، فكما أن العيوب الحسية تؤثر في الجماع فكذلك العيوب المعنوية تؤثر في الجماع، فالبرص يؤثر من ناحية معنوية ويؤثر من ناحية النسل والذرية، فهو يؤثر من الوجهين، ولذلك فيه ضرر قاصر وضرر متعدٍ، وعلى هذا يعتبر مؤثراً، ويستوي أن يكون البرص مطبقاً عليه كله أو يكون في بعض أعضائه ولو كان في بعض الأعضاء الخفية، بخلاف البهق فإن البهاق ليس بعيبٍ موجبٍ للفسخ، لأنه لا يعتبر من البرص ولا يأخذ حكم البرص من حيث العيوب، ولكنه يعتبر عيباً إذا كان برصاً محضاً سواءً كان في كل الأعضاء أو بعض الأعضاء.

قال: [وجذام]

كذلك الجذام نوع من الأمراض -نسأل الله العافية- تساقط فيه الأعضاء، فهذا من الأمراض المعدية وفيه ضرر معنوي وضرر حسي، ويتعدى ضرره إلى المرأة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) فالمرأة تتأثر بهذا النوع من المرض وكذلك الرجل.

الفسخ بالعيب

قال رحمه الهل: [ يثبت لكل واحد منهما الفسخ ]

أي للرجل وللمرأة.

قال: [ ولو حدث بعد العقد أو كان بالآخر عيب مثله ]

قال: (ولو حدث بعد) ولو: إشارة إلى الخلاف، فلو فرضنا أن الجنون عيب، وأنه عيب إذا كان قبل العقد، فكذلك لو أن الجنون طرأ عليه بعد العقد، فإنه إذا جن الزوج ثبت للمرأة الخيار، ونقول لها: إن شئتِ بقيتِ وتحملتِ وصبرتِ والله يأجركِ على ذلك وأنتِ مثابة وهذا صنيع الصالحات، وإن شئتِ طالبتِ بالفسخ؛ لأن المرأة لا تحمل ما لا تطيق، والعكس بالنسبة للرجل، لو أن امرأته أصابها جنون، فإن أراد أن يصبر فكريم يؤجر وهو مثاب على ذلك والله سبحانه وتعالى سيعوض صبره ويعظم أجره ويحسن الذخر له، وإن قال: لا أستطيع أو لا أتحمل ذلك فمن حقه، فيفسخ النكاح.

قال: (أو كان بالآخر عيب مثله)

تزوج المرأة وبها مرض، مثلاً: قروح سيالة، ورضي بها، ثم لما وطئها تبين أن فيه عيباً مثلها، وأن فيه قروحاً انفجرت وسالت، فلما عرفت قالت له: ما أريدك، فقال: بكِ مثل ما بي، يعني: الحال واحد هنا وليس هناك فرق وما ظلمتكِ، فقال طائفة من العلماء: إن كان به من العيب مثلها فلا خيار؛ لأنه ليس فيه ظلم واضح؛ لأن هذا عيب بعيب، كما قالوا: بئر بغطاه، فهم يقولون: هذا العيب لقاء هذا العيب، فإذا قالت: هذا نقص لي، فهو بها، فليس فيه نقص، ولو قالت: ضرر بي، فهو استضر على ضررها والعكس، وقال بعض العلماء: بل إنه يثبت فيه الخيار لمن لم يتنازل عن حقه منهما.

والأول أشبه بالمعنى والثاني أشبه بالنظر، ولذلك يقوى الثاني أكثر من الأول؛ لأنه لما علم بها وسكت عن عيبها سقط حقه، فيكون الحكم مستأنفاً بالنسبة لها، فكونه أعطي الحق أولاً ورضي لا يجعلنا نلزمها برضاه؛ لأن لكل واحد رضاً مستقلاً، فالعيب إذا طرأ عليه فإنه يثبت لها الخيار؛ لأنها إنما رضيت به كاملاً، فإذا تبين به العيب كان لها الخيار مستأنفاً، وهذا أفقه وأقوى أي: القول بأن له الخيار ولو كان بالثاني عيب كما قال المصنف: (ولو كان به مثله) فلو كان بالآخر مثله حق له الفسخ، وذلك لأن الأول قد رضي بإسقاط حقه ولكن الثاني لم يرض بإسقاط حقه، فمن حيث الفقه هذا القول أقوى وهو اختيار المصنف.

ما يسقط الفسخ بالعيب

قال رحمه الله: [ ومن رضي بالعيب أو وجدت منه دلالته مع علمه فلا خيار له ]

بعد أن بين العيوب المؤثرة شرع في بيان ما يسقط الفسخ العيوب، (من رضي بالعيب) رضي به بعد أن علم أنه معيب فهذا: لا خيار له، أو وجدت منه دلالة الرضا، مثلاً: امرأة اطلعت على زوجها أنه معيب وبه عيب مؤثر فسكتت شهوراً، ثم بعد ذلك اختصمت معه فقالت: به عيب، فنقول: سكوتكِ هذه المدة دليل على الرضا، فتؤاخذ بهذا السكوت ويعتبر دليلاً؛ لأنها علمت ورضيت، وكونها تسكت هذه المدة ولا تتكلم إلا عند الغضب فهذا نوع من الانتقام؛ لأنها صارت تبحث عن أي عيب لتفسخ النكاح، فلابد أن يوجد عيب مؤثر، وأن يوجد من صريح قول صاحب الحق ما يدل على الفسخ، يعني: أنه لا يرضى بالعيب.

فإن وجد العيب ووجد الرضا سقط الفسخ، فليس من حقه أن يفسخ، وإذا وجد منه ما يدل على الرضا فنقول: إن ما يدل على الرضا ينزل منزلة الرضا الصريح، فحينئذٍ إذا رضي ووجد منه ما يدل على الرضا فإننا نحكم به ويحكم بإسقاط الخيار له.

لا يتم الفسخ إلا بحاكم

قال رحمه الله: [ ولا يتم فسخ أحدهما إلا بحاكم ]

ولا يتم الفسخ إلا بحاكم، ولا يرتفع العقد إلا عن طريق الحاكم، فترفع أمرها إلى القاضي ويرفع أمره إلى القاضي ويحكم القاضي بما يتفق مع أصول الشريعة.

حكم المهر في حال الفسخ بالعيب

قال رحمه الله: [ فإن كان قبل الدخول فلا مهر ]

مثلاً: رجل عقد على فاطمة وحدث العيب قبل الدخول فلا مهر؛ لأنه قبل الدخول؛ والمهر مركب على الاستمتاع، فإن حصل الفسخ قبل الدخول فإنهما يتفرقان ويغني الله كلاً من سعته، هذا بالنسبة للحكم الشرعي إذا وقع الفسخ، فينظر في العيب الذي هو موجب الفسخ ومتى يحكم بخيار الفسخ، وإذا ثبت أنه يحكم به فيرد السؤال: إن حُكِم به قبل الدخول فهل يثبت المهر؟ وإن حُكِم به بعد الدخول وثبت المهر فما الحكم؟

فالمصنف رتب الأفكار بعضها على بعض فقال رحمه الله: (فإن كان قبل الدخول) أي: إن كان حكم القاضي بالفسخ واعتداده به قبل الدخول فلا مهر؛ لأن المهر مركب على الاستمتاع: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:24] فترد المرأة المهر كاملاً للرجل.

قال: [ وبعده لها المسمى ويرجع به على الغار إن وجد ]

(وبعده) أي: بعد الدخول (لها) أي: للمرأة (المسمى) الذي هو المهر الذي سماه لها، فإذا جعل لها عشرين ألفاً فإنه يكون حقاً لها بما استحل من فرجها بعد أن يدخل بها، قال صلى الله عليه وسلم: (فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها) وقال لـعويمر العجلاني رضي الله عنه لما سأله المهر بعد أن وقع اللعان بينه وبين زوجته: (إن كنت صادقاً فبما استحللت من فرجها) فجعل المهر لقاء الاستمتاع والاستحلال، لكن يبقى السؤال: هذا الرجل غرر به ودفع المهر على امرأة كاملة وتبين أنها ناقصة فهذا فيه ظلم للرجل؟

قالوا: المرأة تأخذ حقها وهو المهر كاملاً، لكن الرجل حقه ممن يأخذه؟

يأخذه ممن غره وممن غشه وخدعه حتى نكح المرأة وقال له: إنها ليست بمعيبة، فإن كان وليها يأخذه من وليها وحينئذٍ يضمنه له، فيقيم دعوى ثانية: أن فلاناً زوجه موليته المعيبة بعشرين ألفاً أو بثلاثين ألفاً، وفوت هذا المهر بغشه، فإذا ثبت عند القاضي هذا وحكم به فحينئذٍ يوجب له الرد بموجب ما ثبت من ظلمه له بالتغرير.

حكم تزويج القاصرة مع العلم بالعيب

قال رحمه الله: [والصغيرة والمجنونة والأمة لا تزوج واحدة منهن بمعيب]

هنا انتهت أحكام العيب، لكن هنا مسألة وهي مسألة التزويج مع العلم بالعيب، فإذا كان عندنا امرأة صغيرة أو مجنونة أو أمة أراد وليها أن يزوجها من مجنون أو من معيب فليس من حقه ذلك، فقال رحمه الله:

(والصغيرة والمجنونة والأمة لا تزوج واحدة منهن بمعيب)

لا تزوج واحدة منهن بمعيب، وذلك لأن الصغيرة ينتظر إلى أن تبلغ وتنظر ما فيه مصلحتها، أما أن يؤتى بها وهي صغيرة ويزج بها إلى مجنون أو يزج بها إلى إنسان به عيب حتى ولو قالت: أرضاه، فمذهب طائفة من العلماء أنها ليست بكاملة العقل وليست بكاملة الإدراك فهي تخاطر بنفسها، فربما ندمت بعد بلوغها وربما تحدث أمراً لا تحمد عقباه، ونص المصنف على هؤلاء لأن الصغيرة والمجنونة والأمة تحت ملك غيرهم، فالصغيرة لوالدها أن يمنعها حتى ولو رضيت، والمجنونة كذلك لوليها، والأمة لسيدها.

تزويج الكبيرة مع العلم بالعيب

قال رحمه الله: [ فإن رضيت الكبيرة مجبوباً أو عنيناً لم تمنع بل من مجنون ومجذوم وأبرص ]

قوله: [فإن رضيت الكبيرة مجبوباً] لأنه ليس النكاح فقط للجماع، كما ذكرنا أن من النساء من تنظر في النكاح إلى شيء غير الجماع، فإذا رضيت مجبوباً فإن لها ذلك، ويزوجها وليها مادام أنها رضيت به، كما لو تزوجت كبير سن لا يجامع فإن هذا يرجع إليها، فإنها قد تريد خدمته، وقد تريد الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى، وقد تريد رجلاً يحميها من الاعتداء عليها، فهناك مقاصد كثيرة، فليس النكاح فقط موقوفاً على الجماع، ومن عموم الشريعة أنها ليست مقصورة على جوانب معينة، فميزة الحكم الشرعي أنه تنزيل من حكيم عليم، والتشريع عندما يكون من عليم يحيط بالأمور كلها ما كان وما يكون وما لم يكن فإن حكمه سيكون لما كان ولما يكون ولما لم يكن، فيأتي الحكم شمولياً، بينما القوانين الوضعية إنما وضعت لأحوال، ثم إذا جدت أحوال صار هذا الحكم لا يصلح لهذه الحالة، فتحتاج أن تجدد شيئاً جديداً فتضطرب مع الأزمنة وتختلف مع الأزمنة والأمكنة، لكن الشريعة لا.

ولما كان فقه العلماء مبنياً على فقه الكتاب والسنة صار عندهم شيء من الشمول في النظرة والشمول في الاستيعاب، ومثل ما ذكرنا أنه ما ينظر فقط إلا أن المرأة تريد نكاحاً وجماعاً وأن الرجل يريد فقط جماعاً ونكاحاً، فنقف عند العيوب فقط ونقول: إذا كان ليس هناك جماع فليس هناك مصلحة وعليه فليس هناك نكاح، لا. بل هناك مقاصد عظيمة وهناك مقاصد شرعية، وهناك مقاصد تتبع النكاح، فالمرأة قد تتزوج الرجل وهي في بيئة لا تجد أحداً يخطبها لكن تريد رجلاً يحميها من الذئاب، ويحميها ممن يعتدي عليها فتقول: أنا أرضى فلاناً وإن كان مجبوباً؛ لأنه شجاع. وقد تكون المرأة مثلاً بها عيب، فقد يكون الرجل مجبوباً وتكون هي رتقاء فترضى بهذا، فأياً ما كان ليس هناك إلزام للمرأة أنها لا تتزوج من كان معيباً، بل كل منهما يتزوج ولا بأس بذلك ولا حرج إذا حصل الرضا.

قال: [أو عنيناً] إذا كان عنيناً وقالت: أرضى به، فإنها إذا كانت كبيرة عاقلة تنظر مصلحتها وهي أعلم بحالها، فلا يجوز لوليها أن يمنعها.

قال: [بل من مجنونٍ] لخوف الضرر عليها؛ لأن المجنون يضرها.

قال: [ومجذومٍ] لأن هذا سينقل إليها العدوى.

قال: [وأبرص] لأن الحق لذريتها وأولادها، فإذا امتنع أولياؤها من تزويجها كان من حقهم، لكن لو أنها هي برصاء وجاء أبرص ينكحها وخاف وليها أنه ما أحد يتزوجها ورضيت فإنه لا بأس ولا حرج.

استدامة نكاح الكبيرة بعد العلم بالعيب

قال رحمه الله: [ ومتى علمت العيب أو حدث به لم يجبرها وليها على الفسخ ]

الفقهاء يذكرون الابتداء والاستدامة حتى تحفظ الصور فتقدم أنها لا تجبر ابتداء على النكاح من شخص معيب، فلو علمت بالعيب من زوجها بعد الدخول فما حكم الاستدامة؟

وهذا الفقهاء يضعونه في المتون رياضة للذهن حتى يصبح عند الفقيه والقاضي والمفتي والمعلم شيء من الشمولية في الفتوى والتعليم والقضاء فيتنبه لما يترتب على المسائل من أحكام وآثار، فهنا لو قال لك قائل: هي لا تجبر ابتداء، فلو أنها علمت بالعيب بعد دخول الرجل عليها فهل يجبرها وليها على الفسخ؟

فالجواب: أن وليها يكون له حق المنع ابتداء، لكن لو أنه طرأ العيب بعد ذلك قال: لا يجبرها لو رضيت بالاستدامة، ولا تجبر على الفسخ، وليس من حق أحد أن يجبرها على الفسخ.