خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع باب الغصب [4]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإن ضرب المصوغ، ونسج الغزل، وقصر الثوب أو صبغه ونجر الخشب ونحوه، أو صار الحب زرعاً، أو البيضة فرخاً، والنوى غرساً رده، وأرش نقصه ولا شيء للغاصب، ويلزمه ضمان نقصه].
المغصوب له حالتان:
الحالة الأولى: أن يرده الغاصب كما أخذه، دون زيادة أو نقصان، وفي هذه الحالة يكون صاحب الحق قد وصل إليه حقه كاملاً، إلا أنه يجب على الغاصب أن يضمن أجرة المغصوب إن كانت هناك منفعة منعها من الشيء المغصوب، وبينا هذا فيما تقدم.
وبناء على هذا: يبقى السؤال: إذا تصرف الغاصب في الشيء المغصوب؟ أو أن هذا المغصوب زاد من نفسه، أو نقص، أو تلف بعضه بآفة سماوية أو نحو ذلك؟
فالعلماء رحمهم الله يجعلون هذه المسألة تحت عنوان: زيادة المغصوب ونقصانه.
فإذا زاد المغصوب أو نقص فله حالتان:
الحالة الأولى: أن تكون الزيادة والنقصان قد نشأ كل منهما من الشخص الغاصب، فيزيد الشيء المغصوب بفعل من الغاصب، أو ينقص الشيء المغصوب بفعل من الغاصب، وحينئذٍ تكون يد الغاصب يداً معتدية في حال النقص، ويداً متفضلة في حال الزيادة.
الحالة الثانية: أن تكون الزيادة والنقصان من المغصوب نفسه، فالمغصوب بنفسه نقص أو تلف بعضه كما لو أن شخصاً اغتصب طعاماً وأخذه من صاحبه، فتلف بعض الطعام وبقي بعضه وكان التلف من نفس الطعام، أو اغتصب عصيراً فصار العصير خمراً -والعياذ بالله- بسبب المدة، وهذا من نفس العصير؛ لأنه إذا طالت عليه المدة تخمر، فحينئذٍ حصل النقص من الشيء المغصوب.
وقد تكون الزيادة من الشيء المغصوب أيضاً، مثل: ما لو أن هذا المغصوب أخذه الغاصب في حالة سيئة، ثم تحسنت حالته، كأن يكون مريضاً ثم شفي من مرضه دون أن يكون الغاصب قد عالجه أو سعى في علاجه، أو يكون العبد مجنوناً -كما في القديم- ثم أفاق من جنونه دون فعل من الغاصب، وحينئذٍ هذا الشيء الذي هو الزيادة والتحسن وقعت بفضل الله عز وجل وليس للغاصب فيها أثر.
إذاً: عندنا مسألة أحوال الزيادة والنقص، وعندنا أحوال التغير التي هي الزيادة في المغصوب أو النقص، وعندنا منشأ هذا التغير، وهو أن يكون ناشئاً من العين المغصوبة، أو يكون ناشئاً من الغاصب.
فالمصنف رحمه الله ذكر هذه المسائل، وفي الحقيقة كل من الزيادة والنقص ينقسم إلى أقسام: تارة تكون الزيادة والنقص في الذات، وتارة في المنفعة، وتارة في الصفة.
فتزيد الذات وتزيد المنفعة، أو تنقص الذات وتنقص المنفعة، أو تزيد الصفات أو تنقص، هذه كلها أحوال للزيادة والنقص، فإن حدثت في العين المغصوبة زيادة فإما أن تكون في ذاتها، مثل: ما لو ولدت الغنم وتكاثرت، فهذه زيادة في ذات الغنم.
أو تكون الزيادة في منفعة العين المغصوبة مثل: ما لو كانت العين المغصوبة على صفة وتصرف الغاصب فيها، فأصبحت تصلح للاستغلال في أكثر من شيء، كأن تكون السيارة للركوب فقط، ثم يتصرف فيها بطريقة ما فتصبح للركوب وللحمل عليها، فحينئذٍ زادت منافعها.
وتارة تكون الزيادة في الصفة، مثل: ما كان في القديم يغصب رقيقاً، ويكون الرقيق جاهلاً فيعلمه، فإذا علمه صنعة تكون حينئذٍ الزيادة في الصفة، أو يغتصب إبلاً أو بقراً أو غنماً وهي مريضة فيردها صحيحة، أو يأخذها صحيحة ويردها مريضة، إذاً: النقص والزيادة في الصفات.
وتكون الزيادة والنقص في القيمة، فيغتصبه سيارة وقيمتها أثناء الغصب عشرة آلاف ريال، ثم يرخص سعرها فتصبح بثمانية آلاف ريال، فهذا نقص في السوق والقيمة.
أو يغتصبه أرضاً أو عمارة قيمتها مليوناً ثم تصبح قيمتها نصف المليون أو العكس، يأخذها وقيمتها مائة ألف ثم يردها وقيمتها مائتا ألف، فهذه زيادة القيمة ونقصها.
فهذه أربعة أحوال في الزيادة والنقص؛ الذات، المنفعة، الصفات، القيمة.
كل هذا تمهيد لما سيذكره المصنف رحمه الله من المسائل، فإما أن تكون العين المغصوبة زائدة أو ناقصة، وإذا زادت أو نقصت فإما من الغاصب وإما من غير الغاصب، ثم أحوال الزيادة والنقص إما في ذات العين المغصوبة أو منافعها أو قيمتها أو في صفاتها، هذه كلها أمثلة سيذكرها المصنف تدور حول هذه الضوابط التي ذكرناها.
حكم ضرب الذهب المغصوب
أولاً: المصوغ يكون من الذهب والفضة، والذهب والفضة إما أن يكونا سبائك، وإما أن يكونا حلياً، وإما أن يكونا نقداً مضروباً؛ إن كان من الذهب فدنانير، وإن كان من الفضة فدراهم.
فالذهب فيه منفعة الحلي، فيمكن أن يصاغ حلياً كالأسورة والقلائد، وفيه منفعة النقد فيكون ثمناً للأشياء كالدنانير، وفي زماننا الجنيهات، وإما يكون سبائك موضوعة من أجل غلاء السوق أو نقصه أو يجعلها الإنسان عنده بحيث يتصرف بها عند الحاجة، والفضة كذلك تكون سبيكة وتكون خاماً وتكون أيضاً حلياً، وتكون دراهم مضروبة.
في حالة ما إذا غصب ذهباً أو فضة فإما أن يأخذها سبائك أو حلياً ويردها مضروبة أو العكس.
والعلماء رحمهم الله لما قالوا: وإن ضرب المصوغ، دائماً نقول: ليس المهم المثال، المهم قاعدة المثال، فالذهب منه القلائد والأسورة والخواتيم، وفي الحقيقة فيه منفعة اللبس، وفيه زيادة الصنعة؛ لأن صنعته تكلف وجعله أسورة وقلائد وخواتم يكلف على الشخص، لأنه يحتاج إلى قيمة للصنعة، فإذا كان مصوغاً يمكن للمرأة صاحبة الذهب أن تتحلى به، وهذه منفعة، وممكن أن تصوغه وتضربه دراهم إذا كان فضة أو تضربه دنانير إذا كان ذهباً.
لكن بالعكس، لو كان دراهم وأرادت أن تحوله حلياً فإن منفعة الدراهم قاصرة، لأنها في البيع والشراء، والأخذ والعطاء، ما يمكن للمرأة أن تتجمل بالدراهم، لكن بالنسبة للحلي تتجمل به ويمكن أن تضربه فيكون عملة سواء كان ذهباً أو فضة.
ففي حالة ما إذا أخذه حلياً ثم صاغه وضربه دراهم أو دنانير فحينئذٍ نقصت المنفعة الموجودة فيه؛ لأن المنفعة الموجودة فيه بالحلي أتم وأكمل مما لو كان دراهم أو دنانير، فإذا أخذه وهو حلي وعبث به فصيره دنانير أو دراهم فقد أنقص منه الصنعة وكلفتها، وأنقص منه المنفعة.
وعلى هذا اختلف العلماء، بعض من أهل العلم يقول: إذا أخذ الذهب أو الفضة وتصرف فيهما بأي تصرف بنقص أو زيادة فإنه يرد عين المغصوب، زائداً أو ناقصاً ولا نطالبه بالضمان.
ومن أهل العلم من قال: إذا ضرب المصوغ دنانير أو دراهم فنطالبه برده إلى ما كان عليه، فيرد المغصوب على حالته التي كان عليها أو قريباً منها إذا تعذر عليه المثلية.
ومنهم من قال: يرده ويضمن النقص الموجود، فمثلاً: لو كان حلياً وهذا الحلي كله أسورة، فأخذ كيلو غرام من الذهب كله حلي، وصاغه وصهره وصيره جنيهات، قالوا: نسأل الصاغة: لو أردنا أن نصير الكيلو الذهب مصاغاً وأسورة مثل ما كانت كم يكلف؟ قالوا: يكلف كل سوار خمسة ريالات مثلاً، وهي عشرة أسورة، فحينئذٍ استحق خمسين ريالاً، فقالوا: يرد المصوغ ويرد النقص الذي حدث بسبب التغير، فيضمنونه مغصوب، ويضمنونه النقص للمنافع، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله.
قالوا: لأنه ظلم صاحب المصوغ ففوت عليه منفعة المصوغ، ويجب عليه رد العين، فنطالبه بالأمرين:
نطالبه أن يرد الذهب، إذا كان كيلو غرام فإنه يرده على حالته مهما بلغ من الدنانير المضروبة من الذهب، أو الدراهم المضروبة من الفضة، ونطالبه بدفع القيمة لكلفة الصنعة.
وفي هذه الحالة يُشكل على هذا القول مسألة الربا؛ لأنه حينما غصب ذهباً وجب عليه أن يرد المثل وزناً بوزن، ويداً بيد، فإذا طالبناه بالفضل، فضل الصنعة، كان هذا نوع من المبادلة مع الفضل والزيادة، ولذلك قال بعض العلماء رحمه الله: لا يستقيم أن يطالب بالزيادة من هذا الوجه.
ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الفضل في التماثل بين الذهب بالذهب والفضة بالفضة في الصنعة والجودة، بدليل حديث التمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتي بتمر جيد قال عليه الصلاة والسلام: (أكل تمر خيبر مثل هذا؟ قالوا: لا، والله يا رسول الله! إنا نبيع الصاع من هذا -يعني: الجيد- بالصاعين من الرديء، فقال عليه الصلاة والسلام: أوه عين الربا رده، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً) الحديث.
قالوا: فأسقط الجودة في لقاء الربوي بالربوي، وأوجب التماثل بغض النظر عن كون أحدهما جيداً والآخر رديئاً، وقد قررنا هذا في باب الربا والصرف، وبينا أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب ..) يقتضي التماثل بغض النظر عن الجودة في الصنعة، وبغض النظر عن الجودة في نفس الذهب معيار (21) و(24)، بينا هذا، وقلنا: إن مذهب السلف الصالح رحمهم الله على هذا بدليل قصة ابن عمر مع الصائغ، حينما قال: إني أبيع المصاغ وأستفضل -يعني: إذا بادلت بالذهب- قدر الصنعة والتعب، فنهاه ابن عمر واستدل بعموم الحديث.
وهذا يدل على أن السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان كانوا يفهمون العموم على ظاهره.
فإذا ثبت هذا فإنه إذا رد الذهب بالذهب على القول الأول: لا يرد إلا عين المغصوب سواء نقصت منافعه أو زادت، قالوا: لا نضمنه ذلك النقص.
ما هو جواب المصنف رحمه الله؟ وما هو جواب الحنابلة رحمهم الله عن هذا الإشكال؟!!
بينا أنهم يقولون: يجب ضمان الصنعة، وهذا الضمان للصنعة يوجب أن يتحقق التفاضل، والله فرض علينا في مبادلة الذهب بالذهب التماثل، فردوا رحمهم الله -ويوافقهم على ذلك بعض الشافعية- فقالوا: إن هذا ليس من باب المبادلة والبيع، وإنما هو من باب الضمانات، والضمانات خارجة عن قاعدة الربا وليس لها علاقة؛ لأنه هو ما بادل الذهب بذهب، بل هذا عين الذهب الذي اغتصب، وهذا ضمان للتصرف في المغصوب، فلا توجد مبادلة، ومن الذي قال: إنه يبادل الذهب بذهب؟ وهذا الجواب سديد وصواب إن شاء الله؛ لأنه لم يبادل ذهباً من غير الذهب الذي أخذه، وإنما رد عين المأخوذ وليس فيه مبادلة حتى يرد إشكال الربويات في المسألة التي ذكروها.
ولا شك وأرى فيما ظهر والله أعلم أن هذا القول من القوة بمكان؛ لأن الله تعالى قال: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل:126]، وأوجب الله عز وجل ورسوله ضمان الحقوق لأهلها.
فهذا الذي أخذ الذهب وتصرف فيه إذا رده وهو ناقص فإنه لم يرد الحق لصاحبه تاماً كاملاً، فنقول له: عليك أن ترد عين المغصوب ويلزمك أن ترد حق الزيادة التي انتقصتها بفعلك.
ثم إن هذا الرجل الذي اغتصب الذهب تصرف، ونؤاخذه بتصرفه، فإيجاب الضمان عليه على ما فعله من ضرب المصوغ إنما هو إلزامه بما فعل وجنت يداه، ومؤاخذة الجاني بجنايته تدل عليه الأصول الشرعية وتقرره، ولذلك لا شك ولا إشكال -إن شاء الله- في رد المصوغ مع ضمان النقص الحاصل بسبب الضرب.
حكم نسج الغاصب للغزل بعد غصبه
المسألة الثانية: مسألة نسج الغزل.
المسألة الأولى: ينبغي أن ننبه على قضية وهي: إذا كان المضروب نقص وألزمناه بضمان النقص يرد السؤال: لو أنه زاد فأصبح المصوغ بعد ضربه أفضل وأتم وأكمل مما لو كان مصوغاً؟
في الحقيقة بعض العلماء يذكر هذا وإن كان محل إشكال؛ لأن الحلي لا يشك أن منفعة الحلي مع وجود الصنعة أكبر، ولذلك اقتصرنا في الشرح على ما ذكرناه على أنه نقص وليس بزيادة.
وقوله: (نسج الغزل) الشيء المغزول إذا أراد الإنسان أن يتصرف فيه فينسجه، وربما يأخذه ويتصرف فيه فيجعله رداءً أو لحافاً، فمن حيث الأصل: الشيء المغزول يمكن أن ينتفع به في أكثر من منفعة، ويمكن أن يصرف في أكثر من وجهة، فإذا أخذه وصرفه على وجهة معينة فقد عطل المنافع التي كانت فيه أولاً.
وهذا مذهب بعض العلماء رحمهم الله: أن نسج الغزل يعتبر من إنقاص العين المغصوبة وليس من زيادتها، وبعض العلماء يقول: الزيادة، ويجعل نسجه -يعني: قيامه بالنسيج- كلفة وتعباً، وفي هذه الحالة يقول: استغل مادة الغزل واستفاد منها وجعل منها فائدة، وجعل لها قيمة، فمن هنا يكون المغصوب قد زاد، لم ينقص.
والأول أظهر من جهة المنفعة، والثاني أظهر من جهة الصفة، فهناك فرق بين الصفة وبين المنفعة، إذا جئنا ننظر إلى أن الشيء وهو خام حينما تأخذ خام الصوف أو خام الوبر وتريد أن تصرفه لأكثر من جهة فأنت بالخيار بين أكثر من منفعة، فيمكن أن تصرفه إلى منفعة الملبوسات، ويمكن أن تصرفه إلى منفعة الفرش والبسط، فالمنافع فيه وهو خام أكثر وأتم إذا كان منسوجاً أو كان قد صرفه الغاصب إلى جهة معينة من المنافع.
ومن جهة الصفة كونه أصبح منسوجاً لا شك أنه تكلفه الصنعة، وتحتاج منه إلى مال، خاصة إذا استأجر من يقوم بذلك، فهذه زيادة.
فهي نقص من وجه، وزيادة من وجه آخر.
وعلى هذا: إن شئت جعلت من زيادة المنفعة، وإن شئت جعلته من زيادة الذات ومن زيادة صفة الذات، وإن شئت جعلته من نقص المنافع.
والثاني أظهر وهو: أنه من نقص المنافع لأن صاحب الصوف ربما أراده لشيء غير الشيء الذي فعله الغاصب، وعلى هذا يكون أضيق، ويكون في هذه الحالة ضامناً للنقص، فنقول له: يلزمك دفع هذا الشيء الذي نسجته، فيعطيه المغصوب منه بعينه.
ثم ننظر ما الذي حدث من النقص؟
فلو كانت قيمته وهو غزل يساوي خمسين ألفاً في السوق، وبعد أن نسجه أصبحت قيمته أربعين ألفاً؛ لزمه ضمان النقص، ويرد الشيء المغصوب مع ضمان نقصه.
وأيضاً لو كان زائداً فإنه يرده ولا يطالب بأجرة الصنعة والعمل، فلو أن هذا الشيء الذي نسجه كانت قيمته قبل أن يتصرف فيه مائة، وبعد أن تصرف فيه فأحدث فيه الصنعة كلفته الصنعة خمسين ريالاً فأصبح يباع بمائة وخمسين، فقال: أريد أن يضمن حقي؛ نقول: ليس لعرق ظالم حق.
وعلى هذا: يسقط استحقاقه في هذه المنفعة ولا يضمن له كما سيأتي إن شاء الله في نص المصنف رحمه الله على هذه المسألة.
حكم تقصير الغاصب للثوب المغصوب أو صبغه
يكون مفصلاً ويكون غير مفصل، والعرب تسمي غير المفصل ثوباً مثل: الإحرام، فالإحرام إذا ائتزرت به في أسفل البدن، وجعلت الثاني رداء على كتفيك قيل: ثوبان، ويقال: إن هذا ثوب وهذا ثوب، فالملبوس ثوب، إذا لم يكن مفصلاً له اسمه الخاص كالقميص ونحوه.
فالثوب إذا كان مفصلاً فإن منفعته أكمل، لكن إذا أخذ منه وقصره وحوره فإن هذا ينقص منفعة الثوب ويضر بمصلحته، وحينئذٍ يكون النقص للذات، لاحظ أن الأمثلة الأولى فيها نقص للمنفعة ولكن تقصير الثوب في بعض الأحيان قد يقص من الثوب شيئاً، كما لو كان للثوب كمان طويلان وقص هذين الكمين نقص، وهكذا لو كان الثوب كاملاً سابغاً إلى أنصاف الساقين فقصه فصار في حكم القميص فهذا نقص.
ففي هذه الحالة تصرفه في الثوب في قصارته نقص في ذاته، فلما فرغ من نقص المنافع شرع في نقص الذوات، فقال في هذه الحالة: لو أخذ من الشخص ثوباً وتصرف فيه فقصره وحوره ونقصت قيمته بالنصف، فإننا نطالبه برد الثوب ونطالبه برد النقص الذي وقع في القيمة بسبب تصرفه.
ولو سأل سائل: ما الدليل على ذلك؟
نقول: نطالبه برد المغصوب؛ لأنه ملك لصاحبه وهو عين الثوب.
ونطالبه بضمان النقص؛ لأنه من جناية يده، وقد أخذ الشيء كاملاً فرده ناقصاً، والله أوجب المعاقبة بالمثل ولا مثلية إلا بضمان النقص.
فنقول: عليه أن يرد الثوب مع ضمان أرش النقص.
حكم نجر الغاصب للخشب المغصوب
في زماننا الآن الألواح الموجودة في الخشب، أو الأوصال التي تأتي شبه مادة خامة، ممكن أن يأخذ الألواح ويجعلها دواليب، أو يجعلها مكاتب، أو يجعلها في أسطحة المنازل، أو يجعلها في أكثر من منفعة، فهي كمادة خام تصلح لأكثر من منفعة.
فلو أنه أخذها ونجرها ووضعها مثلاً في نجارتها كطاولات أو أبواب أو نوافذ حتى تستغل في هذه المنفعة فقد أنقص المنافع الموجودة في العين.
فإذاً قد تقرأ قوله: (نجر الخشب) ما هو نجر الخشب؟ العلماء يريدون أصل المسألة وهي مسألة المنافع، أن الغاصب إذا اغتصب شيئاً فأنقص منافعه وجب عليه ضمان ذلك النقص، فإذا نظرت إلى ألواح الخشب بمنافعها التامة بعد نجارتها قد انتقصت فيجب علينا أن نقدر ذلك النقص بالرجوع إلى أهل الخبرة ونلزمه ضمانه، وهذا من العدل الذي أمر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام وقامت عليه السموات والأرض، هذا فعله وهذه جنايته.
فنقول: رد الخشب بحاله منجوراً، ثم اضمن ذلك النقص الذي ترتب على فعلك، فيجب عليه أن يضمنه ويرده على صاحبه.
حكم الحب المغصوب إذا صار زرعاً
وهنا إذا نظرنا إلى الحب نجد فيه أكثر من منفعة، ممكن للحب أن يطحن ويصير دقيقاً ثم بعد ذلك يكون فيه من المنافع الكثير، وممكن للحب أن يعطى للدواب فتغتذي به، وممكن للحب أن يغرس ويزرع.
فلما يأتي ويضعه في الزرع يكون حينئذٍ حده في منفعة من تلك المنافع، وصيره إلى منفعة قد لا ترغب فيها ولا تحب هذه المنفعة، فنقول: إنه يصير ملكاً لصاحبه الذي هو المغصوب منه ثم يجب عليه ضمان النقص على الأصل الذي قررناه.
حكم البيض المغصوب إذا صار فرخاً
تفريخ البيض يحتاج إلى كلفة، ويحتاج إلى مؤونة وعمل، ولربما تكون الكلفة لها قيمة وهي إجارة من يقوم بتفريخ البيض، فلو اغتصب عدداً من البيض ثم استأجر من يفرخه أو قام بتفريخه، فهذا التفريخ قد يستحق مائة ريال مثلاً، على حسب عدد البيض.
فنقول: ترده أفراخاً؛ لأن صاحب البيض مالك للبيض وما نشأ منه وكونه أفراخاً؛ لأن الفرع تابع لأصله، فلما ملك البيض ملك منفعته أو ما ينشأ عنه مما يتفرع عليه، فالفرع تابع لأصله والفرخ تابع لأصله البيض، فمالك البيض مالك للأفراخ.
وثانياً: نقول له: تضمن النقص الذي ترتب على تفريخ هذا البيض.
ولو قال: أريد مؤنتي وتعبي حينما نجرت الخشب ونسجت الغزل وفرخت البيض، نقول: ليس لك منه شيء؛ لأنك فعلت شيئاً لم تؤمر به، فلم يأمرك أحد أن تفرخ البيض أو تنجر الخشب أو تقصر الثوب، بل تصرفت بها من عند نفسك في يد عادية.
واليد العادية يعني: المعتدية؛ لأن يده على الشيء ليست بيد حق وإنما هي يد عادية، لكن لو كانت يد حق لأثبتنا له حقه وضمن له ذلك الحق في تصرفه في الأعيان.
حكم من صير النوى المغصوب غرساً
لو صار النوى غرساً، النوى من التمر والرطب ممكن أن تستفيد منه في أكثر من منفعة، وممكن أن يؤخذ النوى علفاً للدواب، فتسمن وتنتفع، وممكن أن يزرع، فالنوى فيه أكثر من منفعة.
فإذا صرفه إلى منفعة الزرع فقد خصه ببعض المنافع، فنقول: تكون العين المغصوبة ملكاً لصاحبها، وما نشأ عنها تابع لها، فهذا الغرس تابع للنوى المغصوبة، فيكون ملكاً لصاحبه، هذا الحكم الأول.
وثانياً: يجب عليه ضمان النقص بعد تقدير ما حدث من نقص بسبب هذا التصرف.
وقوله: [رده وأرش نقصه].
(رده) في هذه الحالة يرد جميع الأعيان المغصوبة، وما تفرع عنها، فيرد الدنانير المضروبة والدراهم، ويرد النسيج، ويرد المنجور من الخشب، ويرد الزرع، ويرد النوى الذي صار نخلاً، والحب الذي صار زرعاً؛ يرده لأنه فرع تابع لأصله المغصوب.
وثانياً: يلزمه ضمان النقص على التفصيل الذي ذكرناه.
حكم زيادة شيء في المغصوب يمكن فصله
فلو قال الغاصب: إني تكلفت في ضرب المصوغ، وتكلفت في نسج الغزل، وتكلفت في زرع الحب والنوى، وتكلفت في نجر الخشب، نقول: يدك يد اعتداء فلا يضمن لك فعلك؛ لأنه واقع في غير موقعه وغير مأذون به شرعاً، ولا تستحق عليه؛ لأنه لو قلنا باستحقاقه فمعناه أن غصبه صحيح؛ ولذلك يصف العلماء رحمهم الله يده بأنها يد عادية، ويسمونها اليد العادية، واليد العادية لا تستحق أن يضمن لها ما فعلت إلا إذا زادت أعياناً يمكن فصلها عن الشيء المغصوب، وهذا أمر ينبغي أن ينتبه له طالب العلم.
إذا غصب شخص شيئاً وأدخل على الشيء المغصوب أعياناً يمكن فصلها ففي هذه الحالة الأعيان ملك للغاصب، ونقول للغاصب: خذ حقك ورد للناس حقوقهم، وما يمكن أن نقول له مثل المغصوب: خذ مالك وخذ مال غيرك؛ لأن الله لم يجعل له سلطاناً على مال أخيه.
فنقول: الغاصب يرد ما اغتصبه، ثم بعد ذلك نقول للغاصب: خذ ما أحدثته من الزيادات التي يمكن فصلها عن العين المغصوبة، هذه المسألة خاصة خارجة عما نحن فيه، نحن نتكلم على الزيادات التي لا يمكن فصلها، فإن الحب إذا صار زرعاً والنوى إذا صار غرساً لا يمكنك أن ترد الغرس إلى نوى، ولا يمكن أن ترد الزرع إلى حالته الأولى حبوباً.
فحينئذٍ نقول: يضمن له عين المغصوب ويضمن له النقص المترتب على فعله.
فقوله: (وإن ضرب المصوغ).
أولاً: المصوغ يكون من الذهب والفضة، والذهب والفضة إما أن يكونا سبائك، وإما أن يكونا حلياً، وإما أن يكونا نقداً مضروباً؛ إن كان من الذهب فدنانير، وإن كان من الفضة فدراهم.
فالذهب فيه منفعة الحلي، فيمكن أن يصاغ حلياً كالأسورة والقلائد، وفيه منفعة النقد فيكون ثمناً للأشياء كالدنانير، وفي زماننا الجنيهات، وإما يكون سبائك موضوعة من أجل غلاء السوق أو نقصه أو يجعلها الإنسان عنده بحيث يتصرف بها عند الحاجة، والفضة كذلك تكون سبيكة وتكون خاماً وتكون أيضاً حلياً، وتكون دراهم مضروبة.
في حالة ما إذا غصب ذهباً أو فضة فإما أن يأخذها سبائك أو حلياً ويردها مضروبة أو العكس.
والعلماء رحمهم الله لما قالوا: وإن ضرب المصوغ، دائماً نقول: ليس المهم المثال، المهم قاعدة المثال، فالذهب منه القلائد والأسورة والخواتيم، وفي الحقيقة فيه منفعة اللبس، وفيه زيادة الصنعة؛ لأن صنعته تكلف وجعله أسورة وقلائد وخواتم يكلف على الشخص، لأنه يحتاج إلى قيمة للصنعة، فإذا كان مصوغاً يمكن للمرأة صاحبة الذهب أن تتحلى به، وهذه منفعة، وممكن أن تصوغه وتضربه دراهم إذا كان فضة أو تضربه دنانير إذا كان ذهباً.
لكن بالعكس، لو كان دراهم وأرادت أن تحوله حلياً فإن منفعة الدراهم قاصرة، لأنها في البيع والشراء، والأخذ والعطاء، ما يمكن للمرأة أن تتجمل بالدراهم، لكن بالنسبة للحلي تتجمل به ويمكن أن تضربه فيكون عملة سواء كان ذهباً أو فضة.
ففي حالة ما إذا أخذه حلياً ثم صاغه وضربه دراهم أو دنانير فحينئذٍ نقصت المنفعة الموجودة فيه؛ لأن المنفعة الموجودة فيه بالحلي أتم وأكمل مما لو كان دراهم أو دنانير، فإذا أخذه وهو حلي وعبث به فصيره دنانير أو دراهم فقد أنقص منه الصنعة وكلفتها، وأنقص منه المنفعة.
وعلى هذا اختلف العلماء، بعض من أهل العلم يقول: إذا أخذ الذهب أو الفضة وتصرف فيهما بأي تصرف بنقص أو زيادة فإنه يرد عين المغصوب، زائداً أو ناقصاً ولا نطالبه بالضمان.
ومن أهل العلم من قال: إذا ضرب المصوغ دنانير أو دراهم فنطالبه برده إلى ما كان عليه، فيرد المغصوب على حالته التي كان عليها أو قريباً منها إذا تعذر عليه المثلية.
ومنهم من قال: يرده ويضمن النقص الموجود، فمثلاً: لو كان حلياً وهذا الحلي كله أسورة، فأخذ كيلو غرام من الذهب كله حلي، وصاغه وصهره وصيره جنيهات، قالوا: نسأل الصاغة: لو أردنا أن نصير الكيلو الذهب مصاغاً وأسورة مثل ما كانت كم يكلف؟ قالوا: يكلف كل سوار خمسة ريالات مثلاً، وهي عشرة أسورة، فحينئذٍ استحق خمسين ريالاً، فقالوا: يرد المصوغ ويرد النقص الذي حدث بسبب التغير، فيضمنونه مغصوب، ويضمنونه النقص للمنافع، وهذا هو الذي درج عليه المصنف رحمه الله.
قالوا: لأنه ظلم صاحب المصوغ ففوت عليه منفعة المصوغ، ويجب عليه رد العين، فنطالبه بالأمرين:
نطالبه أن يرد الذهب، إذا كان كيلو غرام فإنه يرده على حالته مهما بلغ من الدنانير المضروبة من الذهب، أو الدراهم المضروبة من الفضة، ونطالبه بدفع القيمة لكلفة الصنعة.
وفي هذه الحالة يُشكل على هذا القول مسألة الربا؛ لأنه حينما غصب ذهباً وجب عليه أن يرد المثل وزناً بوزن، ويداً بيد، فإذا طالبناه بالفضل، فضل الصنعة، كان هذا نوع من المبادلة مع الفضل والزيادة، ولذلك قال بعض العلماء رحمه الله: لا يستقيم أن يطالب بالزيادة من هذا الوجه.
ومما يدل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أسقط الفضل في التماثل بين الذهب بالذهب والفضة بالفضة في الصنعة والجودة، بدليل حديث التمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتي بتمر جيد قال عليه الصلاة والسلام: (أكل تمر خيبر مثل هذا؟ قالوا: لا، والله يا رسول الله! إنا نبيع الصاع من هذا -يعني: الجيد- بالصاعين من الرديء، فقال عليه الصلاة والسلام: أوه عين الربا رده، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً) الحديث.
قالوا: فأسقط الجودة في لقاء الربوي بالربوي، وأوجب التماثل بغض النظر عن كون أحدهما جيداً والآخر رديئاً، وقد قررنا هذا في باب الربا والصرف، وبينا أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (الذهب بالذهب ..) يقتضي التماثل بغض النظر عن الجودة في الصنعة، وبغض النظر عن الجودة في نفس الذهب معيار (21) و(24)، بينا هذا، وقلنا: إن مذهب السلف الصالح رحمهم الله على هذا بدليل قصة ابن عمر مع الصائغ، حينما قال: إني أبيع المصاغ وأستفضل -يعني: إذا بادلت بالذهب- قدر الصنعة والتعب، فنهاه ابن عمر واستدل بعموم الحديث.
وهذا يدل على أن السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان كانوا يفهمون العموم على ظاهره.
فإذا ثبت هذا فإنه إذا رد الذهب بالذهب على القول الأول: لا يرد إلا عين المغصوب سواء نقصت منافعه أو زادت، قالوا: لا نضمنه ذلك النقص.
ما هو جواب المصنف رحمه الله؟ وما هو جواب الحنابلة رحمهم الله عن هذا الإشكال؟!!
بينا أنهم يقولون: يجب ضمان الصنعة، وهذا الضمان للصنعة يوجب أن يتحقق التفاضل، والله فرض علينا في مبادلة الذهب بالذهب التماثل، فردوا رحمهم الله -ويوافقهم على ذلك بعض الشافعية- فقالوا: إن هذا ليس من باب المبادلة والبيع، وإنما هو من باب الضمانات، والضمانات خارجة عن قاعدة الربا وليس لها علاقة؛ لأنه هو ما بادل الذهب بذهب، بل هذا عين الذهب الذي اغتصب، وهذا ضمان للتصرف في المغصوب، فلا توجد مبادلة، ومن الذي قال: إنه يبادل الذهب بذهب؟ وهذا الجواب سديد وصواب إن شاء الله؛ لأنه لم يبادل ذهباً من غير الذهب الذي أخذه، وإنما رد عين المأخوذ وليس فيه مبادلة حتى يرد إشكال الربويات في المسألة التي ذكروها.
ولا شك وأرى فيما ظهر والله أعلم أن هذا القول من القوة بمكان؛ لأن الله تعالى قال: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل:126]، وأوجب الله عز وجل ورسوله ضمان الحقوق لأهلها.
فهذا الذي أخذ الذهب وتصرف فيه إذا رده وهو ناقص فإنه لم يرد الحق لصاحبه تاماً كاملاً، فنقول له: عليك أن ترد عين المغصوب ويلزمك أن ترد حق الزيادة التي انتقصتها بفعلك.
ثم إن هذا الرجل الذي اغتصب الذهب تصرف، ونؤاخذه بتصرفه، فإيجاب الضمان عليه على ما فعله من ضرب المصوغ إنما هو إلزامه بما فعل وجنت يداه، ومؤاخذة الجاني بجنايته تدل عليه الأصول الشرعية وتقرره، ولذلك لا شك ولا إشكال -إن شاء الله- في رد المصوغ مع ضمان النقص الحاصل بسبب الضرب.
وقوله: (ونسج الغزل).
المسألة الثانية: مسألة نسج الغزل.
المسألة الأولى: ينبغي أن ننبه على قضية وهي: إذا كان المضروب نقص وألزمناه بضمان النقص يرد السؤال: لو أنه زاد فأصبح المصوغ بعد ضربه أفضل وأتم وأكمل مما لو كان مصوغاً؟
في الحقيقة بعض العلماء يذكر هذا وإن كان محل إشكال؛ لأن الحلي لا يشك أن منفعة الحلي مع وجود الصنعة أكبر، ولذلك اقتصرنا في الشرح على ما ذكرناه على أنه نقص وليس بزيادة.
وقوله: (نسج الغزل) الشيء المغزول إذا أراد الإنسان أن يتصرف فيه فينسجه، وربما يأخذه ويتصرف فيه فيجعله رداءً أو لحافاً، فمن حيث الأصل: الشيء المغزول يمكن أن ينتفع به في أكثر من منفعة، ويمكن أن يصرف في أكثر من وجهة، فإذا أخذه وصرفه على وجهة معينة فقد عطل المنافع التي كانت فيه أولاً.
وهذا مذهب بعض العلماء رحمهم الله: أن نسج الغزل يعتبر من إنقاص العين المغصوبة وليس من زيادتها، وبعض العلماء يقول: الزيادة، ويجعل نسجه -يعني: قيامه بالنسيج- كلفة وتعباً، وفي هذه الحالة يقول: استغل مادة الغزل واستفاد منها وجعل منها فائدة، وجعل لها قيمة، فمن هنا يكون المغصوب قد زاد، لم ينقص.
والأول أظهر من جهة المنفعة، والثاني أظهر من جهة الصفة، فهناك فرق بين الصفة وبين المنفعة، إذا جئنا ننظر إلى أن الشيء وهو خام حينما تأخذ خام الصوف أو خام الوبر وتريد أن تصرفه لأكثر من جهة فأنت بالخيار بين أكثر من منفعة، فيمكن أن تصرفه إلى منفعة الملبوسات، ويمكن أن تصرفه إلى منفعة الفرش والبسط، فالمنافع فيه وهو خام أكثر وأتم إذا كان منسوجاً أو كان قد صرفه الغاصب إلى جهة معينة من المنافع.
ومن جهة الصفة كونه أصبح منسوجاً لا شك أنه تكلفه الصنعة، وتحتاج منه إلى مال، خاصة إذا استأجر من يقوم بذلك، فهذه زيادة.
فهي نقص من وجه، وزيادة من وجه آخر.
وعلى هذا: إن شئت جعلت من زيادة المنفعة، وإن شئت جعلته من زيادة الذات ومن زيادة صفة الذات، وإن شئت جعلته من نقص المنافع.
والثاني أظهر وهو: أنه من نقص المنافع لأن صاحب الصوف ربما أراده لشيء غير الشيء الذي فعله الغاصب، وعلى هذا يكون أضيق، ويكون في هذه الحالة ضامناً للنقص، فنقول له: يلزمك دفع هذا الشيء الذي نسجته، فيعطيه المغصوب منه بعينه.
ثم ننظر ما الذي حدث من النقص؟
فلو كانت قيمته وهو غزل يساوي خمسين ألفاً في السوق، وبعد أن نسجه أصبحت قيمته أربعين ألفاً؛ لزمه ضمان النقص، ويرد الشيء المغصوب مع ضمان نقصه.
وأيضاً لو كان زائداً فإنه يرده ولا يطالب بأجرة الصنعة والعمل، فلو أن هذا الشيء الذي نسجه كانت قيمته قبل أن يتصرف فيه مائة، وبعد أن تصرف فيه فأحدث فيه الصنعة كلفته الصنعة خمسين ريالاً فأصبح يباع بمائة وخمسين، فقال: أريد أن يضمن حقي؛ نقول: ليس لعرق ظالم حق.
وعلى هذا: يسقط استحقاقه في هذه المنفعة ولا يضمن له كما سيأتي إن شاء الله في نص المصنف رحمه الله على هذه المسألة.
وقوله: [وقصر الثوب أو صبغه].
يكون مفصلاً ويكون غير مفصل، والعرب تسمي غير المفصل ثوباً مثل: الإحرام، فالإحرام إذا ائتزرت به في أسفل البدن، وجعلت الثاني رداء على كتفيك قيل: ثوبان، ويقال: إن هذا ثوب وهذا ثوب، فالملبوس ثوب، إذا لم يكن مفصلاً له اسمه الخاص كالقميص ونحوه.
فالثوب إذا كان مفصلاً فإن منفعته أكمل، لكن إذا أخذ منه وقصره وحوره فإن هذا ينقص منفعة الثوب ويضر بمصلحته، وحينئذٍ يكون النقص للذات، لاحظ أن الأمثلة الأولى فيها نقص للمنفعة ولكن تقصير الثوب في بعض الأحيان قد يقص من الثوب شيئاً، كما لو كان للثوب كمان طويلان وقص هذين الكمين نقص، وهكذا لو كان الثوب كاملاً سابغاً إلى أنصاف الساقين فقصه فصار في حكم القميص فهذا نقص.
ففي هذه الحالة تصرفه في الثوب في قصارته نقص في ذاته، فلما فرغ من نقص المنافع شرع في نقص الذوات، فقال في هذه الحالة: لو أخذ من الشخص ثوباً وتصرف فيه فقصره وحوره ونقصت قيمته بالنصف، فإننا نطالبه برد الثوب ونطالبه برد النقص الذي وقع في القيمة بسبب تصرفه.
ولو سأل سائل: ما الدليل على ذلك؟
نقول: نطالبه برد المغصوب؛ لأنه ملك لصاحبه وهو عين الثوب.
ونطالبه بضمان النقص؛ لأنه من جناية يده، وقد أخذ الشيء كاملاً فرده ناقصاً، والله أوجب المعاقبة بالمثل ولا مثلية إلا بضمان النقص.
فنقول: عليه أن يرد الثوب مع ضمان أرش النقص.
وقوله: (ونجر الخشب ونحوه).
في زماننا الآن الألواح الموجودة في الخشب، أو الأوصال التي تأتي شبه مادة خامة، ممكن أن يأخذ الألواح ويجعلها دواليب، أو يجعلها مكاتب، أو يجعلها في أسطحة المنازل، أو يجعلها في أكثر من منفعة، فهي كمادة خام تصلح لأكثر من منفعة.
فلو أنه أخذها ونجرها ووضعها مثلاً في نجارتها كطاولات أو أبواب أو نوافذ حتى تستغل في هذه المنفعة فقد أنقص المنافع الموجودة في العين.
فإذاً قد تقرأ قوله: (نجر الخشب) ما هو نجر الخشب؟ العلماء يريدون أصل المسألة وهي مسألة المنافع، أن الغاصب إذا اغتصب شيئاً فأنقص منافعه وجب عليه ضمان ذلك النقص، فإذا نظرت إلى ألواح الخشب بمنافعها التامة بعد نجارتها قد انتقصت فيجب علينا أن نقدر ذلك النقص بالرجوع إلى أهل الخبرة ونلزمه ضمانه، وهذا من العدل الذي أمر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام وقامت عليه السموات والأرض، هذا فعله وهذه جنايته.
فنقول: رد الخشب بحاله منجوراً، ثم اضمن ذلك النقص الذي ترتب على فعلك، فيجب عليه أن يضمنه ويرده على صاحبه.
وقوله: (أو صار الحب زرعاً).
وهنا إذا نظرنا إلى الحب نجد فيه أكثر من منفعة، ممكن للحب أن يطحن ويصير دقيقاً ثم بعد ذلك يكون فيه من المنافع الكثير، وممكن للحب أن يعطى للدواب فتغتذي به، وممكن للحب أن يغرس ويزرع.
فلما يأتي ويضعه في الزرع يكون حينئذٍ حده في منفعة من تلك المنافع، وصيره إلى منفعة قد لا ترغب فيها ولا تحب هذه المنفعة، فنقول: إنه يصير ملكاً لصاحبه الذي هو المغصوب منه ثم يجب عليه ضمان النقص على الأصل الذي قررناه.
وقوله: (أو البيضة فرخاً).
تفريخ البيض يحتاج إلى كلفة، ويحتاج إلى مؤونة وعمل، ولربما تكون الكلفة لها قيمة وهي إجارة من يقوم بتفريخ البيض، فلو اغتصب عدداً من البيض ثم استأجر من يفرخه أو قام بتفريخه، فهذا التفريخ قد يستحق مائة ريال مثلاً، على حسب عدد البيض.
فنقول: ترده أفراخاً؛ لأن صاحب البيض مالك للبيض وما نشأ منه وكونه أفراخاً؛ لأن الفرع تابع لأصله، فلما ملك البيض ملك منفعته أو ما ينشأ عنه مما يتفرع عليه، فالفرع تابع لأصله والفرخ تابع لأصله البيض، فمالك البيض مالك للأفراخ.
وثانياً: نقول له: تضمن النقص الذي ترتب على تفريخ هذا البيض.
ولو قال: أريد مؤنتي وتعبي حينما نجرت الخشب ونسجت الغزل وفرخت البيض، نقول: ليس لك منه شيء؛ لأنك فعلت شيئاً لم تؤمر به، فلم يأمرك أحد أن تفرخ البيض أو تنجر الخشب أو تقصر الثوب، بل تصرفت بها من عند نفسك في يد عادية.
واليد العادية يعني: المعتدية؛ لأن يده على الشيء ليست بيد حق وإنما هي يد عادية، لكن لو كانت يد حق لأثبتنا له حقه وضمن له ذلك الحق في تصرفه في الأعيان.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] | 3704 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] | 3620 استماع |
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق | 3441 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] | 3374 استماع |
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة | 3339 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] | 3320 استماع |
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] | 3273 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] | 3228 استماع |
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص | 3186 استماع |
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] | 3169 استماع |