أرشيف المقالات

التربية الروحية في مدارسنا

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
للأستاذ محمد علي جمعة الشايب إنها لمأساة حقا أن نجد كثيرا من الضمائر والذمم في حاجة ماسة إلى تطهير لا فرق في ذلك بين هيئة أو جماعة، أو عظيم أو حقير.
هذا إلى كثير من النفوس والضمائر التي أبصرت أشعة التطهير فاختفت داخل قواقعها واتخذت منها كنا وسترا.
ولعل يد العدالة ستمتد إليها فتخرجها صاغرة ذليلة من داخل تلك القواقع؛ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

إنها لمشكلة تدعو للأسف حقا وتدعو للعلاج السريع، حتى يعافى مجتمعنا من هذا الوباء الخلقي الخبيث.
وإن إعدام بذور الشوك خير من تقليم أغصانه بعد أن ينبت.
ومن الواجب قبل أن نصف الدواء أن نضع أيدينا على أسباب الداء، أو على الأقل على أهم أسبابه. إننا لو نظرنا إلى موظفي الدولة ورجالها لوجدناهم ثمرة من ثمرات المدرسة، فإذا أحسسنا أن هذه الثمرة مرة المذاق، فلا بد أن التربية التي نبتت فيها هذه الثمرة تربة غير صالحة، وهذا هو الواقع فعلا في مدارسنا، فإنت لو نظرت إلى المدرسة في ذلك العهد الذي نتنسم فيه شيئا من الحرية لم تجد في أساليب تربيتها ما يعين على تنشئة جيل صالح، فما بالك بها منذ عشرات السنين أي في العهد الذي ربت فيه أولئك الذين قادوا السفينة بنا إلى الهاوية، وقد كان عهدا حبس عنه الاستعمار كل نسمة من نسمات الحرية والصلاح في أية ناحية من نواحي الحياة.

وليس لنا بالمدرسة القديمة شأن، فقد مضت وأفسدت ما أفسدت، وهذه يد التطهير تحاول أن تصلح ما أفسدته المدرسة من قديم الأزمان.
ولكن لنا الشأن كله بالمدرسة الحديثة - مدرسة اليوم - ويجب أن نمد إليها يدنا اليوم بالإصلاح قبل أن تمتد يد التطهير في المستقبل إلى ما تأتي به من ثمرات.
إن التربية في مدارسنا اليوم لا يعنيها غير الهدف العلمي، فهي تحرص على أن تضع في يمين التلميذ ورقة بمثابة الجواز الذي يسمح له بأن يأكل عيشه في شيء من السهولة واليسر ويضمن حياة راضية أحيانا، أما التهذيب الروحي وتقويم الاعوجاج والالتواء وتعديل الغرائز والنزعات الفطرية وإعلاؤها بحيث تجعل صاحبها يستقيم مع المجتمع ولا يكون نشازا فيه، ويصبح عضوا فعالا في أمته، فهذا ما لا يدخ المدرسية عندنا.

إن التربية عندنا مادية بحتة لا أثر فيها للروح، مع أن المجتمع المدرسي الصاخب فرصة نادرة أمام المربين الروحيين لو أرادوا، فالتربية الروحية تعتمد في الغالب على مجتمع لكي تتمكن من نشر مبادئها ويمكن الوصول إلى أهدافها بسهولة.

وقد يعتقد البعض أن دراسة الدين في مدارسنا تربية روحية، ولكن يؤسفني أن أقول إن هذا وهم واهم؛ فمدرسو الدين والتلاميذ يعرفون ما تنطوي عليه الحقيقة من ألم مرير، وقد يكفي أن تعلم أن غالبية المدرسين يجرون أرجلهم جرا حينما يذهبون إلى حصة الدين، وأن التلاميذ يودون لو أن المدرس انطلق بهم إلى ما يهمهم ويعنيهم من أحاديث الحياة العامة ووفر عليهم مؤونة الشرح والتدريس، بل لقد شكا كثير من المدرسين من أن التلاميذ يجمعون له كثيرا من الأسئلة في شتى النواحي المختلفة ليتحفوه بها في حصة الدين، وشكا آخرون من أن التلاميذ يتسللون لواذا (ويزوغون) في حصة الدين.
أما الفريق الذي لم يشك فيعلم الله مبلغ ما يقاسيه من ألم وعناد في سبيل الاحتفاظ بالنظام وضبط الفصل والترهيب مرة والترغيب أخرى حتى ينتهي ذلك الدرس.

وليس مرد ذلك لشيء في الدين نفسه - معاذ الله - ولا لشيء في التلميذ ذاته كما يتوهم بعض المدرسين، وما أظن أن المدرس يعتقد أنه هو مرد ذلك لأنه لا يحس هذه الظاهرة إلا في درس الدين فحسب، وإنما السبب راجع إلى الطريقة التي يدرس بها الدين وإلى المنزلة التي وضع فيها في المنهج الدراسي، فالدين دراسة نظرية بحتة لمجموعة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ودراسة لبعض الشخصيات الإسلامية الفذة، وفي الغالب لا تجد ارتباطا بين هذه المواضيع وحاجات التلميذ النفسية أو المشاكل التي تهمه، وهذا هو السر في انصراف التلميذ عن الدرس إلى الأسئلة التي يضيق بها إخواننا المدرسون، ولو ربطت مواضيع الدين بمشاكلنا القائمة بيننا الآن والمذهب الاجتماعية التي هي موضع اهتمام الرأي العام لكان درس الدين حيا قويا، ولوجد استجابة حارة من التلاميذ، ولكان ذلك تثبيتا للتلاميذ وعصمة لهم من الزيغ. ولو تناولت دراسة الدين أمراضنا الخلقية وآفاتنا الاجتماعية المتفشية، ولو أتينا بالشخصيات الظاهرة عندنا وربطنا بينها وبين الشخصيات الإسلامية العظيمة ودرسنا هذه الشخصيات دراسة مقارنة، أقول لو فعلنا ذلك لكان ذلك أهدى طريقا وأقوم سبيلا. على أن وضع الدين في المنهج المدرسي ذلك الوضع غير اللائق كفيل بأن يصرف عنه الاهتمام والعناية، فجعل الدين مادة ليس فيها امتحان يجعلها عبثا على أكتاف التلاميذ يعوقهم عن النهوض بواجباتهم المدرسية التي ينتظرهم فيها نجاح أو رسوب.
ولقد كان من الممكن الاستغناء عن الامتحان في الدين لو قومت طريقته وعدلت بحيث نضمن منها فائدة منها للتلاميذ، أما والحالة هذه فلا بد من الامتحان وإن كان لا يكفي لإفادة التلاميذ الفائدة المرجوة من دروس الدين، ولكنها فائدة على أي حال، ولعل الوزارة قد تنبهت إلى ذلك في هذا العام. بقي أنني لست أومن بالدراسة النظرية، وإنما الذي أومن به الإيمان كله أن تكون الدراسة عملية ولا تأتي الناحية النظرية إلا كالشاهد أو الدليل، وما دامت المدرسة تخرج للمجتمع، فلماذا لا تكون المدرسة صورة من المجتمع؟ لماذا لا تكون المدرسة نموذجا من المجتمع في جميع نواحيه خيره وشره؟ نستطيع أن نهيئ في المدرسة الجو الذي تنزلق فيه الضمائر والذمم وتستشري فيه الغرائز، ونخلق من ذلك فرصة للتهذيب والتقويم وتعديل هذه الغرائز حتى تخرج المدرسة ذمما نظيفة وضمائر بيضاء ناصعة وغرائز مصقولة مهذبة، فمثلا التغذية في المدرسة نستطيع أن نجعلها بمثابة (وزارة التموين) في المجتمع الخارجي فنمكن التلاميذ من تصريف أمور التغذية في مدارسهم، ثم ننظر ماذا يفعلون، وإنني واثق من أننا سنجد فرصة ذهبية للتربية الروحية العملية الحقة، وسنجد فرصة ذهبية كذلك للكشف عن كثير من الذمم المعتلة والضمائر المريضة، وسنتمكن من علاجها علاجا حاسما حتى تخرج على المجتمع نقية كالثلج.
. كذلك نستطيع أن نكون من التلاميذ مجلسا للقضاء والفصل للنزاع الذي ينشأ بين تلاميذ المدرسة، ويكون له حق فرض العقوبات اللازمة، والغرامات المالية المناسبة وبالإشراف الدقيق نستطيع أن نلاحظ كثير من النزاعات الفطرية الملتوية بين أعضاء هذا المجلس وسنتمكن من تقويمها.
.
كذلك يمكننا أن نكون من تلاميذ المدرسة هيئة بوليسية للإشراف على المدرسة وتقصي أخلاق زملائهم والإرشاد عن عيوبهم لإصلاحها وتهذيبها؛ إلى غير ذلك من الجمعيات والهيئات التي تتيح فرصا للتربية الروحية وتخلق مناسبات حية لدروس الدين.
على أن بالمدرسة الآن جمعيات قائمة مثل جمعيات البر والإحسان وجمعيات الرياضة وجمعيات الدعوة والإرشاد ينبغي استغلالها لهذا الغرض. وبعد فمتى كانت التربية الروحية نظرية بحتة؟ ألم يغلب الله جانب العمل في العبادات وهي التربية الروحية فجعل الصلاة إلى جانب أنها ذكر ودعاء؛ قياما وركوعا وسجودا؟! وكذلك الجانب العملي أوضح ما يكون في الحج والزكاة والصوم، ولعلنا نلمس الجانب العملي في تربية الرسول ﷺ للأنصار والمهاجرين حين آخى بينهم فكان الأنصاري يقسم ماله وداره بل وأزواجه بينه وبين أخيه المهاجر! هذا هو المنهج السليم الذي يجب أن تنتهجه التربية الروحية.

أما أن تكون كاملا يتلى فهذا ما أشك في تسميته التربية. محمد علي جمعة الشايب

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١