شرح زاد المستقنع باب الشركة [6]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

قال المصنف رحمه الله: [الرابع: شركة الأبدان]

فهذا النوع من أنواع الشركات يسميه العلماء بـ(شركة الأبدان)، والأبدان: جمع بدن، وسمي بهذا الاسم؛ لأنه يقوم على عمل الشريكين، فكل منهما له صنعة وحرفة يقوم بها، ويتفقان مع بعضهما، وقد يتفق أكثر من شخص كثلاثة أو أربعة أو أكثر على أن يقوموا بعمل الحرف ونحوها ويكون الربح بينهم على ما شرطوا، وهذا النوع من الشركات يسميه بعض العلماء رحمهم الله بـ(شركة العمل)؛ لأنه يقوم على عمل البدن، فيسمى بشركة الأبدان؛ لأنها منشأ الأعمال، ويسمى بشركة العمل؛ لأن المقصود منه أن يكون النماء من عمل الشريكين.

الأصل في مشروعية هذا النوع من الشركة: ما روى أبو داود والأثرم وغيرهما رحمة الله عليهما عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن عبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين اشتركوا في غزوة بدر فيما يصيبون من المغنم، وهذا الاشتراك كان على سنن شركة الأبدان، قال: (فجاء سعد بأسيرين، ولم أجئ أنا وعمار بشيء).

وهذا النوع من الشركات يتمحض الاشتراك بين الشريكين ويقوم على العمل، ولذلك ذكرنا في الشركات أنها:

تارةً تكون بالمال والعمل، كشركتي المفاوضة والعنان.

وتارةً تكون بالعمل من أحدهما والمال من الآخر، كشركة المضاربة.

وتارةً تكون على الوجاهة والذمة، كشركة الوجوه.

وتارةً تكون على البدن والعمل، كما في شركة الأبدان.

يقول رحمه الله: [النوع الرابع: شركة الأبدان]: وهذا النوع من الشركات في قول جمهور العلماء جائز ومشروع، وهو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، ووافقهم على ذلك أصحاب الرأي، وهو قول لطائفة من السلف، منهم الإمام سفيان الثوري رحمة الله على الجميع، قالوا: لا بأس أن يشترك الاثنان فأكثر على أن يقوما بعمل أو بحرفة، والكسب بينهما على ما اتفقا عليه.

وعند العلماء تفصيل: هل جواز هذا النوع من الشركة يتوقف على اتحاد الصنعة واتحاد الحرفة؟ أم أنه يمكن للشريكين مع اختلاف صنعتهما أن يتفقا؟

مثال ذلك: إذا كان هناك حدادان أو نجاران فاتفق الحدادان على أن يتقبلا من الناس العمل ويقوما بالعمل سوياً مثل صناعة الأبواب وصناعة الشبابيك من الحديد ونحوها من أعمال الحدادين، فاتفقا على أنه يتقبل كل واحد منهما من الناس، ثم يُدخلان هذه المواد الخام من الحديد ويُصَنِّعانها في محلهما وأن ما يكون من النتاج والربح مقسوم بينهما بالمناصفة، فاتفقا على ذلك، فحينئذٍ تقول: هذه شركة أبدان، قائمة على اتحاد الصنعة؛ لأن كلاً منهما حداد، وإذا كانا متفقين في الصنعة، فجماهير العلماء على أن شركة الأبدان تجوز.

كذلك في النجارة، لو أن اثنين يحسنان عمل النجارة، واتفقا في ورشتيهما على أن يتقبلا من الناس الطلبات، ويقوما مع بعضهما بصناعة الأبواب ونجارة الأبواب والشبابيك أو ما يُطلب منهما، أو ما يكون من عمل الديكورات الموجودة الآن من خشب، فكل هذا إذا اتفق فيه الطرفان فأكثر مع اتحاد الصنعة، فكل منهما يحسن النجارة، وكل منهما يحسن الحدادة فلا إشكال، ومن يقول بجواز شركة الأبدان يصحح هذا النوع من الشركات؛ لكن الإشكال إذا كان أحدهما يتقن صنعة غير صنعة الآخر، كأن يكون أحدهما حداداً والآخر نجاراً، فيتفقان على أن هذا يعمل في الحدادة، وهذا يعمل في النجارة، والربح بينهما.

فللعلماء في هذه المسألة قولان:

بعض العلماء يجيز، وهو مذهب الحنابلة، ووافقهم الحنفية.

وبعضهم يمنع، كما هو مذهب المالكية.

يعني: نفس الجمهور الذين يقولون بجواز شركة الأبدان يختلفون إذا اختلفت الصنعة، وهذا مثل ما يقع في المجمعات الصناعية، إذا كان هناك محلان، ويختلف المحلان في الصنعة، فتارةً تكون من شركة الأبدان المختلفة، كحدَّاد ونجَّار، وتارةً تكون من شركة الأبدان المتفقة، كالحدادين والنجارين، فإنه يجوز أن يشتركا على هذا الوجه. وتطبيق هذه الشركة في زماننا لها مجالات عديدة:

منها: ما ذكرنا في الحدادة، فالآن -مثلاً- محلات الخراطة (خراطة الحديد) لو أن صاحبا محلين في خراطة الحديد اتفقا فيما بينهما، على أن يتقبلا من الناس الطلبات، ثم يقوم كل منهما مقام الآخر في التقبل وفي العمل، فلا بأس، وتقع شركة الأبدان على هذه الصورة.

والآن في زماننا يأتي المقاول فيأخذ بناء العمارة، ويأتي النجار ويأخذ -مثلاً- أبوابها الخشبية، ويأتي الحداد ويأخذ السلالم من الحديد أو نحوها، وينبغي مع شركة الأبدان اتحاد الصنعة تقول: يمكن لمقاولَين أن يتفقا فيما بينهما على أن يقوما بالمقاولات، ويتقبلا الأعمال المطلوبة منهما ويعملان سوياً، فيمكن أن يتفقا مع بعضهما بهذه الشركة ويقوما ببناء العمارة مع بعضهما، أو يقوما ببناء الفيلا أو نحو ذلك مع بعضهما، حينئذٍ تكون شركة أبدان مع اتحاد الصنعة.

كذلك لو أنهما اتفقا مع بعضهما على الحدادة، فأخذا عمارةً كاملةً على أن يقوما بصنع سلالمها أو نحو ذلك مما يستلزمه عمل الحدادة، فحينئذٍ نقول: هذه شركة أبدان؛ لكن كيف تكون شركة الأبدان على الصورة الثانية؟!

أن يتفقا فيما بينهما مع اختلاف الصنعة، فمن الممكن أن يأخذا عمارة واحدة، أحدهما مقاول يبني، والثاني حداد للحديد الذي يُبنى به ويُصب عليه، وثالث: نجار لأعمال النجارة، فيتفقون جميعاً وتكون شركة، وتُبنى العمارة على هذا الأساس من الشركة، ويُقسم مال ونتاج العمارة بينهم، هذا إذا قلنا بجوازها مع اختلاف الصنعة.

ولا يمكن أن نحكم بالجواز إلا إذا كانا في عمل واحد.

وفي الحقيقة: القول الذي يقول بأنها تكون مع اتحاد الصنعة من القوة بمكان؛ لأنه -في الحقيقة- في حال اختلاف الصنعة الغرر قوي، وقد تحدث الفتنة في كثير من الصور وكثير من الأحوال لاختلاف الصنعتين؛ لكن إذا اتحدت الصنعتان وكان كل منهما يمكن أن يقوم مقام الآخر، فهو يعمل كعمله، ويمكن أن يقسم العمل بينهما، ويمكن ألَّا يضر أحدهما الآخر؛ لكن في حالة اختلاف الصنعة، أحدهما نجار والثاني حداد فيكون هناك نوع من الغرر ونوع من الغبن، ولربما تيسرت أعمال الحدادة أكثر من النجارة، أو النجارة أكثر من الحدادة، فيحدث شيء من الشحناء وتغير القلوب.

ولذلك النفس تطمئن إلى جوازها في حال اتحاد الصنعة، أما في حال اختلاف الصنعة فالشبهة قائمة.

فنقول إجمالاً: شركة الأبدان تكون مع اتحاد الصنعة، وتكون مع اختلاف الصنعة، وهي في اتحاد الصنعة أولى بالجواز منها عند الاختلاف؛ لكن بقيت مسألة، إذا كنا نقول: إن شركة الأبدان تكون مع اتحاد الصنعة، فعند اتحاد الصنعة تكون الأعمال متفقة بحيث يُبنى بعضُها على بعض، فهي لا تتفق من كل وجه؛ لكن ينبني بعضها على بعض.

مثال ذلك: نحن ذكرنا أنه إذا اختلفت الصنعة، فكان أحدهما حداداً والآخر نجاراً لا يجوز، ولو أن حداداً اتفق مع نجار فالأشبه عدم الجواز، والغرر موجود في هذا؛ لكن لو قلنا: لابد أن يكونا حدادَين أو نجارَين، فلو فرضنا أن العمل اتحد من حيث الأثر والنتاج واختلف في الوصف والمهمة التي يقوم بها، مثل: الغزل من أحدهما والخياطة من الآخر، فإذا كان أحد العملين مبنياً على الآخر، فالأمر أخف؛ لأن المقاولة تكون في هذه الحالة على عمل واحد، وحينئذٍ إذا كان أحد العملين مبنياً على الآخر فالأمر أخف.

مثلاً: محلات الخياطة، قد يوجد خياطان يكون أحدهما ماهراً في قص القماش وتهيئته للخياطة، والآخر ماهر في خياطة القماش، يمكن أن نقول: إنهما يشتركان وإن كان العمل مختلفاً، فأحدهما يفصِّل والثاني يخيط، نقول: لا بأس بذلك والغرر هنا يسير؛ لأن العمل المتقبل واحد، وشبهة الضرر في هذا النوع من اتفاق الصنعة خفيفة إن شاء الله.

وهكذا في اتفاقهما في الزراعة، إذا كانا مزارعين، أو كانا نجارين أو حدادين، وكان عمل أحدهما قائماً على الآخر، فلا بأس.

مثلاً: في الحدادة وفي النجارة تقطيع الأشياء التي يُراد لحامها في الحديد أو تسميرها في الخشب، فلو كان أحدهما متكفلاً بأخذ الأطوال ونحوها وهو يجيد ذلك، وماهر فيه، وقال للآخر: عليك التسمير، أو عليك اللحام، أو نحو ذلك، فلا بأس به، كما نص على ذلك طائفة من العلماء رحمة الله عليهم.

وهذا النوع من الشركات لا شك أن فيه تيسيراً للأمة وخيراً كثيراً، فإن أصحاب الحرف إذا اجتمعوا واشتركوا ائتلفت القلوب وحصل نوع من التعاون والتلاحم والتكاتف والتعاطف، وشعر كل منهما أن عمله لأخيه، وأن عمل أخيه له؛ لكن إذا كان هذا له محل حدادة، وهذا له محل حدادة، ربما وقع التنافس وربما وقع التباغض وربما وقع التحاسد، فحينئذٍ حينما يكون محلهما واحداً وأعمالهما واحدةً ونشاطهما واحداً، فإن هذا لا شك أنه يعين على تحقيق الأخوة وقوة أواصر المحبة بين أفراد المجتمع.

فمن الحكم التي تستفاد من جواز هذا النوع من الشركات: أنه يعين على الأخوة، ويحقق مقاصد الشريعة بالجمع بين المسلمين.

قال رحمه الله: [أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما]:

إذا اتفق الطرفان على أن يشتركا فيما يكتسبانه، يعني: في كل كسب ينشأ من عمل البدن منهما، فخرجت الشركة المال في المفاوضة والعنان بهذا القيد؛ لأنها تقوم على الاشتراك في المال والعمل وليس في العمل المحض.

قال: [يكتسبان بأبدانهما]: يعني: إذا اتفقا على ذلك، وقالا: إننا نتقبل، أو أحدنا يتقبل والآخر يعمل، أو نعمل سوياً، أو نتقبل سوياً ونعمل سوياً، فالأمر في ذلك كله سواء، ويكون حينئذٍ كل واحد منهما قائماً مقام أخيه في هذه الشركة.

فمثلاً: إذا جئت تطلب نجارة طن من الخشب على أن يُصَنَّع أو يُفْعَل فجاء أحدهما واتفق معك والشركة قائمة، فقال: أنا أصنع هذا الطن من الخشب شبابيك أو أبواباً بمائة ألف، على أن يفصل -مثلاً- مائة باب أو مائتي باب، فاتفقتما على تفصيل الخشب أو المادة الخام من الخشب، وتفصل أبواباً أو شبابيك، فإذا أبرم العقد معك ففي الحقيقة يكون قد أبرمه عن نفسه أصالةً وعن شريكه وكالةً، فهو عن نفسه أصيل، وعن شريكه وكيل، فيمكن أن يتقبلا معاً، ويمكن أن يتقبل أحدهما على ذمة الآخر معه، ويستوي الحكم، فإذا جاء الزبون أو العميل لأحدهما واتفق معه فلا نقول: إنه اتفق مع أحدهما، وإنما نقول: ما دامت الشركة قائمة فالاتفاق عليهما والالتزام عليهما معاً، ولو أن المادة الخام من الخشب دخلت ثم حصل ضرر من الشركة يوجب الضمان عليهما معاً على سنن الشركة والأصول التي تقدم بيانها في مسائل ضمان الشريكين.

قال رحمه الله: [فما تقبله أحدهما من عمل يلزمهما فعله]:

قوله: (من عمل) نكرة؛ تشمل أي عمل؛ لكن في حدود الشركة، وليس مراده (من عمل)؛ لأنه من الممكن أن يتقبل عملاً خارجاً عن الشركة.

مثلاً: إذا كانا نجارين وتقبل أحدهما عمل حدادة، نقول: هذا خارج عن الشركة.

لكن مراد المصنف بقوله: (فما تقبله أحدهما من عمل) هنا عام أريد به الخصوص، يعني: من عمل متعلق باتفاق الشركة، أما لو تقبل عملاً لا علاقة له بالشركة، فإنه لا تقع الشركة عليه ولا يلزم الشريك الآخر به.

والتقبل يكون على صورتين:

- الصورة الأولى: أن يتقبلا مع بعضهما أي: أن يكونا جالسين في الدكان أو في المحل ويأتي العميل ويقول: أريد هذا القماش يُخَيَّط، أو أريد هذا الخشب يُفَصَّل أو أريد هذا الحديد يُفَصَّل، فيقومان مع بعضهما ويتفقان ويبرمان العقد بينهما وبين ذلك العميل، فحينئذٍ لا إشكال.

- أو يتقبل أحدهما في حال غيبة الآخر، فإنه في هذه الحالة -كما ذكرنا- أصيل عن نفسه وكيل عن شريكه.

قال رحمه الله: [وتصح في الاحتشاش والاحتطاب وسائر المباحات]: شركة الأبدان تقوم على الصناعات والحرف اليدوية وما في حكمها.

ويمكن أن يتفقا حتى في الغزو والغنائم، وما كان في أيام الجهاد في سبيل الله، الذي هو التلصص على دار المشركين إذا كانوا غير مسالمين، فيجوز حينئذٍ أن يتفقا مع بعضهما على أخذ الغنيمة، كأن يغزوا مع بعضهما، فإذا غنم أحدهما غنيمة قُسمت بين الطرفين على ما اتفقا عليه؛ لأنها وردت في قصة عبد الله بن مسعود ، والحديث فيه انقطاع؛ لأن أبا عبيدة وهو ابن عبد الله بن مسعود قيل: لم يسمع من أبيه لصغر سنه؛ لكن -في الحقيقة- متن الحديث قوي وتشهد الأصول بصحته واعتباره.

هذه المسألة التي ذكرها المصنف: الاحتشاش والاحتطاب، وكلٌّ من الحشيش والحطب مما يُباح ويُملك بالأخذ، يعني: لو خرج إنسان معه آله الحش، فوجد حشيشاً في أرض غير محرمة -التي هي الحمى ونحوها- وحش حشيشها، فيكون قد مَلَك الحشيش بحشه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون شركاء في الماء والكلأ والنار)، فأثبت أنهم شركاء في الكلأ، وأنه لا حِمى إلا ما حَمى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

فإذا ثبت أن الحشيش مباح، وأنه يجوز للمسلم أن يأخذ الحشيش متى وجده، فحينئذٍ يَرِد السؤال: هل يجوز أن يشترك الطرفان فأكثر على الاحتشاش؟

أخذ الحشيش في بعض الأحيان يكون فيه مصلحة؛ لأنه إذا جُزَّ الحشيش يمكن أن يباع علفاً للدواب، فيُشترى من الطرفين، فلو أنهما اتفقا أن يخرجا إلى البر في أيام الربيع ونحوه على أن يحشا الحشيش ويجمعانه ويبيعانه جاز ذلك.

في زماننا: الطرف الذي يستخدم في (المساند) ونحوها، لو أنهما اتفقا على أنهما يخرجان إلى البر، ويجمعان هذا الطرف ثم يجعلانه في أكياس ويبيعانه، فهذا أيضاً تجوز عليه شركة الأبدان.

كذلك الحطب لو أن كلاً منهما يعرف طريقة الحطب والاحتطاب، فاتفقا على أن يخرجا إلى البر ويحتطبا الخشب والشجر (والسمر) ثم بعد ذلك يقطعانه ويفصلانه، أو يحرقانه فيجعلانه فحماً كل ذلك جائز.

لكن شدد في هذه المسألة الحنفية رحمهم الله ومنعوا من الاشتراك في المباحات، فلا تجوز شركة الأبدان عندهم في الاحتطاب، ولا تجوز في الاحتشاش، وكذلك في جلب الماء، فإن جلب الماء واستخراجه من الآبار يعتبر من المباحات؛ لأن مَن نزح ماءً من بئر فقد مَلَك هذا الماء.

وفي زماننا -مثلاً- لو اتفق صاحبا نقل المياه على أنهما يعملان مع بعضهما في نقل الماء، وكل منهما عنده سيارة لنقل الماء، قال أحدهما: يا فلان! أنا وأنت نتقبل من الناس الطلبات وكل منا يقوم مقام الآخر في تلبية ذلك، واتفقا على ذلك، وأخذا يعملان شهراً كاملاً، واجتمعت -مثلاً- مائة ألف ريال من هذه الوايتات -أو نحوها- التي تم بها جلب الماء، واتفقا على قسمة المال بينهما، فيُقسم المال بينهما بالسوية، أو على الاتفاق الذي اتفقا عليه.

وكذلك مثلما تكون الشركة على الاحتطاب -كما ذكرنا- أو الاحتشاش، وهذا على أصح قولي العلماء، كما هو مذهب المالكية والحنابلة، وطائفة من أهل الرأي، خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه الذي خالف الجمهور مع أنه رحمه الله يقول بجواز شركة الأبدان؛ لكنه ينازع في هذا النوع من الشركة ولا يجيزه، والسبب في هذا يقول: إن الحشيش والحطب يُملك بمجرد الأخذ، ومن أخذه ملكه، وحينئذٍ لا تقع عليه الشركة، على ما اختاره رحمه الله.

ولكن أجيب عن ذلك بأن هذا الاحتشاش والاحتطاب يمكن أن تدخله الملكية بدليل الإجارة عليه.

ولذلك رد أصحاب القول الأول الذي ذكرناه على ما اختاره المصنف رحمه الله بأنه يُملك بالأخذ على أصل السنة، ويملك بالاتفاق عليه إجارةً، فلو أعطيت رجلاً مائة ريال على أن يحش لك أرضاً محددةً وقلت له: حُشَّ هذا الحوض ولك مائة ريال، صحت الإجارة، وصار تابعاً لك، فإذا كان بالإجارة بموجب عقد الإجارة والاتفاق، كذلك أيضاً تصح بموجب عقد الشركة؛ لأن الشركة فيها وجه معاوضة، فكأن عمل أحدهما صار في مقابل عمل الآخر، وعلى السنن الذي ذكرناه في أول باب الشركة.

قال رحمه الله: [وإن مرض أحدهما فالكسب بينهما]:

من عادة العلماء بعد تقرير الأصل أن يتكلموا على شيء يسمى في مصطلح العلماء بآثار العقود الصحيحة:

- أولاً: يثبتون لك العقد، وأنه مشروع.

- ثم يبينون أركانه وشرائط صحته.

- وبعدما يبينون أركانه وشرائط صحته يبينون ما يخالف الشرائط والصحة، وهي شرائط الفساد أو موجبات الفساد، كما يسميها بعض العلماء.

- وبعدما يبين لنا متى تكون شركة الأبدان صحيحة؟ ومتى تكون فاسدة؟ يرد السؤال على الأمور الطارئة، فالمرض من طوارئ عقد الشركة، ومن طوارئ العقود، فلو أن اثنين اتفقا، وكلاهما حداد أو نجار أو نحو ذلك من أصحاب الحرف والصنائع، اتفقا على أن يعملا بأبدانهما، ومرض أحد الشريكين، فبطبيعة الحال سيقوم الآخر مقامه وسينصبُّ العمل على أحدهما دون الآخر، وحينئذٍ اتفقا إذا كانا صحيحين؛ لكن إذا مرض أحدهما أو أصابه الضرر تعطلت المصلحة في الشركة بمقابل النصف، يعني: نصف الشركة سيتعطل، فهل مرضه يؤثر في عقد الشركة؟

نحن بين أمرين:

- إما أن نقول: يفسخ عقد الشركة بهذا المرض، كما يفسخ بجنون أو موت أحدهما.

- أو نقول: يبقى عقدُ الشركة، ويُلْزَم الطرف الثاني. وهذا باطل.

فالأول لا يمكن:

لأن الجنون والموت ليسا كالمرض، فإن الجنون والموت يخالفان، لأن الأهلية تزول بالكلية؛ لكن المريض أهليته موجودة، وصفة الأهلية للعقد وموجبات أهلية العقد موجودة فيه، فهو عاقل بالغ؛ لكن أصابه المرض في يده التي يعمل بها، أو في رجله التي يمشي بها، أو حُمَّى، أو إصابته نحو ذلك من الأمراض التي تعطله عن القيام بالمصلحة.

فنقول: العقد صحيح:

يعني: تبقى الشركة صحيحة كما هي.

ولكن نقول للشريك الثاني: أنت بالخيار بين أمرين:

إما أن تفسخ الشركة -إن أحببت- فإذا قال: أريد أن أفسخ الشركة انفسخت الشركة؛ لأن الشركة عقد جائز، والعقد الجائز أثبتنا في أول باب الشركة أحد الشريكين يملك فسخه بدون رضا الآخر، فإذا قال: ما دمتَ مريضاً -وقد يستغرق المرض شهوراً- فإني أريد أن أفسخ الشركة، وأسأل الله لك العافية، وأنا لا أستطيع أن أتحمل إحراج الناس، فأريد أن أفسخ الشركة. ففسخ الشركة، فحينئذٍ نفسخ عقد الشركة، سواءً ذكر عذراً أو لم يذكر عذراً، فهو بالخيار، إن شاء فسخ العقد، وإن شاء قال: أنت شريكي في السراء والضراء، وأسأل الله لك العافية، وأنا أتحمل عنك، فهذا من أفضل ما يكون وهو من الوفاء، وغالباً أن الله تعالى يبارك له وييسر له، ولا يزال له من الله معين وظهير ما دام أنه في عون أخيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)، فالله في عون المسلم متى رَفَقَ، وهذا من الرحمة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الر احمون يرحمهم الله)، فإذا رحم أخاه ونظر إلى ما فيه من ضُرٍّ وقال: لا مانع، اجلس وأنا أتحمل عنك وأقوم عنك، فهذا لا شك أنه يُثاب عليه.

- الصورة الثالثة: أن يقول الشريك الثاني الذي مرض: يا فلان! إني مريض ولكن سأقيم عاملاً يقوم مقامي، يعني: أحْضِرُ شخصاً يقوم مقامي، فأحْضَرَ شخصاً يقوم مقامه، فلا بأس، وتمضي الشركة وتستمر على الاتفاق الذي بينهما.

إذاً: إن مرض أحدهما وأراد أن يفسخ الآخر، فله ذلك، أو أراد أن يتحمل وحده، فله ذلك، أو أراد أو طلب منه أن يقيم شخصاً آخر مقامه فأقامه، فإن له ذلك، أو طالبه به، فإنه يلزم الثاني أن يقيم مقامه شخصاً آخر.

قال رحمه الله: [وإن طالبه الصحيحُ أن يقيم مقامه، لزمه]:

أي: أن يقيم شخصاً.

(مقامه): أي: مكانه.

(لزمه): أي: لزم المريضَ أن يقيم مقامه شخصاً آخر؛ لأن مقتضى العقد يستلزم ذلك، والعقد والاتفاق بين الطرفين على أنه -أي: المريض- يقوم بهذه الأعمال مع شريكه، حدادةً ونجارةً إلى آخره، فإذا مرض فالعقد لا يزال يطالبه أن يقوم بهذه الحدادة، أو يقوم بهذه النجارة؛ فإذا تعذرت منه وأقام غيره مقامه فحينئذٍ هو وكيل عنه، ويقوم مقامه، ولا بأس بذلك؛ لأن مقتضيات العقد تستلزم هذا.

قال رحمه الله تعالى: [الخامس: شركة المفاوضة].

النوع الخامس من أنواع الشركات: شركة المفاوضة، والمفاوضة قيل: من التفويض، كما قال تعالى: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44]، ومن فوض أمره إلى الله فقد وَكَلَه إلى الله عزَّ وجلَّ.

قالوا: فكأن الشريكين كل واحد منهما قد خول صاحبه وفوضه أن يكون مكانه ويقوم مقامه في أمور الشركة، وهذا النوع من الشركات بعض العلماء يعمِّمه، وبعضهم يخصِّصه.

والذين يعممونه إما أن يعمموه من كل وجه، وإما أن يعمموه في حدود معينة من أنواع الشركات.

فالذين يعممون شركة المفاوضة هم: الحنفية والحنابلة، وهذان المذهبان من أوسع المذاهب في مسألة شركة المفاوضة على تفصيلٍ يأتي.

والذين يخصصون شركة المفاوضة: المالكية، ويجعلونها شبه متفقة مع العنان.

والذين يمنعونها ولا يجيزونها بالكلية: الشافعية رحمة الله عليهم، فلا يجيزون عقد المفاوضة، وهم لا يجيزون أيضاً شركة الأبدان، وهذان النوعان منع منهما الشافعية للغرر.

أما بالنسبة للحنفية: فهم يقولون: يشترك الطرفان برأس مالٍ بينهما، وتكون يد الشريكين مطلقة على المالَين، فيكون مالي كمالِكَ، بمعنى: ما يكون هناك مالٌ خارجٌ عن مال الشركة.

فاختلفت عندهم شركة المفاوضة عن شركة العنان:

فشركة العنان: أن يشتركان في مائة ألف أو خمسين ألفاً، وقد يكون عندك مليون، فأنت تشارك بمائة، وتبقَى تسعمائة ألف.

لكن شركة المفاوضة تشارك بجميع مالك، وأصل اللفظ: الشيوع، وفاض الوادي إذا سال بكثرة وشاع، وفاض الخبر إذا شاع.

فهم يقولون -وهذا الوجه الثاني في شركة المفاوضة-: أنها من الشيوع، فشاع التصرف، وكل منا شريكٌ للآخر في ماله، فيُطلِقان أيديهما على المالَين ولا يُستثنى شيء من ماله، فيصبح شريكاً له في السيولة، أي: في النقدين، ويصبح شريكاً له في تجاراته وأعماله الموجودة يعني: من محلات تجارية وأسواق تجارية، فيكونان شريكين تامي الشراكة، وهذا يقع في بعض الأحوال، خاصة مع القرابة، كبني العم والإخوان مع بعضهم، فقد يجمعان المال كل منهما على يد الآخر، يعني: يتصرف في مال الآخر كما يتصرف الآخر في ماله، ولا يمكن أن يُمَيَّز مال أحدهما من الآخر؛ لكن الذي يعرفانه: أن لهذا نصف المال، ولهذا نصف المال، وتنطلق تصرفاتهما في النقدين.. في الدواب.. في المزارع.. في العقارات من الدور والأراضي ونحوها بحيث يكونان كالرجل الواحد، وهذا كان يقع إلى عهد قريب في بعض الأماكن، يشتركان شراكة تامة كاملة، ولا شك أن هذا النوع من الشركة صعب تحقيقه، وصعب أن يوجد في كل الأحوال، ولذلك قالوا: إن مذهب الحنفية رحمهم الله في هذا الباب مذهب فيه نوع من الشدة والتشدد، حيث إن شركة المفاوضة لا تقع عندهم إلا على هذا الوجه، أما الحنابلة رحمهم الله ومن وافقهم الذين أجازوا شركة المفاوضة أجازوها على أساس أنها جمع لشركة العنان وشركة الأبدان وشركة الوجوه، فشركة المفاوضة عندهم أن تجمع الثلاث شركات في شركة واحدة، فمثلاً: عندنا رجلان، أحدهما حداد، أو عنده مصنع للحديد، والآخر عنده مصنع للحديد، فاتفقا فيما بينهما على رأس مال، وعلى أن يكون المصنعان متقبلَين لما يكون من الطلبات ونحوها، واتفقا فيما بينهما أيضاً أن يتقبلا من الناس أو يأخذا من الناس أموالاً أو تجارات ويبيعانها مع بعضهما، فتجدهما شريكين شراكة عنان في النقدين، أي: مائة ألف من كل واحد منهما، وشركة أبدان بالنسبة لعمل المصانع الموجودة عندهما، وشركة وجوه بالنسبة لتقبل البضائع التي تأتي من الخارج، مثلاً: لو كان عندهما محلات للقماش أو للطعام أو للسيارات أو للورش، فتستطيع أن تقول في الورش: شركة أبدان، وفي الأكسية والأغذية والسيارات تكون شركة وجوه من جهة جلب الأرزاق ديناً وبيعها وتخليص أصحاب الحقوق، فتكون شركة وجوه، ويمكن أن تعتبرها شركة أبدان بالنسبة لتصريف البضائع ونحوها.

إذاً: لا مانع على هذا الوجه أن تجتمع الشركات وكأنها شركة أم للشركات الماضية: العنان والأبدان والوجوه، وهذا في الحقيقة يدفع كثيراً من الغرر، يعني: الحنابلة كأنهم يقولون: هذه الشركات جائزة منفردة فتجوز مجتمعة، ولا مانع يمنع الشريكين أن يتفقا على هذا الوجه، وهذا يقع حتى في زماننا الآن تجد شريكين يتفقان فيما بينهما على الدخول في الأعمال التجارية، ويتقبلان البضائع من الخارج توريداً على الذمة، فتكون شركة وجوه، ويكون عندهما سيولة ونقد لبناء المحلات التي يتم فيها عرض هذه البضائع وتصريفها، وتكون عندهما سيولة لشراء السيارات التي تصرف البضائع، وتكون عندهما سيولة لاستئجار العمال، فتكون شركة عنان، وكأنهما دخلا برأس مال النقدين -النقد من كل منهما- على أن يستغلاه في هذا العمل التجاري، وتكون شركة أبدان بالنسبة للتصريف إذا كانت هناك مصانع أو محلات.

مثلاً: لو كان هناك شركةٌ تورِّد السيارات، وعند توريد هذه السيارات تقتصر فقط على التوريد والبيع، فهذه الشركة تستطيع أن تقول: إنها شركة وجوه وشركة عنان؛ لكن ليس فيها تصليح للسيارات، فليست بشركة أبدان.

لكن في بعض الأحيان تجد مورداً يورد السيارات، ويفتح محلاً لتصليح السيارات وبيع قطع الغيار، فتستطيع أن تقول: إن الشريكين إذا اشتركا في هذا النوع من الشركة، تصير شركة عنان بالسيولة التي دخلا بها، وشركة وجوه بالنسبة لتقبل السيارات القادمة من الخارج كونهما موردين أو وكيلين لهذا النوع من السيارات. ويعتبران فيه متقبلين على الوجه، والشركة شركة وجوه، وشركة أبدان بالنسبة لتصليح السيارات، وتقبل السيارات التي تحتاج إلى تصليح.

المحلات الميكانيكية ونحوها الموجودة في زماننا يمكن أن نقول: لو اشترك مهندسان أو أكثر في هذه الأعمال الميكانيكية فقد نحكم أنها شركة أبدان، ولا مانع أن يتقبلا مع بعضهما، وأن يقوما بالعمل مع بعضهما، ويتفقا على الربح مقسوماً بينهما.

هذا بالنسبة لتطبيقات شركة المفاوضة على ما ذكره المصنف رحمه الله من مذهب الحنابلة.

أما الشيوع والإطلاق من كل وجه، واشتراط المساواة، واشتراط اتحاد رأس المالين أو نحو ذلك من الشروط التي ذكرها الحنفية وغيرهم، فهذا قول مرجوح، والصحيح أنه لا بأس من جمع شركات العنان والوجوه والأبدان مع بعضها على أنها شركة مفاوضة.

قال رحمه الله: [أن يفوض كل منهما إلى صاحبه كل تصرف مالي وبدني من أنواع الشركة]:

فيتصرفان بيعاً وشراءً، ودَيناً ورهناً ونحو ذلك من التصرفات كلها.

أي: لو أن أحد الشريكين اشترى بضاعة من الخارج، والاتفاق بينهما على توريد البضائع من الخارج، واتفقا فيما بينهما على هذا النوع من الشركة، فورَّد أحدهما بضاعة بمليون، والشركة مناصفة، فاتفقا على هذا الوجه.

نقول: إن الشريكين يعتبران مطالبَين بهذا المبلغ وذمتهما واحدة.

صحيحٌ أن أحدهما هو الذي سافر وأبرم العقد؛ لكن الطرف الثاني بموجب العقد والاتفاق ملزم بدفع هذا المبلغ.

إذاً: ذمتهما واحدة. هذا في حال توريد البضائع.

ومثل ما يقع من بعض المهندسين: يتفقون مع بعضهم، فيدخل -مثلاً- رجلان لهما خبرة بتصليح السيارات، ويتفقان ويدفعان مائة ألف، فيشتريان أرضاً لمكان الشركة أو التصليح، ثم يقومان على تصليح هذه الأرض وبنائها ووضع مواضع الآلات ومواضع التصليح، وشراء الآلات التي يصلح بها، فهذا الاتفاق والتعاقد بين الطرفين يعتبر من حيث الأصل شركة أبدان، ولو أنهما أضافا إلى ذلك موجب العقد من كونهما يقومان بالأعمال مع بعضهما، ويلتزمان في ذمتهما بشراء قطع الغيار على أن ذمة أحدهما كذمة الآخر فتكون حينئذٍ شركة وجوه.

ففي بعض الأحيان تجد شريكين ومهندسين يتفقان على التصليح فقط، يقول له: يا فلان! نحن فقط نصلح. نقول: هذه شركة أبدان.

لكن لو قال له: نصلح السيارات ونشتري قطع غيار، وكل واحد منا يشتري قطعة غيار فالآخر شريك له فيها.

ويمكن أن تجزأ، سيقول له: أي قطعة غيار تشتريها فإني ألتزم بثلث قيمتها وعليك الثلثان، أو ألتزم بنصف قيمتها وعليك النصف، مثل ما تقدم معنا في شركة الوجوه، ويتم العقد على ما اتفقا عليه، والربح بينهما على رأس المال.

إذاً: يمكن أن يتفقا في الورشة الواحدة شركة أبدان من وجه، وشركة وجوه من وجه آخر.

ويمكن أن يضيفا إلى ذلك شركة العنان فيما لو إذا كان في المحل بيع لقطع الغيار، وبيع قطع الغيار يحتاج إلى شراء قطع الغيار ثم بيعها.

فإذا اشتريا اتفقا على أن يدفعا مائة ألف، فالمائة ألف شركة عنان بينهما في هذا النوع من العروض، فتكون شركة عنان من وجه، وأبدان من وجه آخر، ووجوه من وجه ثالث.

قال رحمه الله: [والربح على ما شرطاه]:

الربح بينهما على ما اتفقا عليه.

قال: [والوضيعة بقدر المال]:

(والوضيعة): يعني: الخسارة.

(بقدر المال): فإذا اتفقا مناصفة فالخسارة بينهما بالنصف.

مثلاً: لو أن شريكين دخلا في شركة بثلاثة ملايين، وتمت الشركة -شركة مفاوضة- ودخل فيها التزام بالذمم، وعمل بالأبدان، واستغلال للسيولة الموجودة من الشريكين، التي هي ثلاثة ملايين، فنعتبرها في هذه الحالة شركة مفاوضة، لو دخلت الشركة وانكسرت وخسرت، وكانت الخسارة على النصف فأخرج من الثلاثة ملايين مليوناً ونصفاً بعد تصفية الحقوق ورد الديون ونحو ذلك، بقي المليون والنصف، يُقسم المليون والنصف بينهما على قدر حصتهما من رأس المال.

وبناءً على ذلك يكون الربح والخسارة بين الشريكين، ولا يجوز أن ينفرد أحدهما بالربح أو ينفرد أحدهما بالخسارة، كما تقدم معنا في قوله عليه الصلاة والسلام: (الخراج بالضمان).

قال رحمه الله: [فإن أدخلا فيها كسباً أو غرامة نادِرَين أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو نحوه فسدت]:

(فإن أدخلا فيها كسباً أو غرامة نادِرَين) أي: فإن أدخلا في شركة المفاوضة.

هناك نوعان:

النوع الأول: أن تجري شركة المفاوضة على الثمن الذي تقدم معنا في الشركات الماضية: الوجوه، والأبدان، والعنان، فحينئذٍ لا إشكال في جوازه، وتخرج الجواز على قاعدة وأصل شرعي: وهو أن هذه الشركات كما جازت منفردة تجوز مجتمعة، ولا بأس بذلك.

لكن هناك نوع من شركة المفاوضة محرم ولا يجوز، وهو ما ينبني على الغرر، يقول له: أفاوضك على أن أي كسب نادر مثل اللقطة ومثل الركاز، أو أي شيء أجده فهو بيني وبينك مناصفةً، وأي شيء تجده فهو بيني وبينك مناصفةً، وأي إرث تستحقه فهو بيني وبينك مناصفةً، أو أي إرث أستحقه فهو بيني وبينك مناصفةً، وأي وصية تكون لك من مال أو متاع فبيني وبينك مناصفةً، فهذا لا يجوز، وهذا النوع من الشركات لا يجوز، والأصل عدم جوازه حتى يدل الدليل على جوازه، ولا دليل؛ لأن الغرر فيه واضح وبيِّن، وليس هناك عمل من أحدهما لقاء الآخر، وليس هناك التزام من أحدهما للآخر كالتزامه، وإنما هو نوع من الدخول على حقوق الناس على وجه غير شرعي، ولذلك حُكم ببطلان المفاوضة على هذا النوع.

قال: [أو ما يلزم أحدهما من ضمان غصب أو نحوه فسدت]

الشركة كسب وخسارة، وربح ووضيعة، وغُرْم وغُنْم، فهو يقول له: أي كسب بيني وبينك مناصفةً، يمكن أن يقول له: أي خسارة عليَّ تكون بيني وبينك، وأي خسارة عليك تكون بيني وبينك، فهذا نوع من المخاطرة، يعني: شخص يقول لآخر: أنا وأنت أخوان، ونريد أن نتفق اتفاقاً يدل على محبتنا ومودتنا وموالاة كل واحد منا للآخر، فأي كسب يأتيك فبيني وبينك، وأي كسب يأتيني فبيني وبينك، وأي خسارة أو مصيبة أو بلاء يحل عليَّ أو عليك فبيني وبينك، فهذا لا يجوز؛ لأنه يخاطر كل منهما بالآخر.

يعني: لو أنه ذهب وصدم بسيارته شخصاً وقتله، فوجبت عليه الدية، يصبح بمقتضى هذا النوع من الشركة يدفع نفس الدية، مع أن الذي جنى ليس هو، وهذا الخلل ليس منه وإنما من شريكه.

فهذا النوع من الشركات فيه مخاطرة وفيه غرر، ولا يجوز ولا يصح.