شرح زاد المستقنع مسائل في محظورات الإحرام


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فقد نظرت في مسائل الحج ومباحثها فوجدت فيها مسائل تعم بها البلوى، وكان البعض يقترح أن نتحدث عن صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنعم بها وأكرم من صفة! ولا شك أن الأجر بها أعظم، خاصة وأننا نتعرض لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها الأجر والمثوبة، وهي الخير كله.

لكن لما نظرت وجدت أن صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم لا تخفى على كثير من طلاب العلم، ولكن هناك مسائل تعم بها البلوى، ويكثر السؤال عنها، وقد تجد طالب العلم يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتيه السائل ويقول له: تطيبت ناسياً.. تطيبت جاهلاً.. لبست ثوبي ناسياً.. لبست ثوبي جاهلاً بالحكم.. قتلت الصيد.. قتلت ذئباً.. قتلتُ حيةً.. فما الحكم؟ فمسائل محظورات الإحرام مسائل تعم بها البلوى، ولذلك آثرت أن يكون حديثنا -إن شاء الله- عن مسائل من محظورات الإحرام.

وخاصةً أن محظورات الإحرام نحتاجها لأنفسنا لكي ننقذ أنفسنا من الضلال، ونبتعد عن الأمور المحرمة إذا تلبسنا بمناسك الحج والعمرة، وكذلك فيها النفع الكثير للناس.

معنى محظورات الإحرام

وسنتكلم عن محظورات الإحرام في أمور ومسائل:

أولها: ما معنى قول العلماء: محظورات الإحرام؟

المحظورات: جمع محظور، يقال: حظرت الشيء عليك إذا منعتك منه، ولذلك سميّت الحظيرة حظيرة؛ لأنها تمنع الدواب من الخروج، فالحظر: التحريم والمنع، والمحظورات جمعها العلماء؛ لأنها ليست بواحدة وإنما هي متعددة، فجمعت لاختلاف أنواعها.

والإحرام: نية أحد النسكين أو هما معاً، فإذا قال العلماء: الإحرام، أو قالوا: لا يجوز لمن أحرم، أو قالوا: يجب على من أحرم، فمرادهم من نوى النسكين: الحج والعمرة كالقارن، أو أحدهما كالحج مفرداً، أو العمرة وحدها، فإذا نوى الإنسان العمرة، أو نوى الحج، أو هما معاً؛ فقد دخل في الإحرام، ويقال: أحرم، ولا يلزم الإنسان بترك محظورات الإحرام بمجرد لبسه للإحرام كما يفهم العوام، إنما تحرم محظورات الإحرام بعد نيتك للنسك، فلو لبست الإحرام ولم تلب بالنسك ولم تنو، جاز لك أن تصيب هذه المحظورات، وإنما تحرم عليك بعد الدخول في النسك بالنية.

لبس المخيط

المسألة الثانية: ما هي محظورات الإحرام؟

المحظورات تسع: أولها: لبس المخيط، وثانيها: الطيب، وثالثها: تغطية الوجه، ورابعها: تغطية الرأس، ومنه الأذنان، وخامسها: حلق الشعر أو قصه أو نتفه، وسادسها: تقليم الأظفار، وسابعها: عقد النكاح، وثامنها: الجماع ومقدماته، وتاسعها: قتل الصيد. ومنهم من يقول: الصيد، ومنهم من يقول: إتلاف الصيد، والمعنى واحد، وإن كانت بعض التعبيرات أدق من بعض.

أولاً: لبس المخيط، يقال: لبس الثوب إذا دخل فيه، والمخيط: يشمل المخيط المعتاد المفصل على الجسم، وما في حكمه؛ كالمحيط بالعضو كما سيأتي، قال بعض العلماء: يخرج من هذا الارتداء؛ كالقباء ونحوه، فاللبس: أن تدخل يديك، والارتداء: أن تضع الشيء على عاتقك دون إدخال، مثال ذلك: لو أخذت هذا البشت أو هذه العباءة ووضعتها على كتفيك وأنت محرم من شدة البرد، فإنه لا يصدق عليك أنك قد لبست، هذا إذا قلنا: إن اللبس لا بد فيه من الإدخال، أما إذا قيل بمطلق اللبس، فإنه يشمل من وضعه على كتفه سواءً أدخله أو لم يدخله، وهذا هو الفرق بين قولهم: الارتداء، واللبس.

وهنا مسائل:

أولاً: ماهو الدليل على أنه يحرم على الحاج والمعتمر أن يلبس المخيط؟

وثانياً: ما هي مسائل لبس المخيط؟

أما الدليل على تحريم لبس المخيط على المحرم سواءً كان بحجٍ أو عمرة، فقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عمر -وهو في الصحيحين-: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحدٌ لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين)، فالمخيط إما أن يستر أعلى البدن كالقميص، وفي حكمه ما يسمى الآن -وأنا أحب دائماً أن نمثل بالأشياء العصرية؛ لأن بعض طلاب العلم يسمع أسماء قديمة ثم ترد عليه مسائل عصرية فلا يحسن الجواب فيها؛ لأنه عرف القديم ولم يعرف تطبيقه على الجديد- فبعرفنا اليوم الفنيلة الموجودة الآن هذه سترٌ لأعلى البدن، والكوت سترٌ لأعلى البدن، فاللباس إما أن يكون ساتراً لأعلى البدن، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا القمص)، أو يكون ساتراً لأسفل البدن: (ولا السراويلات)، ومثله البنطلون الموجود الآن، وسواءً كانت طويلة أو قصيرة، ثم قد يكون اللباس جامعاً بينهما كالثوب، قال عليه الصلاة والسلام: (ولا البرانس)، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام، وهذا يدل على أن الفقه أن تنظر إلى معاني الأحاديث، وأن لا تقتصر على ظاهر اللفظ فقط؛ فلو كان ظاهر اللفظ هو المراد فقط لكان عليه الصلاة والسلام ذكر لبساً معيناً وقال: لا تلبسه، ولكن كونه يحدد المواضع ويأتي بأمثله -لكل موضعٍ بما يجانسه- فإن هذا يدل على اعتبار الرأي، وفقه معاني النصوص.

والبرنس يغطي أعلى البدن وأسفله، وبناءً على ذلك نقول: نص النبي صلى الله عليه وسلم على تحريم ستر أعلى البدن بالقميص، وستر أسفله بالسروال، وستر جميعه بالبرنس، فلو سألك سائل عن الثوب الموجود الآن، فنقول: يحرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على تحريم البرنس والقميص والسروال، والثوب أشد من القميص والسروال، وهو في حكم البرنس، وإن كان لا يغطي الرأس.

الدليل الثاني على تحريم لبس المخيط: حديث الأعرابي، وهو في الجعرّانة أو الجعرَانة، لغتان، وذلك لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم الطائف اعتمر من الجعرّانة، فجاءه أعرابي عليه جبة، فقال: (يا رسول الله! ما ترى في رجلٍ أحرم بالعمرة وعليه ما ترى؟ فقال عليه الصلاة والسلام: انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك) ، فحرم عليه لبس المخيط، وبهذه النصوص الصحيحة الصريحة نص العلماء على تحريم لبس المخيط، ويستوي في ذلك كما قلنا: أن يكون لأعلى البدن، أو لأسفله أو لجميعه.

ما يحرم على الرجال والنساء من المخيط

المسألة الثالثة: إنما يحرم لبس المخيط على الرجل، أما المرأة فإنها تلبس المخيط، ويكون إحرامها في وجهها وكفيها، ويكون المحظور عليها من اللباس أن تنتقب أو تلبس القفازين؛ لما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين)، فثبت في هذا النص أن إحرام المرأة في الوجه والكفين، ولكن إن مرّ عليها أجانب أو اشتد عليها برد أو لفحتها ريح فسدلت خمارها -والسدل أن يكون غطاء للوجه دون أن يمس بشرة الوجه- فلا حرج ولا فدية عليها؛ بشرط عدم مماسة الغطاء لبشرة الوجه، وذلك لحديث أسماء ، ويروى عن عائشة وقد تُكلم في سنده، ولكن الصحيح عن أسماء أنها قالت: (كنا إذا مر بنا الركب سدلت إحدانا خمارها، حتى إذا جاوزنا كشفت) ، وهذا يدل على مشروعية السدل عند رؤية الرجال الأجانب.

أما بالنسبة للرجال، فكما يحرم عليهم لبس المخيط في أعالي البدن، كذلك أيضاً يحرم عليهم ستر القدمين، ولذلك لا يلبس المحرم الخف ولا البلغة ولا نحوها من الأحذية التي تغطي أغلب القدم، أو تغطي الأصابع، والأصل في ذلك حديث ابن عمر في الصحيحين: (ولا الخفاف -أي: لا تلبس الخفاف- إلا أحدٌ لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين) ، فدل هذا الحديث الصحيح على أنه لا يجوز للمحرم أن يلبس حذاءً يغطي قدمه أو أغلب قدمه، بل يلبس الحذاء الذي لا يغطي أغلب القدم، وإذا كان الحذاء يغطي جزءاً من القدم فإنه ينبغي أن تكون أصابعه مكشوفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وليقطعهما أسفل من الكعبين)، وبناءً على ذلك تكون الأصابع مكشوفة، وعلى هذا فلو كان الحذاء يغطي رءوس أصابع القدمين فإنه لا يجوز لبسه، كالبلغة التي تكون مستورةً أول القدم، فهذه لا تلبس، وهكذا الشراريب لا تلبس، قالوا: وعلى هذا لو نام المحرم فلا يغطي قدميه؛ لأنه أُمِرَ بكشفهما، فنهيه عليه الصلاة والسلام عن لبس الخفين يدل على أن مقصود الشرع إظهار القدمين، وعلى هذا الفتوى عند الجماهير رحمة الله عليهم.

حكم من لم يجد ثياب الإحرام

بقيت مسألة: وهي لو لم يجد الإنسان الإحرام أو الرداء والإزار، واحتاج إلى لبس السروال، أو لم يجد نعلين واحتاج إلى لبس الخفين، فكما قال صلى الله عليه وسلم: (السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفان لمن لم يجد النعلين) ، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر : (إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين).

وبناءً على ذلك: لو أن إنساناً في طائرة -كحالنا اليوم- مر بالميقات وعليه ثيابه، ولكن ليس عنده إحرام يأتزر به، أو ليس عنده حتى شال يأتزر به، فحينئذٍ إذا لم يجد من الثياب ما يأتزر به فإنه يجوز له لبس السروال والبنطال، لكن لا يجوز له أن يلبس تحت السروال والبنطال لباساً، وإن لبس لزمت عليه الفدية، ثم أعالي البدن يستره بأي ساتر ويعتبر محرماً، فإن نزل إلى المطار وأمكنه أن يشتري اللباس جاز له أن يترخص بقدر الحاجة، فإن تأخر عن الشراء مع القدرة عليه لزمته الفدية.

تشبيك لباس الإحرام بالشوك أو الأزرار

وهناك مسألة: وهي تحليق العضو، وهي ما يسمى: حكم المخيط، فقالوا: لو لبس الرداء فلا يشبكه؛ لأنه إذا شبك الرداء كان بمثابة الملبوس، وأصبح لابساً له وداخلاً فيه، وعلى هذا قالوا: لا يضع المشبك في ردائه، وهذا أمر يقع فيه كثير من العوام، فقد كانوا في القديم يشبكون بشوك الشجر، فكانوا يضعونها حتى لا ينكشف الإزار، فنهى عنه العلماء رحمة الله عليهم، وفي زماننا هذا وضع المشابك البيضاء الصغيرة أو ما يماثلها، كل ذلك مما ينهى عنه.

كذلك أيضاً: من المصائب العظيمة الآن تفصيل بعض الإحرامات ولها ما يسمى في عرف العامة: (الطقطق)، هذا الذي يكون فيه بمثابة الأزرار، فمجرد ما يضعها على كتفه يزررها بهذه الأزرار، وهذا عينُ الملبوس، وتلزمه الفدية، ومن رأى منكم حاجاً أو معتمراً بهذا فلينصحه، وليبين له أن هذا لم يأذن به الله عز وجل، ولذلك لما سئل ابن عمر رضي الله عنه عن عقد الرداء نهى عنه.

وعلى هذا: فلا يجوز لبس مثل هذه الإحرامات، بل لا يجوز بيعها؛ لأنه معونة على ارتكاب المحظور، فكثير من الناس يجهل الحكم، فإذا باعها الإنسان أوقع الناس في المحظور، فعلى هذا ينبه الناس عليها.

كذلك أيضاً: المحيط بالعضو كالسيور، فقد قالوا: السيور لا توضع في الإحرام، واختلف فيها: فبعضهم أجازها، وهو قول بعض الصحابة، فقد أجازوا أن يلبس الكمر وهو الهميان، فقد كان يسمى في القديم بالهميان، وهو الذي يضع يضع فيه الحاج نقوده، فقالوا: لا حرج فيه لمكان الحاجة، لكن لو كان يريده لشد الإحرام فلا يجوز؛ لأنه يكون كعقد الإحرام، ولذلك فإن مذهب طائفة من السلف رحمة الله عليهم: أنه لا يشد السير، وقد فرقوا بين الهميان وبين السيور، قالوا: لأن السيور يقصد بها العقد، فكانت في ضمن ما نهى عنه السلف رحمة الله عليهم، ومنهم ابن عمر ، أما لو كانت لوضع النقود، أو وضع الحوائج الشخصية من بطاقةٍ ونحو ذلك مما يحتاجه الإنسان للتنقل ونحوه فلا حرج، وقالوا أيضاً: ما يكون في حكم السوار للرجل يمنع منه، فلو شد على يده خرقة لزمت عليه الفدية، وهذا يكاد يكون وجهاً واحداً أنه لو شد الخرقة على يده فغطى جزءاً منها كالجبائر ونحوها لزمته الفدية، قالوا: وكذلك الأسورة، وفي حكمها الساعة الآن، فإنها تحيط بالعضو، ولذلك لا يضعها.

وعلى هذا قالوا: إن المحرم يتجرد؛ لأن مقصود الشرع خروج المحرم متجرداً من دنياه، وقد أمر بأن ينزع ثيابه حتى يتذكر الآخرة، ويكون أبلغ في الذلة لله سبحانه وتعالى، واستشعار سفره للآخرة، ولهذا قالوا: إن الحج فيه معانٍ تذكر بالآخرة، ومنها: التجرد عن المخيط، وفيه أيضاً حكم، منها: أن الإنسان يقوى على نفسه، حيث إن سر الإنسان في قوته أن يجعل نفسه طائعةً له ولا يكون طائعاً لها، فإذا أصبح الإنسان تطيعه نفسه ولا يطيع نفسه؛ سلِم من كثير من المعاصي والذنوب بسبب كونه قاهراً للنفس، وليست النفس له قاهرة، وهذا واضح جلي، قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40] ، فمعنى ذلك: أن نفسه تحته، يأمرها وينهاها، يأمرها بطاعة الله وينهاها عن معصية الله، ولذلك نجد أن أوامر الشرع دائماً تجعل النفس طوعاً للعبد، فلذة النوم، ولذة الطعام والشراب، ولذة النكاح، ولذة اللباس، ولذة الوطن والأهل، كلها جاء في مقابلها عبادات، فلذة اللباس يقال لك في مقابلها في الحج: انزع عنك هذا المخيط، ولذة الطعام والشراب والنكاح، يقال لك في مقابلها: لا تأكل ولا تشرب ولا تنكح أهلك شهراً كاملاً، فإذا امتنعت من الطعام والشراب المباح كان ذلك أدعى إذا قيل لك بعدها: إن هذا الكسب حرام، أن تمتنع، وإذا قيل لك: إن هذا المنكح محرم، أن تمتنع؛ لأنك قد امتنعت عن الحلال فمن باب أولى أن تمتنع عن الحرام وتصبح نفسك طائعةً لك، وأما لذة الأوطان، فتجد أن الحج يخرج الرجل من بلده وأهله متغرباً لله عز وجل، ضاحياً لله في حجٍ أو عمرة، ولذلك قالوا: إن الحج جهاد من هذا الوجه، وكذا لذة الطيب، تجد الرجل يمتنع في حجه عن الطيب، وكذلك يمتنع عن اللباس المألوف، ويخرج بهذا اللباس على صورة معينة، مع ما في هذا الأمر -أي عدم لبس المخيط- من حكم أخرى، ككون الناس يجتمعون على وتيرة واحدة، لا يميز بين غنيهم وفقيرهم، وسوقتهم وجليلهم، وذليلهم وحقيرهم، فالمقصود: أن هذا الأمر فيه حكم عظيمة.

الطيب

المحظور الثاني: الطيب.

يقال: طاب الشيء إذا لذّ، وأطيب كل شيء أفضله، وسمي الطيب طيباً؛ لأنه أطيب ما يشم، ولذلك يقولون: المال الحلال طيب؛ لأنه أطيب الكسب، والطيب معروف، ويكون منه الجامد والسائل والمبخر الذي يكون دخاناً وبخوراً، وكل ذلك داخل في اسم الطيب.

وأما كون الطيب محظوراً فلما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس) ، فقوله: (الزعفران ولا الورس) نهي عن الطيب.

وحديث الأعرابي الذي ذكرناه: أنه اعتمر وعليه جبة فيها أثر الصفرة -وهو حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه عند مسلم في صحيحه- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انزع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الطيب) ، فقوله: (اغسل عنك أثر الطيب) يدل على أن الطيب محظور من محظورات الإحرام.

ومن الأدلة على أن الطيب محظور: قوله عليه الصلاة والسلام في الرجل الذي وقصته دابته: (اغسلوه بماء وسدر، ولا تمسوه بطيب، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً) فنهى عن مسه بالطيب، وهذا يدل على أن الطيب محظور من محظورات الإحرام.

أقسام الطيب المحرم على المحرم ووقت تحريمه عليه

والطيب يشمل أن يكون مائعاً، كأن يجعله في يده أو في جسمه أو في صدره أو في أي موضع من مواضع بدنه، أو يكون مشموماً ودخاناً يتبخر به، وفرق الإمام أبو حنيفة بين المبخر وبين غيره، والصحيح: أن البخور وغيره كله محظور على مذهب جماهير العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تمسوه بطيب)، والطيب عام، وقد كانوا يجمّرون أكفان الميت، فقوله: (ولا تمسوه بطيب)، يدل على أن البخور داخل في هذا، وأنه لا فرق بين السائل والجامد والبخور الذي يكون هواءً وله رائحة.

المسألة الأولى: بعد أن عرفنا أن الطيب محظور، فليعلم أن هذا المحظور يشمل الرجال والنساء.

المسألة الثانية: أن هذا الحظر يكون بعد الإحرام، بعد نية النسك، فلو اغتسلت للإحرام وقبل أن تنوي أردت أن تتطيب، فهل يجوز ذلك، أو لا يجوز؟

وجهان:

قال بعض العلماء: من اغتسل للإحرام فإنه لا يضع الطيب إلى أن يتحلل، وهذا مذهب الحنفية والمالكية.

وقال بعض العلماء: إذا اغتسل فإنه يجوز له أن يتطيب في بدنه، وأن يشم الطيب، ما لم يحرم.

واستدل الذين قالوا بجواز ذلك بحديث أم المؤمنين عائشة في صحيح مسلم: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه، ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت)، وهذا الحديث صحيح، وقولها: (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحله قبل حرمه) أي: بعد اغتساله وقبل إحرامه، (ولحرمه قبل أن يطوف بالبيت) أي: بعد رميه وتحلله عليه الصلاة والسلام، وقبل أن يطوف طواف الإفاضة: وهذا أصح القولين.

ولكن هنا إشكال: وهو أن الطيب يمنع عن الإنسان سواءً كان في البدن أو في الثياب، ولذلك لو أن الإنسان أخذ إحرامه ووضعه على البخور وبخره ثم لبس هذا الإحرام؛ لزمته الفدية؛ لأنه قد مسه بالطيب، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الرجل الذي كان على ثيابه أثر الطيب: (اغسل عنك أثر الطيب)، فدل على أن الأثر مؤثر، وأن وجود الأثر يؤثر؛ لكن الإشكال: أننا لو أجزنا لك أن تتطيب بعد الغسل وقبل الإحرام، فإنك إذا لبست الإحرام ستعلق الرائحة في الإحرام، وبناءً على ذلك: إذا وضع الإنسان في إبطيه وصدره العود، ثم لبس الإحرام فعلقت به الرائحة، فإن ذهبت مادة العود بحيث تبقى الرائحة فقط وتعلق، فهذا حالة، والحالة الثانية: أن تعلق مادة العود، بحيث ترى حمرة وصفرة الطيب في الإحرام، فحينئذٍ يلزمك غسلها؛ لأنه إنما رخص لك فيما قبل الإحرام أن يكون في بدنك، وهذا في ثيابك، كما لو طيبت الإحرام بنفسه، فيستوي أن تكون مطيباً بالوضع، وأن تكون مطيباً بالقصد، وعلى هذا فبعض الإخوة أصلحهم الله عن حسن نية يتطيب ثم يضع الإحرام مباشرة، فتعلق مادة الطيب في الإحرام، حتى إنك لو نظرت إلى إحرامه لوجدت أثر الطيب ولونه ورائحته، وهذا يؤثر؛ بل ينبغي عليه غسل الطيب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس)، فهذا نص يدل على أن الإحرام لو مسه الطيب حرم استعماله.

لكن لو علقت به الرائحة فبقيت رائحة العود أو الورد مثلاً، فقالوا: إذا كان لابساً للإحرام حتى انتهى من عمرته وحجه فلا إشكال، لكن لو نزع إحرامه وأراد أن يلبسه ثانيةً لزمته الفدية، ففرقوا بين الاستدامة وبين الابتداء، فقالوا: إذا لبسه على حاله وعلقت به الرائحة كانت بإذن الشرع؛ لأنه تطيب عليه الصلاة والسلام بعد اغتساله، لكن لو أراد أن ينام فنزع الرداء وأخذ البطانية -مثلاً- والتحف بها، ثم لما قام أراد أن يلبس الرداء فقد لبس مطيباً، وبناءً على ذلك قالوا: إنه يفرق بين الاستدامة وبين الابتداء.

إذاً: هذا حاصل ما يقال في الطيب، لكن هنا مسائل متفرعة منها:

حكم الطيب الموجود في الطعام والأدهان ونحوها

لو كان الطيب مما يؤكل، أو كان دهناً يدهن به الشعر.. وهنا ننبه على أن الصابون والشامبو كله يعتبر من محظورات الإحرام، وقد ذكرت أننا ننبه بأشياء موجودة حتى يكون طالب العلم أوعى، فالصابون مقيد: فإذا كان من الصابون الذي له رائحة وطيب، حرم على المحرم بالحج والعمرة أن يغتسل به؛ لأنه مطيب، والطيب محظور عليه أن يترفه به، والنص فيه واضح، وهذا بالإجماع، لكن لو كان من الصابون الزيتي الذي لا رائحة له، فيجوز له أن يغسل به يديه ولا حرج، أما الشامبو فلو أراد أن يغسل به بدنه فإنه لا يجوز إذا كان مطيباً، والغالب أن فيه الطيب، وبناء على ذلك: فلا يغتسل بشيء فيه الطيب، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تطيب المحرم فقال: (لا تمسوه بطيب، اغسلوه بماء وسدر) .

لكن السؤال الآن: لو كان الطيب في الطعام؟ فإن الزعفران يمكن أن يوضع في القهوة، ويمكن أن يوضع في الطعام بعض البهارات التي فيها شيء من الطيب، فإذا كان يوضع شيء من الأدهان المطيبة في الطعام، فما حكم الطعام الذي فيه طيب؟

نقول: الطعام الذي فيه طيب على قسمين: إما أن يكون الطعام قد استنفذ رائحة الطيب حتى امتزج وذهبت رائحته في الطعام، فهذا يجوز أكله، ويكاد أن يكون قول الجماهير، فلو طبخت الزعفران في طعام وذهبت رائحة الزعفران، بحيث لو أكلت الطعام لم تجدها، فيكاد أن يكون القول بالجواز قولاً واحداً؛ لأنه خرج عن كونه زعفران وعن كونه طيباً إلى مادة مستهلكة، ولذلك يعتبر تابعاً لغيره، ويجوز في التابع ما لا يجوز في الأصل.

الحالة الثانية: أن تكون رائحة الزعفران أو أثر الزعفران موجوداً، فللعلماء قولان:

الحنفية والمالكية: على أنك إذا طبخت الطيب جاز لك أكله.

والشافعية والحنابلة: على أنه لا يجوز، وهذا هو الصحيح؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، وهذا طيب، ولأنه إذا أراد أن يأكل فقد مس الطيب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يمس المحرم بالطيب، وبناء على ذلك لا إشكال في كونه مؤثراً، فلو وضع في القهوة فإنه لا يشربه؛ لأنه في حكم الارتفاق والترفه بالطيب الذي نهي عنه.

بقيت مسألة ثانية: وهي الدهان.

من المعلوم أن الأدهنة والزيوت تنقسم إلى قسمين: زيوت فيها طيب، وزيوت لا طيب فيها، والزيوت التي فيها الطيب، كالتي تكون فيها رائحة الورد، أو رائحة أي طيب آخر من الأطيبة، فهل يجوز لك أن تدهن بهذا الزيت، سواءً تدهن به الرأس أو تدهن به الجسد؟

الجواب: إذا كان في الدهن طيب فقول جماهير العلماء: أنه لا يجوز لك أن تدهن به، لا في الرأس، ولا في أي عضو من أعضاء البدن؛ لأنه مس للطيب، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم أن يمس بالطيب، وعلى هذا جماهير العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية، فإن داود الظاهري رحمة الله عليه يرى أن الدهن الذي فيه الطيب كالطيب بنفسه.

أما لو كان هذا الدهن لا طيب فيه كزيت الزيتون والسمن، فالزيت غير المطيب يقع في موضعين:

إما أن يقع في شعر الرأس، وإما أن يقع في بقية الجسد، فإن وقع في بقية الجسد، فيكاد أن يكون قول الجماهير، وحكى بعض العلماء كـابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لو دهن غير الرأس بالدهن غير المطيب أنه لا حرج عليه، كزيت الخردل المعروف أو زيت الزيتون، فلو أخذه ودهن به رجليه وساقيه، فقالوا: لا حرج عليه، لكن عند المالكية تفصيل يستثنى من هذا الإجماع، فقد فصلوا بين الأعضاء الظاهرة والأعضاء الباطنة، وكأنهم يرون أن دهن الأعضاء الظاهرة فيه زينة وترفه، فيخرج عن مقصود الحج، والأعضاء الباطنة الخفية التي تستر كالصدر والظهر فقالوا: لا حرج عليه في ذلك.

أما بالنسبة لو كان الدهن في شعر الرأس، فللعلماء قولان:

فبعض العلماء يقول: لا يجوز للمحرم أن يدهن رأسه.

وبعضهم يقول بالجواز.

ويكاد أن يكون قول الجمهور: أنه لا يجوز له أن يدهن شعر رأسه؛ لما فيه من الترفه، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يأمر أهل مكة أن يهلوا بالحج لهلال ذي الحجة؛ والسبب في ذلك: أنه قال: (ما لي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وتأتون مدهنين، أهلوا لهلال ذي الحجة)، فكان يأمر أهل مكة أن يحرموا لأول ذي الحجة، وقد أحسن وأصاب، ومراده رضي الله عنه: كيف يأتي الناس شعثاً غبراً في الحج ويأتي أهل مكة مدهنين؟! لأنهم لا يحرمون إلا في اليوم الثامن، فتكون شعورهم نظيفة وتكون هيئتهم ظاهرة بارزة، فقال رضي الله عنه: (ما لي أرى الناس يأتون شعثاً غبراً وتأتون مدهنين، أهلوا لهلال ذي الحجة)، وهذا ليس بواجب، وإنما هو رأي عمر رضي الله عنه واجتهاد منه، والجماهير على أنهم يهلون من اليوم الثامن.

تغطية الوجه

المحظور الثالث: تغطية الوجه.

والدليل على ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام في الذي وقصته دابته: (ولا تخمروا وجهه ولا رأسه) ، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر أنه قال: (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) ، فلا يجوز للمحرم أن يغطي وجهه، وهل يجوز له إذا وجد رائحةً منتنة أو مؤذية أن يضع على أنفه الغطاء فيتقيها؟

وجهان:

مذهب طائفة من العلماء: أنه لا يضع كالنقاب؛ لأن المرأة أمرت بكشف وجهها، فلما قال: (ولا تنتقب)، دل على أن النقاب مؤثر، وبناءً على ذلك فتغطية بعض الوجه كتغطية كله، والذي يظهر أن الإنسان لا يغطي، ولو وجد الرائحة المنتنة فإنه يضع يده، وإذا أضرته غطى وافتدى، وعلى هذا فالكمام الموجود الآن الذي يضعونه لاتقاء بعض الروائح يجري فيه ما ذكرناه؛ ولأنه في حكم المحيط بالعضو، كما لو وضع لصقة ثم أدارها على رأسه، ولذلك يضعونه ثم يشدونه، وعلى هذا يكون في حكم الإحاطة بالعضو، فيتقى ويمنع منه الحاج وأيضاً المعتمر.

تغطية الرأس

المحظور الرابع: تغطية الرأس.

ودليل تحريم تغطية الرأس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلبسوا القمص ولا العمائم)، فإن العمامة غطاءٌ للرأس، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم المحرم أن يغطي رأسه، وقوله: (ولا البرانس)؛ لأن البرنس فيه غطاء الرأس كما هو معلوم، والبرانس إلى الآن موجودة، تلبس في أيام، ويلبسها بعض أهل المغرب، وهو الثوب الذي فيه غطاء الرأس، وقد كان موجوداً في القديم، فلذلك حظر عليهم لبس البرانس ولبس العمامة، وعلى هذا فلا يجوز للمحرم أن يضع الغطاء سواءً كان عمامة أو كان طاقية ونحوها، فإنه يحرم عليه أن يغطي رأسه، وهذا بإجماع العلماء رحمة الله عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقصته دابته: (ولا تغطوا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً).

وهنا مسألة: لو أن الإنسان جلس تحت مظلة أو ركب محملاً؛ فإنهم في القديم كانوا يركبون المحامل، وفي العصر الحديث السيارات، فاختلف في المحمل في القديم وفي حكم السيارة الآن، هل يعتبر غطاءً أم لا؟

فمذهب جماهير العلماء: أنه لا حرج في ركوب السيارة وكذلك الأماكن التي لها أغطية، فلو أصابك حر الشمس فلا بأس أن تأتي تحت مظلة، واستدلوا بما ثبت في الحديث قال الراوي: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة ومعه بلال والفضل أحدهما يستره بثوب)، وهذا الحديث في الحقيقة محل إشكال، وقد اعترض عليه، فالذين يقولون -وهو قول لبعض السلف-: لا يجوز الدخول في المحامل، ولا هودج المرأة بالنسبة للرجل، ولا الجلوس تحت شجرة، حتى لو وضعت على الشجرة رداءً فلا يجوز أن تأتي تحتها، وفي حكمها -مثل ما ذكرنا- السيارات، يقولون: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن لا يغطي الحاج رأسه يوم الأضحى، ويقولون عن هذا الحديث: (إن حديث بلال والفضل كان في اليوم الثاني، وليس في اليوم الأول وهو يوم العيد، فهذا ضعيف؛ لأن الحديث: (يرمي جمرة العقبة)، قالوا: وجمرة العقبة رميت صباحاً، فالشمس ليست بشديدة، ولذلك لا حاجة إلى الغطاء.

وهذا قول مردود، وقد ذكر المحققون ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه: أن جمرة العقبة رماها النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد وقد ارتفعت الشمس؛ لأنه دفع من المزدلفة قبل طلوع الشمس، وما بين المزدلفة إلى أن يصل جمرة العقبة مسافة طويلة، فلا شك أنه ما بلغها إلا وقد صار للشمس وهيجٌ وحر، ولذلك لا إشكال في مشروعية أن يأتي الحاج تحت غطاء كسيارة ونحو ذلك.

حلق الشعر أو قصه أو نتفه

المحظور الخامس: حلق الشعر أو قصه أو نتفه.

والأصل فيه قوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196]، وقد عبّر القرآن بحلق الرأس؛ لأنه الغالب، وهو من باب التنبيه على النتف والقص، ودليلنا على أن القص محظور: أن الله عز وجل جعله موجباً للتحلل؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارحم المحلقين، ثم قال في الثالثة أو الرابعة: والمقصرين) ، فدل على أن التقصير يعتبر من المحظورات. فيحرم على المحرم أن يحلق رأسه أو يقص شعره.

وفي حكم حلق الرأس حلق شعر بقية الأعضاء، فلا يجوز له أن يحلق الشعر من الإبطين ولا من العانة ولا من غيرهما من مواضع البدن، وعلى هذا فلو قص أو حلق فالحكم واحد، وهو أنه تلزمه الفدية؛ والسبب في هذا: أن الحلق والتقصير كلاهما يعتبر خروجاً من النسك، ولذلك قال تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، ولذلك لا يكون تقصير الشعر ولا حلقه إلا في هذا الأمد بالنسبة للحاج وفي حكمه المعتمر، وعلى هذا فالأصل أن تحلق، فلو أنه -مثلاً- احتاج لحجامته أن يحلق قفا شعر رأسه، فحينئذٍ يحلق ويفتدي، لكن لو أنه أصيب بعاهة أو جرح، فاحتاج إلى إزالة جلد من يده أو من ساقه، وفي الجلد شعر، فإنه لا تلزمه الفدية، إنما تلزمه الفدية بالحلق أو التقصير أو النتف، لكن لو أزال الجلد وفي الجلد شعر، فإنه لا تلزمه الفدية؛ لأنه لم يحلق ولم ينتف ولم يقصر.

وهذه المسألة يسميها العلماء: حكم التابع، فهناك فرق بين الشيء أصالة وبين كونه تبعاً، وهذا يقع في العبادات والمعاملات، ففي العبادات مثلاً: الصلاة عن الميت لا تجوز قصداً، لكنها تجوز تبعاً، ألا ترى أنك لو حججت عن ميت أو اعتمرت عن ميت وطفت فإنك تصلي ركعتين، وهذه واقعة عن ميت، لكنها وقعت تبعاً لا أصلاً، وكذلك لو أن إنساناً -والعياذ بالله- اعتدى على غيره، فقلع الشعر الأسفل من العين، وهي الرموش السفلى؛ وجب فيها ربع دية، ثم لو قلع العليا وجبت عليه نصف الدية في الاثنتين، لكن لو أنه أزال الجفن وفيه الشعر فإنه يلزم بربع دية، مع أن أصل التقدير يقتضي أن الجفن له ربع وللشعر أيضاً ربع، لكن قالوا: الشعر وقع تبعاً له ولم يقع أصلاً، وهكذا بالنسبة للمسائل الأخرى المتفرعة على مسألة التابع، ولها نظائر؛ ولذلك قالوا: إنه هنا إذا قلع الجلد وفيه شعر لم تلزم عليه الفدية؛ لأنه لم يحلق ولم يقصر ولم ينتف، وهذا صحيح، ولذلك لا شيء عليه في هذا، إنما عليه الفدية إذا حلق أو قصر أو نتف.

تقليم الأظافر

المحظور السادس: تقليم الأظفار.

وتقليم الأظفار محظور في قول جماهير أهل العلم رحمة الله عليهم؛ لأنه إزالة للتفث، ويحظر عليه أن يقص الظفر بكماله أو بعضه، ولكن لو كان في أصابعه ألمٌ من الظفر، كأن يكون انكسر ظفره -سواءً كان ظفر رجل أو يد- فأصبح يؤلمه، جاز له أن يقصه، ولا فدية عليه؛ لأن الأذى في نفس الظفر، بخلاف ما إذا كان الأذى في غير الظفر، ويكون الظفر محلاً للأذى، أو يكون الأذى في غير الشعر ويكون الشعر محلاً للأذى كالقمل؛ ولذلك فإن كعب بن عجرة لم يكن أذاه في الشعر، وإنما في شيءٍ في الشعر، فأزال الشعر لإزالة الأذى الموجود تحته، وليس لعين الشعر، ولهذا قالوا: إذا نبت في عينه شعر، أو نزل شعر حاجبه حتى آذاه في عينه، جاز له أن يقصه؛ وهذا لوجود الضرر، ولا يعتبر هذا من الإزالة التي يقصد بها الترفه، ولا شيء عليه فيها.

الجماع ومقدماته

المحظور السابع: الجماع ومقدماته.

قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] ، فحرم الله عز وجل على المحرم الرفث، والرفث يكون بالكلام وهو تهييج النساء، ولو كانت محرماً له، ولو كانت حلالاً له كزوجه، فتهييج المرأة بالكلام أو بالفعل أو بالجماع نفسه كل ذلك محظور بالإجماع، فلا يجوز للمحرم بالحج والعمرة أن يقع في شيء من هذا، فإن جامع حينئذٍ وقع في المحظور، ولو نظر إلى امرأة سواء كانت محرماً أو غير محرم، كأن ينظر بشهوة إلى زوجته فينزل، فحينئذ وقع في المحظور، وكل منها له حكم، ونحن لم ندخل في مسائل الفدية حتى لا نشوش على طلاب العلم، إنما نتكلم عن المحظور فقط، أما باب الفدية، وما الذي يلزم على من أخلّ بهذه الأشياء؟ فهذا له باب آخر، ولكن أحببنا أن يكون الضبط للمحظور حتى يسهل بعد ذلك ضبط مسائل الفدية وما يتبعها.

وعلى هذا: فإنه لا يجوز له النظر إلى ما يثير شهوته، ولا اللمس بما يثير الشهوة له أو لزوجه، وهكذا الجماع، سواءً وقع لحية أو ميتة، لحلال أو حرام، كل ذلك محظور على الحاج.

عقد النكاح

المحظور الثامن: عقد النكاح.

وعقد النكاح محظور في قول جماهير العلماء: المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية وأهل الحديث، يقولون: لا يجوز للمحرم أن يَنكح أو يُنكح أو يَخطب، أن يَنكح إذا كان رجلاً، أو يُنكح إذا كان امرأة، أو يَخطب أي: خطبة النكاح؛ وذلك لما ثبت في الصحيح من حديث عثمان رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرم أن ينَكح أو يُنكح أو يَخطِب)، قالوا: فهذا نصٌ صحيح يدل على التحريم.

وذهب الحنفية إلى أنه يجوز للمحرم أن يعقد النكاح ولا يدخل، ويجوز له أن يخطب المرأة وأن يعقد عليها، ولكن لا يدخل بها، ويعتبر الإحرام مانعاً كالحيض والنفاس، فإنه يجوز له أن يعقد على الحائض والنفساء، ولكن لا يجوز له أن يطأها، واحتجوا بحديث ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بمكة وهو محرم) ، وهذا الحديث فيه إشكال كبير عند العلماء، والصحيح: مذهب الجمهور، ويقدم حديث الجمهور من وجوه:

الوجه الأول: أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح قُدّم الحاظر على المبيح، فحديث الجمهور حاظر، وحديث أبي حنيفة مبيح، فيقدم حديث الجمهور.

الوجه الثاني: أنه إذا تعارض القول والفعل، قدم القول على الفعل؛ لأنه تشريعٌ للأمة، والفعل يحتمل الخصوص.

الوجه الثالث: أن قول ابن عباس : (وهو محرم) أي: في حرم مكة؛ لأن العرب تسمي من كان في الحرم مُحرِماً، ومنه قول حسان بن ثابت : قتلوا الخليفة ابن عفان بالمدينة محرماً.

ومعلوم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يكن محرماً لا بحج ولا بعمرة، وإنما قتل في حرم المدينة، وفي الأشهر الحرم، وبناءً على ذلك وصفه بكونه محرماً، فالعرب تسمي من دخل في الحرمات الزمانية والمكانية محرماً، فكأن ابن عباس يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على ميمونة في حرم مكة، وهذا من فقه ابن عباس ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك مكة مهاجراً، والمهاجر لا يجوز له أن يرجع إلى البلد الذي تركه هجرة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لكن البائس سعد بن خولة )، يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة، فإذا ترك مكة هجرةً فكيف يعقد النكاح فيها؛ لأن عقد النكاح فيها بمثابة الإقامة؟!! فكأن ابن عباس أراد أن ينفي هذا المعنى، فقال: (تزوجها وهو محرم) ، يعني: في داخل حرم مكة، وإن كان البناء قد وقع في سرف وهي المعروفة بالنوارية.

فالمقصود: أن هذا الحديث يحمل على أن قوله: (وهو محرم) يعني: في الأشهر الحرم، أو في حرم مكة، والقاعدة: أنه إذا تعارض المحتمل والصريح قدم الصريح على المحتمل.

الوجه الرابع: أنه إذا كان حديث ميمونة فيه معارضة لحديث ابن عباس ، فقد روى

استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3701 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3618 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3440 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3371 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3337 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3318 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3270 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3224 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3184 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3164 استماع