شرح زاد المستقنع باب الهدي والأضحية والعقيقة [2]


الحلقة مفرغة

يقول المصنف رحمه الله: [والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى].

لما فرغ رحمه الله من بيان الأحكام المتعلقة بالعيوب، كأنه قد هيأ لك البهيمة التي يجوز أن يضحى بها، وكأن سائلاً يسأل: إذا تمكنت من الأضحية، وكانت سليمة من هذه العيوب التي ذكرت، فما هي السنة وما هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذبح والنحر؟

طرق التذكية الشرعية

هناك طريقتان للتذكية الشرعية، والحيوان ينقسم إلى قسمين:

إما أن يكون مستأنساً، وإما أن يكون متوحشاً.

أما الحيوان المستأنس فكالإبل والبقر والغنم والطيور إذا أمسكتها، والدجاج الداجن، فهذه الحيوانات لها تذكية معينة، وهناك نوع ثان من التذكية الشرعية للحيوان الذي لا تقدر على إمساكه وأحلّ الله لك أكل لحمه، كالطير في الهواء، والوعل والظبي والغزال والريم ونحوها من صيد البر، فهذا النوع من الحيوانات له تذكية ثانية، ومن ثم اصطلح أهل العلم على تسمية الأول: بالمستأنس؛ لأنه يأنس بك وتأنس به، ولذلك فإن الشاة إذا جئت لتذبحها تكون في متناول يدك، وأما الحيوان الذي لا تستطيع إمساكه إلا بالغلبة وبالحيلة والقهر -وهو الصيد- فله تذكية خاصة؛ وذلك بأن ترميه بالسلاح في أي موضع من بدنه وتعقره، فإذا عقرته وأهلكته بهذه الرمية أو الطلقة من سلاحك فإنه حينئذٍ يكون حلالاً لك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، وقال له عدي : (يا رسول الله! إني أصيد بكلبي المعلم وبكلبي غير المعلم، وبهذه الباز، فما يحل لي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، فجعل للصيد رخصة، وسنتكلم -إن شاء الله- عن مباحث ومسائل الصيد، وكيفية التذكية في هذا النوع الذي رخص الشرع فيه في باب أحكام الصيد، لكننا سنتكلم هنا عن كيفية هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحيوان المستأنس الذي يضحي به الإنسان من الإبل والبقر والغنم.

فالحيوان المستأنس من الإبل والبقر والغنم تنقسم تذكيته الشرعية إلى قسمين:

فإما أن تذكيه بالنحر، وإما أن تذكيه بالذبح.

فأما النحر: فهو أن تطعن البعير في الوهدة التي في أسفل عنقه عند التقائه بالصدر -تسمى في اللغة الوهدة- فتطعن بالسكين أو الخنجر أو نحوه من السلاح الذي ينهر الدم، وهذا يسمى: نحر.

وأما الذبح فإنه يكون بإضجاع البهيمة على جنبها ثم ذبحها، وذلك بإنهار دمها من جهة عنقها، ويكون ذلك بقطع المريء والحلقوم وأحد الودجين، وهما العرقان اللذان في الرقبة.

السنة في تذكية الإبل

والسنة في الإبل أن تنحر ولا تذبح، ولكن إن فعله أجزأه؛ وذلك لأنه إنهار للدم مع ذكر اسم الله عز وجل، وأما الشاة فإنها تذبح ولا تنحر؛ إذ ليس فيها موضع للنحر، وإنما هي من جنس ما يذبح وليس من جنس ما ينحر، وأما البقر ففيه الموضعان، فيمكن أن ينحر أو أن يذبح، وبكلٍ قال جمع من العلماء رحمهم الله، وكلٌ جائز إن ذبح أو نحر، وأياً ما كان فقال رحمه الله: (والسنة أن تنحر الإبل قائمة).

فإذا قلنا: إن الإبل تنحر، فالنحر يكون على حالتين:

الحالة الأولى: أن تكون قائمة.

الحالة الثانية: أن تكون باركة.

فأما إذا كان الإنسان يريد تذكيتها ذكاة شرعية على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته الكريمة؛ فإنه يبعثها قائمة، ويعقل يدها اليسرى، ثم بعد ذلك يطعن في وهدتها وينحرها حتى تسقط، ولذلك قال الله تعالى في الإبل: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36]، أي: سقطت واستقرت على الأرض، يقال: وجب الشيء إذا سقط، ويقال: وجب الحائط إذا سقط، ومنه قول أبي بردة رضي الله عنه في الحديث: (والمغرب إذا وجبت)، أي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب إذا سقط قرص الشمس وغاب ضوؤها.

فالمقصود: أن الله عز وجل جعل البدن -وهي الإبل- من جنس ما ينحر وهو قائم، ولذا قال المصنف: (والسنة) أي: هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تذكية الإبل نحرها قائمة.

وقد مر عبد الله بن عمر رضي الله عنه على رجل يريد أن ينحر بعيره باركاً، فقال له: (ابعثها قائمة سنة نبيك صلى الله عليه وسلم). فقوله: (ابعثها قائمة)، أي: انحرها وهي قائمة، فإن ذلك هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (معقولة يدها اليسرى) أي: تربط يدها اليسرى ولا تترك كما هي، ويذكر بعض الأطباء أن في هذا حكمة: وهي أن شرايين القلب في الجهة اليسرى تكون أقوى، وعندما تعقل اليد اليسرى يكون ضخ الدم عند النحر أقوى، فهو إخراج للدم الفاسد بصورة أبلغ، ولذلك حرم الله الميتة؛ لأن الدم ينحبس فيها فيكون فيها من الأضرار والمفاسد ما الله به عليم، ولذا كان إنهار الدم فيه حكمة عظيمة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم)، أي: أجراه.

قال رحمه الله: [فيطعنها بالحربة في الوهدة التي بين أصل العنق والصدر].

وهذا كما ذكرنا سابقاً؛ لأن هذا يسمى بالنحر، فيقول عند النحر: باسم الله، ويكبر، ثم يطعن في الوهدة، وينوي ما هو فيه من نسكه، كأن يكون دماً واجباً عليه في النسك، أو غير ذلك من الدماء الواجبة عليه، وقوله: (فيطعنها بالحربة)، ليس هذا الحكم خاصاً بالحربة، وإنما هو يشمل كل شفرة، حتى لو أخذ حجراً مدبباً مسنماً كالسكين وطعن به فإنه يجزيه، وهكذا لو أخذ حديدة وشحذها فإنها تجزيه؛ وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (هلمي المدية، ثم قال: اشحذيها بحجر)، والمراد بذلك السكين، فسواء طعن بسكين، أو خنجر، أو حتى بحجر؛ لأنه ثبت في الحديث الصحيح: (أن امرأة كانت ترعى غنمها جهة سلع -وهو جبل غربي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة- فعدى الذئب على غنمها، فصاحت بالناس، فأدركوه قد بقر بطن الشاة، فقامت إلى حجر فكسرته وذكت الشاة)، وقد أخذ العلماء رحمهم الله من الحديث عدة فوائد:

الفائدة الأولى: أنه يجزئ أن يضحى بكل شيء له نفوذ وتأثير بالقطع من كل محدّد، ولا يختص ذلك بالحديد، فلا نقول: إنه لا تصح التذكية إلا بالسكاكين، بل يصح أن تكون التذكية بالحجر المسنن، لكن لا يجوز أن يذكى بالعظم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثناه وقال: (إلا السن فإنه مدى الحبشة)، وقوله: (مدى الحبشة) كأنه من باب المخالفة لأهل الكتاب، وعلى هذا فإن الحديث دل على جواز التذكية بكل ما يقطع ويفري.

الفائدة الثانية: جواز تذكية المرأة، على خلاف ما يعتقده بعض الجهال اليوم من أن المرأة لا تذبح ولا تنحر، وأن البهيمة إذا ذبحتها المرأة فإنها ميتة، وهذا كله -والعياذ بالله- من بقايا الجاهلية، ومن فعل ذلك أو اعتقده ففيه بقايا الجاهلية -نسأل الله السلامة والعافية- فالمرأة كالرجل في هذا في حكم الله عز وجل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يأكلوا الشاة، وأحلها لهم.

الفائدة الثالثة: وهي ما يسمى بالحياة المستعارة، وهي أن تكون البهيمة في آخر رمق، كأن تصدمها سيارة، أو تسقط من مكان عال، فتدركها قبل أن تموت، وهي في آخر رمق ترفس، ثم تنهر دمها، فقال بعض العلماء: إذا كانت في آخر رمق، فإن هذه التذكية لا تجزئ؛ لأن القاعدة عندهم في الحياة المستعارة أنها كالعدم، والسبب في هذا: أن نفسها فلتت بسبب الضربة الموجبة لتحريم أكلها؛ لأنها إذا ضربت بسيارة فهي في حكم المتردية، وإذا سقطت من على جبل فأدركتها وهي ترفس فقالوا: إنها متردية، وعلى هذا قالوا: لا يجوز تذكيتها.

ولكن هذا الحديث قد يقوي القول بأنه يجزئ أن يؤكل مثل هذا؛ لأن الذئب بقر بطن الشاة، وإذا بقر بطنها فالغالب أنها لا تعيش، وإن قال بعض العلماء: يمكن أن ترد لها أمعاؤها وتعيش، وهذا يقع في الآدميين وفي البهائم، وأياً ما كان فالمسألة محتملة.

وقد تفرعت عن هذه المسألة مسألة معاصرة في زماننا، وهي التي تسمى: بموت الدماغ، فإنها حياة مستعارة، فنظراً لوجود الحركة اللإإرادية جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحياة المستعارة عند إنفاذ المقاتل ووجود الدلائل على إقدام النفس على الموت جعلها تأخذ حكم الحياة المستقرة، وتوضيح ذلك: أن الشاة لما بقر الذئب بطنها فإنها ستموت قطعاً فلما جاءت تذكية المرأة جاءت وكأن الشاة نفسها مختلفة، فهذا الذي فيها من الحركة إما أن تقول: نفس مستقرة. فتنزل المعدوم منزلة الموجود. وإما أن تقول: نفس غير مستقرة، فالذكاة لاغية، فلما أعمل الذكاة ورآها مهمة ومعتبرة أعمل الحركة، وأبقى الحياة المستعارة مؤثرة، وعلى هذا فإنه يقوي قول من قال من العلماء المعاصرين: إن موت الدماغ ليس بموت، وهذا هو الصحيح، كما بيناه غير مرة، وذكرنا أنه هو الأصل، والأدلة تقوي هذا، وعليه فإن الحياة غير المستقرة تكون حياة ثابتة.

إذاً: فالتذكية تكون بكل محدد ينهر الدم على ظاهر السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

السنة في تذكية البقر والغنم

قال رحمه الله: [ويذبح غيرها، ويجوز عكسها].

قوله: (ويذبح غيرها) يعني: غير الإبل، من البقر والغنم، فكأنه يرى أن السنة أن لا تنحر البقر، ويرى أن السنة في البقر الذبح، وهذا يختاره جمع من العلماء.

وقال بعض العلماء: السنة في البقر النحر، ويجوز فيه الذبح.

والصحيح: أنه يجوز فيه الأمران: الذبح، وفيه النحر.

أما قوله: (ويجوز عكسها)، فلو أنه نحر البقر بدلاً من أن يذبحها، فإن هذا العكس يجزئ، ولو ذبح البعير بدلاً من أن ينحره؛ فإن هذا يجزئ.

ما يقوله المذكي حال التذكية

قال المصنف رحمه الله: [ويقول: باسم الله، والله أكبر، اللهم هذا منك ولك].

قوله: (ويقول: باسم الله) وجوباً؛ لأن الله تعالى يقول: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا [الحج:36]، فأمر الله سبحانه وتعالى بذكر اسمه عليها، وقال: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ [الأنعام:121] ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، هذا شرط، ومفهوم الشرط معتبر، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه)، وهذا شرط، ومفهوم الشرط معتبر، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا صدت بقوسك وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، فقوله: (فكلْ) يدل ويؤكد على أن التسمية واجبة، وأنه إذا نسي التسمية أو تركها عمداً فأصح الأقوال: أنه لا تجزئ ذبيحته، ولا يجوز أكلها.

وقوله: (اللهم هذا منك ولك)؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم هذا منك، أنت الذي رزقتنا، وأنت الذي سخرته لنا)، ولا شك أن هذا من توحيد الله جل جلاله؛ أن يعترف المخلوق بنعمة الخالق عليه، والله سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يثني عليه بنعمه الظاهرة والباطنة والدينية والدنيوية، فإذا تمكن من الشاة أو البقرة أو الناقة يريد أن يذكيها وقال: (اللهم هذا منك، أنت الذي رزقتنيه -فكم من فقير لا يجد السبيل إلى مثل هذا- وأنت الذي سخرته لي)، فلولا أن الله سخر له هذه البهيمة يذبحها وينحرها لما استطاع أن يذبح ولا أن ينحر، وقوله: (اللهم هذا منك ولك) أي: أن هذا الشيء تملكه، فاللام للملكية، (لك) أي: ملك لله سبحانه، فالله عز وجل مالك الملك وبيده ملكوت كل شيء، يطعم ولا يُطعم، ويرزق غيره ولا يرزق، سبحانه ذو القوة المتين.

وما ألذ النعمة إذا كان الإنسان في ظاهره وباطنه يعتقد فيها الفضل لله جل جلاله، ولذلك يقول العلماء: شكر النعم يكون بالجنان واللسان والجوارح والأركان، فمن شكر النعمة بالجنان: أن تعتقد أن هذا من الله.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم هذا منك ولك) فيه توحيد وإيمان وتسليم لله جل جلاله، فليس هذا بحولنا ولا قوتنا، ولذلك لما رأى سليمان عليه السلام عرش بلقيس بين يديه قال: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي [النمل:40] أي: ليس بشيء أستوجبه على الله، فهذا هو حال أهل الكمال والفضل والإيمان والتوحيد؛ أنهم يسلمون لله جل وعلا؛ فيعتقدون أن الفضل كله لله سبحانه وتعالى في نعمه الظاهرة والباطنة، وقد أشار الله إلى هذا المعنى بقوله: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53] أي: اعتقدوا أن الفضل فيها لله.

ثم نطق عليه الصلاة والسلام بما اعتقد فقال: (اللهم هذا منك) أي: يا الله هذا الذي بين يدي من بهيمة الأنعام أتقرب به إليك.

وقيل: (لك) أي: أذبحه لك، وهذا من توحيد العبادة، فلا يجوز أن يذبح إلا لله عز وجل، ولا يستغيث ولا يستجير ولا يستعيذ إلا بالله سبحانه وتعالى؛ لأن من توحيد الألوهية أن لا يذبح إلا لله، ولذلك لعن الله من ذبح لغير الله، قال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من لعن والديه، لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من غيّر منار الأرض) ، فهذه الأمور ورد فيها الوعيد الشديد؛ لعظم كفر العبد فيها، فإنه إذا ذبح لغير الله فقد كفر نعمة الله عز وجل وصرف ما لله لغير الله.

فقوله: (ولك) أي: توحيداً لله عز وجل، فالذبح لا يكون إلا الله، فلا يكون لنبي مرسل، ولا لملك مقرب، ولا لعبد ولو كان من أصلح عباد الله، قال الله عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:162-163] أي: أمر فرضه الله عز وجل عليَّ، وقال الله عز وجل: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، فلا يجوز الذبح ولا النحر إلا لله سبحانه وتعالى، ومن هنا قال العلماء: من ذبح لغير الله فقد أشرك؛ لأنه إذا ذبح لغير الله عبده، ولا يذبح لغير الله إلا رغبة أو رهبة أو هما معاً، فتجده يذبح للجن رهبة منهم وخوفاً، وإما أن يذبح رغبة في شيء يكون له؛ كذبحه على قبر ولي أو صالح أو نبي، وهذا لا شك أنه من الشرك؛ أن يذبح للنبي أو للولي من أجل أن تقضى حاجته أو تفرج -والعياذ بالله- كربته، ولا يقضي الحاجات ولا يفرج الكربات إلا فاطر الأرض والسماوات جل جلاله وتقدست أسماؤه، وصدق الله إذ يقول: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62] .

وإذا كان له آل بيت يقول: اللهم هذا عني وعن أهل بيتي، أو يبين إذا كان ذبحه هذا عن فريضة واجبة عليه أو عن دم في نسك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلفظ بنيته وقال: (اللهم هذا عن محمد وعن آل محمد).

استحباب تولي الذبح

قال رحمه الله: [ويتولاها صاحبها، أو يوكل مسلماً ويشهدها ].

قوله: (ويتولاها) أي: يقوم على ذبحها ونحرها (صاحبها)، وهذا الأفضل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر إبله بيده الشريفة بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه، ووكل علياً رضي الله عنه أن ينحر بقية المائة؛ لأنه نحر ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة ثم ترك سبعاً وثلاثين لـعلي رضي الله عنه، لأنه أهدى إلى البيت في حجة الوداع مائة من الإبل صلوات الله وسلامه عليه، فجمع بين الأمرين: بين الأصالة والوكالة، فدل على جواز التضحية وقيام الإنسان بالتذكية أصالة بنفسه، وعلى جواز توليته وتوكيله لغيره، فإذا قام بها بنفسه فهذا أفضل وأكمل وأعظم أجراً؛ لما فيه من الذلة لله سبحانه وتعالى، ولما فيه من التأسي برسول الأمة صلى الله عليه وسلم، والأكثر تعباً أعظم أجراً.

فالأفضل له أن يليها بنفسه، ويجوز أن يوكل غيره؛ لكن يشترط إذا وكل غيره بالذبح أن يكون عالماً بطريقة الذبح المجزئة، فلا يوكل أي شخص، وإنما يوكل من له علم وإلمام بكيفية الذبح، ولا تبرأ ذمته إلا بمثل هذا، أي: من يعرف التذكية الشرعية، وإذا وكله فإنه يعهد إليه بما يلزم في أضحيته.

ومعنى قوله: (ويشهدها) أي: يحضر ذبحها على الكمال، وإذا لم يحضر فلا بأس، فلو أراد الحج وترك أضحيته في البيت، وقال لأحد أبنائه: اذبح هذه الأضحية يوم النحر، ووكله أن يقوم بذبحها، فلا إشكال، فلا يستطيع أن يترك حجه ليحضر ذبحها.

والشهادة تعني الحضور، كما قال الله تعالى: وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ [القصص:44] أي: من الحاضرين، يقال: شهد الشيء إذا حضره.

وقوله: (يشهدها) أي: يحضرها -على الأفضل- لأنه إذا حضرها فإنه أبلغ أن تبرأ الذمة، وأن يكون محتاطاً في توزيعها والقيام عليها على أتم الوجوه.

وكذلك الوكيل يشهدها؛ لأن من تمام الوكالة أن يقوم عليها، ولذلك وكل رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً بذبح ما بقي من هديه وأمره أن يقوم عليها، وأن يتصدق بجلودها وأجلّتها، وأن لا يعطي الجزار منها شيئاً، فدل على أن الوكيل لا يعهد لغيره يذبحها، إنما يتابعها ويقوم بها؛ لأنه مؤتمن، ولا تبرأ ذمته إلا إذا أدى الأمانة على وجهها ونصح لصاحبها.

وقت ذبح الأضحية

يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ووقت الذبح بعد صلاة العيد أو قدره إلى يومين بعده].

بيّن المصنف رحمه الله جملة من الأحكام المتعلقة بالأضحية، ثم شرع في بيان تأقيت الأضحية؛ والسبب في ذلك: أن النصوص التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بينت أن للأضحية ميقاتاً خاصاً ينبغي مراعاته عند ذبحها، فلا يقع الذبح قبل هذا الوقت المحدد من الشرع ولا بعده، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حينما خطب يوم النحر فقال صلى الله عليه وسلم: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله).

وقوله عليه الصلاة والسلام: (من ذبح قبل الصلاة) المراد بالصلاة صلاة عيد الأضحى، والتي يسن إيقاعها بعد طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح، فالسنة في صلاة عيد الأضحى أن يخفف الإمام ويعجل؛ لأن الناس سيشتغلون بالأضحية، وهذا يحتاج إلى وقت لكي يصيبوا فضيلة إيقاع الذبح في ضحى يوم النحر، وما سميت الأضحية أضحية إلا لأنها تقع ضحى يوم النحر، ففضيلتها في هذا الوقت، والسنة أن يصلي بهم والشمس قيد رمح، أما في صلاة عيد الفطر فيوقعها والشمس قيد رمحين؛ لأن الناس يحتاجون إلى وقت أكثر قبل الصلاة من أجل إخراج زكاة الفطر، فاختلف الحكم بالنسبة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الأضحى وصلاة الفطر.

وقد قالوا: إنه يوقع ذبح الأضحية بعد صلاة الإمام، والمراد بذلك الإمام الذي يصلي بالناس عيد الأضحى، فإذا تعددت المساجد ووجد أكثر من إمام؛ فبعض أهل العلم يرى تأقيت كل جماعة بإمامهم، فإذا كان في المدينة مصليان للعيد، فصلى مع الإمام بالناحية الشرقية أو الغربية فإنه -عند هؤلاء- يتقيد بالإمام، فإذا صلى مع إمامه انصرف وذبح أضحيته، وإذا كان مريضاً لم يتمكن من الخروج فإنه ينتظر فراغ إمامه من صلاة عيد الأضحى ثم يضحي.

وقال بعض العلماء: يعتد بالأسبق منهما، حتى ولو كان غير إمامه؛ فلو كان هناك حيان، حي تقام فيه صلاة الأضحى في الشرق وحي في الغرب، والذي في الشرق من عادته أن يطول أو يتأخر، والذي في الغرب يبكر، فيعتد بصلاة المبكر منهما.

فعلى هذا نخرج بحكم شرعي وهو: أن ذبح الأضحية ينبغي أن يكون بعد الصلاة لا قبلها.

ولا يشترط انتظار فراغ الإمام من خطبة يوم النحر، بل العبرة بالصلاة وحدها، فإذا انتهت الصلاة وخرجت وذبحت أجزأك ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم)، أي: أن شاته لا تقع أضحية على السنة، وإنما تنقلب شاة لحم، إن شاء تصدق بها، وإن شاء أكلها، فليست بأضحية، وقال بعد ذلك: (ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، فأذن بالذبح بعد الصلاة؛ لأن هذا الكلام وقع في خطبته وهي من بعد صلاة الأضحى إجماعاً، فبيّن رحمه الله أن وقت الأضحية يبتدئ بما بعد الصلاة.

وقت انتهاء الذبح

وللأضحية وقت انتهاء، فبعد هذا الوقت لا تقع شاته أضحية، وقد اختلف العلماء في وقت الانتهاء على قولين مشهورين:

القول الأول: أن وقت الأضحية ينتهي بثالث أيام التشريق؛ فإذا غابت شمس يوم الثالث عشر فلا تقع أضحية وإنما تقع صدقة من الصدقات، أو شاة لحم، كما قال صلى الله عليه وسلم فيمن سبق الوقت المعتبر. وهذا هو مذهب الشافعية ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليهم، وكان يقول به أكثر من سبعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يقولون: إنه يجوز أن ينحر الإنسان ويذبح في اليوم الثالث عشر، وهو اليوم الأخير من أيام التشريق.

القول الثاني: وهو أشبه بمذهب الجمهور، وهو أن وقت الذبح يوم العيد ويومان من بعده، فآخر وقت الذبح عندهم بمغيب شمس اليوم الثاني عشر.

والخلاف فقط في اليوم الثالث عشر الذي هو آخر أيام التشريق؛ لأن أيام التشريق ثلاثة كما لا يخفى، فقال بعض العلماء: إن اليوم الثالث يعتبر من أيام الذبح، وقال بعضهم: إنه ليس من أيام الذبح، وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (أيام منى أيام أكل ونحر) يدل على أنه يجزئ الذبح فيها، وهذا على ظاهر القرآن: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:28] ، فهذا نص عند العلماء في أن الذبح يتأقت بثلاثة أيام يدخل فيها اليوم الثالث عشر.

وإخراج اليوم الثالث عشر لا يخلو من نظر؛ فإن جلّ الأحكام التي وقعت في أيام التشريق استوت فيها الأيام الثلاثة كلها، ولذلك فإن من ذبح هدي التمتع أو هدي القران فإنه يجزيه في أيام التشريق على القول بالتأقيت، وكذلك بالنسبة لمسائل الحاج، فإن الله جعل للحاج اليوم الثالث عشر كاليوم الثاني عشر، لكنه خفف بالتعجل في اليوم الثاني عشر، وهذا لا يسقط اعتباره إن تأخر.

وعلى هذا فالذي يترجح: أن يوم العيد وثلاثة أيام من بعده هي أيام النحر والذبح.

وإذا أراد الإنسان أن يذبح في الليل، فهل ليالي هذه الأيام كنهارها؟

للعلماء في هذه المسألة قولان:

القول الأول: قال جمهور أهل العلم: يجوز للإنسان أن يذبح أضحيته بالليل والنهار، ولا فرق بينهما، وإن كان الأفضل أن يذبح نهاراً، حتى يخرج من خلاف أهل العلم رحمة الله عليهم.

القول الثاني: أن الذبح يختص بالنهار دون الليل، وأنه لا يذبح ليلاً، واليوم إذا أطلق في لغة العرب فالمراد به النهار دون الليل، ويحمل قوله عليه الصلاة والسلام: (أيام منى) على النهار دون الليل، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا [الحاقة:7]، ففرق الله تعالى بين النهار وبين الليل.

واحتج من قال: إن الليل والنهار سواء -كما هو مذهب الجمهور- بأن قوله تعالى: سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ [الحاقة:7] من باب عطف الخاص على العام، والعرب تعطف الخاص على العام والعام على الخاص، فتقول: يدخل محمد والناس، ومرادك بذلك تشريف محمد وتكريمه، أو أن النهار كان أشد عذاباً من الليل، أو أن الليل أشد إيقاعاً وأشد ألماً وعذاباً، فلذلك خص بالذكر.

وظاهر الدليل: أن الليل والنهار سواء، وأنه يذبح بالليل والنهار؛ لقوله تعالى: فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود:65]، وقوله: (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) بالإجماع أن هذا التربص شامل لليل والنهار، ولذلك قالوا: الأصل في اليوم أنه يشمل الليل والنهار، إلا إذا خصه الدليل بالنهار دون الليل، ولا دليل يخص هاهنا.

وعليه: فإنه يجوز أن يذبح في الليل كما يجوز أن يذبح في النهار، ولكن الأفضل والأكمل أن يذبح في النهار، لكن لو أراد أن يصل رحمه، أو أن يكرم الضعفاء؛ فرأى أن ظروفه لا تساعده إلا بالذبح ليلاً، أو كما يقع بين القرابة أنهم يترقبون مجيء بعضهم، فتقع قرعة الإنسان وحصته بالليل، فحينها لا بأس أن يذبح ليلاً، ولا حرج عليه في ذلك، وإن ذبح قبل غروب الشمس ثم بعد ذلك يطبخها ويقدمها لضيوفه ولو بعد العشاء، فهو الأفضل؛ خروجاً من الخلاف.

حكم من فاته وقت الذبح

قال رحمه الله: [ويكره في ليلتيهما، فإن فات قضى واجبه].

بيّن رحمه الله بداية وقت ذبح الأضحية ونهاية وقت ذبحها، وما تخلل هذا الميقات الزماني من الذبح ليلاً، وعليه فإنه يرد السؤال: لو أن إنساناً فاتته أيام التشريق وأراد أن يذبح بعد أيام التشريق، فما الحكم؟

إذا ذبح بعد اليوم الثالث عشر فشاته شاة لحم، ولكن يفصّل في هذا: فإن كان عينها فإنه يذبحها وتكون شاته شاة لحم، ولكنها تلزمه من جهة الإلزام، ولذلك قالوا: لو نذر وقال: لله عليَّ أن أذبح أضحية هذا العام، فإنه يذبح ولو بعد انتهاء أيام التشريق، ويأثم إذا قصر وتراخى فيها حتى خرج الوقت المعتبر.

هناك طريقتان للتذكية الشرعية، والحيوان ينقسم إلى قسمين:

إما أن يكون مستأنساً، وإما أن يكون متوحشاً.

أما الحيوان المستأنس فكالإبل والبقر والغنم والطيور إذا أمسكتها، والدجاج الداجن، فهذه الحيوانات لها تذكية معينة، وهناك نوع ثان من التذكية الشرعية للحيوان الذي لا تقدر على إمساكه وأحلّ الله لك أكل لحمه، كالطير في الهواء، والوعل والظبي والغزال والريم ونحوها من صيد البر، فهذا النوع من الحيوانات له تذكية ثانية، ومن ثم اصطلح أهل العلم على تسمية الأول: بالمستأنس؛ لأنه يأنس بك وتأنس به، ولذلك فإن الشاة إذا جئت لتذبحها تكون في متناول يدك، وأما الحيوان الذي لا تستطيع إمساكه إلا بالغلبة وبالحيلة والقهر -وهو الصيد- فله تذكية خاصة؛ وذلك بأن ترميه بالسلاح في أي موضع من بدنه وتعقره، فإذا عقرته وأهلكته بهذه الرمية أو الطلقة من سلاحك فإنه حينئذٍ يكون حلالاً لك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، وقال له عدي : (يا رسول الله! إني أصيد بكلبي المعلم وبكلبي غير المعلم، وبهذه الباز، فما يحل لي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما صدت بكلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكلْ)، فجعل للصيد رخصة، وسنتكلم -إن شاء الله- عن مباحث ومسائل الصيد، وكيفية التذكية في هذا النوع الذي رخص الشرع فيه في باب أحكام الصيد، لكننا سنتكلم هنا عن كيفية هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الحيوان المستأنس الذي يضحي به الإنسان من الإبل والبقر والغنم.

فالحيوان المستأنس من الإبل والبقر والغنم تنقسم تذكيته الشرعية إلى قسمين:

فإما أن تذكيه بالنحر، وإما أن تذكيه بالذبح.

فأما النحر: فهو أن تطعن البعير في الوهدة التي في أسفل عنقه عند التقائه بالصدر -تسمى في اللغة الوهدة- فتطعن بالسكين أو الخنجر أو نحوه من السلاح الذي ينهر الدم، وهذا يسمى: نحر.

وأما الذبح فإنه يكون بإضجاع البهيمة على جنبها ثم ذبحها، وذلك بإنهار دمها من جهة عنقها، ويكون ذلك بقطع المريء والحلقوم وأحد الودجين، وهما العرقان اللذان في الرقبة.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع