خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع أحكام الهلال وأهل العذر في رمضان [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيقول المصنف رحمه الله: [ كتاب الصيام ]:
تقدم تعريف الكتاب وبيان اصطلاح العلماء رحمة الله عليهم فيه، ومعنى قوله: [ كتاب الصيام ] أنه سيذكر جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بعبادة الصيام؛ فإنه بعد أن فرغ من بيان أحكام الصلاة وأحكام الزكاة شرع في بيان أحكام الصيام.
وهذا الترتيب مستند إلى الشرع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الزكاة قرينة الصلاة ثم أتبعها الصيام، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح.
تعريف الصيام لغة
فأصل الصيام في لغة العرب الإمساك، ومنه قوله تعالى: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:26] أي: إمساكاً عن الكلام، ويقولون: صامت الخيل. إذا أمسكت عن الصهيل، ومنه قول الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللُجم
فقوله: (خيل صيام): أي: ممسكة عن الصهيل.
تعريف الصيام شرعاً
فقولهم رحمة الله عليهم: الصيام إمساك مخصوص: وذلك لأن الإمساك يطلق ويقيد، فتقول: أمسك. بالمعنى المطلق، فيشمل كل إمساك، سواءً كان عن أكل أو شرب أو كلام أو سير، فلما قلت: إمساك مخصوص، فهمنا أنه يتقيد بشيء معين، وهو الإمساك عن شهوة البطن والفرج، فالصائم يمتنع عن الأكل وعن الشرب وما في حكمهما، وكذلك يمتنع عن شهوة الفرج، والأصل في ذلك قوله تعالى في الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) .
فأصل الصيام الإمساك عن هذه الأشياء، ولذلك قالوا: إمساك مخصوص.
ولم يقولوا: إمساك عن المفطرات لأنه قد يكون فيه إجمال، ومن هنا قالوا: إمساك مخصوص حتى يفهم من دلالة الخصوصية ما يقصده الشرع بهذا الإمساك المعين.
من شخص مخصوص: وهو المكلف، والصبي يروض على الصيام كما في حديث أنس رضي الله عنه حينما كانوا يلهونهم باللعب إلى منتصف النهار.
ولا يجب الصوم على الصغير؛ لأنه غير مكلف، وإنما يجب على المكلف، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك.
وقولهم: بنية مخصوصة، النية ترد بمعنيين:
المعنى الأول: نية التعبد والتقرب لله عز وجل بإخلاص العمل، وهذا هو الذي يسميه العلماء: الإخلاص، والمقصود بذلك خلوص النية، بمعنى: ألا يقصد غير الله عز وجل.
والعلماء رحمة الله عليهم لما قالوا: بنية مخصوصة. لم يريدوا قضية الإخلاص؛ لأن التعبد والتقرب معلوم بداهة، فإنه لما قيل: تعريف الصيام في الشرع فهمنا شرعاً أن المراد بذلك التعبد، ولذلك لا يقصدون هذا المعنى الخاص.
وإنما يقصدون بقولهم: بنية مخصوصة. أن تبين هل تنوي الفريضة، أو تنوي النافلة، وإذا كانت نيتك بهذا الصيام الفريضة، فما هي هذه الفريضة؟ أهي صيام رمضان أو كفارة قتل أو كفارة ظهار أو كفارة جماع أو صيام نذر واجب.
ثم إذا كانت النية نافلة، فما هي هذه النافلة؟ أهي عاشوراء أو عرفة أو الإثنين والخميس وهكذا.
فمرادهم بقولهم: بنية مخصوصة. أي: تعيين المراد من هذا الصوم في الشرع؛ لأنك لما قلت: تعريف الصيام شرعاً، فالمراد بذلك: في حدود الشريعة؛ فإن الشريعة تقصد من هذا الصوم إما شيئاً مطلقاً أو تقصد به شيئاً مقيداً، فالمطلق كالتقرب إلى الله عز وجل بصيام النافلة المطلقة كصيام يوم وإفطار يوم، والنافلة المقيدة كعاشوراء والإثنين والخميس والثلاثة الأيام البيض من كل شهر.
والفريضة إما أن تكون فريضة محددة كصيام رمضان، وإما فريضة يلزم الإنسان نفسه بها كالنذر، وإما أن تكون داخلة عليه بسبب الإخلال كصيام الكفارات والنذور ونحوها.
يقول العلماء: الصيام: إمساك مخصوص. فلما قالوا: إمساك مخصوص على هذا الوجه المخصوص الذي هو النية المخصوصة بالفريضة والنافلة، فخرج الإمساك عن الطعام لمعنى الصحة، كأن يصوم الإنسان ويمتنع عن الأكل والشرب لتقوية بدنه، أو تخفيف وزنه، أو نحو ذلك من النوايا الدنيوية، فإن هذا ليس بصيام شرعي، فمن قصد من صيامه أن تقوى نفسه أو يستجم بدنه فإنه غير متقرب لله عز وجل.
لكن لو نوى أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، ثم كانت نية الدنيا وهي صلاح بدنه وذهاب الأمراض عن جسده تبعاً فإن هذا لا يضر؛ لأن نية الدنيا إذا وقعت تبعاً لم تضر، كما لو قصد الإنسان عبادة كطلب العلم، وقصد منها أن يطلب العلم ثم بعد طلبه للعلم قصد أن تكون هناك حوافز مادية أو تكون هناك رواتب، فهذه لا تؤثر إذا كانت تبعاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7] فقال العلماء: إذا دخلت النية تبعاً فإنها لا تؤثر.
فالمقصود: أن حقيقة الصيام في الشرع هي مخصوصة بهذا الوجه.
الصيام في اللغة: أصله الإمساك، تقول: صام عن الكلام إذا أمسك عنه، وصام عن السير إذا وقف، وصام عن الأكل والشرب إذا أمسك عنهما.
فأصل الصيام في لغة العرب الإمساك، ومنه قوله تعالى: فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:26] أي: إمساكاً عن الكلام، ويقولون: صامت الخيل. إذا أمسكت عن الصهيل، ومنه قول الشاعر:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللُجم
فقوله: (خيل صيام): أي: ممسكة عن الصهيل.
أما في الشريعة: فالمراد بالصيام: إمساك مخصوص من شخص مخصوص بنية مخصوصة.
فقولهم رحمة الله عليهم: الصيام إمساك مخصوص: وذلك لأن الإمساك يطلق ويقيد، فتقول: أمسك. بالمعنى المطلق، فيشمل كل إمساك، سواءً كان عن أكل أو شرب أو كلام أو سير، فلما قلت: إمساك مخصوص، فهمنا أنه يتقيد بشيء معين، وهو الإمساك عن شهوة البطن والفرج، فالصائم يمتنع عن الأكل وعن الشرب وما في حكمهما، وكذلك يمتنع عن شهوة الفرج، والأصل في ذلك قوله تعالى في الحديث القدسي: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) .
فأصل الصيام الإمساك عن هذه الأشياء، ولذلك قالوا: إمساك مخصوص.
ولم يقولوا: إمساك عن المفطرات لأنه قد يكون فيه إجمال، ومن هنا قالوا: إمساك مخصوص حتى يفهم من دلالة الخصوصية ما يقصده الشرع بهذا الإمساك المعين.
من شخص مخصوص: وهو المكلف، والصبي يروض على الصيام كما في حديث أنس رضي الله عنه حينما كانوا يلهونهم باللعب إلى منتصف النهار.
ولا يجب الصوم على الصغير؛ لأنه غير مكلف، وإنما يجب على المكلف، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك.
وقولهم: بنية مخصوصة، النية ترد بمعنيين:
المعنى الأول: نية التعبد والتقرب لله عز وجل بإخلاص العمل، وهذا هو الذي يسميه العلماء: الإخلاص، والمقصود بذلك خلوص النية، بمعنى: ألا يقصد غير الله عز وجل.
والعلماء رحمة الله عليهم لما قالوا: بنية مخصوصة. لم يريدوا قضية الإخلاص؛ لأن التعبد والتقرب معلوم بداهة، فإنه لما قيل: تعريف الصيام في الشرع فهمنا شرعاً أن المراد بذلك التعبد، ولذلك لا يقصدون هذا المعنى الخاص.
وإنما يقصدون بقولهم: بنية مخصوصة. أن تبين هل تنوي الفريضة، أو تنوي النافلة، وإذا كانت نيتك بهذا الصيام الفريضة، فما هي هذه الفريضة؟ أهي صيام رمضان أو كفارة قتل أو كفارة ظهار أو كفارة جماع أو صيام نذر واجب.
ثم إذا كانت النية نافلة، فما هي هذه النافلة؟ أهي عاشوراء أو عرفة أو الإثنين والخميس وهكذا.
فمرادهم بقولهم: بنية مخصوصة. أي: تعيين المراد من هذا الصوم في الشرع؛ لأنك لما قلت: تعريف الصيام شرعاً، فالمراد بذلك: في حدود الشريعة؛ فإن الشريعة تقصد من هذا الصوم إما شيئاً مطلقاً أو تقصد به شيئاً مقيداً، فالمطلق كالتقرب إلى الله عز وجل بصيام النافلة المطلقة كصيام يوم وإفطار يوم، والنافلة المقيدة كعاشوراء والإثنين والخميس والثلاثة الأيام البيض من كل شهر.
والفريضة إما أن تكون فريضة محددة كصيام رمضان، وإما فريضة يلزم الإنسان نفسه بها كالنذر، وإما أن تكون داخلة عليه بسبب الإخلال كصيام الكفارات والنذور ونحوها.
يقول العلماء: الصيام: إمساك مخصوص. فلما قالوا: إمساك مخصوص على هذا الوجه المخصوص الذي هو النية المخصوصة بالفريضة والنافلة، فخرج الإمساك عن الطعام لمعنى الصحة، كأن يصوم الإنسان ويمتنع عن الأكل والشرب لتقوية بدنه، أو تخفيف وزنه، أو نحو ذلك من النوايا الدنيوية، فإن هذا ليس بصيام شرعي، فمن قصد من صيامه أن تقوى نفسه أو يستجم بدنه فإنه غير متقرب لله عز وجل.
لكن لو نوى أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، ثم كانت نية الدنيا وهي صلاح بدنه وذهاب الأمراض عن جسده تبعاً فإن هذا لا يضر؛ لأن نية الدنيا إذا وقعت تبعاً لم تضر، كما لو قصد الإنسان عبادة كطلب العلم، وقصد منها أن يطلب العلم ثم بعد طلبه للعلم قصد أن تكون هناك حوافز مادية أو تكون هناك رواتب، فهذه لا تؤثر إذا كانت تبعاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7] فقال العلماء: إذا دخلت النية تبعاً فإنها لا تؤثر.
فالمقصود: أن حقيقة الصيام في الشرع هي مخصوصة بهذا الوجه.
فرض الله عز وجل الصيام بكتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على أن صيام رمضان فريضة من فرائض الله عز وجل.
أما دليل وجوبه من كتاب الله فقوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] و(كُتِبَ) بمعنى: فرض، وقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة:183] أي: أوجبناه وفرضناه.
وكذلك ثبتت السنة بفرضيته كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)، وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان) فنص عليه الصلاة والسلام على اعتبار صيام رمضان ركناً من أركان الإسلام.
وفي مسند أحمد : (أن رجلاً ثائر الرأس دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يسمع لصوته دوي، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان) فدلت هذه النصوص على أن صيام رمضان فريضة.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن صيام رمضان ركن من أركان الإسلام، وأنه من الفرائض التي أوجب الله عز وجل على عباده.
مراحل فرض الصيام
والصحيح: القول الأول، وهو: أن الناس كانوا مطالبين بصيام يوم عاشوراء فريضة، كما في حديث معاوية في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى المنبر وقال: (إن الله فرض عليكم صيام يومكم هذا في ساعتي هذه) فأوجب الله على الناس صيام يوم عاشوراء، ثم نسخ بصيام شهر رمضان.
وهذا النوع من النسخ يعتبر أحد أنواع النسخ، وهو نسخ الأخف بالأثقل؛ لأن النسخ ينقسم إلى قسمين:
الأول: نسخ إلى بدل.
الثاني: ونسخ إلى غير بدل.
والنسخ إلى بدل إما أن يكون: إلى بدل مساوٍ، أو إلى بدل أثقل، أو بدل أخف.
فمثال البدل المساوي: كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى بيت الكعبة، فإن التوجه مساوٍ، وإن كانت فضيلة الكعبة أعظم من فضيلة بيت المقدس، فهذا يسمونه: نسخ إلى مثل.
ونسخ الأخف بالأثقل منع منه بعض الأصوليين، وقالوا: إن الشريعة شريعة رحمة ولا ينسخ الأخف بالأثقل، والصحيح: أنه ينسخ الأخف بالأثقل بدليل فرضية شهر رمضان، فقد كان المفروض يوماً واحداً فنسخ بثلاثين يوماً، فأوجب الله على الناس صيام شهر كامل، وهذا دليل على جواز نسخ الأخف بالأثقل.
وقد ينسخ الأثقل بالأخف، وهذا كثير، كما في مصابرة الواحد للعشرة، فنسخت بمصابرته للاثنين.
وهذا النسخ -نسخ صيام عاشوراء- يعتبره العلماء من نسخ الأخف إلى الأثقل، فقد نسخه الله عز وجل بفرض الصيام ثلاثون يوماً، وقد يكون الشهر تسعاً وعشرين إذا كان ناقصاً، وسواءً كان كاملاً أو ناقصاً فإنه أثقل من صيام يوم واحد.
وهذه الفرضية بصيام شهر رمضان وقعت في السنة الثانية من الهجرة، في اليوم الثاني، قيل: لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الثانية، ففرض الله على المسلمين صيام شهر رمضان، وأوجب عليهم ذلك، وصام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات كاملة، وهذه السنة -السنة الثانية- هي السنة التي وقعت فيها غزوة بدر الكبرى.
في أول الأمر فرض على الناس صيـام يوم عاشوراء، ثم نسخ صيـام يوم عاشوراء بصيـام رمضـان، وقال بعض العلماء: لا، بل فرض عليهم صيام ثلاثة أيام من كل شهر وهي الأيـام البيض، ثم نسخ ذلك بصيام رمضان.
والصحيح: القول الأول، وهو: أن الناس كانوا مطالبين بصيام يوم عاشوراء فريضة، كما في حديث معاوية في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى المنبر وقال: (إن الله فرض عليكم صيام يومكم هذا في ساعتي هذه) فأوجب الله على الناس صيام يوم عاشوراء، ثم نسخ بصيام شهر رمضان.
وهذا النوع من النسخ يعتبر أحد أنواع النسخ، وهو نسخ الأخف بالأثقل؛ لأن النسخ ينقسم إلى قسمين:
الأول: نسخ إلى بدل.
الثاني: ونسخ إلى غير بدل.
والنسخ إلى بدل إما أن يكون: إلى بدل مساوٍ، أو إلى بدل أثقل، أو بدل أخف.
فمثال البدل المساوي: كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى بيت الكعبة، فإن التوجه مساوٍ، وإن كانت فضيلة الكعبة أعظم من فضيلة بيت المقدس، فهذا يسمونه: نسخ إلى مثل.
ونسخ الأخف بالأثقل منع منه بعض الأصوليين، وقالوا: إن الشريعة شريعة رحمة ولا ينسخ الأخف بالأثقل، والصحيح: أنه ينسخ الأخف بالأثقل بدليل فرضية شهر رمضان، فقد كان المفروض يوماً واحداً فنسخ بثلاثين يوماً، فأوجب الله على الناس صيام شهر كامل، وهذا دليل على جواز نسخ الأخف بالأثقل.
وقد ينسخ الأثقل بالأخف، وهذا كثير، كما في مصابرة الواحد للعشرة، فنسخت بمصابرته للاثنين.
وهذا النسخ -نسخ صيام عاشوراء- يعتبره العلماء من نسخ الأخف إلى الأثقل، فقد نسخه الله عز وجل بفرض الصيام ثلاثون يوماً، وقد يكون الشهر تسعاً وعشرين إذا كان ناقصاً، وسواءً كان كاملاً أو ناقصاً فإنه أثقل من صيام يوم واحد.
وهذه الفرضية بصيام شهر رمضان وقعت في السنة الثانية من الهجرة، في اليوم الثاني، قيل: لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الثانية، ففرض الله على المسلمين صيام شهر رمضان، وأوجب عليهم ذلك، وصام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات كاملة، وهذه السنة -السنة الثانية- هي السنة التي وقعت فيها غزوة بدر الكبرى.
قال العلماء: فرض الله عز وجل صيام رمضان لحكم عظيمة وغايات جليلة كريمة؛ أعظمها وأجلها على الإطلاق:
ما جعل الله في الصيام من معاني الإخلاص لوجهه الكريم؛ فإن الإنسان إذا تعود على الشيء وأصبح ديدناً له ارتاضت نفسه على ذلك الشيء خيراً كان أو شراً، فإذا عود على الخير كان على خير، وإن عود على شر -والعياذ بالله- كان على شر.
فالصيام من أعظم حكمه وأجلها وأشرفها: أنه يعود الإنسان على الإخلاص لله عز وجل.
والسبب في ذلك: أنه أخفى العبادات؛ فإن الإنسان يستطيع أن يتظاهر بالصيام أمام الناس ثم يفطر في بيته بعيداً عن نظر الناس، فإذا صام فكأنه يُعّود بهذه العبادة على إرادة وجه الله الكريم؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله تعالى أنه قال: (كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشرة أمثالها إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به) قال العلماء قوله: (فإنه لي) أي: أنه يقع خالصاً لوجه الله عز وجل.
وسر قوة الإنسان إذا تغلب على نفسه، فإذا أردت أن ترى الإنسان القوي الذي يستطيع أن ينال الطاعة بيسر وسهولة بعد توفيق الله عز وجل؛ فانظر إلى من قهر هواه وأصبحت نفسه تحت أمره ولم يصبح تحت أمر نفسه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40] فإذا أصبحت النفس تحت أمرك وتحت نهيك فقد ملكت كثيراً من الخير، وأصبحت نفسك مستجيبة لطاعة الله؛ لأنك تأمرها وتنهاها فتأتمر وتنتهي، لكن المصيبة إذا كان الأمر على العكس.
فكأن الإنسان حينما يصوم تصبح نفسه تحته؛ لأن النفس تريد شهوة الأكل والشرب، والفرج، ومع ذلك يكبحها ويمنعها، فيقوى سلطان الإنسان على نفسه، وهذا يقع في كثير من العبادات، فالإنسان يشتهي -مثلاً- النوم، فتجده في لذيذ نومه وراحته واستجمامه يأتيه أمر الله أن يقوم إلى صلاة الفجر، فيقوم ويقهر نفسه، فإذا قهر نفسه استجابت نفسه لما بعد ذلك من الأوامر في سائر يومه.
كذلك تأتيه لذة الأكل والشرب، فتأتي فريضة الله عز وجل بالامتناع عن طعامه وشرابه فيصوم، ثم تأتيه شهوة المال فيأتيها أمر الله بإخراج الزكاة فيخرجها، ثم شهوة الأهل والأولاد والأوطان فيأتيها أمر الله بالخروج عنهم والتغرب عنهم في الحج إلى بيت الله الحرام فيحج.
فإذا انتزع الإنسان نفسه من الهوى وأصبحت نفسه تحت أمره ونهيه، استطاع أن يأمرها فتأتمر، وينهاها فتنـزجر.
ولذلك الناس على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: منهم من أصبح هواه تحت أمره، وهم صنف السعداء، كما أشار الله إلى هذا صنف السعداء في قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] .
القسم الثاني: هواه غالب عليه، وقد أشار الله عز وجل إلى هذا القسم بقوله: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43] فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- لا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك؛ ولذلك تجد بعض أهل الشهوات عندما تقول له: يا أخي! هذا حرام.. هذا لا يجوز. يقول: أنا أعلم أنه حرام وأنه لا يجوز ولكن لا أستطيع أن أتركه.
ومعنى أنه لا يستطيع أن يتركه: أنه قد بلغ مرتبة يأمر نفسه فيها فلا تستجيب له، فأصبح هواه هو الذي يأمره، وشهوته هي التي تحكمه، نسأل الله السلامة والعافية.
القسم الثالث: هم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فهؤلاء إلى أمر الله عز وجل، فإن عذبهم فبعدله، وإن عفا عنهم فبمحض فضله، فهؤلاء هم الذين تارة يغلبون الهوى وتارة يغلبهم الهوى، وهم الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، إن غلبوا الهوى كانوا على الصلاح، وإن غلبهم الهوى كانوا على الطلاح، ولذلك لا يأمن الواحد منهم أن تأتيه منيته وهو متبعٌ لهواه، أو تأتيه منيته وهو على طاعة ربه، ولذلك مثل هؤلاء على خطر إن لم يتداركهم الله عز وجل برحمته.
فالمقصود: أن الصيام يربي في النفس القدرة على قهر الهوى، حتى تكون النفس مستجيبة، قال العلماء: من امتنع عن الطعام والشراب والجماع الحلال -فإن الله أحل له أن يطعم ويشرب ويجامع زوجته- كان أقدر على أن يمنع نفسه بتوفيق الله عن الحرام.
فإذا مكث ثلاثين يوماً وهو لا يقترب من طعامه ولا شرابه ولا شهوة فرجه؛ فإنه قادر -بإذن الله عز وجل- إذا دعته نفسه للحرام أن يمتنع عن أكله أو شربه أو فعله.
وفي الصيام خير كثير، فإنه يذكر الأغنياء بالفقراء والمحتاجين، فإن الإنسان إذا جاع وعطش مع قدرته أو علمه أنه في آخر النهار سيجد الطعام وسيجد الشراب، سيتذكر الفقير الذي لا يجد طعاماً ولا شراباً، ولذلك قالوا: إن هذا الصيام فيه مصلحة عظيمة للإنسان من جهة تذكره للضعفاء، وخاصة إذا كان من الأغنياء والأثرياء.
فإن الغني ربما ينسى إخوانه من الضعفاء والفقراء بسبب ما فيه من الغنى، كما قال تعالى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] فالإنسان إذا استغنى أصابه الطغيان، ولكن إذا جاع كما يجوع الفقير وضمأ كما يضمأ الفقير دعاه ذلك إلى أن يتذكر هؤلاء الضعفاء فيعطف عليهم.
إن الصيام يذكر بالله جل جلاله ويذكر بالآخرة، ولذلك كان بعض العلماء رحمة الله عليهم يبكي إذا انتصف النهار؛ لأنه يتذكر الموقف بين يدي الله عز وجل واشتداد الحر وعظم ضمأ الناس في عرصات يوم القيامة.
فلأجل هذه الحكم العظيمة والغايات الجليلة الكريمة شرع الله الصيام وأخبر سبحانه وتعالى أنه سبيل لأعظم وأحب الأشياء إليه وهو تقواه، فقال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] أي: جعلناه سبباً للتقوى، وما خرج الإنسان بزاد من الدنيا أحب إلى الله من تقواه، كما قال سبحانه: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] .
فإذا كان الصوم يزيد من التقوى فمعناه: أنه يزيد من أمرين وهما:
الأول: تحصيل فرائض الله.
الثاني: الانكفاف والامتناع عن محارم الله سبحانه وتعالى.
كان الإنسان يصوم -في بداية فرضية الصيام- من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فإذا غابت الشمس أفطر، فإذا نام ولو بعد مغيب الشمس بلحظة واحدة حرم عليه الأكل والشرب إلى اليوم الثاني، فكانت هذه هي فرضية الصيام في أول الأمر، ثم إن الله خفف ذلك، فقال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187] إلى قوله سبحانه وتعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187].
والسبب في ذلك: قصة الصحابي الذي أغمي عليه حينما جاء من عمله وكان في فلاحته وزراعته، فلما جاء آخر النهار سأل امرأته الطعام، فذهبت لتحضر الطعام له فأصابه غشي من التعب والعناء فنام، فجاءت فقالت له: ويلك! أنمت؟ فلما أصبح في اليوم الثاني أصبح مجهداً منهكاً فغشي عليه في منتصف النهار، فخفف الله عز وجل عن عباده، وهذا من نسخ الأثقل بالأخف.
فخفف الله عز وجل الفرضية وجعلها من طلوع الفجر الصادق إلى مغيب الشمس، وهذا هو الذي استقر عليه حكم الله عز وجل لهذه الأمة إلى قيام الساعة.
كان الصيام في الأمم الماضية بالإمساك عن الكلام، كما قالت مريم عليها السلام: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا [مريم:26] واختلف العلماء في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183]، فقال بعض العلماء: الشبه في قوله تعالى: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183] من حيث الفرضية، أي: ألزمناكم بالصيام كما ألزمنا من قبلكم، وإن كان هناك فرق بينكم وبينهم في الصفة، وقال بعض العلماء: بل إن الفرضية في أولها كانت كفرضية أهل الكتاب، ثم نسخت بعد ذلك.
قوله: [ يجب صوم رمضان برؤية هلاله ]:
هذا الوجوب الذي نبه عليه المصنف على سبيل الفرضية هو الذي يثاب فاعله ويعاقب تاركه، وإذا ترك شخص صيام رمضان عامداً متعمداً فأفطر -ولو يوماً واحداً- لم يقضه ولو صام الدهر.
بمعنى: أن الله لا يعطيه ثواب ذلك اليوم ولو صام الدهر كاملاً، لكن يجب عليه قضاء ذلك اليوم؛ لأن الله عز وجل فرض علينا صيام الشهر كاملاً، ولا يسقط هذا الشهر إلا بدليل، وأما حديث: (من أفطر يوماً من رمضان لم يقضه صيام الدهر) فقد خرج مخرج الوعيد، وهو المخرج الذي يسمى بالمبالغة، وله نظائر، كقوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) فليس المراد به التحديد والقصر. بمعنى أن الحج فقط في عرفة وحدها، إنما هو على سبيل المبالغة وقوله عليه الصلاة والسلام: (لم يقضه صيام الدهر) معناه: أن من أفطر عامداً متعمداً لا ينال فضل صيام ذلك اليوم مهما صام، بخلاف من أفطر لعذر؛ فإنه إذا صام يوماً بدلاً عن هذا اليوم الذي أفطر فيه فكأنه صام رمضان نفسه؛ وهذا لوجود العذر، فإذا كان بدون عذر فإن الله لا يبلغه مرتبة من كان معذوراً.
أما إسقاط الفرض عنه فإنه قول ضعيف ومخالف للأصل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لنا أن الحقوق واجبة، وأن حقوق الله دين على المكلف، كما في الحديث الصحيح أنه قال: (فدين الله أحق أن يقضى) فهذا نص صحيح صريح على أن العبد إذا أخل بواجب فإن عليه ديناً يجب أن يقضيه، وأن يقوم به على وجهه، ولما كان الحديث محتملاً بقينا على الأصل من وجوب مطالبته بصيام رمضان.
وقوله: (رمضان) اختلف العلماء فيه، فقال بعض العلماء: هو مأخوذ من الرمضاء، والمراد بذلك شدة الحر، والسبب في هذا: أن العرب كانت تسمي هذا الشهر في الجاهلية نائقاً يقولون: شهر نائق، وهو الشهر التاسع من الأشهر القمرية، ثم لما فرض الله صيام رمضان وافقت السنة الثانية سنة حر وشدة، فسموه رمضان من هذا.
القول الثاني: أنه سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب، وفي ذلك حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب) بمعنى: يحرقها ويذهبها، ولكنه حديث ضعيف، بل فيه راوٍ كذاب، ولذلك لا يعول عليه.
القول الثالث: إن اسم رمضان اسم من أسماء الله عز وجل، وفيه حديث ضعيف.
وأصح هذه الأقوال القول الأول: أنه سمي رمضان من الرمضاء وهي شدة الحر؛ حيث إنه حينما فرضه الله على عباده وافق زماناً شديد الحر.
وفي قوله رحمه الله: [ يجب صوم رمضان ]: للعلماء قولان:
قال بعض العلماء: لا يجوز أن تقول: دخل رمضان وخرج رمضان وانتصف رمضان، واستدلوا بالحديث الذي تقدمت الإشارة إليه: (لا تقولوا: جاء رمضان، فإنه اسم من أسماء الله) وهذا حديث ضعيف.
والصحيح أنه يجوز أن يقول: جاء رمضان ومضى رمضان وانتصف رمضان؛ لأن السُّنة دلت على جواز ذلك، وقد ترجم له الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه، والدليل على جواز ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة في الصحيح: (إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة) .
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، وفي الصحيح قوله أيضاً: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) فلأجل هذا دلت النصوص على جواز قولك: جاء رمضان، وخرج رمضان، وانتصف رمضان، ولا حرج عليك في ذلك، ولكن بعض العلماء يقول: الأفضل أن يقول: شهر رمضان. فيضيف لفظ الشهر؛ لأن الله سبحانه وتعالى نص على ذلك فقال: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] فقالوا: الأفضل أن يضيف كلمة الشهر، وهذا على سبيل الكمال والاستحباب لا على سبيل الحتم والإيجاب.
قوله: [يجب صوم رمضان برؤية هلاله]. (الباء) سببية، أي: بسبب رؤية هلاله.
والشهور تنقسم إلى شهور شمسية، وشهور قمرية، الشهور القمرية اثنا عشر شهراً، وهي السنة القمرية، وهذه الشهور هي التي رتب الشرع عليها الأحكام، ولم يرتبها على الشهور الشمسية، فالشريعة ترتب أحكامها على الشهور القمرية.
فمثلاً: في عدة المرأة الآيسة من الحيض؛ إذا كانت ثلاثة أشهر فإنها تعتد بالشهور القمرية، ولا تعتد بالإجماع بالشهور الشمسية، وهكذا بالنسبة للمرأة المحتدة في الوفاة أربعة أشهر وعشراً؛ فإنها تحد بالشهور القمرية ولا تحد بالشهور الشمسية، وهكذا صيام شهرين متتابعين في كفارة القتل وكفارة الظهار وكفارة الجماع في نهار رمضان، تكون بالشهور القمرية، ولا تكون بالشهور الشمسية.
والشهور القمرية تنقسم إلى شهور كاملة، وهي التي استتمت العدد ثلاثين يوماً.
وشهور ناقصة وهي التي تكون رئي الهلال دالة على نقصانها، فتكون تسعة وعشرين يوماً، فالفرق بينهما يوم واحد، وهو الذي يسمى بيوم الشك.
والسبب في ذلك: أن القمر له منازل ودرجات، فإذا غابت الشمس وسقطت قبل القمر، فمعنى ذلك: أن الهلال في هذه الليلة قد دخل الشهر التالي، وبناءً على ذلك تكون منـزلته من منـزلة الشهر التالي، أما لو سقط قبل الشمس، فمعنى ذلك: أنه قد بقيت له درجة، وحينئذٍ يكون الشهر كاملاً، وبناءً على ذلك: لا يمكن أن يحكم بدخول الشهر إلا بأحد أمرين في الشهور القمرية:
الأمر الأول: كمال العدد للشهر السابق، فتتم له ثلاثون يوماً.
الأمر الثاني: أن يرى الهلال ليلة الثلاثين، فتكون رؤيته دليلاً على أن الشهر الماضي ناقص، وأن عدة أيامه تسع وعشرون يوماً.
وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39] فهو على منازل ودرجات، فإذا سقطت الشمس قبله وبقي فمعنى ذلك: أن الشهر كامل وأن هذه الليلة للشهر التالي.
لكن لو سقط قبل الشمس فمعنى ذلك: أنه قد بقي له درجة فحينئذٍ لابد من الليلة الثلاثين التي تكون فيها درجة القمر كاملة.
فإذا وجدت هاتان العلامتان حُكم بما يترتب عليهما، من القول بكمال الشهر، وحينئذٍ يحكم بوجوب صيام رمضان، فإذا رُئي الهلال ليلة الثلاثين فحينئذٍ يثبت عندنا أن شهر رمضان قد دخل، والدليل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) فاللام: في قوله صلى الله عليه وسلم (لرؤيته) تعليلية أي: بسبب رؤيته، فجعل الرؤية سبباً في وجوب الصوم، فمن رأى الهلال ليلة الثلاثين فإنه حينئذٍ يثبت دخول رمضان برؤيته على تفصيل عند العلماء؛ هل يشترط العدل أو لا يشترط.
إذا غم الهلال
الحالة الأولى: إما أن تكون السماء ليلة الثلاثين صحواً، والسماء الصحو: هي الواضحة التي لا غيم فيها ولا قتر، والقتر: هو الغبار ونحو ذلك كالدخان الذي يجب الرؤية، فالسماء إذا كانت صحواً والرؤية ممكنة، وترائينا الهلال ولم نره؛ فحينئذٍ -بالإجماع- تعتبر الليلة من شعبان، ولا تعتبر من شهر رمضان ولا يحكم بدخول شهر رمضان.
الحالة الثانية: وهي أن لا تكون السماء صحواً، أي: فيها غيم أو يكون فيها قتر من غبار، كما يقع في بعض الأحيان حين يأتي العجاج والريح بالغبار والأتربة فلا يتمكن الناس من رؤية السماء، أو يكون هناك حريق ودخان، فلا يتمكن الناس من رؤية السماء، فإذا حصل الحائل سواءً من غيم أو قتر أو دخان فللعلماء قولان:
قال بعض العلماء: إذا كانت السماء مغيمة، أو كان بها قتر، فإننا نحكم بتمام شهر شعبان، وهذا هو مذهب جمهور العلماء، ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية والظاهرية وطائفة من أهل الحديث، أي: أنه إذا كانت ليلة الثلاثين ولم نر الهلال سواءً كانت السماء صحواً أو كانت مغيمة، فالحكم عندهم سواء، أي: أنهم يتمون عدد شعبان ثلاثين يوماً، واستدلوا بما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (فإن غم عليكم فأكملوا العدة) وفي رواية: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً).
ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن غم عليكم) فنص على أنه إذا لم يُر الهلال -كأن يكون هناك غيم- فإننا نتم العدة ثلاثين يوماً.
والدليل الثاني: قالوا: الأصل في الشهر أنه ثلاثون يوماً حتى يدل الدليل على أنه ناقص، فالنقص خلاف الأصل، والقاعدة في الشرع: أن الأصل بقاء ما كان على ما كان.
فالأصل: أننا في شعبان، ونشك هل دخل رمضان أو لا، فلما كانت العدة ناقصة نقول: يجب علينا إكمال العدة لأنه الأصل، وعلى هذا فيجب إتمام شعبان ثلاثين يوماً.
القول الثاني: قالوا: إذا كان هناك غيم أو قتر فإنه يصام ذلك اليوم ويحسب من رمضان، وهذا هو قول الإمام أحمد رحمة الله عليه واختاره طائفة من أصحابه، وهو أنه إذا كانت السماء مغيمة أو بها قتر فإنه يجب صوم ذلك اليوم لاحتمال كونه من رمضان، واستدلوا برواية: (فإن غم عليكم فاقدروا له) قالوا: قوله عليه الصلاة والسلام: (اقدروا) من التضييق، تقول العرب: قدّر الشيء إذا ضيقه، ومنه قوله تعالى: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11] حينما علم داود صنعة اللبوس التي تكون لمنع ضربات السيوف ونحوها، قال: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [سبأ:11] يعني: ضيق حلق السرد حتى لا يصاب الإنسان إذا طعن أو جرح، فالتقدير هو: التضييق، ومنه قوله تعالى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق:7] أي: ضيق عليه، ولذلك قال تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد:26] يبسط: بمعنى: يغني، ويقدر: بمعنى: يضيق، فلما قال عليه الصلاة والسلام: (إن غم عليكم فاقدروا له) فمعنى ذلك: أننا نقدر شهر شعبان، أي: نضيق شهر شعبان ولا نعده كاملاً، ونجعله تسعاً وعشرين، ثم ندخل في شهر رمضان.
واستدلوا أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيحين: (إنا أمة أمية) وهذا الحديث يحتاج إلى تأمل؛ فإن وصف الأمية لأمة النبي صلى الله عليه وسلم وصف شرف، وليس بوصف نقص، على خلاف ما يظن بعض الناس اليوم أن الأمية وصف نقص؛ فإن هناك فرقاً بين الجهل وبين الأمية؛ فالشخص قد يكون أمياً وهو عالم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً وهو أعلم من على وجه الأرض، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ [الجمعة:2] فهو وصف شرف لا نقص، وقوله عليه الصلاة والسلام : (إنا أمة أمية) يثبت هذا.
ولذلك الأنسب أن يقال: محو الجهل. لا أن يقال محو الأمية؛ حتى لا يظن الناس أنها صفة نقص.
قال عليه الصلاة والسلام : (إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا) قال الراوي: أشار بيديه ثلاثاً، يعني: ثلاثين يوماً، (وهكذا) أي: أشار ثلاث مرات، قال: ثم قبض إبهامه في الثالثة.
أي: أن الشهر يكون ثلاثين ويكون تسعاً وعشرين.
وقال أصحاب القول الثاني: إنه لما قال: (الشهر هكذا وهكذا) فمعناه: أن اليقين أن الشهر تسع وعشرون، والشك في الثلاثين، فالأصل في الشهر تسع وعشرون عندهم، وحينئذٍ يكون كمال الشهر بتسع وعشرين، ويكون اليوم الثلاثون مشكوكاً فيه، قالوا: فحينئذٍ نوجب على الناس صيام هذا اليوم؛ لاحتمال كونه من رمضان.
والذي يترجح والعلم عند الله هو قول الجمهور: وهو أنه إذا حال بين الناس وبين رؤية الهلال غيم أو قتر أنه لا يجب عليهم صيام يوم الثلاثين، والدليل على ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين) وهذا يدل على أننا لا نصوم يوم الشك، وهذا نهي تحريم، وإذا ثبت أن الأصل أن يكون الشهر ثلاثين يوماً كما في الحديث الصحيح في قوله عليه الصلاة والسلام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) فهذا نص صريح، فالقول الذي يقول: إن العدة تكمل ثلاثين يوماً أقوى؛ لأنه اعتمد الأصل، وأما رواية: (فاقدروا له) فإن القدر يطلق بمعنيين:
الأول: إما أن يراد به التضييق.
الثاني: وإما أن يراد به الحساب. تقول: قدِّر، يعني: احسب لي هذا الشيء، وبيّن لي حقيقته وأعطني قدره وحقه من العدد والحساب، فلما كان قوله عليه الصلاة والسلام: (اقدروا له) وكانت المسألة مسألة حسابية حمل قوله: (اقدروا له) على الحساب؛ لأن القاعدة تقول: (أن مبنى الحديث قرينة على معناه) فلما كان الحديث منبنياً على الحساب، وعندنا معنيان للقدر: معنى التضييق، ومعنى التقدير، وهو الحساب، حملناه على معنى الحساب؛ لأن القاعدة في الأصول أنه إذا تردد الحديث بين معنيين:
معنى يخالف نصوصاً أخرى، ومعنىً يوافق، وجب صرفه إلى المعنى الموافق.
فلما جاءنا حديث: (أكلموا العدة ثلاثين) فسّر المراد بقوله: (اقدروا له) أي: اجعلوا لشعبان قدره، فيكون قوله: (اقدروا له) أي: أعطوا شعبان قدره، بمعنى: أكملوا عدة شعبان، فاتفقت رواية التقديم مع رواية الإكمال، وبناءً على ذلك: فإنه إذا حال بيننا وبين رؤية الهلال في ليلة الثلاثين غيم أو قتر، فإننا نكمل عدة شعبان ثلاثين يوماً.
رؤية الهلال فرض كفاية
فتساهل الناس في رؤية الهلال يعتبر من المنكرات، وينبغي على طلاب العلم أن يحيوا هذه السنة؛ فقد كان الناس -إلى عهد قريب- إذا كان يوم التاسع والعشرين وليلة الثلاثين خرجوا إلى الصحراء؛ لإحياء هذه السنة.
وحبذا لو يسألون أهل الخبرة ويعرفون منازل القمر قبل مغيبه في الأيام التي تسبق أيام الرؤية، حتى يكون عندهم إلمام ومعرفة، ثم بعد ذلك يخرجون لرؤية الهلال، ويعرفون درجاته ومنازله حتى يمكنهم أن يثبتوا هذا الأمر؛ لأنه إذا لم يقوموا بذلك فإنه قد يوجد الهلال ولا يتراءاه الناس، فيضيع حق الله عز وجل، وصيام هذه الأيام مركب على وجود هذه الرؤية.
وبناءً على ذلك قال العلماء: لا ينبغي التساهل في رؤية الهلال، بل إذا تساهل الناس أو انشغلوا فينبغي توصية أناس ولو بالأجرة؛ لأن فروض الكفايات إذا لم يوجد من يقوم بها شرع إعطاء الأجرة لمن يقوم بهذه بها؛ لكي يثبت به حق الله عز وجل من صيام الأيام المفروضة.
استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] | 3704 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] | 3620 استماع |
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق | 3441 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] | 3374 استماع |
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة | 3339 استماع |
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] | 3320 استماع |
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] | 3273 استماع |
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] | 3228 استماع |
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص | 3185 استماع |
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] | 3169 استماع |