العقوبات الثمانية لمن أكل المال الحرام
مدة
قراءة المادة :
27 دقائق
.
العقوبات الثمانية لمن أكل المال الحرامقالَ صلى الله عليه وسلم: "ليأتيَنَّ على الناسِ زمانٌ، لا يُبالي المرءُ بما أخذَ المالَ، أمِن حلالٍ أمْ من حرامٍ" [1].
لقد صار هَمُّ أكثرِ الخلقِ في زماننا جمع المالِ، الفَطِنُ الذَّكي من يجمعُ أكثرَ، لا يُبالي من حلالٍ كان هذا المالُ أو من حرامٍ، المهم أن يجمعَ ويكنِزَ، يُفنِي عمرَه، وينفق زهرةَ شبابه، ويسهرُ الليالي الطوالَ، ويجولُ الدنيا، ويطوفُ شرقًا وغربًا في جمعِ المالِ.
لقد كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يحرِصُ على تجنُّبِ أكلِ المالِ الحرامِ، ليس هو فحسب بل جميع أهله، قال صلى الله عليه وسلم: "إني لأنقلِبُ إلى أهلِي، فأجِدُ التمرةَ ساقطةً على فراشِي، ثم أرفعُها لآكلَها، ثم أخشَى أن تكونَ صدقةً، فأُلقِيها"[2].
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: أخذَ الحسنُ بن علي رضي الله عنهما تمرةً من تمرِ الصدقةِ، فجعلَها في فِيه، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "كِخٍ كِخٍ"؛ ليطرَحَها، ثم قال: "أما شعَرْتَ أنا لا نأكلُ الصدقةَ" [3].
وكان أصحابُه رضي الله عنه من أبعدِ الناسِ عن أكلِ الحرامِ؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لأبي بكرٍ غلامٌ يُخرِجُ له الخَراجَ، وكان أبو بكرٍ يأكلُ من خَراجِه، فجاءَ يومًا بشيءٍ فأكلَ منه أبو بكرٍ، فقال له الغلامُ: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكرٍ: وما هو؟ قال: كنت تكهَّنتُ لإنسانٍ في الجاهليةِ، وما أُحسِنُ الكِهانةَ، إلا أني خدعتُه، فلَقِيَني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه، فأدخلَ أبو بكرٍ يده، فقاءَ كلَّ شيءٍ في بطنِه" [4].
وعن عروة بن الزبير رحمه الله أن أروَى بنتَ أويس ادَّعَت على سعيد بن زيد أنه أخذَ شيئًا من أرضِها، فخاصَمَتْه إلى مروان بن الحَكَم، فقال سعيد: أنا كنتُ آخذُ من أرضِها شيئًا بعد الذي سمعتُ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: وما سمعتُ من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أخذَ شِبرًا من الأرضِ ظلمًا طُوِّقَه إلى سبعِ أرضِين"، فقال له مروان: لا أسألُك بيَّنَةً بعد هذا، فقال: "اللهمَّ إن كانت كاذبةً فعَمِّ بصرَها، واقتُلْهَا في أرضِها"، قال: "فما ماتتْ حتى ذهبَ بصرُها، ثم بيْنا هي تمشِي في أرضِها، إذْ وقعَتْ في حفرةٍ فماتت" [5].
ولا تحسَب أن هذا المسكين الذي كنَز المالَ وجمعَه من الحرامِ، سوف يجِدُ راحةً وسعادةً في حياتِه، كلا والله، إنه لا بد أن يشقَى في حياتِه، وبعد مماتِه، إنه يجني عاقبةَ ذنبِه هذا همًّا وضِيقًا وظُلمَةً تملأُ قلبَه، مع ما ينتظره في الآخرةِ من العقابِ الأليمِ، إن هو لم يتُبْ.
إن أكلَ المالِ الحرامِ ليس من الذنوبِ الصغيرةِ، بل هو من كبائرِ الذنوبِ وعظائِمها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السبعَ الموبقاتِ"، قالوا: يا رسولَ الله وما هن؟ قال: "الشركُ بالله، والسِّحرُ، وقتلُ النفسِ التي حرَّمَ الله إلا بالحقِّ، وأكلُ الربا، وأكلُ مالِ اليتيمِ، والتولِّي يومَ الزحفِ، وقذفُ المحصناتِ المؤمناتِ الغافلاتِ" [6].
فذكر منها اثنين هما بعضُ صورِ المالِ الحرامِ، "أكل الربا، وأكل مالِ اليتيم".
وها أنا ذا أذكر لك يا أخي بعضَ عقوباتِ من أكلَ المال الحرام ولم يتُب، إنها عقوباتٌ في هذه الحياةِ الدنيا، وعقوباتٌ في الحياةِ الأخرى؛ في قبرِه، ويومَ الحشرِ، وفي جهنم عافانا الله، كلُّ هذا بأدلته من كتاب الله عز وجل، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ليكونَ في هذا زجرًا لنا إن سوَّلَتْ لنا أنفسُنا أكلَ الحرام.
1- عدم قبول دعائه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناسُ، إن الله طيِّبٌ لا يقبَلُ إلا طيبًا، وإن الله أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المرسلين، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172].
ثم ذكر الرجلَ يُطيلُ السفرَ أشعثَ أغبَرَ، يمُدُّ يديه إلى السماءِ: يا رب، يا رب، ومطعمُه حرامٌ، ومَشرَبُه حرامٌ، وملبسُه حرامٌ، وغُذي بالحرام، فأنى يُستجَابُ لذلك؟ [7].
عن مالك بن دينار رحمه الله قال: أصابَ بني إسرائيل بلاءٌ وقحطٌ، فخرجوا يُضِجُّون، فأوحى الله إلى نبيٍّ من أنبيائهم أن أخبرِهم: تخرجون إلى الصعيدِ بأبدانٍ نجِسَةٍ، وأيدٍ قد سفكتُم بها الدماءَ، وملأتم بطونَكم من الحرامِ؟ الآن حين اشتدَّ غضبي عليكم، ولن تزدادُوا مني إلا بُعدًا".
وقال بعض السلف: لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طرقها بالمعاصي.
وعن وهب ابن منبه رحمه الله قال: من سره أن يستجيب الله دعوته، فليُطِب طعمته.
2- محق البركة:
قال الله تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: 276]؛ قال العلماء: يمحق الربا؛ أي: يُذهبه، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله، فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا، ويعاقبه عليه يوم القيامة.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أحدٌ أكثرَ من الربا إلا كان عاقبَةُ أمرِه إلى قِلَّةٍ" [8].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: "الحَلِفُ مَنفَقةٌ للسلعةِ، ممحَقةٌ للربحِ" [9].
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيِّعانِ بالخِيارِ ما لم يتفرَّقَا - أو قال: حتى يتفَرَّقا - فإن صدَقا وبيَّنَا، بورِك لهما في بيعِهما، وإن كتمَا وكذَبا، مُحِقَتْ بركةُ بيعِهما" [10].
3- الخسارة والهلاك:
قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 278، 279].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يُقَالُ يومَ القيامة لآكل الربا: خذ سلاحَك للحربِ، قال: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 279] [11].
قالَ العلماءُ: استُشْكِلَ وقوعُ المحاربةَ وهي مفاعلةٌ من الجانبين، معَ أنَّ المخلوقَ في أسْرِ الخالقِ، والجوابُ: أنَّه مِنَ المخاطَبةِ بما يُفهَمُ؛ فإنَّ الحربَ تنشأُ عن العداوةِ، والعداوةُ تنشأُ عن المخالفةِ، وغايَةُ الحرْبِ الهَلاكُ، ومَنْ عَادَى الله يُغلَبُ ولا يفلِحُ.
وكأنَّ المعنى: فقدْ تعرَّضَ لإهلاكي إيَّاه، فأطلَقَ الحرْبَ وأرادَ لازمَه؛ أي: أعمَلُ به ما يعمَلُه العدَو المُحَارِبُ، وفي هذا تهدِيدٌ شدِيدٌ؛ لأنَّ من حارَبَه الله أهلَكَه، وهو من المَجازِ البليغِ؛ لأنَّ من كَرِه من أحبَّ الله خالفَ الله، ومن خالَفَ الله عاندَه، ومن عاندَه أهلكَه.
4- غضب الله على آكل المال الحرام:
عن أبي وائل الأسدي رحمه الله عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلفَ يمينَ صبْرٍ ليقتطِعَ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ، لقِيَ الله وهو عليه غضبانُ، فأنزل الله تصديقَ ذلك: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 77].
قال: فدخلَ الأشعثُ بن قيس، وقال: ما يُحدِّثُكم أبو عبدالرحمن؟ قلنا: كذا وكذا، قال: فيَّ أُنزِلَتْ؛ كانت لي بئرٌ في أرضِ ابنِ عمٍّ لي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " بيَّنتُك أو يمينُه".
فقلت: إذًا يحلِفُ يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلَف على يمينِ صبْرٍ، يقتطِعُ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ، وهو فيها فاجرٌ، لَقِيَ الله وهو عليه غضبان" [12].
5- اللعن والطرد من رحمة الله:
فقد لعَنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم آكلَ الرِّبَا ومؤكِلَه، وكاتِبَه، وشاهِدَه؛ فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لعنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم آكلَ الربا ومؤكِلَه" [13].
وعن جابر رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا، ومؤكله، وكاتبه، وشاهديه"، وقال: "هم سواء" [14].
ولعن الله تعالى الراشي والمرتشي؛ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لعنَ الله الراشي والمرتشي" [15].
ولعن الله عزَّ وجلَّ السارقَ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعنَ الله السارقَ يسرِقُ البَيضةَ، فتُقطَعُ يدُه، ويسرِقُ الحبْلَ فتُقطَعُ يدُه" [16].
ولعن الله عزَّ وجلَّ من غيَّرَ منارَ الأرضِ؛ فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعنَ الله من غيَّرَ منارَ الأرضِ" [17].
ولعن الله عزَّ وجلَّ من باعَ الخمر أو اشترَاها؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لُعِنَتِ الخمرُ على عشرةِ أوجهٍ: بعينِها، وعاصرِها، ومعتصرِها، وبائعِها، ومبتاعِها، وحاملِها، والمحمولةِ إليه، وآكلِ ثمنِها، وشاربِها، وساقِيها" [18].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أتاني جبريلُ، فقال: يا محمدُ، إنَّ الله عزَّ وجلَّ لعنَ الخمرَ، وعاصرَها، ومُعتصِرَها، وشاربَها، وحاملَها، والمحمولةَ إليه، وبائعَها، ومُبتاعَها، وساقِيها، ومُستقِيها" [19].
6- العذاب في القبر:
قال الله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: 275، 276].
فهذا عقابُ آكلِ الرِّبَا حينَ يقومُ من قبرِه في يومِ الهولِ العظيمِ، لا يَقُوم من قبرِه يومَ القيامةِ إلا كما يقومُ المَصْروعُ حالَ صَرَعِه وتخَبُّط الشَّيطَانِ له؛ وذلك أنَّه يقومُ قيامًا مُنكَرًا.
وعن سمُرة بن جُندَب رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "رأيتُ الليلةَ رجلين أتيَاني، فأخرَجَاني إلى أرضٍ مُقدسةٍ، فانطلقنا حتى أتينا على نهرٍ من دمٍ فيه رجلٌ قائمٌ، وعلى وسطِ النهرِ رجلٌ بين يديه حجارةٌ، فأقبَلَ الرجلُ الذي في النهرِ، فإذا أرادَ الرجلُ أن يخرجَ رمَى الرجلُ بحجرٍ في فيه، فردَّه حيث كانَ، فجعلَ كلَّما جاءَ ليخرُجَ رَمَى في فيه بحجرٍ، فيرجِعُ كما كان، فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيتَه في النهرِ آكلُ الربا" [20].
7- العذاب في الآخرة:
عن خولَةَ الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن رجالًا يتخوَّضون في مالِ الله بغيِر حقٍّ، فلهم النارُ يومَ القيامةِ" [21].
وفي لفظٍ [22]: "إن هذا المالَ خضِرَةٌ حُلوةٌ، من أصابَه بحقِّه بُورِك له فيه، ورُبَّ مُتخوِّضٌ فيما شاءَت به نفسُه من مالِ الله ورسولِه ليس له يومَ القيامةِ إلا النارُ".
وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشَرٌ، وإنكم تختَصمون إليَّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكونَ ألحَنَ بحجَّتِه من بعضٍ، وأقضِي له على نحو ما أسمَعُ، فمن قضَيتُ له من حق أخيه شيئًا، فلا يأخذ، فإنما أقطع له قطعة من النار" [23].
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا كعبُ بن عُجرة، لا يدخلُ الجنةَ من نبَتَ لحمُه من سُحْتٍ، النارُ أولَى به" [24].
ومن أخذَ من الأرضِ شيئًا عُذِّبَ في قبرِه؛ فعن أبي سلمة بن عبدالرحمن رحمه الله أنه كانت بينه وبين أُناسٍ خصومةٌ، فذكرَ لعائشة رضي الله عنها، فقالت: يا أبا سلمة، اجتنبِ الأرضَ؛ فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "من ظلَمَ قيْدَ شبرٍ من الأرضِ طُوِّقَه من سبعِ أرضِين" [25].
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "من أخذَ من الأرضِ شيئًا بغير حقِّه، خُسِفَ به يومَ القيامةِ إلى سبعِ أرضِين" [26].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يأخذُ أحدٌ شبرًا من الأرضِ بغيرِ حقِّه، إلا طُوِّقَه الله إلى سبعِ أرضِين يومَ القيامةِ" [27].
ومن أكلَ مالَ اليتيمِ عُذِّبَ في قبرِه؛ فقد قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10].
والغال عُذِّبَ في قبرِه؛ فقد قال الله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 161].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى خيبرٍ، ففتحَ الله علينا فلم نغنَمْ ذهبًا ولا ورِقًا، غنِمنا المتاعَ والطعامَ والثيابَ، ثم انطلقنا إلى الوادِي، ومع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عبدٌ له، وهبَه له رجل من جُذَامٍ يُدعَى رِفاعةَ بنَ زيدٍ من بني الضُّبَيبِ، فلما نزلنا الوادي قامَ عبدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يحُلُّ رحلَه، فرُمِيَ بسهمٍ، فكان فيه حتفُه، فقلنا: هنيئًا له الشهادةُ يا رسولَ الله!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلا والذي نفسُ محمدٍ بيدِه، إن الشمْلَة لتلتَهِبُ عليه نارًا، أخذَها من الغنائمِ يومَ خيبرٍ، لم تُصِبْها المقاسمُ"، قال: ففزِعَ الناسُ، فجاء رجلُ بشِراك أو شِراكين، فقال: يا رسولَ الله، أصبتُ يومَ خيبرٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شِراكٌ من نارٍ أو شِراكان من نارٍ" [28].
8- عدم قبول صدقته:
عن مصعب بن سعد رحمه الله قال: دخل عبدُالله بن عمر على عبدالله بن عامرٍ يعوده وهو مريضٌ، فقال: ألا تدعو الله لي يا بنَ عمر؟ قال: إني سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُقبَلُ صلاةٌ بغيرِ طُهُورٍ، ولا صدقةٌ من غُلُولٍ، وكنتَ على البصرةِ" [29].
قالوا: معناه إنك لست بسالمٍ من الغلولِ؛ فقد كنت واليًا على البصرة، وتعلَّقت بك تبعاتٌ من حقوق الله تعالى وحقوق العباد، ولا يقبل الدعاء لمن هذه صفته.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أديتَ زكاةَ مالِك، فقد قضَيْتَ ما عليكَ فيه، ومن جمَعَ مالًا حرامًا، ثم تصدَّقَ به، لم يكُنْ له فيه أجرٌ، وكان إصْرُه عليه" [30].
ومما ذكره بعضُهم:
1- نزول البلايا على الناس:
فأكل الحرام سبب لحلول النقم، والعقوبات العامة على الأمة، وزوال نعم الله عليها في اقتصادها وأمنها؛ فللمكاسب المحرمة آثار سيئة على الفرد والجماعة، تنزع البركات، وتفشو العاهات، وتحل الكوارث.
2- فساد القلب وحرمان حلاوة الطاعة:
لأن القلبَ يُغطِّي عليه المأكلُ الحرامُ، فلا يوجد فيه لحلاوةِ الطاعة موضعٌ، وحلاوة الطاعة ولذة العبادة نعمة ومنحة ربانية يُسعِد الله بها أولياءَه وصالحي عباده، وآكل الحرام ليس منهم فأنى له أن يصل لذلك.
3- الجرأة على المعاصي والحرمات والموبقات:
قال سهل رضي الله عنه: من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى، علم أو لم يعلم، ويتبع ذلك حلول سخط الله وغضبه عليه.
قلت: وهذه الثلاث لا أعلم عليها أدلة، لكنها تعمُّ كلَّ ذنب فعلَه العبد، والله أعلم.
أشهر مصادر المال الحرام:
1- الربا: وينقسم الرِّبَا إلى قسمينِ عند جمهورِ الفقهاءِ: الأول: ربَا النَّسِيئةِ: وهو الزِّيادةُ في المالِ مقابلَ الزِّيادَةِ في الأجلِ، بأنْ يبيعَ شخصٌ لآخرَ سلعةً بأجَلٍ، فإذا حَلَّ وقتُ الأجلِ ولم يَقُمْ المشْتَرِي بسَدَادِ ما عليه زادَ في الدَّين نظيرَ الأجَلِ.
والثَّاني: ربَا الفَضْلِ: وهو بَيْعُ النُّقُودِ بالنُّقُودِ أو الطَّعَامِ بالطَّعَامِ مع الزِّيَادةِ، كمَنْ يبيعُ جنيهًا بجنيهين أو صاعَ قمحٍ بِصَاعين.
وتفصيلُ الرِّبَا وأنواعُه مبسوطٌ في كتبِ الفقه، فرَاجِعها إن أردت مَزِيدَ علمٍ وهدايةٍ، والله المستعان.
واعلم يا أخي أن فوائد البنوك حرام، بل إن وضع المال في البنك حرامٌ، إلا لضرورة شرعيةٍ، ولم يقُل أحدٌ بحِلِّ فوائد البنوك ممن تعقد عليهم الخناصر، إلا ما يسمى بالبنوك الإسلامية؛ فاختلفوا في حكمها.
2- الغش والخداع في البيع: وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حملَ علينا السِّلاحَ فليس مِنَّا، ومن غشَّنا فليس مِنَّا" [31].
وفي روايةٍ [32]: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مرَّ على صُبْرَةِ طعامٍ، فأدخلَ يده فيها، فنالَتْ أصابعَه بلَلًا، فقال: "ما هذا يا صاحبَ الطعامِ؟"، قال: أصابتْه السَّماءَ يا رسولَ الله، قال: "أفلا جعلتَه فوقَ الطعامِ؛ كي يراه الناسُ، من غشَّ فليس منِّي".
ومن الغش الذي انتشر في زماننا: الغش في البيع والشراء والمعاملات المالية بالكذب، أو كتمان عيب السلعة، أو البخس في ثمنها، أو التطفيف في وزنها، أو خلط الجيِّد بالرديء، وما أكثر ضروب الغشِّ والاحتيال، كما يقع من السماسرة من التَّلبيس والتَّدليس، فيزيِّنون للناس السلع الرديئة، والبضائع المزجاة، ويورطونهم في شرائها بثمنٍ بخسٍ.
3- الرشوة: وقد قال العلماء: ويحْرُمُ أخذُ الرِّشوَةِ ولو لِدفعِ الباطلِ والظُّلْمِ وإحقاقِ الحقِّ، ويحرُمُ إعطاؤُها لعَونٍ على باطلٍ ونَيْلِ ما لا يستحقُّ، فإمَّا إعطاؤها لأخذِ حقٍّ أو دفعِ ظلمٍ، فجائزٌ للمُعطِي اضطرارًا، وحرامٌ على الآخذِ، والله أعلم.
والهدايا التي تُهْدَى إلى العمال والولاة وموظفي الدولة بغرض التقرب منهم لإحقاق باطلٍ أو إبطالِ حقِّ، هي من الغلول الذي يحرُم أخذُه، ومن الرِّشى التي يحرمُ إعطاؤها، وقد ذكرت أدلة هذا في كتابي "الجامع لكبائر الذنوب".
4- اغتصاب الأرض: وقد صار الناس في زماننا يتقاتلون على الأراضي، وامتلأت المحاكم بقضايا التعدي على الأراضي، وكثُرت المشاحنات والمخاصمات بسبب طمع كل شخص في حقِّ الآخرين.
5- أكل مال اليتيم: قال الله تعالى: ﴿ وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 2].
6- أكل مال الميراث: فمع أنَّ الله تعالى قد قسم الميراث في كتابه العظيم كما اقتضت حكمته، إلا أنَّ بعض الناس ما يزال يمنع الميراث عمَّن يستحقُّه، إن وجد إلى ذلك سبيلًا، عافانا الله، وهذا من المحرمات الشديدة.
7- السرقة.
[1] أخرجه البخاري (3842)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري (3/ 125)، ومسلم (1070) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري (1491)، ومسلم (1069).
[4] أخرجه البخاري (3842).
[5] أخرجه البخاري (2452) مرفوعًا بدون القصة، ومسلم (1610)، واللفظ له.
[6] أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89).
[7] أخرجه مسلم (1015).
[8] إسناده صحيح: أخرجه ابن ماجه (2279).
[9] أخرجه البخاري (2087)، ومسلم (1606).
[10] أخرجه البخاري (2079)، ومسلم (1532).
[11] حسن: أخرجه ابن أبي حاتم (2920).
[12] أخرجه البخاري (4549)، ومسلم (138)، قال العلماء: ويمين الصبر هي التي ألزم بها الحالف عند حاكم ونحوه، وأصل الصبر الحبس والإمساك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين صبر هو فيها فاجر"؛ أي: متعمد الكذب، وتسمى هذه اليمين الغموس.
[13] أخرجه مسلم (1597).
[14] أخرجه مسلم (1598).
[15] إسناده حسن: أخرجه الترمذي (1337)، وأبو داود (3080)، وابن ماجه (2313)، وأحمد (2/ 164، 212).
[16] أخرجه البخاري (6783)، مسلم (1687).
[17] (أخرجه البخاري)، مسلم (1978).
[18]) إسناده حسن، وهو صحيح بطرقه وشواهده: أخرجه أبو داود (3674)، وابن ماجه (3380)، و أحمد (2/ 25).
[19] إسناده حسن: أخرجه أحمد (1/ 316)، وابن حبان (5356)، والحاكم (4/ 145).
"مُبْتَاعهَا": مُشْترِيهَا، "عَاصِرهَا": من يعْصِرُها بنفسِه لنفسِه أو لغيرِه، "مُعْتَصِرهَا": من يطْلُبُ عصْرَهَا لنفسِه أو لغيرِه، "الْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ": من يطْلُبُ أن يحمِلَهَا أحدٌ إليه.
[20] أخرجه البخاري (2085)، وأخرجه مطولًا (7047).
[21] أخرجه البخاري (3118).
[22] صحيح: أخرجه الترمذي (2374)، وأحمد (6/ 364): "رب متخوض في مال الله تعالى"؛ أي: رُب متصرف في مال الله تعالى بما لا يرضاه الله.
[23] أخرجه البخاري (2458)، ومسلم (1713).
[24] صحيح بطُرقه وشواهده: أخرجه أحمد (4/ 243)، والدارمي (2818)، والحاكم (4/ 127)، وفي سماع عبدالرحمن بن سابط من جابر خلاف، وعبدالله بن عثمان فيه كلام، لكن له طرق وشواهد يصِح بها.
[25] أخرجه البخاري (2453)، ومسلم (1612).
[26] أخرجه البخاري (2454).
[27] أخرجه مسلم (1611).
[28] أخرجه البخاري (4234)، ومسلم (115).
[29] أخرجه مسلم (224).
[30] إسناده محتمل للتحسين: أخرجه ابن خزيمة (2314)، وابن حبان (3216)، والحاكم (1/390)، وأخرجه الترمذي (618)، وابن ماجه (1788)، وفيه درَّاج أبو السَّمْح مختلف فيه، ويظهر لي أنه حسن ما لم يأت بما يُستنكَر، والله أعلم.
[31] أخرجه مسلم (101).
[32] أخرجه مسلم (102)، قال العظيم آبادي رحمه الله في "عون المعبود" (9/ 231): "والحديثُ دليلٌ على تحريمِ الغِشِّ، وهو مُجمَعٌ عليه".