أرشيف المقالات

ليلة الرضا

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
ليلة الرضا

ليلة عجيبة في كل أطوارها، مؤثرة في أحداثها، مفرحة في نهايتها، جمعت بن الدعاء والبكاء، والبشارة والسناء، وجمعت بين الضراعة واللجأ، والرحمة والوفاء، وجمعت بين الخوف والوجل، والأمل والرجاء، وجمعت بين الحاضر والمستقبل، وحوارات الأرض وحوارات السماء، إنها ليلة الرضا وما أدراكم ما ليلة الرضا؟! حق لكل مسلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يفرح ويغتبط بها، ولا تنسى ولا تمسح من ذاكرته، ليلة لا بد أن نحب صاحبها من كل قلوبنا، ونطيع أمره ونشتاق للقياه.
 
هذا عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، يروي لنا تفاصيل هذه الليلة فيخبرنا: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم: تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: ﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ [إبراهيم: 36]؛ الآية، وقال عيسى عليه السلام: ﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [المائدة: 118]، فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسله: ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوؤك))؛ [رواه مسلم].
 
وفي خبر هذه الليلة هدايات منها:
الأولى: ما كان عليه النبي صلى الله عليه من الضراعة لربه ودعائه، وإطالة القيام بين يديه ربه سبحانه بخشية وخضوع وحب وطمع في عظيم فضله وجميل هباته، وهو درس لنا في الإقبال على ربنا، وأن نجعل لنا من الليل نصيبًا من الصلة بالله عز وجل، ودعائه والضراعة إليه جل وعلا؛ تأسيًا بخير البشر عليه الصلاة والسلام.
 
الثانية: عناية الله بنبيه صلى الله عليه وسلم وحفاوته به يسمع لضراعته ويرسل جبريل عليه السلام إليه ليطمئنه ويبشره، ويعطيه سؤله: ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [الضحى: 5]، ويزيل عنه ما أخافه وأهمه.
 
الثالثة: حب النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، ورحمته بها، وشفقته عليها، وحرصه على نجاتها، فقد وصفه الله تعالى بالحرص على أمته والرأفة والرحمة بها؛ فقال: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، وتأملوا قوله في الخبر السابق: ((فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي، وبكى))، لمَ البكاء يا رسول الله؟ لله قلبك ما أعظمه! ولله شفقتك ما أجلَّها! حُقَّ لأمة محمد صلى الله الفرحة والغبطة والسرور، كيف لا ومحمد صلى الله يسهر ليله يسح الدمع ويجهش بالبكاء لا لشيء إلا لنجاتها؟ يا رب ارزقنا حب محمد صلى الله عليه وسلم، وحب ما يحبه وحب سنته وهديه، يا رب اجعلنا ممن يرد حوضه ويشرب منه، يا رب اجعلنا ممن يعبر الصراط معه ويحشر في زمرته، يا رب أكرمنا برؤيته والجلوس معه يا حي يا قيوم، تأملوا هذا الخبر؛ عن عائشة، أنها قالت: ((لما رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم طيب نفس، قلت: يا رسول الله، ادعُ الله لي، فقال: اللهم اغفر لعائشة ما تقدم من ذنبها وما تأخر، ما أسرت وما أعلنت، فضحكت عائشة حتى سقط رأسها في حجرها من الضحك، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيسرك دعائي؟ فقالت: وما لي لا يسرني دعاؤك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: والله إنها لدعائي لأمتي في كل صلاة))؛ [رواه ابن حبان بسند صحيح]، يا ألله! في كل صلاة محمد يدعو لأمته بالمغفرة؛ صدق الله في وصفه: ﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، وفي حديث الشفاعة بعد أن يسجد بين يدي ربه يقول الله له: ((يا محمد، ارفع رأسك، وقل يُسمع لك، وسل تُعط، واشفع تُشفَّع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدًا، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة - أو خردلة - من إيمان فأخرجه، فأنطلق، فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدًا، فيقول: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل))؛ [رواه البخاري]، فتأملوا هذا الحرص من حبيبنا صلى الله عليه وسلم على إخراج كل من يستطيع من أمته من النار، فصلوات ربي وسلامه عليه ما أرحمه وأعظم شفقته ورأفته بأمته! وإنما يفوز بذلك من أمته من حقق التوحيد وحافظ على الصلاة، وابتعد عن كل أسباب الكفر، أجارنا الله وإياكم منها، وأحب محمد صلى الله عليه وسلم وهديه وسنته.
 
الرابعة: البشارة العظيمة لهذه الأمة من الله تعالى بقوله جل وعلا: ((إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك))، يا ألله ما أعظمها من بشارة! إنها أمة الرضا، اللهم اجعلنا ممن أرضيت به نبيك صلى الله عليه وسلم بمنك وكرمك يا حي يا قيوم، فأوجبت له النجاة من النار والفوز بالجنة.
 
الخامسة: إدراك أن الموقف يوم القيامة عصيب؛ ولذلك خاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وأتباعه؛ فعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أول من يدعى يوم القيامة آدم، فتراءى ذريته، فيقال: هذا أبوكم آدم، فيقول: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك، فيقول: يا رب كم أخرج؟ فيقول: أخرج من كل مائة تسعة وتسعين، فقالوا: يا رسول الله، إذا أخذ منا من كل مائة تسعة وتسعون، فماذا يبقى منا؟ قال: إن أمتي في الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود))؛ [رواه البخاري]، وفي رواية الإمام أحمد بسند صحيح: ((فبكى أصحابه وبكوا، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارفعوا رؤوسكم؛ فوالذي نفسي بيده ما أمتي في الأمم إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، فخفف ذلك عنهم)).
 
السادسة: الاعتزاز والافتخار بأمة الإسلام، وحمد الله والثناء عليه أن جعلنا مسلمين، وجعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنها من أجل النعم والمنن؛ ((خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثًا مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني، أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة))؛ [رواه مسلم].
 
علينا أن نعتز بانتسابنا لأمة الإسلام؛ أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنها أمة الرضا وأمة الخيرية: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].
 
السابعة: أن من أعظم منن الله علينا بعثة محمد صلى الله عليه، وكوننا من أتباعه؛ فعلينا أن نحمد الله على ذلك، وعلينا أن نحبه ونحب سنته وهديه ونعتز بانتسابنا لمحمد صلى الله وسلم، ونتأسى بسنته وهديه عليه الصلاة والسلام:






ومما زادني شرفًا وتيهًا
وكدت بأخمصي أطأ الثريا


دخولي تحت قولك يا عبادي
وأن صيرت أحمد لي نبيا






 
ما نصيب سنة النبي صلى الله عليه وسلم من حياتنا؟ هل قرأنا سيرته؟ ما هي آخر مرة قرأنا عنه أو سمعنا شيئًا من سيرته؟ هل عرفنا هديه؟ هل نحن نتشبه به في جميع شؤوننا؟

ألقِ نظرة على حياتك اليومية على مظهرك وسلوكك، وأخلاقك وتعاملك، لباسك وشعرك وهندامك، هل تشعر بالفخر بالانتساب إليه؟ هذا نبيك يحبك، يسهر لأجلك، يدعو ويبكي من أجلك، فماذا فعلت من أجله؟ هل بشرت الدنيا بنبي الرحمة؟ هل نشرت سنته ودافعت عنها؟ هل عرفت به وسيرته؟ قف واسأل نفسك هذا السؤال: مع من تريد أن تكون يوم القيامة؟ أعد السؤال مرة أخرى، حتمًا ستقول: أريد أن أكون مع رسول الله.
 
إذًا بشراك بشراك، فتش فقط في قلبك، فإن كان يستولي عليه حب محمد صلى الله عليه وسلم، فستكون معه؛ فقد بشرك بقوله: ((المرء مع من أحب))، وفتش عن دليل ذلك، فتش عن هديه في ليلك ونهارك، في سلوكك وأخلاقك، في اقتدائك وتأسيك، ستجد الإجابة واضحة جلية.
 
الثامنة: من أعظم أسباب النجاة يوم القيامة والفوز بصحبة النبي صلى الله عليه، وتكفير الذنوب وزوال الهموم كثرة الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي دليل على محبتنا له صلى الله عليه وسلم؛ عن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة))؛ [رواه ابن حبان وحسنه الألباني].
 






إن كان قلبك بالذنوب قد اكتوى
والجسم من كثر الهموم قد انضوى


أدِمِ الصلاة على النبي محمد
فهي الدواء كما أبي قد روى


صلى عليه الله دومًا سرمدًا
ما أمطرت مزن وما سيل جرى






 
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد، اللهم ارزقنا حب محمد صلى الله عليه وسلم يا حي يا قيوم، واجعلنا ممن يقتدي به ويتأسى بهديه بمنك وكرمك.
 
اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك، اللهم ارزقنا حب محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعله أحب إلينا من أنفسنا ووالدينا وأهلينا وأموالنا، اللهم اجعنا ممن يحشر في معية وممن يعبر الصراط معه يا حي يا قيوم.

شارك الخبر

المرئيات-١